أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - محمد عبد الله عبد الحكيم - المرأة وإشكالية التحرر من دائرة - الحَريم















المزيد.....


المرأة وإشكالية التحرر من دائرة - الحَريم


محمد عبد الله عبد الحكيم

الحوار المتمدن-العدد: 1029 - 2004 / 11 / 26 - 09:33
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


في الجداريات والتماثيل المصرية القديمة، تجلس المرأة أو تقف إلى جانب زوجها واثقة النظرات، وليس تحت قدميه، أو خلفه، أو ظلاً له ، كما نشاهد الآن رجالاً بجلابيب قصيرة ، ولحى طويلة، يجرون خلفهم أكفاناً سوداء ، لنساء يؤمِّنَ بأن الجنة تحت أقدام الرجال ، تحت الأقدام تماماً ، وليس أعلى من ذلك (1) .

أولاً... و قبل التطرق للمتن ، نلامس العنوان وسطحه، فخلال أعوام عده اعترض بعض المفكرين على استخدام كلمة ( إشكالية ) بصفتها بديلاً ( أنيقاً ) عن كلمة مشكلة، لكن الأحداث الثقافية أتت تؤكد الحكمة من هذا الإبدال ! فالإشكالية هي الترجمة المتفق عليها لكلمة ( Problematic ) الإنجليزية المنقولة عن الفرنسية باعتبارها اسماً لاصفة، وهي تعني في هاتين اللغتين الأوربيتين أي عبارة تضم من التناقض ما لا يفسدها(2) ولقد أصبحنا في السنوات الأخيرة نعيش على هذه الإشكاليات في حياتنا دون وعي بأي تناقض فيها، بل إن استمرار التناقضات في تفكيرنا جعل من بعض مفاهيمنا الشائعة إشكاليات أساسيــــة.

ومن أبسط صور الإشكالية قول أحدهم مثلاً إن الحرية مطلقة في حدود كذا وكــــذا (3)، فكيف تكون حرية مطلقة لكن مقيدة بحدود، وتحرر المرأة من ذاتها أولاً ومن المجتمع المحيط ثانياً، نجدها محاولة جادة للتحرر من الحرية المقيدة التي فرضت عليها، باعتبار أن ( المرأة ) كمصطلح يطلق عليها كمشروع متقدم وناضج الفكر وذلك بخروجه عن دائرة (الحريم ) المكبوتة والمقتادة - إن جاز لي التعبير هكذا.

** مكانة المرأة

ليست المشكلة وليدة هذا العصر بل إنها موغلة في القدم قدم التاريخ، وكل من له يسير من علم أو معرفة وقراءة الماضي يعرف أن المرأة قد ظُلمت ظلماً فاحشاً، وأهينت، وأذلّت في جميع الحضارات التي مرت بها الإنسانية بلا استثناء، سواء الحضارات الغابرة كاليونانية والرومانية وسواهما، أو الديانات اليهودية والمسيحية والبوذية وغيرها، ووصفها بأحط الصفات، وأقبح النعوت، وصورتها بأنها ينبوع المعاصي والشر الذي لا بد منه، وبقيت على هامش الحياة ذليلة مقهورة، يُقضى على حياتها منذ ساعة ولادتها.

وكان للنظرية الدارونيّة تأثير كبير ولاشك في تدعيم مقومات الثقافة الأوربية ( والغربية عامة ) خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين فلقد أكدت هذه النظرية أن البشر مرتبطون حتماً بطبيعتهم البيولوجية الأمر الذي دعم التمييز والتفوق الذكوري على الإناث (4) كما خدمت هذه النظرية أيضاً متطلبات النظام الصناعي الرأسمالي ومصالح الطبقة البرجوازية التي استخدمت النساء والصبية في العمل بالمصانع وبأجور زهيدة ودون رعاية بهدف دفع عجلة الإنتاج والحصول على الربح الوفير بأقل التكاليف لخدمة الأطماع الاستعمارية لرجال السياسة والاقتصاد (والكنيسة أيضا ) خارج أوربا.

