أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - روني بن افرات - الانتفاضة الاولى والثانية: الثورة والمأساة















المزيد.....



الانتفاضة الاولى والثانية: الثورة والمأساة


روني بن افرات

الحوار المتمدن-العدد: 261 - 2002 / 9 / 29 - 03:30
المحور: القضية الفلسطينية
    


 

العنف الذي انفجر في ايلول 2000، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، لا يشبه الانتفاضة الاولى بشيء. يمكننا ان نجزم بان الانتفاضة الثانية ما كانت ابدا لتتحول الى انتفاضة حقيقية لان الظروف لم تتوفر لذلك: فقد عبرت هذه الانتفاضة عن اهداف متضاربة وبعيدة عن اهداف الشعب، كما انها افتقدت القيادة الثورية، وركزت على اسلوب الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية ضد المدنيين.

 

روني بن افرات*

 

لا نعود للانتفاضة الاولى بدافع من الحنين الى الماضي. بل هي مهمة ضرورية لفهم الطبيعة        الخاطئة والمرفوضة للانتفاضة الثانية. الانتفاضة الاولى لم تكن خالية من الاخطاء والمشاكل، ولكنها عبرت في جوهرها عن وضع ثوري. ورغم انها لم تكن ناضجة لاستنفاذ الطاقة الكامنة فيها، الا انها نجحت في تحقيق انجازات هامة. علاوة على ذلك، فهي لم تستنزف قوى الشعب الفلسطيني ولم تقده لطريق مسدود، كما فعلت الانتفاضة الثانية.

بعض الرفاق في منظمة العمل الديمقراطي "دعم" (منظمة "الشرارة" سابقا)، حظوا بشرف المشاركة في الموجة الثورية التي عمت المناطق المحتلة عام 1988. صحافيون من صحيفة "طريق الشرارة" بالعربية و"ديريخ هنيتسوس" بالعبرية، زاروا بشكل ثابت مخيمات اللاجئين في غزة والضفة، والتقوا نقابيين وطلاب جامعات ومنظمات نسائية وعائلات اسرى.

وقد نقلت الصحيفتان وصفا دقيقا للظروف التي ولدت فيها الانتفاضة، وسرعان ما تحولتا الى منبر اعلامي لصانعيها. ولم يكن صدفة ان تم اغلاق الصحيفتين بامر اداري في بداية 1988، في اوج الانتفاضة، واعتقل اربعة نشطاء مركزيين في منظمة "الشرارة" (بينهم كاتبة هذه السطور) وسجنوا بتهمة الانتماء للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

انفجرت الانتفاضة الاولى في مساء الثامن من كانون اول (ديسمبر) عام 1987 في مخيم اللاجئين جباليا. وكانت الشرارة التي اشعلت الانتفاضة دهس وقتل اربعة عمال من المخيم تحت عجلات شاحنة اسرائيلية، وكان بامكان حدث كهذا ان يكون هامشيا لو وقع في مناخ ووقت مختلفين. ولكن في الوضع الذي ساد المناطق في تلك الفترة ادى الحادث لاشعال لهيب الغضب في صفوف الشعب كله. في المساء، بعد جنازة العمال، بدأت الجماهير الغاضبة تهاجم مواقع الجيش داخل مخيم جباليا.

بالنسبة للمؤسسة الاسرائيلية كانت الانتفاضة الاولى عبارة عن مفاجأة تامة. زئيف شيف وايهود يعاري يكرّسان في كتابهما "انتفاضة"، فصلا كاملا لهذا الموضوع بعنوان: "المفاجأة". لا المخابرات (شاباك) ولا الادارة المدنية، الجسمان اللذان ادارا الاحتلال بشكل يومي، تصورا ان يقوم الشعب الفلسطيني يوما ما بالتمرد.

تقدير قائد المنطقة كان كالتالي: "لا بأس لن يحدث شيء! انتم لا تعرفونهم. قريبا سيذهبون للنوم، وغدا سيتوجهون للعمل." (شيف–يعاري، بالعبرية: ص 13).

