أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - حسن خليل غريب - الفصل الثاني من كتاب - الماركسية بين الأمة والأممية















المزيد.....



الفصل الثاني من كتاب - الماركسية بين الأمة والأممية


حسن خليل غريب

الحوار المتمدن-العدد: 1021 - 2004 / 11 / 18 - 11:03
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


الفصل الثاني
مواقف الأحزاب الشيوعيـة العربيـة من المسألـة القوميـة

I - بدايات إيجابية من المسألـة القوميـة العربية، في الثلاثينات من القرن ال20، لكنها لم تكتمل
ثمة فترة وحدوية في تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية، هي الفترة الممتدة بين العامين (1928 - 1935م) ، والأرجح أن التوجه الوحدوي بدأ من الخارج في بعض دوائر وخبراء الكومنترون وفي أوساط عصبة مقاومة الإمبريالية والاستعمار( ).
نشرت عصبة مناهضة الأمبريالية()، في العام 1929م أو 1930م، نداءً للكفاح من أجل حرية الشعب العربي، ووصفت فيه (المشكلة العربية القومية) بأنها من أهم القضايا الدولية، وأعلنت في ندائها «بأن للعرب الحق في القضاء على تجزئتهم وتكوين دولة قومية متَّحدة مستقلة تامة الحرية، ودعت فيه إلى تأسيس مجالس ثورية على نطاق قومي عربي لتحقيق هذا الغرض»( ).
استناداً إلى ذلك، نلاحظ أن بعض الأحزاب الشيوعية العربية، في العام 1931م، كانت تؤمن بأن القومية العربية ليست موقفاً بورجوازياً؛ وإن الموقف العربي -لا الموقف الإقليمي- هو الطريق إلى ضرب الإمبريالية جدياً، وهو الموقف الذي ينسجم -فعلاً وعملياً- مع الأممية البروليتارية. فالوحدة العربية ليست عندهم «ضرورة وحتمية» وحسب، بل إنها اختيار وإرادة( ).
لكن بعد تلك الفترة، تغيرت الأمور عندما أخذ الشيوعيون -على يد خالد بكداش من العام 1939م- يروّجون إلى وجود أمم عربية تمتاز بظروف موضوعية وجغرافية واقتصادية وتاريخية ونفسية( ). لكن خط بكداش في المسألة القومية العربية لم تكن نتيجة محتومة تفرضها نظرية ماركس - لينين - ستالين( ).
من خلال مراجعتنا للوثائق التي نقلها الياس مرقص إلى العربية، والتي تدور حول تقارير / وثائق: للحزبين الشيوعيين السوري والفلسطيني، والحزب الشيوعي المصري، والحزب الشيوعي الفلسطيني منفرداً، لم نجد تماثلاً بين تقارير تلك الأحزاب ومواقفها من المسألة القومية. ولأن تلك المرحلة كانت تتميز بإيجابية شيوعية عربية وسوفياتية نحو القومية العربية كان لا بُدَّ أمامنا من أن نقف مع تلك الوثائق لنستقرئ حقيقة تلك المواقف على قاعدة أن نستخلص منها، بإيجاز، اتجاهات كل وثيقة على انفراد قبل أن نقوم بدراسة مقارنة بينها.
1- وثيقة الحزبين الشيوعيين السوري والفلسطيني():
يحدد الحزبان الشيوعيان، الفلسطيني والسوري، واجبات الشيوعيين بالكفاح الثوري التحرري المناهض للإمبريالية المسيطرة على كل الأقطار العربية بدون استثناء. ثم يحدد خطر الإمبريالية من خلال استعبادها للشعوب العربية وإخضاعها من خلال فرض التجزئة عليها، وهذا ما يُضعف نضال الجماهير العربية من أجل «استقلالها السياسي ووحدتها القومية وفق الإرادة الحرة لجماهير الشعب»( ).
تستند الإمبريالية، في إحكام سيطرتها، إلى الأنظمة الملكية الإقطاعية القديمة، وتُنشئ نظماً ملكية جديدة. كما استخدمت الصهيونية المضادة للثورة لأجل احتلال الأرض الفلسطينية ونهبها( ).
وربط القرار بين النضال في سبيل الاستقلال السياسي والتوحيد القومي مع النضال «في سبيل ثورة زراعية فلاحية»( ).