وهكذا تبلورت ثقافة عصر القرن التاسع عشر وبامتداد النصف الأول من القرن العشرين ( غالباً ) بتضافر الاقتصاد والسياسة والعلم، إلى جانب الدين والمعتقدات الشعبية السائدة عن الكون والبشر وبما في ذلك المعتقدات الشعبية السائدة، بما فيها التراث الأوربي المتراكم عبر العصور عن واقع المرأة المتدني في المجتمع وتفوق الرجال وتسليطه عليها(5). وبالرغم من الأصوات التي كانت تنادي بتحرير المرأة والعمل على الارتقاء بمكانتها المجتمعية ، ظلت الثقافة الأوربية رافضة لذلك ومصرة على تفوق الرجل ومع أن الحربين العالميتين كانتا قد أعطتا الفرصة للنساء للخروج إلى العمل في مجالات متعددة لم يسبق لهن أداؤها، وما تبين من الخبرة العملية أن النساء لديهن القدرة والمهارة للأداء مختلف الأعمال حتى أشقها، إلا أن سنوات طويلة قد مرت قبل أن تحصل المرأة الغربية على حقها في التصويت الانتخابي ( أمريكا 192، إنجلترا 1928، فرنسا 1944).

** ثقافة المرأة

يُقصد بثقافة المرأة هي كل ما يتصل بحياتها سواء من ناحية النظرة الإجمالية للحياة، أو ما يرتبط بها شخصياً من حيث تكوينها البيولوجي، ومكانتها الاجتماعية، ودورها الحضاري هذا بالإضافة إلى كل ما يتعلق أيضا بطبيعة علاقاتها بالآخر ( أي الرجل ) والأسس والمقومات التي تحددها، وما يتعلق بالمرأة كذلك من آلام وتطلعات فإن كان هناك من الأمور ما تشترك فيها النساء عموماً، فإن عالم المرأة ليس واحداً لجميع الشعوب، وقد أسهمت المادة الإثنوجرافية المقارنة التي جمعها الانثروبولوجيون عن حياة المرأة في مختلف المجتمعات الإنسانية في فرنسا مثلاً غيرها في أمريكا أو انجلترا، فالمرأة الإفريقية مثلاً - كما توضح الباحثة الانثروبولوجية الإفريقية (( جونيدولين مايكل )) تهتم بتوفير الخبر اليومي لأفراد العائلة أكثر من اهتمامها بمسألة الاستقلالية الفردية للمرأة وتحررها الكامل، فالمرأة الإفريقية ترتبط حياتها ارتباطاً شديداً بالقبيلة والعائلة وتقاليدهما وبصفة عامة، نجد أن ثقافات المرأة غير الغربية قد شكلت تحدياً كبيرا لمقولات ومواقف الفلسفة النسوية الغربية، نذكر مثلاً أن المبالغة في تركيزها على المرأة دون الرجل لا يجد قبولاً عن المرأة الإفريقية أو غيرها من البلاد التقليدية (7).