المفاجأة لم تكن نصيب الاسرائيليين فحسب. قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) في تونس فوجئت هي الاخرى، اذ انها لم تقيم بالشكل الصحيح درجة معاناة الشعب في المناطق المحتلة. المفاجأة كانت علامة على العمى السياسي، لان الحقائق كانت واضحة لكل من اراد رؤيتها. صحيفة "طريق الشرارة" وصفت في تقاريرها المتواصلة وضعا آيلا للانفجار في كل لحظة. اعطينا منبرا لبسطاء الشعب، لهؤلاء الذين حملوا الانتفاضة لاحقا على اكتافهم. القمع الذي مارسته اسرائيل ساهم فقط في إذكاء المقاومة للاحتلال، ولكن قيادة م.ت.ف لم تكن معنية بقيادة الشعب باتجاه العصيان المدني.

سبب آخر لمفاجأة م.ت.ف كان عجزها عن قراءة التغيرات التي مرت بالشعب الفلسطيني. فبعد حرب لبنان عام 1982 وانتقال م.ت.ف الى تونس، انتقل مركز ثقل النضال الفلسطيني الى المناطق المحتلة. هناك بدأت تتبلور قيادة شابة وشعبية. بدلا من رؤية الطاقات الجديدة الكامنة في النضال من "داخل بطن العدو"، غرقت قيادة م.ت.ف من جهة في خلافاتها الداخلية وحروب المخيمات في لبنان، وتمرغت من جهة اخرى في ترف العيش والعجز والتخاذل الذي برزت علاماته في تونس.

 

انتفاضة 1987 – ثورة شعبية

عدة عوامل تجعل الانتفاضة الاولى ثورة شعبية بكامل معنى الكلمة: فهي اولا حطمت جهاز الاحتلال الذي لم ينجح حتى الآن بالخروج من صدمته، ولا يزال يخشى ان يأخذ على نفسه مهمة ادارة المناطق؛ ثانيا، كانت هذه انتفاضة الشارع – العمال، ربات البيوت والشبيبة؛ ثالثا، انبتت من داخلها قيادة محلية ذات طابع شعبي، مختلف عن الطبيعة المعروفة للقيادة التاريخية لمنظمة م.ت.ف؛ ورابعا، بدأت عهدا من عدم الهدوء لم ينته حتى اليوم.

لفهم عمق التغيير الذي مر به المجتمع الفلسطيني نورد النموذج الذي يستخدمه الكاتبان شيف ويعاري: "من خلال شهر واحد فقط فقدت اسرائيل سيطرتها على المجتمع الفلسطيني.. انكسرت اداوت الاحتلال ولم يعد بالامكان اعادة تكوينها بالقوة. عادة الخنوع والاستسلام والطاعة للاحتلال، ذابت في اجواء التمرد. كان هذا انقلابا سيكولوجيا عميقا لدى شعب ادرك نقاط قوته ونقاط ضعف العدو." ("انتفاضة"، ص 102).

 

القيادة الوطنية الموحدة

حتى تتمكن من الصمود والتقدم احتاجت الانتفاضة الى قيادة. ولكن هذه القيادة لم تأت من منظمة التحرير، فمن اين اذن؟ القيادة المحلية نمت من بين اعضاء المنظمة النشيطين في صفوف الحركات الشعبية (منظمات الطلبة، النقابات، المنظمات النسائية)، وفي صفوف الاسرى في السجون.

90% من القادة المحليين مروا بتجربة اعتقالية في السجون الاسرائيلية. وكان السجن جامعة سياسية واخلاقية لمعظم ابناء الجيل الشاب. لقد علّم السجن وربّى الاسرى على التضحية، التواضع والتعرف على التجارب الثورية للشعوب الاخرى. اما العمل الجماهيري فعلّم النشيطين على التواجد الدائم في صفوف الشعب والاصغاء اليه والاهتمام بقضاياه. المبادئ التي تحددت في السجن، مثل التسامح تجاه التيارات السياسية المختلفة، تبنتها لاحقا قيادة الانتفاضة.