ونظر إلى النضالات القطرية من خلال منظار توحيد قومي، لأنه على الرغم من «الحدود السياسية المصطنعَة… فإن الكفاح القومي في أيٍّ من البلدان العربية كان ينعكس» عليها جميعها؛ وكانت «الجماهير العربية تشعر أنها، لكي تقتلع نير الإمبريالية، عليها أن توحِّد قواها، مرتكزةً على لغة مشترَكة، وشروط تاريخية مشترَكة، وعدو مشترَك»( ).
ورأى أن الإقطاعيين والبورجوازية العربية قد انتقلوا إلى جانب الأمبريالية «وهم يتحولون أكثر فأكثر في اتجاه صفقة مضادة للثورة يعقدونها مع الأمبريالية»( ). وقد صنَّفهم القرار في الدائرة الإصلاحية القومية التي لا تعارض الأمبريالية إلاَّ في حدود الدفاع عن مصالحها( ) من جهة، ولا تتخطى الحدود السياسية التي أقامتها الأمبريالية( ) من جهة أخرى.
أما الحل الذي يحدده القرار فيقوم على أساس تشكيل «جبهة معادية للأمبريالية، ثورية عربية - شاملة، تضم جماهير العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة في المدن، جبهة ترتكز على إنماء حركة العمال والفلاحين، وتستمد منها قوَّتها»( ). وبالإضافة إلى عروبة الجبهة تأتي أهمية أمميتها، لأنه إذا ارتبط كفاحها ضد الأمبريالية مع الكفاح الثوري في شتى أنحاء العالم، يصبح هذا الارتباط «أهم لحظة في أزمة النظام الاستعماري الأمبريالي بأسره»( ).
ومن أهم ما يمكن أن تتميّز به واجبات الحركة العمالية، بالإضافة إلى مناهضتها للأمبريالية، هو النضال من أجل تحرير الشعوب العربية ووحدتها على أساس طوعي حر من جهة، وإبراز المطالب الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى( )؛ لأن البروليتاريا عندما «تخوض كفاح التحرر الوطني… فإنها تشرح للجماهير أنه لن يكون هناك نصر دائم للاستقلال القومي والسياسي بدون ثورة زراعية فلاحية، وبدون إقامة حكومة عمال وفلاحين»( ).
من هنا يرى القرار أن الأحزاب الشيوعية العربية مدعوة للعمل «من أجل التحرر القومي، ومن أجل الثورة المناهضة للأمبريالية على نطاق عربي شامل»( )؛ على أن تسعى إلى جذب المراتب الواسعة للبورجوازية الصغيرة في المدن، و«حماية الاستقلال الإيديولوجي والتنظيمي الكامل للحركة الشيوعية»( ). إلاَّ أن القرار يشير إلى أن شعار التحرر الكامل لم يحتل موقعه الصحيح في عمل الأحزاب الشيوعية العربية على الرغم من «القرارات الواضحة تماماً، والحازمة تماماً، التي صدرت عن الأممية الشيوعية»( ).
وبعد أن يستكمل القرار رسم الصورة النظرية العامة للأسس التي يرى أنها تنبني عليها استراتيجية النضال من أجل القضايا القطرية والقومية والأممية للأحزاب الشيوعية العربية، ينتقل إلى توجيه نقد لبعض تلك الأحزاب. ففي فلسطين - حسب القرار- وجد الحزب الشيوعي نفسه معزولاً عن الجماهير «نتيجة انحراف صهيوني أعاق تعريب الحزب»؛ وفي مصر كان معزولاً، «وذلك بانفصاله وانسحابه من حركة الجماهير المناهضة للأمبريالية»؛ وفي سوريا بفعل «العناصر الانتهازية اليمينية»؛ وفي تونس والجزائر، لم يستطع أن يقدّم «للجماهير مسألة النضال ضد الأمبريالية الفرنسية». ويصل القرار، بعد نقده للأحزاب الشيوعية العربية، إلى مناشدتها لتصحيح مسيرتها الداخلية بتطهير نفسها من العناصر الانتهازية في صفوفها لأنه «بدون القضاء على الانتهازية، وخصوصاً الانتهازية اليمينية، في المسألة القومية العربية، لا تستطيع الأحزاب الشيوعية أن تنمو في البلاد العربية»( ).
يُتوِّج القرار الصادر عن الكونفرنس المشترك بين الحزبين الشيوعيين، الفلسطيني والسوري، رؤيته للوضعين، الفكري والسياسي العام والحزبي الخاص، بالدعوة إلى ترابط مهمات حركتيْ النضال ضد الاستعمار مع النضال من أجل حقوق العمال، ومن ثم القيام بالدعاية للوحدة القومية على أساس «اتحاد عربي شامل، عمالي وفلاحي»( ).