** الجامعة.. وضاعة المرأة المتحررة ؟!

في عددها الصادر في مارس 1999م ، نشرت مجلة ( سطور ) توثيقاً للدكتور / جابر عصفور عن المرأة والجامعة على حلقات متتابعة يرصد فيها دور الجامعة في تقديم صورة حية للمرأة المصرية ودور المرأة في تقديم نموذج للجامعة، فما كان يمكن لرواد الجامعة المصرية أن يحتفلوا بوضع الحجر الأساس لمبانيها في نهاية شهر مارس سنة 1914م ، وبحضور الخديوي عباس حلمي الثاني وكبار دولته، لو لم تكن الأميرة فاطمة إسماعيل قد أوقفت للإنفاق على الجامعة أكثر من ستمائة فدان، ووهبتها ستة فدان لتقيم عليها مباينها، وتبرعت بالمال الذي أعان الجامعة على أزمة نقص مواردها، وأضافت إلى ذلك التبرع بمجموعة من أنفس مجوهراتها، بل تكلفت بجميع نفقات الاحتفال نفسه، ومع ذلك لم تحضر ذلك الاحتفال الذي ما كان يمكن أن يحدث لولاها، ولم تكن إلى جانب ابن أخيها الخديوي عباس ولا أخيها الأمير أحمد فؤاد، وهما يضعان الحجر الذي نقش عليه عبارة (( الجامعة المصرية، الأميرة فاطمة إسماعيل، سنة 1332هـ )) وظلت في قصرها تسمع وترى بآذان وعيون غيرها، والسبب في ذلك أن تقاليد المجتمع المصري ما كانت تسمح لأميرة، فضلاً عن إمرأة، أن تحضر احتفالاً عاماً للأمة، حتى لو كانت فعلت مالم يفعله الرجال، وحتى لو كانت هي السبب في الاحتفال، وحتى لو كانت عمه الخديوي وأخت الأمير الذي يرأس مجلس إدراة الجامعة.

والمفارقة التي تستحق الانتباه والتأمل في الموقف كله أن صفوة المجتمع التي لم تتردد في تقبل أموال هذه الأميرة لبناء جامعة تسهم في انتقال المجتمع من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، وتلقت هذه الأموال بعظيم الشكر والامتنان، لم تكن قادرة على أن تحث هذه الأميرة على الخروج من قصرها وتلح في دعوتها لكي تشهد احتفال الأمة بالجامعة التي لولاها ما خرجت مبانيها إلى الوجود، ولكنها شروط التخلف وقيود التقاليد الجامدة التي فرضت نفسها على الخديوي والأمراء وصفوة الأمة وعامة الشعب، وهي شروط وقيود ظلت حجر عثرة يعرقل جهود رواد الاستنارة، ولم تفلح كتابات أمثال ( قاسم أمين ) وكتابات طليعة حركة تحرير المرأة قبله، سوى أن تفتح ثغرة تنفذ منها نسمات التحرر التي حاولت تخفيف وطأة التقاليد البالية، لكن دون أن تقوى هذه النسمات القوة التي تجعل منها - وقت إنشاء الجامعة - ريحاً تقوض أساسا ماظل مسلما به.

ويتضح من خلال ما يطرحه الدكتور ( جابر عصفور ) عن الآلية التي بُنيت عليها الجامعة، أن جهود رواد الجامعة المستندين من الرجال كانت موازية لجهود طليعة الحركة النسائية في هذا المسعى المتدرج، فالطليعة النسائية التي بدأت في التعبير عن نفسها ( قبل إصدار قاسم أمين كتابه ) نجحت في إصدار أول تأكيد صفة المرأة الكاتبة، وأفلحت في إ إصدار صحافة نسائية مستقلة منذ أواخر القرن التاسع عشر وأسهمت في تشكيل نوع جديد من القارئات اللائي كن قد بدأن في التكون الفاعل مع اتساع قاعدة التعليم النسائي في مصر مذ سنة 1873، (8) ولم تكن الطليعة التي دعت إلى إنشاء الجامعة، وبذلت جهدها إلى أن افتتحت الجامعة فعليا، بعيدة عن الطليعة النسائية التي تراكمت إنجازاتها المتنوعة إلى وقت افتتاح الجامعة مما جعل من الحضور النسائي حضوراً لا يمكن تجاهله في الهيكل العلمي أو التدريسي، ومن المنطقي في تتابع المسار الصاعد لحضور المرأة وتشجعت الجامعة على التحرك خطوة إلى الأمام، ربما لأن المحاضرات المخصصة للنساء كانت بالفرنسية المقصورة على بنات الارستقراطية الحاكمة والشرائح العليا من الطبقة الوسطى المصرية، ولم يصدم ما جاء بعد ذلك من محاضرات بالعربية الوعي الجامعي الوليد، ويبدو ذلك التوسع المحدود في إكثار المحاضرات العربية في القسم النسائي لفت الأنظار إلى وجود المرأة في الجامعة، خصوصاً بعد أن تسابقت بعض صحف العصر على نشر المحاضرات النسائية وشجعت المحاضرات على الكتابة التي أثارت بدورها، استجابات متعارضة، فبدأ تحرك المتزمتين، واحتجاج المتعصبين.