بعد شهر من بدايتها تبلورت القيادة السرية للانتفاضة. وقد نشطت بواسطة المناشير المرقمة التي تحولت الى محرّك الهبة الشعبية. محمد اللبدي، نشيط نقابي من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، صاغ المنشور الاول. على رأس المنشور كُتب الشعار التالي: "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة". وقد نادى المنشور الى اضراب عام مدته لثلاثة ايام في اواسط كانون ثان (يناير) 1988. في نفس الوقت تقريبا، كان تنظيم فتح يخطط لاصدار منشور مشابه. وقد ادت الازدواجية الى قرار بتوحيد القوى. قادة الجبهة الديمقراطية وحركة فتح، ضموا اليهم مندوبا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومندوبا عن الحزب الشيوعي. هكذا تشكلت القيادة السرية التي عُرفت لاحقا باسم "القيادة الوطنية الموحدة".

احد لم يعرف هوية كُتاب المناشير. وكانت القرارات تتّخذ بالاجماع، دون اعطاء اولوية او وزنا خاصا لاي من التنظيمات. وكان دور المناشير توجيه وارشاد المواطنين. سرية القادة انسجمت مع روح الانتفاضة التي ركّزت على رجل الشارع، وهمشت دور القيادة التقليدية المنتمية للعائلات الكبيرة (مثل عائلة الحسيني ونسيبة). فقط في نيسان نجحت اسرائيل في الكشف عن القيادة الموحدة، وقامت بإبعاد قادتها عن المناطق المحتلة، غير انه سرعان ما تولى آخرون المهمة مكانهم، وهكذا استمرت المناشير بالصدور.

الى جانب القيادة الموحدة التي نشطت في السر، نشطت ايضا القيادة الميدانية من خلال "اللجان الشعبية". وكانت هذه اللجان في الواقع الاجهزة التي نفذت تعليمات المناشير ونظمت الجماهير في القرية والمخيم والحي في اطر سميت "لجان العمل". الى جانب هذه الاطر نشطت "وحدات الصاعقة" التي هاجمت قوات الجيش الاسرائيلي.

ولا بد هنا من توضيح نقطة هامة تبدو اليوم خيالية بعض الشيء: لقد فهمت القيادة الموحدة ان تطور الجانب الشعبي للانتفاضة مرهون بتجنب الكفاح المسلح. قيادة تونس عارضت في البداية هذا الاتجاه، غير ان الامور حُسمت في الميدان. احدى الروايات التي ذاع ذكرها في تلك الفترة تجسد هذا التوجه: اثناء مظاهرة شعبية في مخيم للاجئين سقط سلاح من احد الجنود الاسرائيليين، ووقع في يد احد المتظاهرين. ولكن بدل ان يأخذ السلاح، تقدم المتظاهر من الجندي واعاد له سلاحه وسط هتافات رفاقه. الرسالة كانت واضحة: "نحن اقوى منك!".

اين كانت التنظيمات الاسلامية في تلك السنوات؟ رغم ان التنظيمات الاسلامية لم تتمتع بنفوذ حاسم بالنسبة لمجريات الاحداث، الا ان الانتفاضة كانت بالنسبة لها المحطة الاولى لدخولها الى المعترك السياسي والقومي. قادة هذه التنظيمات، ومن بينهم احمد ياسين، لم يرغبوا ابدا في التدخل في الهبة الشعبية، وفضلوا الانشغال بالدعوة الدينية ومشاريع الصدقات، فقط بسبب الضغط الشعبي اضطروا للموافقة على تغيير توجههم. خلال الانتفاضة نشرت حركة حماس مناشير خاصة بها، ولم تشارك في القيادة الوطنية الموحدة.

 

اهداف الانتفاضة

قادة الانتفاضة لم يحددوا ابدا سقفا زمنيا لانجاز الاستقلال. بل توخوا الحذر في تحديد اهداف غير واقعية. وكان هدفهم شل الاحتلال والادارة المدنية وجعل نشاطها مستحيلا. من جهة اخرى، اخذوا في الحسبان نقاط ضعف الهبة الشعبية وحاجتها للدعم الخارجي.