2- وثيقـة الحزب الشيوعي المصري للعام 1931م():
لا يشير برنامج الحزب إلى المسألة القومية العربية إلاَّ بجمل قليلة وسريعة خاصة فيما له علاقة بتكامل نضال الجماهير العربية. لذا لا تضع الوثيقة أية أفكار نظرية فكرية أو سياسية حول المسألة القومية العربية.
تقول الوثيقة «إن الهدف المباشر والفوري للثورة المعادية للأمبريالية والإقطاعية في مصر هو قلب النير الأمبريالي والملكية الرجعية، والاستقلال الكامل لمصر، وثورة زراعية فلاحية»( ). وبكفاح العمال والفلاحين المصريين «إنما يكافحون في سبيل تحرر جميع الشعوب العربية»( ). وإن كفاحهم يجب أن يتم تحت قيادة طليعتهم الشيوعية المختارة( )، التي يجب أن تصبح جزءًا من الحزب البروليتاري العالمي( )، متحالفاً مع الاتحاد السوفياتي، ومع البروليتاريا الثورية الأممية، ومع الكادحين المناضلين في المستعمرات( )، وفي سبيل تشكيل جبهة أممية من العمال العرب وعمال الأقليات القومية( )، و«القضاء على التهيئة الإجرامية لمجزرةٍ أمبريالية جديدة، وللحرب ضد الاتحاد السوفياتي، وطن الكادحين!»( ).

