أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم نقولا محسن - المأزق البنيوي لحوامل التغيير القومي















المزيد.....


المأزق البنيوي لحوامل التغيير القومي


سليم نقولا محسن

الحوار المتمدن-العدد: 1116 - 2005 / 2 / 21 - 10:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ربما يكون من المفيد أو المفرح التذكير بأن إعلان الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 وقيام دولة الوحدة ، وفق مفهوم العروبة ومقومات وحدة العرب التاريخية واللغوية والاقتصادية الاجتماعية بما انبثق عنها من تعارف لشعوبها ورغبة في إقامة مجتمع واحد لها وأمة واحدة وقومية واحدة، كانت بمثابة انتصار لحركة الشعوب العربية بقيادة طلائعها في مواجهة أعدائها، وبالوقت ذاته إفلاسا لمشروع دولة التجزئة وحكوماتها التي أقامتها إدارات الدول الاستعمارية آنذاك في المنطقة استمرارا لتقاسم النفوذ فيما بينها، وأداة مضمونة لتنفيذ مخططاتها اللاحقة في نهب الشعوب.
واذا كانت الإدارة الوظيفية للدول القطرية المقامة( البيروقراطية) ومن يلتحق بها من المتعلمين والمثقفين، قد ظهرت بمثابة طلائع التغيير كفئات مجتمعية ممسكة بالدولة تشعر بالغبن من وضعها آنذاك وقد طالها الأذى من نتائج انتكاس أداء الطبقة المتبوعة السيدة – تحالف الإقطاع والرأسمال- وتراجعه وفق ظروفه الى اللاعودة، فان ما طرأ من متغيرات على الساحة الدولية قد ساعد أيضا لأن تجد بعض هذه الشرائح الوظيفية ذاتها على رأس الدولة وفي مواجهة متطلبات قيادتها دون برامج أو رؤى.
ذلك لكون هذه الطبقة بحسب ظروف تكونها ونشوئها من رحم الدولة القديمة، لم تكن لتمتلك صفة اقتصادية أو نمطية إنتاجية، فهي ليست معنية باستمرار تطوير الظروف لارتقاء الفئات الأخرى إلا بما يتلاءم مع شروطها، كطبقة تابعة كانت تعيش في المؤسسات على حساب الدولة وفي خدمة جميع الطبقات المنتجة، وقد وجدت ذاتها في مأزق حكم دولة لا معنى لها إذ لا سيد لها، ولا برامج، أو أهداف وليست سوى سلة ثروات ومعين لا ينضب للبحبوحة والإثراء لأفرادها خارج رقابة القانون. أو الالتزام بقيادة الدولة لصالح الشعب، وبما أن هذه الطبقة في تجربة تاريخها الوظيفي مناط بها احترام شكلية الدولة وتنفيذ قوانينها لصالح الطبقات السيدة كانت تضمر عداء خفيا أو ظاهرا وعدم احترام للشعب مستمدا من نمطية عقليتها المتوارثة الفوقية بما يخولها ذلك استغلاله وامتهانه.
لذا نرى تذبذبها وانقسامها التضادي بين شرائحها، أكان في مواقف الالتزام بالشعب، أو العودة الى تسليم الأمور للطبقات المزاحة أو امتلاك الدولة لحسابها.
وأمام تنازع وفوضى هذه المواقف التي صاحبت مسيرتها، واتجاهات التنابذ والتقابل الاقصائي فيما بينها للاستئثار بالسلطة لاغتصاب الوطن، ومن ثم بين من صار على رأسها ومن بقي خارجها. غالبا ما كان يسهل على الإدارات الغربية ممثلة الرأسمال الاستثماري العالمي تجنيد عملاء لها من هذه الطبقة باغراءات مختلفة، والى أن تلجأ أيضا هذه حتى الى تلميع أفراد منها قابلين للخيانة لتضعهم في موضع القيادة الكاذبة للالتفاف لاحقا بما يتضاد مع مصالح شعوبهم، وكان لوجود مصالح متضررة لقوى خارج الحدود- من قيام الوحدة وتوجهات قيادتها التحريرية الشعبية آنذاك- لم تتوانى عن بث إشاراتها الإيحائية المشجعة أو الداعمة، علاقة في التحرك الداخلي المضاد، وفي تواجد بعض الشراذم المتعاونة لإسقاط تلك الوحدة.