وتصاعد رفض الكثيرين من المعارضين لتعليم المرأة ، وتحول الأمر إلى نقاش لم يخل من الهجوم الحاد على الجامعة الوليدة باسم الحفاظ على الأخلاق ونواهي الدين .

ويمكن القول إن ثورة 1919م التي حدثت بعد عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الأولى قد أدت إلى تغيير إيجابي في العلاقات الاجتماعية التي حكمت طويلا وضع المرأة في المجتمع ، وبقدر ما أسهمت الثورة في تحرير نفوس وعقول الثائرين من سطوة التقاليد الجامدة، ودفعت بهم إلى آفاق منفتحة مغايرة من الوعي، وفي وجهة نظر د/ جابر عصفور، «أنها أنزلت المرأة إلى ميادين العمل جنباً إلى جنب الرجل، بعد أن ثارت بدورها، وشاركت في المظاهرات المطالبة باستقلال الوطن وحريته، ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أنه في السياقات المصرية المتصاعدة للثورة، بدأت المرأة المصرية في التخلي عن النقاب، ثم الحجاب، تعبيرا عن تمردها على ما يحول بينها والتحرر في حياتها، وماله من دلالة، في هذا السياق، يروي عصفور ما فعله ( سعد زغلول ) زعيم الأمة ورمز الثورة 1919م الذي يروي عنه أن إحدى الخطيبات وقفت تخطب أمامه وعلى وجهها النقاب، فنهض هو (( وأزال بيده نقابها فخطبت وهي سافرة )) وكان هذا الفعل الرمزي مصدراً دالاً من مصادر العدوى في سياق التمرد الذي لزم عنه تكوين اللجنة النسائية في الوفد المصري المطالب باستقلال سنه 192م وأفضى بهدى شعراوي 1923م إلى خلع نقابها عن وجهها، وبداية حركة ا لسفور التي واكبت تأسيسها (( الاتحاد النسائي المصري )) وذلك في مدى التصاعد الذي برزت فيه صحافة نسائية جديدة مدافعة عن حقوق المرأة في كل مظاهر الحياة.

وقد وضعت متغيرات ثورة 1919م حضور المرأة في الجامعة وضعاً جديداً، مختلفا، ارتبط بالحراك الاجتماعي الواعد للطليعة النسائية التي خرجت من الثورة أكثر وعياً وإصرارا بحضور المحاضرات على نحو منتظم بوصفهن طالبات رسميات ، لكن من التزام الصمت ودون إعلان حتى لا تثور ثائرة المعارضين.