الحل الذي طرحته القيادة الموحدة كان اقامة دولة فلسطينية في المناطق المحتلة عام 1967. على اساس هذا البرنامج حاولت هذه القيادة الحصول على اكبر دعم ممكن في صفوف حركات التضامن العالمية واليسار الاسرائيلي. وخلافا لحماس، راعت القيادة الموحدة الا تصاب مناشيرها بلهجة معادية للسامية. كما قدّر قادة الانتفاضة اهمية الاتحاد السوفييتي كقوة مؤثرة في الساحة الدولية، وافترضوا انه مع اتساع دائرة التمرد، سيضطر المجتمع الدولي للقبول بالمطالب الفلسطينية.

بطبيعة الحال، لم تقف قيادة المنظمة في تونس على الحياد. يعاري وشيف يصفان حالة القلق التي انتابت "قيادة الخارج" في تونس من "قيادة الداخل" مما دفعها لمحاولة عرقلة طريقها. رغم ان هذا الوصف فيه من الحقيقة الا ان الواقع كان اكثر تعقيدا. التيارات المحافظة في المنظمة، وعلى رأسها فتح، خشيت فعلا من سبل النضال التي اخذت تتطور في المناطق. ورأت جماعة تونس فيما يحدث في المناطق المحتلة ظاهرة غريبة عن سبل الحكم في العالم العربي الذي رأت نفسها جزءا منه ومن فساده، بعد ان تخلت منذ سنوات طويلة عن المفاهيم الثورية.

في 15 نيسان 1988 اغتالت وحدة كوماندو اسرائيلية الرجل الثاني في المنظمة، خليل الوزير (ابو جهاد). وكانت الرسالة: "المنظمة الى الفناء!". وقد اجبرت هذه الخطوة المنظمة على اعلان الحرب حماية لوجودها. وحاولت قيادة تونس استغلال الانتفاضة لاعادة نفسها الى مركز الاحداث العالمية.

ومع ذلك، فلا بد من القول ان تحركات فتح هذه قُيّدت من قبل تنظيمين يسارين في المنظمة هما: الجبهتان الديمقراطية والشعبية. ولذلك فكلما سطع نجم هذين التنظيمين في المناطق، هبطت اسهمهما في نظر قيادة تونس. صحيح ان اليسار الفلسطيني هو الذي حدد الوتيرة الثورية للانتفاضة، الا انه واجه صعوبات كبيرة اضعفت قوة صموده. من هذه الصعوبات اولا، السياسة الاسرائيلية التي ابعدت واعتقلت المئات من قادته. ثانيا، الوضع الاقتصادي في المناطق الذي اخذ يتدهور بحدة، وهو الوضع الذي استغلته قيادة تونس لتربط النشيطين والمؤسسات في المناطق المحتلة اقتصاديا.

داخل الجبهة الديمقراطية نفسها، التي كانت التنظيم القيادي في الانتفاضة، وقع انشقاق مدمر. وكان لعرفات دور مركزي في احداث هذا الانشقاق، عندما نجح في تجنيد ياسر عبد ربه (الذي كان حينها الرجل الثاني في الجبهة في تونس، واليوم وزير الاعلام الفلسطيني). وقد انسحب عبد ربه واقام منظمة "فدا" وسحب معه معظم نشيطي الجبهة المجربين في المناطق المحتلة. ولاحقا، انضمت فدا للسلطة الفلسطينية وحصل قادتها على مناصب في النظام الجديد.

الساحة الدبلوماسية شهدت هي الاخرى تحركات حثيثة. فازاء محاولة الولايات المتحدة، بواسطة وزير خارجيتها، جورج شولتز، تمرير مخطط يبقي المنظمة والاتحاد السوفييتي وسورية خارجه، تحركت المعارضة الفلسطينية مما ادت بالملك حسين للاعلان في 31 تموز (يوليو) 1988 عن فك الارتباط الاداري والقانوني بين الاردن والمناطق المحتلة. ومثلت اسرائيل امام ثلاثة خيارات: الاول، مواصلة الاحتلال المباشر؛ الثاني، العثور على قادة محليين مستعدين لادارة المناطق؛ والثالث، الدخول في مفاوضات مع المنظمة.

في عام 1933 لجأت اسرائيل للخيار الثالث. ولكن، كان الهدف تحييد المنظمة وتحويلها الى نظام دكتاتوري يخدم اسرائيل ويسمى "السلطة الفلسطينية". المعادلة التي تم تبنيها في النهاية، اتفاق اوسلو، هي التي قادت المنطقة الى وضع الفوضى السائد اليوم.