ومع الفارق الزمني وتغيّر المعطيات-الأسباب والنتائج- لم يكن ما حدث في العراق بعيدا في الجوهر عن هذه الآلية وعن هذه التناحرات النخبوية غير المسؤولة الدافعة ببعض الشرائح العربية منها في المنطقة للتخلي عن الوطن أمام المكاسب، لإسقاط تطلعات الجماهير العربية لامتلاك ثرواتها والتقدم.
في غياب الظروف الموضوعية لنشوء الدولة الحديثة وفق المنظور الغربي في المنطقة العربية، واستمرار تركيبتها البنيوية ضمن الموروث السلطاني في إطار الدولة المركزية حيث تستحيل النواظم الديمقراطية، لذا فان ما يظهر على السطح من صراع محتدم، يتخندق مع الوطن أو ضده، لا يمكن إدراجه في أي حال ضمن التجاذبات السياسية ذات النوايا الحسنة التي تنشأ عادة بين شرائح الوطن الاجتماعية الاقتصادية المختلفة أو الطبقات ذات المصلحة بما هو أفضل للوطن.
إنما هو صراع بين النخب يتناول الغاء أو بقاء وجود الوطن ذاته، وبما أن هذا ليس بجديد في المنطقة، وقد اتخذ في مسيرته أشكالا متعددة غامضة ضمن الموروث العثماني، فان هذا يقضي بإعادة النظر لإزالة اللبس في المواقف اتجاه نخب الاصلاح والإصلاحيين العرب والأتراك وغيرهم في حينه، إن كانوا قد تقصدوا بما طرحوه من أفكار وآراء تطبيع الدولة العثمانية مع نموذج إدارة الغرب الناهض بغية تحديثها أم فتح أسواقها وإخضاعها، خاصة وقد شغلت توجهات هؤلاء حيزا مهما في الفكر التنويري على مدى زمني، لم تمنع نتائجها السلبية في إفلاس الدولة السلطانية وانهيارها، من أن تستتبع خطاها النخب اللاحقة.
وإذا كانت هذه النخب في بناها الفكرية والوظيفية التابعة قد انقسمت بين الموالاة للسلطان، أو الموالاة للغرب زمنها حسب طموحها وقربها من مركز القرار أو بعدها عنه، فان سلالاتها كشرائح تابعة لجهاز الدولة، حيث تنتفي صفتها -كذات نفع- خارج السلطة الحاكمة، فإنها تبعا لنمطيتها وتقليدها المتوارث، تغادر الدولة في ظل ارتخاءات السلطة وانحسار ثروة الدولة وقدرتها على توزيع النفع العام، الى منابع سلطانية ممكنة تضمن الكسب والثروة، كما نلحظ انقسام هذه النخب في الوضع الدولتي الجديد بما ليس له علاقة في الوطن بين الموالاة لمن كان منها له نصيب في حظوة السلطات الحاكمة واقتسام الثروة بما يلحق به من ضرورة الدفاع عن بقاء الوطن، أو الى العداء لمن بقي خارجها.
بما يعني هذا بقاء معظم هذه النخب على اختلافها تاريخيا، على حافة الطبقات الشعبية المنتجة - في اعتبارها كموضوع نهب لها- تنتظر دورها السلطوي عبر الموالاة للسلطات القائمة أو باستعدائها للبحث عن فرصة للمشاركة في اغتصاب الوطن، بما يفهم منه، أن تحرك بعضها- الحالي- المعادي للنخب السلطوية وان اتخذ شعارات لها وقعها واغراءاتها لا علاقة له بمصلحة الوطن وشعبه، بما يرشحها هذا في حال إفلاسها الى الاستقواء بالقوى الأجنبية لاستدخالها كما حدث في العراق.
