|
الاندروفر
احمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 1096 - 2005 / 2 / 1 - 11:19
المحور:
الادب والفن
في قيظ شمس تموزيه, تسقط عاموديه على الأرض، ينقلب معها وجهي الأحمر إلى بنفسجي. أقف وسط العربة، أتلقى كومات القش التي يلقيها أبى واثنتين من أخواتي. أقف على ارتفاع مترين من القش، تنهال علي الكومات بدون توقف،.يختلط العرق ببقايا سنابل القمح فوق رأسي، ينساب إلى رقبتي فظهري ، تنتابني رغبة عارمة في أن احك جسمي . في هذه اللحظة، التي يتمنى فيها صغير مثلي في سن العاشرة، أن يحرق الله كل قش العالم. وقفت جامدا،ً انظر إلى الطريق الترابي الواصل إلى قريتنا من اتجاه الحسكة. أدقق النظر، بينما تنهال الكومات علي حتى تكاد تغطيني، أفرك عينيي ....نعم إنها سيارة لاندروفر. صاح أبى من تحت : ما بك جمدت؟. قلت، بصوت مخنوق : سيارة لاندروفر دخلت إلى القرية. لاندروفر ؟! سال أبي. ـ نعم لاندروفر خضراء اللون . ـ ومن أي اتجاه أتت ؟. فهمت سؤال أبي . ـ من اتجاه الحسكة . همم أبي ، ربما راح يفكر مثلي... ما عساها تكون هذه اللاندروفر ؟. فهي أولا لاندروفر، وليست سيارة عادية من سيارات الشرطة المألوفة لدينا . الشرطة،ليست مشكلة، فأمرهم معروف. فهم وإن كانوا في بداية نقلهم إلى مخفر جاغربازار، شرسين، ويظهرون الحزم والسلطة، إلا إنهم يتوالفون بعد وقت قصير مع المنطقة أهلها . ثم إن مهمات الشرطة معروفة. فإما انهم في زيارة روتينية، عندها يبدأ الأمر بعزيمة الغداء عند أبى، وينتهي ب25 ليرة بنزين السيارة ، أو برزقتهم كما كانوا يقولون أيام الموسم . أو انهم قادمون ليبلغوا أحدهم طلب سوقه إلى الخدمة العسكرية... شهادة في محكمة .....الخ . ولكنها ليست سيارة الشرطة . أما وأنها سيارة لاندروفر، فهي إحدى ثلاث احتمالات كلها مخيفة. فهي ولأنها قادمة من اتجاه الحسكة، ففي هذه الحالة يجب أن تكون سيارة مفتش المدرسة . في إحدى زياراته المرعبة ــ زمان كان التعليم جادا و المعلم الوكيل محسوداً على راتبه ــ والتي كانت تصيب المعلم بارتباك واضح، من بداية ظهور اللاندروفر من فوق تلة زينار. يبدأ بسرعة بالتفتيش على الغياب، واستدعاء الغائب بسرعة البرق قبل وصول المفتش. وعلى نظافة المدرسة ويعطي توجيهات سريعة متوترة وعينه عالقة أبدا باتجاه الجنوب، حيث اللاندروفر قادمة . ارتباك المعلم هذا، ومع خوفنا الرهيب من المفتش، كان مصدر متعه لنا . متعة أن نرى المعلم خائفاً أيضا. وإن كان المعلم يستعيد هيبته سريعا بعد مغادرة المفتش للمدرسة، بضربه الطالب الذي لم يجيب إجابات صحيحة على أسئلة المفتش . تظل أنفاسنا محبوسة ومعلمنا معنا، رغم تمسكه بأخر أهداب الشجاعة لديه، حتى وصول اللاندروفر إلى مفترق القرية. فإن هي استمرت بالمسير بشكل مستقيم، نكون قد تنفسنا الصعداء، وان عرجت إلى اليمين يكون المفتش قادما ولا مفر. ولكن الوقت الآن صيف، ولا يأتي المفتشون في الصيف . إذاً، إما إنها سيارة الإصلاح الزراعي، التي تبث الخوف في القرية بمجرد وصولها. لان كلمة الإصلاح الزراعي كانت تعني لنا بالتمام والكمال معناً واحداً فقط: مصادرة الأراضي. أو أنها سيارة ...لاندروفر المخابرات . ورغم علمي بأن قريتنا غير مطلوبة على قوائم المخابرات، كما يقول الكبار، فالحمد لله لا يوجد بيننا لا شيوعيون ولا بارتين . ولا سياسيين من أي نوع كان، ولم تكن السياسة قد عرفت طريقها إلى قريتنا بعد. وكنا نعتبر أنفسنا آمنين من ناحية السياسة ..إذ أن قسماً من العشيرة في القرى المجاورة ولعلاقة قديمة، وطويلة تربطنا مع عشيرة الطي العربية. فسروها بالقرابة. يعتبرون أنفسهم عرباً وحزبيين. ونحن بالتأكيد في حماهم. رغم ذلك يبقى الأمر مخيفا، فالمخابرات في ذلك الوقت لم تكن لتأتي إلا لأمر جلل. لكني استبعدت الاحتماليين، لأن لاندروفر الإصلاح الزراعي و المخابرات، تأتينا من اتجاه عامودا، وليس الحسكة، مما زاد من حيرتي وقلقي. يبدون إن أبى كان اكثر قلقاً مني، سألني: ـ أين تقف السيارة الآن؟. ـ أمام باب المضافة عندنا. لم نكمل تعبئة العربة، أمرني أبى بالنزول سريعاً، وهي فرصة كانت ستبعث في نفسي فرحة عارمة لولا هذه اللاندروفر اللعينة. سار أبى مستعجلاً بالعربة نحو القرية. بقينا نحن نراقب السيارة وعودته بتوتر . غادرت