ولكن النهاية المريرة للتجربة الثورية الفريدة من نوعها في الشرق الاوسط، لا يمكن ان تلغي الانجازات الملموسة للانتفاضة، ومنها: اولا ان الانتفاضة تحولت الى جزء من الذاكرة التاريخية الجماعية للشعب الفلسطيني. وهي لن تسجل في التاريخ كتجربة فاشلة او كهزيمة. فلاول مرة نفض الفلسطينيون عن انفسهم مفهوم "الضحية". وقد انتهت الانتفاضة لان الظروف الموضوعية التي اندلعت ضمنها لم تمكنها من تحقيق الاهداف التي حددتها لنفسها.

ثانيا، تحقق للفلسطينيين ادارة امرهم بانفسهم بعد فك الارتباط مع الاردن، مما وضع حدا لمحاولة تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية، كما افهم اسرائيل انها لن تستطيع مواصلة حكم المناطق المحتلة كما فعلت في العشرين سنة الاخيرة؛ ثالثا، القوة الاخلاقية للهبة الشعبية اكسبت الشعب الفلسطيني دعما وتعاطفا كبيرا في العالم؛ ورابعا حظي نضال الفلسطينيين بدعم كبير داخل اسرائيل نفسها.

 

انتفاضة ايلول 2000

العنف الذي انفجر في ايلول 2000، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، لا يشبه الانتفاضة الاولى بشيء. يمكننا ان نجزم بان الانتفاضة الثانية ما كانت ابدا لتتحول الى انتفاضة حقيقية لان الظروف لم تتوفر لذلك: فقد عبرت هذه الانتفاضة عن اهداف متضاربة وبعيدة عن اهداف الشعب، كما انها افتقدت القيادة الثورية، وركزت على اسلوب الكفاح المسلح والعمليات الانتحارية ضد المدنيين.

اندلعت الانتفاضة الثانية على خلفية واقع تعيس تراكم في السنوات السبع للحكم المزدوج الاسرائيلي-الفلسطيني. دخول السلطة الفلسطينية الى المناطق المحتلة عام 1994، كان بالنسبة للكثيرين عبارة عن صدمة. اذ سرعان ما تبين ان منظمة م.ت.ف التي دخلت المناطق ليست نفسها منظمة التحرير التي عرفوها وتوقعوا قدومها، بل اصبحت مجرد تقليد هزيل للانظمة العربية.

قيادة الانتفاضة الاولى، التي لم تكن مستعدة لمواجهة هذا الوضع، حاولت الانخراط في النظام الجديد قدر الامكان، فانخرطت الكوادر الثانوية في الاجهزة الامنية، اما الكوادر الرفيعة المستوى فوجدت طريقها للنظام الحاكم. ولكن بقيت هناك شريحة غير كبيرة من القادة الميدانيين، الذين هُمّش دورهم مما جعلهم يتذمرون حتى وجدوا ملجأ لهم في التنظيم بقيادة مروان البرغوثي.

الانتفاضة الثانية كانت مسبوقة بسنوات طويلة من المفاوضات المضنية والعقيمة مع اسرائيل. طيلة تلك المدة هبط مستوى الحياة بشكل حاد، اما عرفات فادار المناطق المحتلة بيد من حديد ودون كوابح تضع حدا لفساد نظامه وتسلطه. ولم تسجل خلال تلك الفترة سوى محاولة واحدة لانتقاد السلطة الفلسطينية بشكل علني. كان هذا في "بيان العشرين" الذي اصدره في 27 تشرين ثان (نوفمبر) 99 عشرون من النواب في المجلس التشريعي والمثقفين الفلسطينيين. وقد انتقد البيان فساد السلطة وتعاونها مع اسرائيل. غير ان البيان لم ينجح في جرف الرأي العام الفلسطيني وسرعان ما انطفأت انفاسه.