وعليه لا يمكن الاتكاء على اتهام هذه النخب المتضادة مع العروبة وحركة الشعب بالغباء أو الطفولة السياسية، حيث يعمد أفرادها على بتر التاريخ، واجتزاء الجغرافيا، وخربطة العقائد الدينية ومذاهبها، وانتقاء ما يناسب من تجارب الأمم وحركات الشعوب، ليصيغوا مناظيما فكرية ملفقة متخيلة يضحكون بها على شعوبهم، ويرضون أنفسهم، وهم إذ يسوقون مقدمات بخبث ظاهر أو غباء تتناقض في منطقها مع النتائج، إنما يقدمون أنفسهم كنخب متغربة، مقطوعة الجذور عن أرضها وشعوبها شديدة العداء لها مرفوضة حتى من عالم تغربها، غير منتمية إلا لمصالحها النفعية، مغلقة البصر والبصيرة لا عقل لها في سعيها لقلب الحقائق والثوابت، فأسباب احتلال العراق واحتراقه مثلا: هو انتماؤه العروبي وفق منظورها، وبما أنتجه هذا الانتماء من طموح للتقدم أدى الى تخلف واستبداد، لا أطماع الرأسمال الاستثماري العالي ومخططاته التآمرية، وهم في النتيجة ليسوا بأفضل من غلاة العقل السلفي المتحجّر الذين يقدمون جمود الحرف على رؤية العقل، والى إرجاع الأسباب في كل ما يصيب الأرض والإنسان الى الغيب أو الشيطان دون برهان.
وهكذا فان غياب الموضوعية والبحث العلمي لتاريخ الجماعات موضوع المقارنة، والكسل الذهني المزمن الذي عمل على تسطيح العقل وارتداده الى عقد الفكر التآمري، والمنطق الذرائعي في مواجهة المعضلات، يقود الى انطباع لم يزل يتأكد عن وحدة في الأصول والنمطية والغايات بين هذه النخب، وأن لا فرق جوهري بينها، وأن ما يظهر بينها أحيانا من تقابل خلافي عنيف أو هاديْ حول مصلحة الجماعة، ليس بالحقيقة سوى اختلاف في استخدام مرادفات للمفردات. وهذا ما يجعل من تعدد صيغ إجاباتها عن سؤال في أسباب تردّي حالة الأمة؟ واحدا .! في اتفاقها مثلا- بحسب تكوينها الخانع والمتهرب- على إرجاع السبب الى الضحية، أي الى العروبة: هوية الشعوب المستهدفة وفكر تجديدها.
وقد ترتب على ذلك معاناة مرهقة – حروب وحصار واستدخال الفتن والمؤامرات- أوقفت تقدم الوطن واستباحته، وهذه لم تزل تساهم في إحداثها هذه النخب المصابة بداء التغرب في كيدية تستجرها من زمن السلطنة القديمة المندثرة، الى الحديثة المتجددة، فالتقدم كما يأمل البعض في الوطن ، لا يأتي من فراغ، لا يسقط بفعل السحر من السماء، وليس في حقيقته سوى فعل بناء وفق أسس علمية ومناهج بحثية ، وجهد من الأبناء في توفير أجواء التقدم وأسبابه بما يقتضي ذلك من رؤية متعمقة لمجريات السياسة العالمية وأهدافها وفعل تحريري لما اغتصب ، والدفاع عن أراض الوطن وشعوبه ومكتسباته ضد أعدائه داخل حدوده وخارجها، وليس بالأمنيات
إذن مع ضمور الرؤية المصاحب لتكّون هذه النخب المتغربة واستفحال نتائجه في الوطن، تتشكل مآزقها، ويتعمق افتراقا لها مع مصالح القوى الشعبية المنتجة المرتبطة بالوطن ، فهي في إطار انغلاقها على الموروث المنتج لها (مفاهيم الدولة السلطانية) تنظر الى الشعب والوطن – كمادة نهب- يرتبطان استثمارا وإنتاجا بالطبقة ذات المصلحة( الإقطاع السلطاني والدولة) وهي في حال الدول المقتطعة من الدولة العثمانية لم تطور موقفها كما لم تغير موقعها التابع، رغم الفرص التي سنحت لها من خلال حاجة الدولة الحديثة المركزية الى توسيع قاعدة استخدامها وبالتالي الى امتدادها في مؤسسات الدولة وأجهزتها وكافة نواحي المجتمع.،لذا فمع بوادر تحلل الطبقة الحاكمة لتلك الدول وحاشيتها، كانت تتحول تبعية هذه النخب، ومن المنطقي أن ترى هذه في القوى الخارجية ومخططاتها الاقتصادية والاستثمارية والعسكرية الطبقة الجديدة ذات المصلحة- السيدة- التي يتوجب عليها خدمتها.