ولم تفلح حملات الاتهام الديني والأخلاقي في إيقاف المد الصاعد، ولم ينجح الذين اتهموا ( طه حسين ) في البرلمان بالإنحرف الأخلاقي لأنه يشجع الطلاب والطالبات على الاختلاط، حتى خارج قاعات المحاضرات، في أن يوقفوا الحضور المتصاعد للفتيات بالجامعة وقد ظهر ذلك الحضور في أولى صوره عندما تدخلت سلطة الحكومة في الجامعة، وحدثت محنة فصل (طه حسين ) عميد كلية الآداب من منصبه سنه 1932وعندئذ ثار الطلاب مدافعين عن استقلال الجامعة ولم يكونوا وحدهم، فقد شاركتهم زميلاتهم في التنديد بفصل طه حسين، يقول د/ عصفور انه ليس من قبيل المصادفة أن يكون سبب هذه المظاهرات ( طه حسين ) الذي لم يتوقف عن الصدام مع المجتمع التقليدي، حتى من قبل أن يكون أول طالب يحصل على درجة الدكتوراه من الجامعات المصرية سنة 1914م والذي كان أول عميد في كليات الجامعة يشجع الطالبات بالالتحاق بكليته، ويدعو إلى الاختلاط الذي لا يعرف التمييز بين الطالب والطالبة، وليس من المصادفة بالقدر نفسه، أن يكون هذا الأستاذ هو المشرف على أول أطروحة دكتوراة تكتبها طالبة في الجامعة المصرية رغم صيحات المعترضين فقد تمت المناقشة، ورغم تنديد المتظاهرين انعقدت المناقشة التي حرص ( طه حسين ) على أن تكون غير علنية، حماية لطالبته الأولى من المتظاهرين الذين ساءهم حصول الفتاه على درجة الدكتوراه سنه 1941م وإذا استعاد المرء الرحلة الشاقة لتي قامت بها الجامعة، منذ تاريخ إنشائها إلى أن أصبحت الفتاه العربية طالبة تجلس إلى الطالب جنبا إلى جنب، وأستاذة تتولى التدريس إلى جانب زميلها الرجل، فإن الدلالات التي تتداعى على الذهن تبدأ بضرورة الصدام مع المجتمع التقليدي إلى أن يفارق تقليديته حتى لو اقتضى الأمر الحيلة والمراوغة لتسريب الأفكار الجديدة تدريجاً.

أما الدلالة الثانية هي أن المرأة ما كان يمكن لها أن تحقق ما حققته لولا رجال من صنف ( رفاعة الطهطاوي ) في مصر و( بطرس البستاني ) في الشام، آمنوا بحق المرأة في الحضور الفاعل ، فكتبوا عن ضرورة تعليمها، واستهلوا الدعوة إلى تحريرها، ومهدوا أمامها الطريق لتمضي هي فيه إلى النهاية بوصفها عنصرا فاعلاً موازياً للرجل في حركة تحرر المجتمع التي تتطلب تحرير المرأة والرجل على السواء.

أما الدلالة الثالثة فهي أن فعل التحرر الذي تقوم به الطليعة من الرجال والنساء لا يمكن أن يشيع وتتسع دائرته إلا بتوفر الشرط التاريخي الذي يضيف إلى هذا الفعل قوته المؤثرة، وإذا كان قدر الطليعة أن تبدأ الفعل الصارم. وتتحمل الهجوم عليها نتيجة تطلعها إلى مستقبل واعد لا تراه الأغلبية، فإن على الطليعة إدراك أنها تتحرك في التاريخ وبالتاريخ ولا تتحرك خارج الزمن في مطلق الحلم الذي لا يعرف شروط زمنه النوعي المخصوص.

أما الدلالة الأخيرة فهي أن التقدم يتحقق في النهاية، ويتحول الحلم إلى واقع، بالإصرار على التقدم والإلحاح على الحلم والتضحية في سبيلها، فعجلة التاريخ قد تتوقف حيناً لكنها سرعان ما تستعيد مسيرتها إلى الأمام في أفق التطور الذي لا نهاية له وبواسطة الفعل البشري الخلاق الذي يفرض نفسه على واقعه، مهما كانت التضحيات، ويحقق انتصاره ما ظل قادراً على أن يستعيد ما مضى من انجازات ليؤسس ما يأتي من وعود.