خلافا للانتفاضة الاولى التي كانت مفاجأة تامة، كانت اسرائيل هذه المرة مستعدة لاستقبال الانتفاضة الثانية. في لقاء تلفزيوني في 31 ايار (مايو) 2002، قال قائد المنطقة الوسطى، يتسحاق ايتان، انه منذ احداث النفق في 1996، التي اطلق فيها رجال السلطة النار على جنود اسرائيليين، بدأ الجيش الاسرائيلي يعد عدته لاي عارض.

وقد تابعت اسرائيل عن كثب صعوبات عرفات في إحكام سيطرته على المعارضة. عرفات الذي كان الحل السهل الذي اختارته اسرائيل للتخلص من ادارة المدنيين، وُضع من الآن تحت الاختبار. ولكن عرفات فشل في الاختبار الذي وضعه امامه شعبه، وكان الغضب المحتقن في المناطق المحتلة موجها ضد السلطة واسرائيل في آن. ولكن الغضب لا يكفي اذا لم تقم هناك حركة ذات مصداقية شعبية لتناضل ضد جماعة اوسلو وتطرح البديل لهم.

احد نقاط الضعف الاساسية للانتفاضة الثانية انها كانت بثلاثة رؤوس وثلاثة اهداف مختلفة، وجمعيها بعيدة عن حاجات الشعب ومصالحه: الرأس الاول، السلطة الفلسطينية التي انجرت وراء الانتفاضة مرغمة. وقد حاولت السلطة ان تبدو كحركة وطنية للتحرر والاستقلال، غير انها من جهة اخرى سعت لكسب رضا الولايات المتحدة واسرائيل وعدم مقاطعة مجريات اوسلو. وقد شجعت الشعب على مواجهة الجيش، ولكنها ابقت جنودها المسلحين خارج المعركة.

الرأس الثاني كان التنظيم. بعد ان عاش في الظل طيلة فترة اوسلو، دخل في اكتوبر 2000 بكل قوته الى الساحة. وخلافا للسلطة التي سعت لضمان بقائها ليس الا، انشغل نشطاء التنظيم في استغلال الانتفاضة لرفع اسهمهم وتحسين موقعهم في حالة الوصول الى اتفاق مستقبلي مع اسرائيل. وكان هؤلاء في الماضي القريب يتذمرون بسبب تهميشهم، فاعتلوا موجة الغضب الشعبي ضد النظام الفاسد وضد الاحتلال، لخدمة مصالحهم الضيقة مستخدمين شعارات كاذبة مثل "انتفاضة حتى اخراج آخر جندي من المناطق المحتلة".

ولكن بسبب عدم ثقة الناس برجاله، لم يتمكن التنظيم من القيام بانتفاضة شعبية. ولذلك ركز جهوده في العمليات المسلحة. في مرحلة معينة انجر قادته وراء منافسة حماس على شعبية الشارع، وتبنوا طريقة العمليات الانتحارية. المنافسة على شعبية الشارع هي بذاتها هدف غريب عن الانتفاضة الاولى التي لم تكن بحاجة للحصول على شعبية الشارع، لانها كانت هي الشارع.

اما الرأس الثالث فهو التنظيمات الاسلامية المعارضة التي وصلت الى الانتفاضة بعد ان زادت قوتها في الشارع الفلسطيني على مدار السنوات الاخيرة، وتحولت الى اكثر التنظيمات تأثيرا على الشعب، ومن هنا سهل عليها صبغ الانتفاضة بصبغة دينية فسميت "انتفاضة الاقصى".

بالنسبة للتنظيمات الاسلامية، الانتفاضة هي مقاومة ضد اليهود، لا ضد الاحتلال. والهدف هو زرع الارهاب والخوف في قلوب اليهود، واجبارهم على ان "يتبخروا" بطريقة ما. كل الوسائل لتحقيق هذا الهدف أُبيحت، بما في ذلك الانتحار. ولكن هذه التنظيمات لا تطرح اي بديل او مخطط سياسي يمكنه مواجهة اسرائيل. انها عاجزة حتى عن ان تقرأ بالشكل الصحيح الخريطة العالمية بعد احداث 11 ايلول 2001.