3- الحزب الشيوعي الفلسطيني():
أكَّد المؤتمر على زيادة عدد الكوادر العربية وتنشيطها كخطوة على طريق تعريب الحزب( )؛ والنضال ضد الإصلاحيين القوميين والعملاء الصهيونيين والأمبرياليين( )، وفضح قيادة طبقة الأفندي والمجلس والمفتي( )، واقتفاء المثال السوفياتي في حل المسألتين الزراعية والقومية( ).
حدَّد المؤتمر تعريفاً للصهيونية يفيد أنها تحالفت، عن طريق الانتداب ووعد بلفور، مع الأمبريالية البريطانية، فتحوّلت إلى أداة للأمبريالية «تستخدمها للقضاء على حركة التحرر القومية للجماهير العربية»( ). على الرغم من ذلك ينبّه المؤتمر إلى وجود تناقضات داخلية بين التحالف الصهيوني - الأمبريالي والسكان اليهود، وعلى الحزب الشيوعي أن يستثمرها في الصراع معهما( ).

في سبيل المقارنة بين مقررات الأحزاب الثلاثة نرى أن المؤتمر المشترك بين الحزبين الشيوعييْن، السوري والفلسطيني، قد خطا خطوات متقدمة جداً على ما توصَّل إليه كل من الحزبين الشيوعييْن، المصري والفلسطيني، على صعيد وضع المسألة القومية العربية وقضاياها في مواقعها الحقيقة من الصراع مع كل من الخصمين، الداخلي المتمثل بالرجعية والإقطاعية والخارجي المتمثل بالصهيونية والاستعمار. وقد ربط وحدة النضال القومي مع الثورة العالمية في وجه الاستعمار. وقد ربط، من جهة أخرى، بين النضال السياسي، ضد الخصمين الداخلي والخارجي، مع النضال من أجل مصالح طبقة البروليتاريا.
يأتي هذا المؤتمر، الذي يبدو أنه لم يتكرر في تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية، خطوة متقدمة جداً على ما جاء من مقررات متخلفة للحزب الشيوعي المصري بحيث أنه حسب أن المسألة القومية العربية، بالنسبة لنضال الشعب المصري، أقل من عامل ثانوي بالقياس للأهمية التي أعطاها لعامليْ النضال الاجتماعي في مصر في وجه الطبقات المصرية المستغِلَّة من جهة، ولأهمية الارتباط مع قوى الثورة العالمية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى.
أما الحزب الشيوعي الفلسطيني، فقد حدَّد موقفاً منطقياً من الصهيونية وربط وجودها في فلسطين مع وجود المصالح الأمبريالية. وخطا خطوة مهمة، عندما عمل جاهداً لتعريب الحزب بعد أن كشف الوجه الحقيقي للصهيونية، ويبدو -كما سنرى لاحقاً- أن الوعي في هذا الجانب سوف يلعب دوراً مهماً في حالات الانقسام التي سوف يواجهها الحزب الشيوعي الفلسطيني في العقود اللاحقة.

***

II - إتجاهـات الأحـزاب الشيوعيـة العربيـة، التي تأسَّست في المرحلة الستالينية،
حول المسألـة القوميـة
هناك محطة انتقالية، بين وفاة لينين واستلام ستالين رأس السلطة في الثورة الاشتراكية السوفياتية الفتيَّة، لم تتجاوز مطالع الثلاثينات من القرن 20م، سادت فيها مواقف الأممية الشيوعية الإيجابية من المسألة القومية العربية، وانعكست على مواقف بعض الأحزاب الشيوعية العربية، وكان من أهمها وأكثرها نضجاً مقررات الكونفراس (المؤتمر) المشترَك بين الحزبين الشيوعييْن، السوري والفلسطيني، في العام 1931م، والتي كان أساسها يعود إلى النظرة الإيجابية من المسألة ذاتها التي صاغتها بعض دوائر وخبراء الكومنترن وفي أوساط عصبة مقاومة الإمبريالية والاستعمار( ).
لكن هذه الفترة الانتقالية انتهت عندما أخذ ينتشر الزعم «النظري» في الاتحاد السوفياتي في حقبة ستالين، والذي كان ينطلق من رأي ستالين في قضايا الأمة والقومية. لقد تأسس ذلك الرأي على ضوء رؤية مرتبكة حول تلك القضايا، واندفعت باتجاه الدفاع عن وحدة الدولة السوفياتية الفتيَّة، وتوصية شعوب العالم، وخاصة الأحزاب الشيوعية للدفاع عنها. ولحاجة ستالين إلى التركيز حول القضية المركزية الأولى، دفعت به إلى التأكيد على الموقف الأممي، «وبالتالي (النضال الأممي)، إلى الحدِّ الذي جعلها تعتبر النضال القومي نضالاً شوفينياً رجعياً، والنزعة القومية نزعة رجعية»( ).
ولكي تصبح مواقف الأحزاب الشيوعية العربية، من المسألة القومية وقضاياها الأشد إلحاحاً، أكثر وضوحاً لا بُدَّ أمامنا من أن نطل على موقف كل حزب شيوعي على انفراد. ومن ثم نعمل من أجل مقاربة نظرية وعملية لتلك المواقف.

1-الحزب الشيوعي التونسي:
تأسس في العام 1919م، كفرع للحزب الشيوعي الفرنسي. ولم ينفصل شكلياً عنه إلاَّ في العام 1934م. وكان ارتباطه هذا ذا تأثير في عزله جزئياً عن الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال. وكان يولي اهتمامه لتطور الأوضاع في فرنسا على حساب ما كان يجري في تونس ذاتها. وأخطأ الحزب، من جراء ارتباطه مع الحزب الشيوعي الفرنسي، عندما غيَّب أهمية النضال الشعبي والقومي المسلح ضد المستعمر الفرنسي، فلم يحمل السلاح، واتخذ مواقف شبيهة بمواقف المعارضة اليسارية الفرنسية التي كانت تعارض استقلال تونس، لذا كان دوره هامشياً في الحركة الاستقلالية التي تصدرتها القوى القومية والوطنية والدينية. وفي العام 1957م، أجرى الحزب نقداً ذاتياً لسياسته السابقة( ).