وعليه تصبح الطوائفية، والمذهبية، والعشائرية، والانتماءات العرقية ذرائعا لاستقطاع الوطن،والاختباء خلفها والى استخدامها كأدوات تقدم بها نفسها، كخادمة صالحة للطبقة الجديدة وحاشيتها، وفي هذه الحالة القوى الخارجية الرأسمالية الاستثمارية المتمثلة بإداراتها الأورو أمريكية. لذا فمن الطبيعي أن نرى هذا التذبذب الواضح في مواقف هذه النخب المستبرقة إعلاميا من الإجراءات الاقتراعية التي حصلت في العراق تحت سطوة قوى القمع والإرهاب الاحتلالي، التي تقضي في مضمونها شرعية دخول قوى الاحتلال ، واحلال شرعية الاحتلال المزيفة، عوضا عن شرعية وجود دولة العراق.
وبينما القوى الوطنية الحقيقية لم تزل تلتزم بالموقف المقاوم الرافض انطلاقا من منظور مصلحتها المرتبط بأوطانها وآفاق مستقبلها، يلحظ تعدد مواقف هذه النخب المتغربة- رغم وفرة ادعاءاتها الوطنية- المتراوحة بين الداعم لهذه الإجراءات ممن استقدمت ودربت من قبل قوى الاحتلال لتنفيذ مخططاته، وبين المترقب الى صيغة توافقية مع الاحتلال كطبقة سيدة أو من ينوب عنه في الحصول على نصائب لها من نهب الوطن، دون الالتفات الى مصلحة الوطن العراقي وطموحات أبنائه في إقامة دولتهم المستقبلية الحرة السيدة الناهضة.
ولقد كان للتحولات الاقتصادية السياسية التي شهدها العالم أعقاب الحرب الثانية، والتبدلات الحاصلة في موازين القوى العالمية، نتائج سلبية على الطبقات الإقطاعية والرأسمالية وأنماطها السيادية، المتوارثة للنظام الاقتصادي الاجتماعي والسياسي للدولة العثمانية الآفلة أدى بها الى طريق مسدود والى انهيارها وإفلاسها أمام شعوبها في سنوات الخمسينات من القرن الماضي، لصالح قوى نخبوية صاعدة تعزز دورها وتوسعت في مؤسسات الدولة مع نشوء الدولة القطرية، التي كانت قد أسستها السلطات المنتدبة أو المحتلة بغاية خدمتها أثناء وجودها الاحتلالي أو لاحقا له، وقد أتاح هذا أمام النخب القابضة على الدولة ومؤسساتها بما فيها تفرعاتها من الأحزاب السياسية الطامحة ، الى الانفراد بالدولة عبر تحالفها مع الشعب والامساك بسلطاتها بقيادة أقدر شرائحها وطنية ووعيا وامكانية ونفوذا من عناصر القوات المسلحة.
ومع تعدد الأحداث الانقلابية في الدول العربية القطرية أعقاب نكبة فلسطين تعبيرا عن الاحتجاج لما كان قائما، أو تنفيسا له، أو سعيا لاحكام سيطرة القوى القديمة أمام مآزق أزماتها. وأيضا بالرغم من الحراك السياسي النشط التي تصدت له النخب الناهضة زمنها عبر أحزابها وقواها في أوساط الجماهير، آلا أنها في معظمها لم تتخطى الواقع الذي كان قائما الى الثورة.
