نادرة عبد القدوس
الحوار المتمدن-العدد: 3631 - 2012 / 2 / 7 - 12:01
المحور:
الادب والفن
عشقتْ عدن موطناً ومواطنين ، هواءً وماءً ، جبالاً وسماءً .. وبادلتها عدن ذات المشاعر ، فأفاضت في دفئها وسخت عليها في خيرها ، وأجزلت عطاءها وغسلتها بعبقها السحري ، الأزلي ، لئلا تنساها حتى وإن رحلت عنها يوماً . وها هي بلقيس الربيعي ، الكاتبة العراقية المعروفة ما زالت تحمل في ثنايا روحها عشقها لعدن ؛ فتنثر كلمات الوفاء لحبيبتها وتنظَّم معارض الصور والأزياء الشعبية لأهلها من أرض المهجر في السويد . ولا يمر يوماً إلا وتسأل الربيعي عن موطنها الثاني وناسه وأهله .. تسأل : " كيف هي عدن ؟ أحلم بالعودة إليها . ما زلت أحمل عبقها .. أريد الارتماء في حضن بحرها،عدن يا ساحرة الألباب .." . وفي زيارتها الأولى عام 2006 بعد سني الاغتراب القسري ، عادت الربيعي إلى حضن أمها عدن ، تسبقها لهفتها إلى رائحته البحرية . وما زالت كلماتها عن معرضها الذي أقامته في استكهولم عن الأزياء الشعبية اليمنية والعدنية ، ترن في أذني ، عندما زارتني في مكتبي في الصحيفة التي أعمل بها ، في اليوم التالي من وصولها إلى عدن: " الكل يستغرب كيف أن المعرض مكرس لليمن وليس للعراق ، فأقول إن الوطن ليس فقط حيث تولد ، بل حيث تعيش فترة طويلة ، وأنا عشت أحلى سنوات عمري في عدن ، الوطن الأم الذي لم يبخل عليّ بشيء بل أعطاني كل شيء".
قضت الصديقة بلقيس الربيعي ( أم ظفر ) في ربوع مدينة عدن أجمل سنين عمرها مع زوجها طيب الذكر الدكتور محمد بشيشي (أبي ظفر)ـ وقد عمل طبيباً 1979 في مدينة " عتق " بمحافظة شبوة ، إحدى محافظات جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الست . ولم يكن أبو ظفر طبيباً فحسب ، بل كان مؤسسة صحية وثقافية واجتماعية في رجل واحد ومعه عدد من الزملاء العراقيين العاملين في المدينة ، لكثر ما قام به وحده من نشاط ثقافي وفكري وصحي ، بتنظيم الندوات وتأسيس المشاريع الصحية ، كمشروع رعاية الأمومة والطفولة في هذه المدينة الفتية التي لم تعرف " سفلتة " الشوارع إلا في منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم . وما زالت ذاكرة الكثير من أهالي عتق تحتفظ لأبي ظفر ، الإنسان ، بالكثير من المآثر الإنسانية الرائعة .
ثم انتقل الزوجان إلى العاصمة التاريخية عدن عام 1980م لتعمل أم ظفر مدرسة اللغة الإنجليزية في مدارس العاصمة ومتطوعة في عدد من المنظمات الجماهيرية ، منها الاتحاد العام لنساء اليمن ، مقدمة خدماتها لنساء وفتيات عدن لا تنتظر منها جزاءً ولا شكورا، وليعمل أبو ظفر طبيباً في مستشفىً للأطفال، حيث وجد كذلك كل الحب والاحترام من أهالي عدن . ولكنه لم يدم بقاؤه في المدينة طويلاً ، إذ لبى نداء حزبه ، طوعاً ، ليعود إلى كردستان ، طبيباً وسياسياً ومقاتلاً جسوراً ، مقاوماً لأعداء الحرية والإنسانية ، الذين بكل وحشية أطلقوا عليه رصاص الغدر في كمين نصبوه له ولعدد من رفاقه الأشاوس في 27 سبتمبر ( أيلول ) عام 1984م ، تاركاً وراءه ، في ربوع عدن وحضنها الدافئ أسرته الصغيرة ، . ولم يدُم للأسرة النازحة هناء العيش في عدن ، بعد سقوط المدينة في أيدي الطغاة ، إثر حرب غاشمة على جنوب اليمن في صيف عام 1994م ، فرحلت لاجئة إلى بلد أوروبي ، حيث وجدت السلام هناك .
وبقيت رفيقة درب النضال السياسي ، الزوجة والحبيبة بلقيس على العهد ، وفية لرفيق عمرها وحبها الأول والأخير ، الذي نسج معها أجمل قصة حب في سماوة العراق ، منذ سني شبابهما البضة ، حتى اقترانهما عام 1973 .
ذاكرة أم ظفر لا تختزن غير صورة فتاها أبي ظفر ومحطات من زمن الحب الجميل ، وتستوقفها كثيراً ذكرياتها معه في " عتق " و" عدن " ، ففي حناياهما أحلى سنوات العمر، رغم قصرها معه .
وحتى لا تذهب تلك الذكريات الجميلة أدراج الرياح وتُترَك في غياهب النسيان ، بعد زمن طويل من حياة أم ظفر ، عزمت الزوجة الوفية والأم الرؤوم على تدوين مذكراتها ومذكرات رفيق دربها في كتاب أسمته "لكَ تنحني الجبال " . وكان لي الشرف بالتعرف مبكراً على خطواتها الأولى والتؤدة في هذا المشروع القيّم من خلال تراسلاتنا الإلكترونية . وفي سؤالي لها عن آخر الأخبار في مشروعها ، كانت أسطرها حزينة تفوح منها رائحة التشاؤم والإحباط .. فعلمتُ أن صاحب دار الينابيع في سوريا قد غدر بها ولم يفِ بطباعة الكتاب (عزاؤها) .
فذكرت لي بلقيس الربيعي أن دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع السورية ومقرها دمشق ، لم تلتزم بطباعة الثلاثمائة نسخة من كتابها الذي كانت أرسلته على عنوان البريد الإلكتروني الخاص لصاحب الدار ، صقر حمدان عليشي في شهر يونيو من العام الماضي . وكانت قد اتفقت مع صاحب الدار على إرسال نصف تكاليف الطباعة ، كدفعة أولى من المبلغ الكلي البالغ (900) دولار أمريكي ، قبل إنجاز العمل ، على أن يرسل النصف الآخر بعد إنجازه . وكان عليشي أكد للربيعي أنه سيتم طباعة الكتاب خلال شهر من إرساله . وفعلت بما تم الاتفاق عليه .
وذكرت أم ظفر ، والمقيمة في السويد ، أن السيد عمار كردية ، صاحب المطبعة في سورية والمكلفة بطبع كتابها ، لم يتمكن من طباعته بسبب عدم التزام صاحب دار الينابيع صقر حمدان عليشي بسداد مبلغ الطبع ، وأنه لم يفِ بالتزاماته الأخرى تجاه المطبعة .
ودّعتُ صديقتي أم ظفر والحزن يلفها من كل جانب (هكذا استشفيتُ من خلال ردودها) ، حاولت بكلماتي البسيطة ، المطبوعة ، مواساتها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة صحفيية من عدن *
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