أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جورج طرابيشي - إيديولوجيا حقوق الإنسان إذ تصبح تهديداً للديموقراطية




إيديولوجيا حقوق الإنسان إذ تصبح تهديداً للديموقراطية


جورج طرابيشي

الحوار المتمدن-العدد: 269 - 2002 / 10 / 7 - 03:35
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 - الحياة

 

الأطروحة المركزية التي ينطلق منها مرسيل غوشيه - وهو من ألمع المشتغلين في الفلسفة السياسية في الساحة الثقافية الفرنسية - هي ان الديموقراطية الليبرالية الغربية تعيش اليوم, في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا, واحداً من اكبر انتصاراتها وواحداً من اكبر مآزقها في آن.

انتصار الديموقراطية لا يكاد يحتاج الى بيان: فبعد ان انتصرت عسكرياً في نهاية النصف الأول من القرن العشرين على خصمها الأول, النازية, احرزت في نهاية النصف الثاني من القرن نفـسه انتصارها الايديولوجي الكبير على خصمها الثاني: الشيوعية. ومن دون ان يغيب عن مرسيل غوشيه ان الديموقراطية الليبرالية الغربية تواجه اليوم خصومة ثالثة, تتمثل بالأصولية, لا سيما منها الاسلامية, فإنه يرى ان هذه الخصومة هي من عَـرَض التاريخ لا من جوهره, وانها على ما قد تسببه من أضرار وما قد تسدده الى الديموقراطية من ضربات, فإنها لا ترقى الى ان تكون بديلاً تاريخياً جدياً عنها على نحو ما كانته الايديولوجيا الماركسية مثلاً. فهذه كانت تهدد, مثلها مثل حصان طروادة, بأن تغزو قلعة الديموقراطية من داخلها. اما الأصولية فهي لا تعدو ان تكون اختلاجة من اختلاجات التاريخ, أو حتى الجغرافيا.

فهي لا تتظاهر في مركز النظام الديموقراطي الليبرالي الغربي, بل في بعض أطرافه, وتحديداً منها الأطراف التي يتعثر فيها لا مخاض الديموقراطية وحده, بل مخاض الحداثة اصــــلاً. وقد تنـتصر الأصولية هنا وهناك كخصوصية تاريخية أو جغرافية, لكنها عاجزة عن ان تشكل بديلاً كونياً عن الديموقراطية, لا سيما في مطلع القرن الحادي والعشرين الذي اكتسبت فيه الديموقراطية مصداقية ايديولوجية كونية, وان لم تتحول في الممارسة الى نظام كوني فعلاً.

لكن في الوقت الذي لم تعد فيه الديموقراطية تواجه خصماً يُـعتد به من خارجها, فإن الخطر يأتي هذه المرة, في تقدير مؤلف (الديموقراطية ضد نفسها), من داخلها. وما ذلك فقط إلا لأن الديموقراطية مهددة, مع غياب العدو الخارجي, بأن تدخل هي نفسها في طور غيبوبة وحالة فك للاستنفار وتراخٍ في التعبئة الذاتية. بل كذلك, وفي المقام الأول, لأن الديموقراطية دخلت, مع تطورها الراهن, في طور غدت فيه لذاتها خصم ذاتها, وتفككت فيه بنيتها الكلية حتى غدت مسرحاً للتحارب في ما بين أجزائها التكوينية.

وحتى نفهم اطروحة مرسيل غوشيه, التي لا تخلو من تعقيد وغموض معاً, ينبغي ان نأخذ بعين الاعتبار ان البنية الديموقراطية الكلية هي ثمرة مخاض عضوي وطويل الأمد في رحم الحداثة, وان مخاض الحداثة نفسه كان طويلاً وعلى ثلاث دفعات.

فالحداثة تقبل التعريف بأنها فعل خروج مزدوج ومتواقت من القرون الوسطى ومن الايديولوجيا المؤطرة للقرون الوسطى: الدين. فما يميز الحداثة ابتداء من القرن السادس عشر هو قلب البنية الدينية للمؤسسة البشرية والانتقال التدريجي نحو تنظيم السيادة الذاتية المباطنة للانسان بدلاً من تنظيم العالم البشري وفقاً لمبدأ السيادة الالهية المفارقة. وقد استغرقت عملية التحول هذه قروناً أربعة, من القرن السادس عشر الى القرن التاسع عشر, وتمحورت حول محاور ثلاثة: السياسة والقانون والتاريخ.