2- الحزب الشيوعي الفلسطيني():
تأسس في فلسطين «حزب العمال الاشتراكي»، في آذار / مارس من العام 1919م، من يهود أغلبهم من الشيوعيين والباقي من يسار «بوعالي تسيون». ويعدُّ هذا التأسيس بداية النشاط الشيوعي في فلسطين. واصطدم أعضاء الحزب مع التنظيمات الصهيونية. ولم يُعرف الحزب الشيوعي الفلسطيني إلاَّ في خريف العام 1922م. وكان ذلك عندما وقع أمام خيار الانتماء إلى الأممية الشيوعية «الكومنترن»، أو إلى المؤتمر الصهيوني، فاختار قسم من الشيوعيين الصهيونية، أما الأقلية فاختارت الشيوعية؛ حينئذٍ تأسس منهم الحزب الشيوعي الفلسطيني. واعترف الكومنترن به، رسمياً، في شباط / فبراير من العام 1924م. وحينئذٍ فصلت قيادة الهستدروت() الشيوعيين اليهود من عضويتها.
بعد صراعات داخل الحركة الماركسية في فلسطين، دامت منذ العام 1919م حتى العام 1924م، دلّت على أن الحركة الشيوعية في فلسطين قد نشأت في أوساط اليهود، والجدد منهم بشكل خاص. وفي وسط اليسار الصهيوني، كان العمال اليهود الجدد يقفون ضد الصهيونية عموماً، ويعملون من أجل مشروع بروليتاري. لكن كانت الأممية الشيوعية تنبّه إلى ضرورة وجود حزب عربي. ولذلك كان التعريب شرطاً أساسياً لقبول الحزب عضواً فيها، يليه شرط الانسحاب من الاتحاد العالمي اليهودي ومحاربة الصهيونية( ).
ومن خلال الصراع بين أقلية وأكثرية، تمكنت الأقلية من رفع شعار تعريب الحزب منذ العام 1924م. وكان من أهم شعاراته: وحدة عمال فلسطين، عرباً ويهوداً، في مواجهة الرأسماليين الصهيونيين والعرب والمستعمرين البريطانيين. وارتفع، منذ العام 1928م، شعار يرى أن وطن اليهودي هو حيث يولد، وإن فلسطين هي لسكانها العرب، وواجب الشيوعيين أن يناضلوا إلى جانب العرب ضد المشروع الصهيوني( ).
تميزّت المرحلة الممتدة بين العامين 1924م - 1929م، بالعمل على تعريب الحزب. فانضمّ أول عربي إليه في العام 1923م، ولم يكتسب أكثر من عربي واحد في العام 1924م. وحين انعقد مؤتمر الوحدة في العام 1926م، كان هناك 18 عربياً من بين 85 عضواً وهو عدد أعضاء اللجنة المركزية. وتميّز نشاط الحزب، في تلك المرحلة، بانسجامه مع خط الأممية الثالثة، الذي دعا إلى تأجيج النضال الطبقي بديلاً عن سياسة التعاون مع الحركة الوطنية( ).
أما المرحلة الممتدة بين العامين 1929م و1939م، فتابع فيها الكومنترن الخط الذي رسمه في سبيل التعريب، وقد أصدر قرارات وتوجيهات في هذا الخصوص، ومن أهمها:
أ?- إدانة تأثير الأفكار الصهيونية والاستعمارية في عقول بعض الشيوعيين.
ب?- تعريب الحزب من أسفل إلى أعلى( )، ويعني ذلك تحويله إلى حزب للجماهير العربية الكادحة( ).
ت?- الاعتراف بالجذور الاجتماعية العميقة للحركة العربية وبطابعها الريفي، وإدانة الطابع الرجعي والديني فيها( ).
إستمر الحزب على موقفه المدين للصهيونية، ومعارضته لقيام دولة يهودية في فلسطين، حتى العام 1946م، مؤيداً في ذلك موقف الاتحاد السوفياتي. لكن بعد أن أعلنت موسكو موقفها المؤيد لقرار تقسيم فلسطين، في تموز / يوليو من العام 1947م، وحين صدوره عن الهيئة العامة للأمم المتحدة، أيَّده الحزب الشيوعي الفلسطيني بحماسة( ).
وبعد نكبة فلسطين، في العام 1948م، تبعثر الشيوعيون الفلسطينيون، فانضم بعضهم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي والآخرون انضموا إلى الحزب الشيوعي الأردني. وبقي قسم آخر في قطاع غزة التابع للسلطات المصرية( ). وفي العام 1965م، انشقّت الحركة الشيوعية في فلسطين، وتكرّس وجود حزبين:
- الحزب الشيوعي «الإسرائيلي»، الذي وقف إلى جانب القوى الحاكمة في الكيان الصهيوني في القضايا الأساسية.
- حزب «راكاح»، الذي تكوّن من أكثرية عربية وأقلية يهودية، ليطالب العرب بالاعتراف بحق «إسرائيل» بالوجود حتى حدود معترف بها من جهة، على أساس أن تعترف «إسرائيل» بحقوق الأقلية العربية من جهة أخرى( ).