** ترسانة التحرر

لعل شعار تحرير المرأة في طبيعته، ناشئ من الواقع السيئ الذي كانت المرأة تعيشه، في أجواء التقاليد والعادات المتخلفة التي تضطهد إنسانيتها، وتعاملها كما لو كانت مجرد شيء من أشياء الرجل التي صنعت الاستمتاع، من دون أن يكون لها أي دور فاعل في الحياة، حتى الأمومة التي هي رسالتها في مضمونها الإنساني، لا ينظر إليها من قبل المجتمع المتخلف ، إلا في دائرة الخدمة التي تؤيدها لأولادها بعيداً عن عملية التوعية والتربية والتوجيه، ومع مطلع القرن العشرين شهدت المنطقة العربية معركة فكرية شديدة التداعيات، هي أولى معارك هذا القرن، تلك المعركة التي فجرها (( قاسم أمين )) ( 1862- 198م ) بكتابه الشهير الذي صدر سنة 1899م بعنوان « تحرير المرأة » وأعقبه بكتاب آخر هو « المرأة الجديدة » سنة 19 والكتابات التي أرخت أو اقتربت من تلك الفترة، حاولت الاهتمام بتصوير تلك المعركة، بتوصيفات تظهر جانب الأهمية والمبالغة والتأثيرات الواسعة، وعندما أصدر قاسم أمين كتاب تحرير المرأة سنة 1899م أحدث ضجة كبرى في المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية، بل لعله أحدث أكبر وأهم معركة فكرية قامت في الشرق حول كتاب في القرن الذي ظهر فيه(1)، وما إن أصدر ذلك الكتاب حتى توالت عليه الردود العنيفة والقاسية التي أحسب أن مؤلفه ما كان يتوقعها بتلك الصورة، فقد صدرت صحف متخصصة تفرغت تقريباً للجدل في موضوع الكتاب بالتأييد، أو المعارضة والتفنيد(11) ومن الملاحظ أن الكتابات العربية تتعمد ( المعاصرة ) في أن تؤرخ لقضية المرأة من كتاب قاسم أمين « تحرير المرأة » وتدافع عن ذلك بمحاولات لا تخلو من تحيزات، كما نراها عند محمد عمارة الذي يحاول أن يعطي حق الريادة لقاسم أمين في مقابل ( أحمد فارس الشدياق ) (12) ( 184م = 1888 ) ولمصر في مقابل تركيا العثمانية، فبعد أن يتحدث عما يسميه (( خلاف قائم بين عدد من الذين عرضوا بالتاريخ لذلك الحدث الذي حاول به هؤلاء المفكرون والمصلحون أن يتخطوا بالمرأة نطاق حريم العصور المظلمة، إلى أعتاب ورحاب الاستنارة واليقظة، فهناك من يرى أن فضل الريادة في هذه الدعوة إلى تحرير المرأة معقود إلى ( قاسم أمين )، وهناك من يرى أن الأتراك العثمانيين كانوا أسبق من المصريين في سلوك هذا السبيل.

ولقد أعلت المرأة من صوتها الذي كان خافتاً لزمن طويل، وأعلنت عن نقدها الذي كان يصعب عليها الإشهار به سابقاً فلقد ظهرت بعض الكتابات النسائية من الوسط التي اتصفت بالنقد للواقع المحيط بالمرأة ولبعض الأفكار والذهنيات الإسلامية فإذا حاولنا أن نرجع إلى أحد أقدم الكتابات باللغة العربية خلال القرن العشرين، وأكثرها جدية مثل « حقوق النساء في الإسلام » للشيخ / محمد رشيد رضا، والذي صدر سنه 193م فإن هذا الكتاب يعد أكثر تقدماً من بين الكتابات التي صدرت بعده، لما يكشفه عن غياب التراكم المعرفي الكيفي في أدبيات الفكر الإسلامي في هذا الحقل، فلقد قدم رؤية إسلامية على قدر كبير من النضج والتطور والوضوح كان من الممكن لها أن تساهم في تفكيك بعض الإشكاليات الذهنية والاجتماعية، وتدفع بتأسيسات فكرية وفقهية على نسق متقدم في أكثر المجالات حساسية، وهي المجالات التي تتصل بمشاركة المرأة في الوظائف العامة، الاجتماعية، والسياسية.