وكاستثناء لما سبق برزت القيادة العسكرية المصرية- كنخبة متميزة مؤمنة بقضية تحرر شعبها ونهوضه- إذ كانت هذه من أقدرها وأبعدها رؤية ووعيا وحيوية، تجلى هذا في توجهاتها القومية العروبية التحريرية والتقدمية، وفي نوعية ارتباطاتها بالنخب المتماثلة معها في باقي الأقطار العربية، وفي دعم سعيها الى تنحية هيئات الحكم القديمة وارتباطاتها المستنفذة أغراضها في بلدانها، وإسقاط التجزئة المفتعلة كموضوع تفرقة واضعاف للأمة والى إقامة دولة الوحدة العربية منطلقا لقوتها، وأيضا في سعيها لاحقا الى تحقيق مشروعها في إقامة دولة عصرية، والتي أثمرت هذه التوجهات والتحالفات مع القوى السياسية الشعبية العربية الصاعدة وامتداداتها في سوريا الى تحقيق وحدة عام 58 وسط ابتهاج وفرح غمر الشعوب العربية، وشعوب عواصم العالم لمضطهدة التائقة الى التحرر.
وقد صاحب هذا الحدث الوحدوي بما تضمنت معانيه حماس جماهيري فعّل النضال السياسي للشعوب العربية وأحزابها وكتّل القوى الحية حول قيادات سياسية وحدوية تغييرية في بقية البلاد العربية وخاصة في العراق أثمرت عن تفجّر ثورتها في تموز عام1958 ضد الملكية الرجعية المرتبطة بالمخططات الاستعمارية، وفي لبنان والجزائر واليمن وغيرها من الأقطار العربية.
وكان لتحالف هذه النخب مع الجماهير وطرح ذاتها بديلا قياديا عن أفراد الطبقات الرجعية القديمة المستنفذة من أجل تقدم المجتمع من أن يدفعها هذا الى الالتفات إلي هذه الجماهير لأجل إنهاض مجتمعي مرتقب عبر رفع كفاءاتها، وذلك بالتخطيط لتقديم خدمات ضرورية لها من تعليم وصحة ورفع لمستوى معيشتها، وهي ضرورية لتماسك الدولة المستحدثة وتقدمها وقوتها، إلا أن هذه القيادات النخبوية الجديدة في سعيها الى إقامة مشروعها النهضوي، لم تستطع أن تخرج من مفاهيم طبيعة مهامها الوظيفية في الدولة القديمة، كشرائح غير منتجة ترتبط بجهاز الدولة الحاكم ،ولا تمتلك نمطية إنتاجية، وبالتالي الى أن تتحدد رؤيتها والى أن تنفتح آفاقها فقط الى تعزيز سلطوية الدولة كأداة إنتاج، بعد تدميج دولتها المقامة في ظل النخبوية المؤمنة بالشعب كمنتج حقيقي وحيد.
وبما أن هذه النخب كطبقة( بيروقراطية) لا يمكن أن تنتج غير ذاتها ومواصفاتها ونمطية أداءها الموروث، لذا كان اتهام البعض للسلطات التي حكمت وقادت الأنظمة المقامة بالبورجوازية الصغيرة،، والعودة بالتالي الى مفهوم الصراع الطبقي والى قيادة المجتمع من قبل الطبقة الفقيرة ( البروليتاريا) في مجتمع لا طبقات حقيقية فيه لم يقوّم الموقف، إنما قد زاد الأمر سوءا ، ففي الوقت التي كانت الدولة المقامة الحديثة تعاظم من تواجد ودور هذه النخب المطلوب إقصاؤها، فان هذه النخب ذاتها كانت قد غدت واقعا هي الحاملة الوحيدة للتغيير ولم تزل، وكانت تنحدر هذه في المقابل عبر مآزق مفاهيمها الوظيفية في بناء الدولة ودورها ونمطية أداءها الإنتاجي الى استنزاف الدولة.