3-الحزب الشيوعي المصري:
تأسس في العام 1922م، وكان تتويجاً للخلايا الاشتراكية التي بدأت تنتشر في مصر منذ العام 1918م. وركَّز نشاطه أوساط الأقليات والأجانب (الأرمن، اليهود، اليونانيين…)، ودفعته تركيبته الطبقية إلى انتهاج الخط اليساري المتطرف.
قبلت الأممية الثالثة عضوية الحزب في العام 1922م، بعد أن وافق على شروطها. لكنه شهد، منذ ولادته وطيلة تاريخه العديد من الانقسامات والصراعات المريرة والتطهيرات الداخلية. لهذه الأسباب، بالإضافة إلى سيطرة المثقفين والأجانب والخط المغامر، فقد رصيده الدولي والداخلي وعُزل عن الجماهير.
كان التحول السياسي - الفكري الذي رسمتها قرارات الكومنترن في أواخر العشرينات من القرن 20م من أهم الأسباب التي دفعت إلى شرذمة الحركة الشيوعية المصرية.
طوال مرحلة العشرينات اتخذ الكومنترن قرارات دعت إلى الحذر الشديد من قيام انتفاضات شيوعية في العالم، والسبب يعود إلى خوف الكومنترن من تشديد قبضة الرأسمالية على حركة الجماهير. لكن وما إن برزت معالم الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 1929م، حتى تغيَّرت أساليب الدعوة إلى النضال، بعد أن قدَّر أن ثورة عالمية بروليتارية أصبحت على الأبواب سوف تقودها البروليتاريا بمساعدة من الفلاحين. فانقسم الشيوعيون المصريون -حينئذٍ- إلى زمر وشلل تدّعي كل منها أنها تمثل وحدها الطبقة العاملة والفلاحين، ومن حقها أن تستأثر بالثورة( ). وكان من اللافت أن قيادات يهودية قامت بتأسيس معظم التنظيمات الصغيرة.
ناضلت المجموعات الشيوعية في مصر، في أثناء الحرب العالمية الثانية، ضد الاحتلال البريطاني. ودارت بينها نقاشات وخلافات حول مسألتين:
الأولى حول هل يكون دور الحزب جماهيرياً؟
أما الثانية فتدور حول هل أن عليه أن يكتفي بتكوين كوادر قيادية مؤهلة لبث الأفكار الماركسية بين الجماهير؟
واستطاعت قيادات بعض التنظيمات الشيوعية أن توحد صفوفها، في العام 1947م، لكن تأييدها لقرار تقسيم فلسطين، في العام 1948م، تجاوباً مع موقف الاتحاد السوفياتي، دفع بقواعدها إلى الالتزام بالموقف العربي الذي كان يعارض القرار. وحدثت نتيجة ذلك بعض الانشقاقات في صفوفها.
كانت التنظيمات الشيوعية في مصر أكثر تنظيماً ونشاطاً من القوى القومية، خاصة في الخمسينات من القرن ال 20م. لكنها كانت عاجزة، بمفردها، عن القيام بأية حركة ثورية بعيدة المدى. وتعود الأسباب إلى أنها بلغت أكثر من خمسين تنظيماً منذ العام 1920م، وإنها نشأت على أيدي الأجانب واليهود والأقليات، وغلبة المثقفين وقلة العناصر الناشطة من العمال والفلاحين بين أعضائها( ).
ومن جانب آخر انقسم الشيوعيون المصريون بين معارض لثورة 23 تموز / يوليو العام 1952م، لأنها -كما يحسبون- مظهر من مظاهر الصراع بين القوى الأمبريالية (أميركا وبريطانيا)، وبين مؤيد لها لأنها -كما يحسبون، أيضاً- مظهر من مظاهر الصراع الطبقي فازت فيه بعض شرائح البورجوازية، فأصبحت -لهذا السبب- تشكل خطوة على طريق الثورة.
تراوحت علاقات الشيوعيين مع نظام الثورة بين مد وجزر، طوال مرحلة الخمسينات، إلى أن بلغت أفضل مستوياتها بينهما في أعقاب وقوف الاتحاد السوفياتي موقفاً سلبياً من وجود «إسرائيل»، إذ ذاك شارك الشيوعيون في مقاومة العدوان الثلاثي الذي قامت به بريطانيا وفرنسا و«إسرائيل»، في العام 1956م، ضد الأراضي المصرية. وخطوا، أيضاً، خطوات إيجابية نحو إعادة فهم جديد للقومية العربية، حيث اعتبر برنامج الحزب الشيوعي أن القومية تقوم على التاريخ الواحد والنضال المشترك واللغة الواحدة والتراث القومي والأرض المشتركة والتكوين النفسي المشترك. ووجدوا فيها حركة شعبية نضالية معادية للاستعمار، ومعركة التوحيد فيها معادية للاستعمار، أيضاً. فبهذا تكون القومية العربية، في جوهرها، حركة تقدمية لأنها تناضل ضد الاستعمار وحلفائه الإقطاعيين والاحتكاريين. لذلك أيَّدوا الوحدة بين سوريا ومصر، في العام 1958م، إلاَّ أن تدهور العلاقة بين مصر والاتحاد السوفياتي أدى إلى قطيعة جديدة بين نظام حكم ثورة يوليو وبين الشيوعيين، ثم عادت إلى مستواها الإيجابي بعد العام 1961م. وساءت من جديد بعد وصول أنور السادات إلى رئاسة الجمهورية في العام 1970م( ).
من خلال سرد تلك الوقائع التاريخية، يتبيَّن أن مواقف الشيوعيين المصريين من المسألة القومية العربية كانت ذات منابت سياسية وليست عقائدية. والسبب في ذلك أن علاقات الشيوعيين مع القوى القومية، ومنها قيادة الثورة المصرية، كانت تشكل المقياس الذي على أساسه يقترب الشيوعيون من الفكر القومي أو يبتعدون عنه.