إن الفكر الإسلامي المعاصر لا زال يعاني بصورة عامة من صعوبات في التقدم بقضية المرأة على مستوى الفكر والواقع هذه الصعوبات أساسها هو أجس مقلقة منشؤها الواقع الاجتماعي والأخلاقي الذي يحيط بالمرأة في العالم العربي والإسلامي، وقد انتقد الشيخ (( محمد الغزالي )) هذه الصورة بقولة « إن المسلمين اليوم انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء ، وشاعت بينهم روايات مظلمة ، وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع ، انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معاً » ( 13).

يصور الدكتور / محمد خاتمي - الرئيس الإيراني - ضمور التجديد في النظر لقضايا المرأة عند الإسلاميين وما يعترضها من معوقات، إذ يقول « منذ انتصار الثورة وحتى الآن، وبعدما تحررت الطاقات الفكرية الضخمة ووضعت الإمكانات الواسعة تحت اختيارها، لم ينشر كتاب ولا كراس بمستوى ما كتبه الشهيد ( مرتضى مطهري ) عن المرأة وحقوقها » (14) والذي نشرهما « مرتضى مطهري » هما كتابان في قضايا المرأة « وإني رغم مرور ما يقارب الربع قرن على نشر هذين الكتابين ، وحوالي أربعة عشر عاماً على انتصار الثورة، ما زلنا نرى من ينكر المرأة باسم الإسلام ، شخصيتها ،وقيمتها ، ويعارض تقدمها وتكاملها ومنحها حقوقها الاجتماعية، ألم يقل بعضهم لا يحق للمرأة ممارسة النشاط الاجتماعي، بل وحتى التدخل فيهم » ( 15) ويضيف في مكان آخر وهو ينتقد الرؤية التي ظلت باقية مع كل التطورات الجوهرية التي حصلت هناك، إذ يقول « وجد من يقول بضرورة إبقاء المرأة حبيسة البيت لأن حضور المرأة في الحياة العامة يقود إلى الفساد وكان البعض يرفض السماح للمرأة بمواصلة دراستها العليا، ويعارض مشاركتها في النشاطات الاجتماعية، هؤلاء أيضاً كانوا يطرحون آراءهم تلك باسم الإسلام لقد حاولت فئة من ((المحترمين )) بعد انتهاء الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي، إقناع الإمام - الخميني - بعدم السماح بمشاركة المرأة في انتخاب الدورة الثانية للمجلس، وحرمانها من هذا الحق، إلا أن الإمام واجهه هذا التيار بعزم، ودافع عن حق مشاركه المرأة في عضوية مجلس الشورى وبقوة » (19) .

** مرفأ دعوة ؟!

في ظل الإشكاليات الحاضرة آنفاً يلاحظ أن هناك حضور لغياب دائم، فلذا كان يفترض أن يرتبط تاريخ الدفاع عن قضايا المرأة، بالمرأة ذاتها لا بالرجل، لرفع ما يمكن وصفه بوصاية الرجل على المرأة، واستبداده في التعامل معها، وحتى لا يكون هو المخول بقضايا وكأنها قاصرة وغير قادرة في الدفاع عن قضاياها، ولأنها من الممكن أن تكون الأقدر على فهم اشكالياتة، ولا شك أنها اقرب ما تكون إلى عالمها الداخلي ومنطقها الفكري وغالباً ما يحدث أن يجري تناول قضايا المرأة بين الرجال وتكون المرأة هي الغائب بينهم وهذا ما يظهر واضحاً على كثير من المؤلفات والكتب التي تناولت موضوعات المرأة، لكنها خاطبت الرجل، وكان هو المقصود بالمجادلة والمناظرة والمحاورة، وكأن مشكلة المرأة هي في الرجل، أو هو الذي يفترض أن يواجه هذه المشكلة، وليست المرأة؛ لأنه صاحب القدرة والهيمنة وبيده القرار والسلطة.