ففي الحقبة ما بين 1500 و1650م اعيد تحديد حقل السياسة من خلال تبلور الشكل الجديد لتنظيم الدولة في أوروبا الغربية. فمن قبل كانت الدولة تقوم على اتصالية لاهوتية ما بين الأرض والسماء, وكان مبدأ السلطة يتنزل من فوق الى تحت, وكان البابا, ممثل الإله على الأرض, هو الذي يرسم الملوك وأباطرة الامبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة. وقد كانت حركة الإصلاح الديني البروتستانتي هي التي أحدثت الانشقاق الأول ما بين المجالين الروحي والزمني. فمع ان هذه الحركة أرادت نفسها دينية خالصة, إلا ان خروجها على السلطة البابوية هو ما أفسح في المجال لاستقلال الدول عن الكنيسة الكاثوليكية والمركزية ولبدء تحولها الى دول قومية بالمعنى الحديث للكلمة.

وفي سياق نشوء هذه الدولة المستقلة في مرجعيتها تطورت فلسفة القانون لترسي أسساً جديدة للمشروعية السياسية خارج نطاق النظام الكلي الإلهي. فمبررات وجود الدولة تكمن فيها, وهي ليست معطاة من فوق, بل مرادة من تحت. والحق الذي يؤسسها ليس الحق الإلهي, بل الحق الطبيعي. وهذا الحق ليس منزلاً, بل هو من ثمرة تعاقد الأفراد أو المواطنين الذين تتألف منهم الدولة. وقد تضافرت نظرية الحق الطبيعي مع نظرية العقد الاجتماعي لتنبثق منهما, في ما بين القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر, فلسفة سياسية جديدة هي فلسفة حقوق الانسان التي لم تكن تعني في حينه الا حلول مبدأ جديد للمشروعية بدل المشروعية الدينية, محوره الأفراد من حيث هم مواطنون متســـاوون امام القانون, وان اختلفوا بالجنس أو بالثروة أو بالنسب أو بالموهبة الطبيعية.

وبدءاً من الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر, وعلى خلفية فكرة (التقدم) التي كان طوّرها فلاسفة الأنوار, رأى النور مفهوم جديد: التاريخية. فليس المكان السياسي هو وحده مِـن صنع البشر ومن اختيار ارادتهم, بل كذلك الزمان الاجتماعي. فالمجتمع ليس معطى مسبقاً. بل هو من ابتكار البشر وثمرة مجهودهم الجماعي. وهذا المجتمع, متى ما وقعت آلياته تحت الوعي, قابل للتحسين المستمر. فهو لا يكرر نفسه في رتابة لامتناهية, بل يتقدم باطراد من جراء التدخل الارادي للبشر, سواء عن طريق الاصلاح التدرجي أو عن طريق الثورة التي تكاثر أنصارها ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر (لا ننسى ان (البيان الشيوعي) قد صدر عام 1848).

وليس من قبيل الصدفة ان يكون القرن التاسع عشر الذي ابتكر مفهوم ا لتاريخية هو عين القرن الذي شهد مولد الايديولوجيات الكبرى في التاريخ. فالايديولوجيا هي بالتعريف رؤية للزمن وللعلاقة بالزمن. اذ ان الايديولوجيات لا تخرج عن ان تكون واحدة من ثلاث: إما ايديولوجيا ماضوية رجعية تضع مستقبل البشرية في تاريخها. وإما ايديولوجيا مستقبلية تقدمية تتنكر للحاضر باسم فردوس موعود في الغد. واما أخيراً ايديولوجيا واقعية تراهن على الحاضر وحده وترى فيه من امكانات التطور والتقدم والتصحيح الآلي لمساره الذاتي ما يغنيه عن كل قطيعة من طبيعة ثورية.