ورغم أهمية المتغيرات الدولية الحاصلة في النصف الثاني من القرن العشرين كعامل ساعد في تأزيم أوضاع المنطقة والقوى التقليدية الحاكمة الموضّعة والمستنفذة من قبل دوائر النفوذ الاستعمارية، وفضح عجزها في إقامة مشروع دولة وطنية أمام شعوبها، بما أفسحت هذه من مجال لصعود قوى التغيير النخبوية المشار إليها، المتمثلة بالشرائح الوظيفية التي كانت تشكل جسم الدولة، واصطفافات من القوى السياسية المنضوية في إطار مطلبيه هذه الشرائح، فان عواملا أخرى - داخلية تتعلق في بنيتها وأيضا خارجية- أجهضت مسار هذه النخب الجديدة وجهودها في مشروع بناء مجتمعها القومي المأمول.
في البداية مع هيمنة النخب الطهرانية المؤمنة مثال – قيادة عبد الناصر- كان الوضع مضمونا عبر السيطرة على أجهزة الدولة ، وفي تحليلها المبسط كان نقل أداة الدولة – جهازها الوظيفي- من خدمة الطبقات القديمة المتحالفة مع الاستعمار الى خدمة الشعب كافيا لتحقيق أهداف الثورة ، كما يمكن تجاوز أزمان التخلف بنقل التكنولوجيا الحديثة والمصانع من الدول المتقدمة، وتدريب سواعد شباب الوطن على استخدامها كافيا أيضا لتحقيق التقدم الاقتصادي وتطور المجتمع، كانت أحلاما وآفاقا زاهية تتراءى لهذه النخب وشعوبها، إلا أن سعي هذه النخب الى استخدام الدولة وجهازها الوظيفي أسير نمطيته في إنجاز مشروعها قد أفضى الى هرمية اقتصادية مقلوبة يستنزف فيها المنتج كل تكاليف الإنتاج والرأسمال، والى هرمية في السلطة والدولة منضبطة قوية لم تألفها الدولة القديمة ، والى استبدال الاقطاعات الزراعية باقطاعات حداثية من نوع جديد - مؤسسات ومصانع وجمعيات - مقبوض عليها ويقودها ثوريون من أبناء الشعب مقربّون من قمة الهرم السلطوي الاقتصادي الاجتماعي- القيادة أو الحاشية- مركز القرار.
كما اتضح بأن مفهوم ملكية الشعب للدولة عبر تنظيمها المنتخب المتمثل بقيادتها، ليس دقيقا أو صحيحا وذلك بما يمكن أن تسمح به الانتخابات مع طفولة الوعي السياسي وزئبقيته في تسرب انتهازيين ومتكسبين وسماسرة للوطن ولصوص، الى دائرة القرار باسم الشعب، والى إكساب السلطة الشرعية القانونية لاستخدام الملكية العامة، والى اضطرار القيادة الى الاعتماد على الأجهزة الأمنية، والى توسيع مهامها مع توسع مصالح الدولة واهتماماتها لضبط الأمور. وبالتالي الى دفع النخب القيادية للتحول الى طبقة حاكمة لها مواصفات السلطانية السابقة، بما فيها حاشيتها، تمارس قيم وسلوك الطبقات القديمة مقابل الشعب، بدعوى الدفاع عن ذاتها كمركز القرار، أو تخديم الدولة وإمكاناتها إنفاذا لمخططات تعتقد بأنها في مصلحة الشعب. ومع تحول شرعية النخبة من قانون مهام ثورة البناء والتغيير الى شرعية قانون السلطة، تمتلك كلية السلطة الهادمة للدولة، بامتلاك أجهزة السلطة القمعية ومؤسساتها الاقتصادية المتعاظمة.
وكان لغياب القوى الإنتاجية التقليدية ( الرأسمالية والإقطاع) بما يفترض بها كناهضة بالمجتمع والدولة ، وانقلاب أشباهها في الدولة القطرية الى شرائح مستنفذة ومبتزة، لإنتاجية الطبقات الشعبية وتراجعها، نتائج أدت الى دفع الطبقة الوظيفية ومن ضمنها النخب عبر تحالفها مع الشعب الى إسقاط سلطة هذه الطبقات واقامة سلطة الشعب.