ولم تسلم من هذه الإشكاليات مثلاً - كتابات قاسم أمين - التي خاطبت عالم الرجال وليس عالم المرأة والذي يبرر لنا موضوعية هذه الملاحظة، هو إمكانية أن يؤرخ لقضايا المرأة من المرأة نفسها، وهناك أسماء برزت لنساءٍ فهمن هذه الإشكالية لكنهن ضئيلات العدد إذا ما قورن بتاريخية توثيق الرجل.

لكن قضية المرأة لنفسها بنفسها تظل مفتوحة الخيار لكل إمرأة تقرأ هذا التاريــــخ.

** بيلوغرافيا المراجع

(1) من مقدمة لـ (( سعد القرش )) - الدماغ الأعلى - مجلة (سطور ) العدد 43-2م .

(2) محمد عناني - حول إشكالية التأجيل في افتتاحية ، سطور المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) حسين فهيم - باحث انثر بولوجي ( المرأة.. رؤية أنثربولوجية )المصدر السابق.

(5) المصدر السابق.

(6) المصدر السابق.

(7) حسين علي حسين ( المرأة والفلسفة ) ندوه جامعة الكويت . المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، 1994 .

(8) د. جابر عصفور ( المرأة والجامعة ) مجلة سطور ، العدد 1999م .

(9) ( سهير القلماوي ) أول فتاة حصلت على الدكتوراه سنة 1941م عن موضوع(( ألف ليلة وليله )) وبدت كما لوكانت تتعمد اختيار موضوع هامشي تضعه موضوع الصدارة الأدبية في موازاة فعل أطروحتها التي وضعت الطالبة الجامعية موضع الصدارة من المشهد الجامعي بلا تمييز .

(1) قاسم أمين . الأعمال الكاملة د. محمد عماره ، القاهرة - دار الشروق ط 2، 1989م ص 54 .

(11) قاسم أمين الأعمال الكاملة المصدر السابق -54.

(12) احمد فارس الشدياق - مؤسس صحيفة ( الغوائب ) تركيا العثمانية .

(13) انظر تقديم الشيخ محمد الغزالي لكتاب ( تحرير المرأة في عصر الرسالة . عبد الحليم أبو شفة الكويت دار القلم 99م ، ج1 .

(14) المشهد الثقافي في إيران مخاوف وآمال . د . محمد خاتمي . بيروت : دار الجديد 1997م . ص 74 .

(15) المصدر السابق صفحة 73.

(16) المصدر السابق صفحة 134 .
محمد عبد الله عبد الحكيم/ أديب وناشط حقوقي



#محمد_عبد_الله_عبد_الحكيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “415 ريال عماني spf.gov.om“ كيفية التسجيل في منحة منفعة الأس ...
- -علم زائف-.. المكسيك تسعى إلى حظر علاج يتعلق بتغيير الجنس وي ...
- “لولو خلعت سنتها!!”.. تردد قناة وناسة 2024 WANASAH TV لمشاهد ...
- ملكة جمال ألمانيا من أصل إيراني تتعرّض لحملة تنمّر
- قوة روسية تنقذ امرأة وأطفالها من قصف مدفعي ومسيّرات أوكرانية ...
- مقتل امرأة عراقية مشهورة على مواقع التواصل.. وأجهزة الأمن تح ...
- “احلى اغاني الاطفال” تردد قناة كراميش 2024 على النايل سات ka ...
- إدانة امرأة سورية بالضلوع في تفجير وسط إسطنبول
- الأمم المتحدة تندد بتشديد القيود على غير المحجبات في إيران
- الاعتداء على المحامية سوزي بو حمدان أمام مبنى المحكمة الجعفر ...


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - محمد عبد الله عبد الحكيم - المرأة وإشكالية التحرر من دائرة - الحَريم