4-الحزب الشيوعي السوري - اللبناني:
تأسس في تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1924م، وساند الثورة السورية الكبرى في العام 1925م، ودعا إلى التمرد والعصيان في وجه السلطات الفرنسية، وهرَّب السلاح إلى سوريا ولبنان من الاتحاد السوفياتي عبر الحزب الشيوعي التركي، مما أدَّى إلى ملاحقة الشيوعيين.
وفي بداية العام 1930م، أصدر، بالاشتراك مع الحزب الشيوعي الفلسطيني وثيقة مهمة تحت عنوان «واجبات الشيوعيين في الحركة القومية العربية»، أعلنا فيها أن على حاملي الكفاح الثوري التحرري أن يناهضوا الأمبريالية كوسيلة من وسائل حل قضية العرب القومية( ).
استمر الحزب على مواقفه، حتى العام 1933م، مركّزاً على المهام الوطنية والقومية، ومنسقاً بينها وبين المهام الأممية. لكن بعد هذا التاريخ أخذ يولي المهام الأممية عنايته الأولى، بعد أن أعلن ارتباطه العضوي بالحركة الشيوعية العالمية التي كان مركزها موسكو؛ وبسبب آخر هو طبيعة تركيبة الحزب الداخلية حيث كان يجتذب إليه بشكل رئيس الأقليات القومية. ويضاف إلى ذلك طبيعة التطورات الدولية التي أخذت تؤثر بشكل أو بآخر على علاقات الاتحاد السوفياتي مع دول الغرب، ومنها فرنسا.
في تلك المرحلة أقام الحزب علاقات قوية مع الحزب الشيوعي الفرنسي ونسَّق معه. وما إن وصلت «الجبهة الشعبية» في فرنسا إلى الحكم، وهي الجبهة التي كان الشيوعيون أحد أركانها الرئيسين، تنفّس الحزب الشيوعي السوري - اللبناني الصعداء، فبادر إلى توثيق العلاقات مع السلطات الفرنسية المنتدَبَة في لبنان وسوريا من جهة، و إلى توثيق العلاقات مع الحزب الشيوعي الفرنسي من جهة أخرى؛ وبهذا عمل الحزب على الانضمام إلى الكتلة الوطنية في سوريا، كوسيلة من وسائل اعتماد الجبهات الشعبية لمقاومة المد النازي والفاشي الذي كان يتصاعد في تلك المرحلة. وبهذا حلَّ شعار «الجبهة» محل شعار «الطبقة». وقد سلك الحزب هذا الخط بعد أن جرت عملية تطهيره من العناصر المنحرفة. ومن الواضح أن تلك الإجراءات لم تكن خارج السياق الذي سلكه ستالين في الاتحاد السوفياتي.
إتخذت العلاقات مع فرنسا ، عند الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، مصالح الاتحاد السوفياتي السياسية الخارجية مقياساً لها، ولهذا أيد الحزب الاتفاقية التي عقدتها سلطات الانتداب الفرنسي مع الكتلة الوطنية في سوريا في العام 1936م. وعندما وقفت القوى القومية العربية في وجه تلك المعاهدة وجهّت قيادة الحزب، حليفة الكتلة الوطنية، اتهامات ضدها واصفة إياها «بالجهل والخيانة والتواطؤ». وشطحت قيادة الحزب بمواقفها عندما طالب أمينها العام، في العامين 1937م و1938م، بالانضمام إلى الكتلة الوطنية لتحقيق «اتحاد الأمة السورية». ولهذا لم يحاول إزعاج سلطات الانتداب الفرنسي ولا حكومة الكتلة الوطنية، ومن مظاهر تلك المواقف هو دعواته العمال إلى التروي والهدوء والمحافظة على النظام.
كان لتركيز النضال ضد الفاشية، التي كانت تهدد الاتحاد السوفياتي، دوراً كبيراً في رسم تلك المواقف؛ وكان ثمنها سكوت الحزب الشيوعي عن التضحية بلواء الإسكندرون الذي قدمته فرنسا وبريطانيا إلى تركيا لكسبها إلى جانبهما في الحرب. وقد أيّد الحزب معاهدة سلخ الإسكندرون دون غيره من القوى والأحزاب السياسية في سوريا، وكردة فعل على مواقفه تمَّ عزله عن النضال القومي، وجعل العديد من أعضائه يتخلّون عنه. ويُذكَر أنه كان من أسباب تأييد تلك المعاهدة هو الاستجابة إلى طلب من الحزب الشيوعي الفرنسي خوفاً على حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا من السقوط.
لكن بعد توقيع معاهدة التحالف بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا، في العام 1939م، تحوّلت مواقف الحزب الشيوعي السوري - اللبناني إلى مهاجمة فرنسا واتهامها بإضرام حرب استعمارية على حساب شعوب المستعمرات. ولكن الغزو الألماني لأراضي الاتحاد السوفياتي، في العام 1941م، ودخول قوات فرنسا الحرة مع الإنكليز إلى سوريا ولبنان، دفعا إلى تبديل موقف الحزب الشيوعي السوري - اللبناني من جديد، وإلى الدعوة للتعاون مع فرنسا حليفة الاتحاد السوفياتي.
لقد أجَّل الحزب الشيوعي السوري - اللبناني كل ثوابته المبدئية (النضال ضد الإقطاعيين - توسيع حدود الطبقة لتشمل جميع الوطنيين المخلصين…) لمصلحة التركيز على محاربة الفاشية. ولكن ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدَّل الحزب ثوابته ومتغيراته، فأصبحت فرنسا تشكل عدواناً على لبنان وسوريا، فاكتسب الشيوعيون زخماً جديداً.
لم يهدأ بال الشيوعيين طويلاً ويرتاحوا من حالة العداء الشعبية، التي كانوا يتواجهون بها، حتى أطلّت مشكلة فلسطين لتضعهم أمام امتحان قومي جديد.
كان الحزب، قبل قرار تقسيم فلسطين، في 29 / 12 / 1947م، يصف الصهيونية بأنها حركة رجعية رأسمالية استعمارية مهمتها خداع العمال اليهود، وجرهم إلى خدمة مآرب الاستعمار؛ فرفض قرار التقسيم لأنه «وصمة عار مخجلة على جبين الإنسانية…»، وعندما أعلن الاتحاد السوفياتي موافقته على القرار في العام 1948م، أحدث إرباكاً في مواقف الحزب الشيوعي السوري - اللبناني، الذي سرعان ما بدَّل مواقفه المعارضة للتقسيم، وبادر إلى تبريره وتأييده( ). فتعرَّض إلى حملة شعبية ناقمة نتيجة هذا التأييد. واستعاد اعتباره، منذ مطلع الخمسينات، بعد مقارعته للمشاريع والأحلاف الاستعمارية، وبنى تحالفات وطنية كانت الأساس في المعارضة الشعبية ضد حكم شمعون في العام 1958م. واتَّخذ، جنباً لجنب الشيوعيين العرب، موقفاً مناوئاً للوحدة بين سوريا ومصر، وهو السبب الذي أعاد الانقسامات بين صفوف التيار الشيوعي والتيار القومي العربي.
استعاد الحزب الشيوعي اللبناني موقعه من جديد في صفوف الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في العام 1964م، بانضمامه إلى الجبهة التي جمعتها، وركَّزت على النضال من أجل بعض القضايا المطلبية في لبنان.
وبعد نكسة حزيران / يونيو من العام 1967م، جرت مناقشات نقدية داخل الحزب، تناولت مواقفه السابقة من الوحدة العربية والمقاومة الفلسطينية، انتهت بانعقاد المؤتمر الثاني للحزب في خريف العام 1968م، الذي أجرى فيه مراجعة نقدية لمواقفه السابقة من القضايا القومية. وكرَّس تلك التحولات في المؤتمر الثالث، في العام 1972م، فخطا خطوات مهمة على طريق الدفاع عن المقاومة الفلسطينية( ).