كما أن اتجاهات تحول سلطة الدولة من شعبية الى مركزية- أغلق دائرة الدولة على النخب- باستجرار شكل الدولة السلطانية ومفهومها، كنتيجة طبيعية لانعدام بنية الدولة الحديثة ومفهومها، وكان من جراء ذلك تسلط شرائح من هذه الطبقة الوظيفية على الدولة ومع ظهور فرص الانتفاع والتكسب والمصالح المرتبطة ببقاء سلطتها – كحالة مضمرة أو معلنة- الى نشوء عقلية احتكار السلطة وسياسة الإقصاء والحرمان.
وعوضا عن البحث في مجالات لتطوير الإنتاجية خارج وظيفة الدولة، نشأت حالة الاعتياش بالسطو على الدولة، وانغلقت هذه النخب ضمن أطر إنتاجية الدولة مما أدى الى فقدان روح المبادرة والابتكار وجمود هذه الإنتاجية وتآكلها وهدرها لجهد قوة العمل، وضمن عقلية صراع هذه النخب على المغانم، بما ينجم عنه تحول الدولة الى ساحة لهذا الصراع وموضوعه، وإلى التسابق بينها على تفكيك الدولة وبيعها بعد انهيار طموحها في مشروع إقامة دولة متقدمة محررة.
وتدريجيا مع غياب القيادة النخبوية الطهرانية، وغياب طلائع التغيير، وغموض الرؤية، بالإضافة الى فقدان هذه الطبقة الوظيفية، النمطية الاقتصادية المنتجة، لاستحداث وابتكار مجالات وآليات تطور إنتاجي واقتصادي قد أوقعها في عثرات، والدخول الى حالة الجمود واستهلاك ذاتها ، ومن ثم الى أن تنزلق الدولة للوقوع في الفخ الرأسمالي العالمي والى اضطرار سلطاتها الى تحويل الدولة بما فيها الى موضوع استثمار، والى جعلها أسواق مفتوحة لهذا الرأسمال، وبالتالي تحول سلطتها وإداراتها من السيادة الى الوساطة بين وطن مستهلك ورأسمال عالمي مستثمر تتسلل عبره اغراءات لاثراء غير مشروع، ومن ثم الى مشاركة بعض إداراتها مباشرة أو عبر واجهات اقتصادية معتمدة من قبلها في أصول الرأسمال العالمي المدفوع، بما يؤدي هذا أخيرا الى استنزاف الدولة وانهيارها، والى دخولها كمنطقة تابعة فاقدة السيادة في نظام العولمة.



#سليم_نقولا_محسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الولايات المتحدة، حالة زائلة تتصادم مع التاريخ
- الولايات المتحدة ، حالة زائلة تتصادم مع التاريخ


المزيد.....




- نهشا المعدن بأنيابهما الحادة.. شاهد ما فعله كلبان طاردا قطة ...
- وسط موجة مقلقة من -كسر العظام-.. بورتوريكو تعلن وباء حمى الض ...
- بعد 62 عاما.. إقلاع آخر طائرة تحمل خطابات بريد محلي بألمانيا ...
- روديغر يدافع عن اتخاذه إجراء قانونيا ضد منتقدي منشوره
- للحد من الشذوذ.. معسكر أمريكي لتنمية -الرجولة- في 3 أيام! ف ...
- قرود البابون تكشف عن بلاد -بونت- المفقودة!
- مصر.. إقامة صلاة المغرب في كنيسة بالصعيد (فيديو)
- مصادر لـRT: الحكومة الفلسطينية ستؤدي اليمين الدستورية الأحد ...
- دراسة: العالم سيخسر -ثانية كبيسة- في غضون 5 سنوات بسبب دوران ...
- صورة مذهلة للثقب الأسود في قلب مجرتنا


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سليم نقولا محسن - المأزق البنيوي لحوامل التغيير القومي