البنول الهاشمية
الحوار المتمدن-العدد: 1069 - 2005 / 1 / 5 - 07:57
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
في تلك الحقبة البغيضة من الزمن المنقضي و بالتحديد الفترة التي شهدت أبشع صور أنواع التمييز العنصري ضد السود في جنوب إفريقيا حيث كانت تنظم حفلات الذبح و الاغتصاب الجماعي بشكل يومي و لما كانت العولمة ما تزال في علم الغيب كان من الطبيعي أن تجد عبارة الصحفي الأمريكي الذي كان شاهدا على الأحداث صدا و دويا كبيران في قض مضجع الضمير الإنساني على امتداد الأرض لقد صرخ آنذاك :
"يفترض بالبشر أن يكون كلهم متسامحين في هذه اللحظة ..هل تعرفون لماذا ؟ لان الحقد العالمي كله هنا "
مثل هذه الصرخة و آلاف مثلها قادمة من سومطرة الجريحة لن تفيد الآن في شئ , فلسنا بحاجة لمن يشرح لنا تفاصيل الكارثة أو يثير فينا العواطف المتآكلة , لأننا رأينا كل شئ بأم أتعيننا ...الجثث , الأيتام , الأمهات الثكلى
عرفنا كيف أن الطبيعة التي عودتنا أن تمتعنا بسحرها و رونقها يمكنها أن تثور و تغضب , و أية ثورة و غضب
مائة و خمسين آلفا من بني البشر كأنهم لم يكونوا في دقائق منهم ثمان و عشرين آلف طفل هم راقدين الآن بأمان تحت الأنقاض ...
و الآن و بعد انقضاء الفاجعة ماذا ترانا فاعلين ؟
هل نقدم القرابين للآلهة الغاضبة كما كان يفعل إنسان القرن الحجري أم نبحث عن سلالة الرذيلة لنقتص منها على طريقة بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا قبيل كولومبوس ..أم نلطم و نردد هتافات الإدانة كما عرب اليوم
أي كان أسلوب الرد فلا ينبغي أن تمر المأساة هكذا بدون ضجيج ...كما انه لا يكفي أن نتراشق عبارات المواساة و التخفيف .
و قد يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي ...ما الذي عسانا نقوم به حيال ظواهر غيبية كهذه ؟
الكثير عزيزي القارئ الكثير !!
و حتى نفهم سر هذا الكثير علينا و في عود على بدء و بعيدا عن الانفعالات العاطفية التي كثيرا و أعمت أبصارنا عن حقائق و اضحة اكثر منها بسيطة دعونا نسترجع تفاصيل المصيبة
مجموعة من السياح يستجمون على الشاطئ ..أضف إليهم أبناء البلد من الباعة الصغار و أصحاب الفنادق و البيوت القريبة ...ما هي إلا دقائق حتى تنقلب الأمر في مشهد هوليودي دموي و تتحول الأمواج الوادعة إلى أخرى متوحشة عملاقة تبتلع كل بمعدة شرهة كل ما يعترض طريقها ...لا فرق بين طفل رضيع و بناء شاهق
هذا مختصر الحكاية ...أو على الأقل ما يبدو للوهلة الأولى ..و لكن الآن و بعد أن استرجعنا رباطتنا و أفقنا من هول المفاجأة علينا أن نعود لقراءة ليس السطور بل ما بينها ...و أن ننظر إلى ما وراء كواليس الحدث بدلا من الانبهار بالحث نفسه و لتكن بدايتنا من طريقة تناقل الخبر ...ففي الثلاثين ثانية الأولى كانت أنظار العالم كله تتجه نحو إندونيسيا و بعدها بخمس دقائق كانت طلائع الصور المريعة تقتحم كل منزل تقريبا و ذلك حين بدأت الأقمار الصناعية تزق المشاهد الحية لسكان العالم كله ..
حقا إنها القرية الكونية الصغيرة ...حقا إنها ثورة الاتصالات بأبهى أشكالها و أزهى حللها ..و لكن مهلا !!
لقد استغرقت عملية وصول الزلزال من أعماق المحيط الهادئ إلى الشواطئ المنكوبة قرابة النصف ساعة فأين كانت خلال هذه الفترة الطويلة بمقاييس العصر أين كانت التكنولوجيات و التقنيات العملاقة , إن دقائق قليلة قبيل الكارثة كانت كافية لتقليص عدد الغرقى من ألوف إلى مئات إن لم يكن عشرات ..هذا على لسان فرق الإنقاذ القليلة هناك ..
ننقل صور البشر وهم يحتضرون بأجزاء من الدقيقة و لا نستطيع إنقاذهم بأجزاء من الساعة ...إنها مهزلة و ليست عولمة !!
الآن إندونيسيا و أخواتها في الشقاء و الحزن قرروا بناء أجهزة إنذار قربا من الشواطئ مع أن هذه الشواطئ نفسها مزودة بشبكات للجوال و أبراج للإنترنت المحمول فمطاعم عائمة و جزر خاصة لكل شئ حتى تصوير الأفلام الإباحية !!
لا ليست شماتة ..تأويلات ساذجة كالتي تدور في أروقة الشارع العربي الآن ..غير أنها صيحة للإنسان إن انتبه انك عدو نفسك ...
لقد خدعنا جميعا بخرافة التطور التكنولوجي و الثورة الرقمية و إنسان الموجة الثالثة لان الحقيقة التي أثبتتها أحداث الأيام القليلة الماضية و غيرها من النكبات في إيران و بنغلادش و الصين إننا و في احسن أحوالنا نعيش عصر الديناصورات حيث البقاء للأقوى ...فلقد توصلنا إلى تحليل اصغر جزيئات الذرة في الوقت الذي تحصد فيه الفيضانات في بنغلادش البشر كما الدجاج ...و ما زال السرطان يقنصنا الواحد تلو الآخر فيما نتابع الصور الملتقطة من المريخ ...لقد فكت الجينات الوراثية للإنسان و صار بالإمكان التحكم به في كل شئ فيما يردنا تقرير منظمات الصحة حول أن شلل الأطفال يقتات قرابة الستة مليون طفل في الدول النامية كل عام ...في الولايات المتحدة اكثر من مليون شخص تقتلهم التخمة كل عام يقابلهم على الضفة الأخرى ملايين عشرة مذبوحين بسكين الجوع في إفريقيا ..
و حتى لا نغفل الخبر الطريف الذي تجاهلته و سائل الإعلام حول انه لم يتم العثور على جثث حيوانات كالكلاب و الثعابين و السحالي فهي جميعها و كما نعلم تستطيع أن تتنبأ بتبدلات باطن الأرض و ها نحن في الألفية الثالثة ما زلنا نقف كأي عاجز في تلك التقنية الموجودة في أصابع الكلب الثلاثة ..
يبدو أن قد البشرية هكذا و في كل مرة تندلع الكوارث بفعل الطبيعة أو الإنسان يموت البشر و تنجو الذئاب و الثعابين .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