السيارة بعد وصوله القرية بربع ساعة. هدأ هذا من قلقي، الأمر ليس خطيرا، هذا ما قرأته في وجه أبي أيضاً عند عودته . ـ من كان هؤلاء؟. سألت أبى. ـ والله لا أعرف بالضبط. قالوا إنهم لجنة العربي. قدرت أن أخواتي لم تفهمن الموضوع . هممت بالشرح ، لكني توقفت قبل أن ابدأ . لا بد أن في الموضوع خطأ ما . لجنة العربي؟!. لجنة ولاندلوفر طويلة وعريضة من أجل الإعراب . الإعراب، ندرسه في كتاب الصرف والنحو، ورغم انه مع جدول الضرب هو موضوع السؤال الأثير لدى المفتشين . لكن بالتأكيد هناك خطأ. لجنة للإعراب وفي الصيف ، حيث نصف الطلاب يرعون الغنم والنصف الآخر يساعدون الأهل في أعمال الصيف، التي تبدأ ولا تنتهي إلا بقدوم الفرج ، وصول المعلم الجديد إلى القرية. ـ قلت لجنة إعراب!. ـ رد أبي: ليس الإعراب . أنهم يغيرون أسماء القرى إلى أسماء عربية. كنا نسمع منذ وقت طويل عن هذا الموضوع، وقبله كنا نحن الأطفال، نصاب بالخوف والحيرة حين يتكلم الكبار عن أن الحكومة ستجلب العرب من الفرات إلى المنطقة، بعد مصادرة أراضينا. هذا الموضوع الذي لم يعد يؤرقنا الآن، لأنه تبين بان المشروع سينفذ بعمق 10 كم على طول الحدود التركية، بعيد عنا . قال أبى بدون اكتراث، اسم قريتنا الجديد هو خياطة . لقد وقعت على ورقة تعهد، بأن كل أهلها سيسمونها باسمها الجديد، خياطة، وليس القديــم جو لمة . وقع الاسم كالصاعقة علي . خياطة؟! ... جو لمة ، وبدفعة واحدة هكذا تصبح خياطة. وجو لمة وتعني بالكردية بريتنا. ما علاقتها مع الخياطة؟!. لا توجد خياطة واحدة في القرية، ولا حتى ماكينة خياطة، فما زالت القرية كلها، تعتمد على الخياطة أم حنا في قرية هيكو المجاورة . حاولت طوال ذلك النهار، و أكوام القش تنهال علي، وفي فترات ذهاب العربة إلى القرية وعودتها، أن أجد أي رابط بين جو لمة وخياطة، لم أوفق. لم أتقبل الاسم بأي شكل من الأشكال . كانت مشكلتي الكبيرة هو إجابتي المخجلة فيما لو سألني أحدهم، من أي قرية أنت ؟. يجب علي الآن أن أقول ( أزجي خياطا مي). أنا من خياطة ، سوف اشعر بالإهانة بالتأكيد , وسوف يسخرون من اسم قريتنا الجديد . شعرت إن شيئاً ما فيَ قد تغير، ربما شيء ما من اسمي، ربما شيء آخر لا اعلم بالضبط ما هو.هل يستطيع المرء أن يتخيل أنه قد أستيقظ صباحا فوجد أن أسمه قد تغير؟!. يا إلهي لماذا لم يترجموا الاسم ببساطة إلى العربية، ويسموها البرية؟. لكان التغيير مقبولاً ، ولا سيما أن البرية هي من كلماتنا المتداولة نحن مربي الأغنام . طوال ذلك النهار بقيت مع همومي , كيف تغيرت جو لمة فأصبحت خياطة. كيف سيكتب أسم مدرستنا الجديد؟. مدرسة خياطة، وكيف سيتغير أسم القرية على تلك اللوحة العتيقة، ربما من أيام فرنسا، المزروعة في الزاوية الجنوبية الغربية من القرية. ولكن كان الأهم بالنسبة لي هو كيف أنني سأقول ( أز جي خياطا مي )، وكنت متيقنا أن الأمر جدي، و أني يجب أن أقول ذلك. لان أبى قد وقع على تعهد بتداول الاسم الجديد. أمام تلك اللجنة التي أتت بسيارة لاندروفر. تلك اللاندروفر التي أصادفها أحياناً على طرقات ألمانيا. وللحظة أشعر بحرقة شمس تموز فوق رأسي، وأكوام القش تنهال علي، والعرق المختلط ببقايا سنابل الحنطة ينساب على رقبتي، فظهري. وأنا أحاول حل مشكلتي القديمة كيف أصبحت جو لمة ....خياطة .مع إن جو لمة نفسها ليست الآن سوى بيتين منسيين وعدة خرابات.
#احمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محكمة أمن الدولة السورية تعترف بدولة كــردية
-
*نكتة سورية جديدة او حزب البعث يحظر الأحزاب المحظورة اصلا
المزيد.....
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
-
شعرت بالذعر.. مارغوت روبي تتحدث عن ارتجالها صفعة لدي كابريو
...
-
ليبيا.. رئيس النواب والممثلة الأممية يشددان على ضرورة تشكيل
...
-
ليبيا.. رئيس النواب والممثلة الأممية يتفقان على ضرورة تشكيل
...
-
وكالة الأنباء الجزائرية تطلق قسما إخباريا باللغة الروسية
-
جسده لم يتحلل.. أسرة عبد الحليم حافظ تكشف أسرارا جديدة عن حي
...
-
ليبيا.. رئيس النواب والممثلة الأممية يتفقان على ضرورة تشكيل
...
-
هند المدب تشارك في مهرجان مراكش بفيلم وثائقي بعنوان-سودان يا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|