غني عن البيان ان هذه الايديولوجيا الحاضرية التي تتطابق مع الديموقراطية الليبرالية, هي التي كُتبت لها الغلبة في خاتمة المطاف. فإيديولوجيا إحياء الماضي قد خرجت مهزومة مع نهاية الحرب العالمية الثانية, وايديولوجيا بناء المستقبل قد تحللت من داخلها مع انهيار جدار برلين وتفكك (امبراطورية الوعد الكاذب) السوفياتية في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين. والواقع ان انتصار الديموقراطية الليبرالية لم يكن من قبيل الصدفة التاريخية كما قد يلوح في بادئ الأمر. فهو ينتعش في نفس مساق سيرورة الخروج من الدين التي كانت أخذتها الحداثة على عاتقها ابتداء من القرن السادس عشر. فالايديولوجيا الماضوية لم تكن إلا محاولة يائسة لمعاودة الدخول بأوروبا الحديثة الى عصر الدين. أما الايديولوجيا المستقبلية الثورية, فعلى رغم طابعها الإلحادي المعلن, كانت تقف, بوعدها بفردوس أرضي, على الأرضية اللاهوتية نفسها التي يقف عليها الدين. فالماركسية كانت, بكل ما في الكلمة من معنى, عقيدة أخروية, وكانت كنيسة هذه العقيدة تتمثل بالحزب الشيوعي تنظيماً وطقوساً.

والمفارقة ان السلاح الفكري الذي انتصرت به الديموقراطية الليبرالية على كل من الايديولوجيتين الماضوية والمستقبلية هو السلاح نفسه الذي يمكن ان ينقلب عليها. فالديموقراطية الليبرالية واجهت الايديولوجيتين الخصيمتين لها بإيديولوجيا حقوق الانسان. وقد أثبت هذا السلاح فاعليته في مواجهة (حقوق الله) التي كانت تشهدها الايديولوجيا الماضوية, وفي مواجهة (حقوق الجماعة) التي كانت تنادي بها الايديولوجيا المســــتقبلية ضداً على ما كانت تسـميه بحقوق الفرد البورجوازي. لكن المشكل ان ايديولوجيا حقوق الانسان لا تمثل بحد ذاتها سياسة ولا رؤية تاريخية - اجتماعية. فهي تقفز فوق محور السياسة, وفوق محور التنظيم الاجتماعي - الاقتصادي, وتحصر اهتمامها بالمحور القانوني وحده من محاور الحداثة.

والحال ان المحور القانوني يدور على فراغ في ما اذا فُـصل عن الوجه السياسي والتاريخي - الاجتماعي للحداثة. فإيديولجيا حقوق الانسان لا تتساءل عن الكيفية التي ينظم بها المواطنون تعايشهم المشترك, ولا تطرح ســــؤال المســـتقبل, ولا تحمل أي مشروع برســمه. فهي معنية فقط بتتبع مواضع الإثم في الحاضر, وتعمل على مستوى السطح لا الجذر, وتستبدل سلاح النقد بسلاح الفضح, وتعقد حلفها الأول مع الاعلاميين لا مع المثقفين, وتختصر العلاقة بين المواطن والدولة أو بين المجتمع والسلطة الى محض علاقة اجرائية. فهي طالبة, لا للعدالة الاجتمــاعية, بل للعــــدالة القانونية. وباستثناء مخالفات القانون, فإنها تعمى عن كل قصور آخر في مجال تنظيم الدولة والمجتمع.

يبقى ان نقول, حتى لا نسيء فهم مؤلف (الديموقراطية ضد نفسها), ان ما يرفضه ليس ايديولوجيا حقوق الانسان بحد ذاتها, بل كونها صارت هي الايديولوجيا الوحيدة لليبرالية الديموقراطية في زمن انتصارها. وهذا بالضبط ما يهددها, في تقديره, بأن تكون بلا غد.

  



#جورج_طرابيشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شهادة نصير سابق للالتزام
- دور أفغانستان ، ومتطرفي الهندوس والإسلام ، في تأجيج كشمير
- كيف نصير كلنا أميركيين من دون علامات استفهام وتعجب ؟
- الديموقراطية وحدها تجعل الحق في السياسة مدخلاً الى الحق في ا ...
- العنوان: الاستغلال الرأسمالي لم يعد موضوع احتجاج الحركات الج ...
- الدولة القومية التي نشأت بالحروب، بالعولمة تتصدع وتفني
- سيغموند فرويد
- كيف تخلي الغرب عن دعوته الحداثية في الشرق الأوسط ؟


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - جورج طرابيشي - إيديولوجيا حقوق الإنسان إذ تصبح تهديداً للديموقراطية