وماذا عن اليسار الفلسطيني الذي قام بدور رائد وطليعي على مدار الانتفاضة الاولى؟ الواقع ان هذا اليسار هُمّش وانساق وراء فتح والتنظيمات الاسلامية.  

الشعب الفلسطيني لا يثق باي من القيادات الثلاث التي تديره. ورغم ان الغضب كما يبدو موجه ضد الاحتلال، الا انه ليس من المستبعد ان تتبلور في لحظة معينة مظاهرات عفوية ضد السلطة. ولكن مظاهرات من هذا النوع، كهذه الانتفاضة، اذا كانت دون برنامج وقيادة فانها تبقى غير مجدية وعاجزة عن تحقيق اهدافها.

لقد نجحت الانتفاضة الثانية اكثر من الاولى، في التسبب بازمة اقتصادية في اسرائيل (الناجمة بالاساس عن عوامل اقتصادية عالمية اخرى). ولكن مع ذلك، فهي لم تنجح في تقوية الاوراق السياسية للشعب الفلسطيني. بالعكس، فقد صودر القرار الفلسطيني وانتقل من جديد للانظمة العربية، وتحديدا مصر والسعودية. من جهة اخرى قُضي على السلطة الفلسطينية كجهاز سلطوي، ولم يبق منها الا اسمها الذي لا يزال قائما بسبب الفراغ السياسي. اما الشعب الفلسطيني فخرج من الانتفاضة الثانية اكثر فقرا، اكثر عزلة، واقل املا في المستقبل.

الانتفاضة الثانية ستسجل كهزيمة ومأساة تاريخية، قامت فيها قوى مختلفة باستغلال دماء الشباب الفلسطيني لاجل مصالحها السلطوية الضيقة.

المهمة التي مثلت امام الشعب الفلسطيني في الانتفاضة الثانية لا تزال قائمة: القضاء على القيادة الفاسدة التي تقوده للضياع، واعادة بناء بنية تحتية واقعية وثورية لحل قضيته القومية. ولكن لا بد من القول انه حتى لو تبلورت قوى جديدة في صفوف الشعب الفلسطيني همها مصلحة شعبها، فلن يكون بمقدورها العودة الى تجربة الانتفاضة الاولى. الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية اللذين شكلا السند الرئيسي للانتفاضة الاولى، اختفيا عن الساحة. وفي عالم تنفرد بالسيطرة عليه قوة واحدة، ليس بمقدور القضايا القومية ان تجد حلها بمعزل عن المساعي للوصول الى حلول جذرية للقضايا العالمية والاقتصادية التي ترزح تحت وطأتها شعوب العالم قاطبة.

ما هي السبل والاهداف التي يجب ان تكون للانتفاضة الثالثة؟ هو سؤال يجب التفكير بصياغة اجوبته من الآن، لان امرا واحدا بقي ثابتا وواضحا: الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقه في الاستقلال والعيش بكرامة في ارضه.

 

قدمت المحاضرة في اطار الايام الدراسية الفكرية التي نظمها حزب دعم في شهر حزيران الماضي.

 

الصبار آب 2002 عدد 155

 

 

 



#روني_بن_افرات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اليسار الاسرائيلي رؤية محدودة


المزيد.....




- مصر.. ماذا نعلم عن إبراهيم العرجاني بعد تعيينه رئيسا لاتحاد ...
- واشنطن وطوكيو تخصصان 3 مليارات دولار لتطوير صاروخ جديد يعترض ...
- هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟
- سيناتور أمريكي ينتقد تصرفات إسرائيل في غزة ويحذرها من تقويض ...
- خطأ شائع في تنظيف الأسنان يؤدي إلى اصفرارها
- دراسة: ميكروبات أمعاء الأب تؤثر على نسله مستقبلا
- بعد 50 عاما من الغموض.. حل لغز ظهور ثقوب بحجم سويسرا في جليد ...
- خبراء: هناك ما يكفي من الماء في فوهات القمر القطبية لدعم الر ...
- الضغط على بايدن لمخاطبة الأمة إثراندلاع العنف في الجامعات
- السلطات الإسرائيلية تؤكد مقتل أحد الرهائن في غزة


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - روني بن افرات - الانتفاضة الاولى والثانية: الثورة والمأساة