5-الحزب الشيوعي العراقي():
يرى أن الطريق المؤدي إلى الوحدة العربية يمر عبر المحطات التالية: معاداة الاستعمار - تصفية الإقطاع - كبح التطور الرأسمالي، وتمهيد الطريق للتطور نحو الاشتراكية - تعزيز الاستقلال السياسي، وبناء الاستقلال الاقتصادي من خلال التقليل من الاعتماد على السوق الرأسمالي - التحالف السياسي والتعاون الاقتصادي مع المعسكر الاشتراكي( ).
تطورت مواقف الحزب من القضايا القومية العربية استناداً إلى مواقف قيادات تلك القضايا من العلاقة مع الاتحاد السوفياتي؛ ومن الأمثلة على ذلك، تطور الموقف من ثورة رشيد عالي الكيلاني، التي انفجرت في العام 1941م؛ حينذاك، وقف الشيوعيون العراقيون بتحفظ إلى جانب الثورة، وطالبوها بوقف الحملات ضد اليهود وعدم الانجراف في تأييد دول المحور (ألمانيا وحلفاؤها)، وفي المقابل تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفياتي. وبعد أن استجابت قيادة الثورة إلى مطالبهم اعترف الاتحاد السوفياتي بها.
تبدلت المواقف بعد أن غزا الألمان الأراضي الروسية. فبعد أن أصبحت إنكلترا حليفة للاتحاد السوفياتي، واجه الحزب الشيوعي العراقي انتقادات من أعضائه اليهود لتأييد ثورة الكيلاني، ووصفوها بأنها حركة نازية. وفي السنين اللاحقة (1943 - 1947م) أعلن الحزب أن تأييده للثورة كان «غلطة سياسية تكتيكية»( ). ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد أن كان الشيوعيون العراقيون يؤيدون الثورة لأسباب سوفياتية، أخذت المواقف تتبدل باتجاه معارضتها من دون أن تتناول إلغاء المعاهدة العراقية - البريطانية وهو عكس الموقف الذي اتخذته معظم القوى الوطنية. وما إن استنهض الحزب قاعدته الشعبية بالاشتراك في الحركات الوطنية حتى أصيب بانتكاسة أخرى بسبب موقفه المؤيد لتقسيم فلسطين. وما برح أن تحالف مع القوى القومية والديموقراطية، استجابة للخط السوفياتي الجديد، بعد انتهاء المرحلة الستالينية، الذي دعا للانفتاح على الحركات التحررية الوطنية في العالم الثالث وعلى ضرورة إقامة جبهات وطنية عريضة معادية للإمبريالية. ونتيجة لهذا التطور أيد الحزب مصر، في العام 1956م، ضد العدوان الثلاثي عليها (بريطانيا - فرنسا - «إسرائيل»). وفي العام 1957م، نشأت جبهة اتحاد وطني شارك الحزب الشيوعي فيها إلى جانب حزب البعث العربي الاشتراكي وأحزاب أخرى، كان من أهم نتائجها نجاح ثورة 14 تموز / يوليو من العام 1958م. وسرعان ما تفسَّخ التحالف بعد أن انقسمت أطرافه بين تيارات تؤيد الخطوة الوحدوية بين سوريا ومصر، وبين تيار معادٍ لها يضم الحزب الشيوعي العراقي، الذي أصبحت مواقعه قوية في السلطة مدعوماً من رأسها، عبد الكريم قاسم، وقام الشيوعيون -بعد تحقيقهم لعدد من المكاسب في السلطة- بارتكاب عدد من المجازر الدموية ضد حلفائهم السابقين من القوى القومية والوطنية الأخرى( ).
لم يستقر وضع الحزب الشيوعي العراقي بعد سقوط نظام عبد الكريم قاسم الذي دعموه بكل قوة. ونتيجة ملاحقة السلطات المستمرة أدَّت إلى لجوء الشيوعيين إلى المناطق الكردية وبهذا استعاد الأكراد قوّتهم في داخل الحزب من جهة، وأدّى بالحزب الشيوعي إلى تبنّي مبدأ الكفاح المسلح ضد الحكومات التي تعاقبت على العراق في الستينات من جهة أخرى. ولما لم ينل إعلان الكفاح المسلّح رضى الاتحاد السوفياتي أعلن جناح من الحزب انفصاله رسمياً وأعلن حياده في الصراع الإيديولوجي بين الصين والاتحاد السوفياتي، داعياً إلى تسليح الجماهير ومندداً بمواقف الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية العربية من القضية الفلسطينية (قرار التقسيم 1948م، الاعتراف بالكيان الصهيوني 1949م، تأييد قرار مجلس الأمن 1967م)، وطالب بالقضاء على الكيان الصهيوني، ودعا إلى تأييد المقاومة الفلسطينية. واتّخذ الحزب، في مؤتمره الثالث، في أيار / مايو من العام 1976م، قرارات أخرى، ومن أهمها: اعتبار الاتحاد السوفياتي قاعدة الاشتراكية في العالم، إدانة الخط الصيني، تأييد قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالصراع العربي - «الإسرائيلي»( ).
لقد مرَّت مواقف الحزب الشيوعي العراقي، من المسألة القومية العربية، بعدد من التحولات، ومنها:
-في العام 1932م، رفع الشيوعيون شعار اتحاد (الجمهوريات العمالية والفلاحية للبلدان العربية)، وكانوا بهذا الموقف يقلِّدون الخط المبالغ في جذريته الذي تبّناه المؤتمر السادس للكومنترن في العام 1928م.
-في العام 1935م، أكَّد كونفرنس الأحزاب الشيوعية العربية على الصيغة المتعلِّقة بطوعية وفيديرالية الوحدة العربية، لأن شعار الوحدة العربية غير قابل للتنفيذ نظراً للتطور غير المتكافئ للبلدان العربية.
-في العام 1945م، وقف ضد تأسيس جامعة الدول العربية خوفاً من الدور الذي لعبه وزير خارجية بريطانيا. وخشي الشيوعيون أن يتحول هذا التحالف إلى أداة مضادة للسياسات السوفياتية( ).
-في العام 1955م، أعاد الحزب اهتمامه بالقضية العربية الشاملة بعد أن تخلّى الروس عن نظرياتهم اليسارية واعترافهم بمعسكر العالم الثالث، وبعد انتقال الحركة القومية العربية من الأيدي التقليدية إلى الأيدي الثورية( ). لكنهم ربطوا تحقيق الوحدة العربية بتحقيق إصلاحات ديموقراطية من جهة وطرد الأمبريالية من البلدان العربية من جهة أخرى( ).
-في العام 1958م، وقف الحزب موقفاً حذراً من الوحدة بين القطرين السوري والمصري، واستند في موقفه إلى غياب حرية الرأي ومنع نشاط الأحزاب، فدعا إلى وحدة فيديرالية ديموقراطية تمتد من المحيط إلى الخليج، لكن على أساس اعتماد الوسائل الديموقراطية من دون أي ضغط أو تدخُّل. وأن لا تُحلَّ هذه المسائل من خلال حزب واحد أو حكومة واحدة، بل من خلال نضال شاق تشارك فيه كل الشعوب العربية وطبقاتها وأحزابها وقادتها. رفع الشيوعيون العراقيون هذا الشعار في الوقت الذي كانوا فيه يمارسون التحول إلى مسار إقليمي محض( ).
أما موقفه من قضية فلسطين فقد كان تابعاً لموقف الاتحاد السوفياتي، ولم يكن يمثِّل موقفاً نابعاً من قناعات ذاتية، وهذا ما يدل عليه الخط البياني التالي:
جاء اعتراف الاتحاد السوفياتي بتقسيم فلسطين بمثابة الصدمة بالنسبة للشيوعيين في العراق، وأوقعتهم في إرباك لأنهم قد تربّوا على أساس «العداء للحركة الصهيونية ولفكرة الوطن القومي الصهيوني في فلسطين العربية»( ). لكن لم يمرِّروا موقف السوفيات من دون اعتراض عليه، فرفعوا نداءً إلى ستالين طلبوا فيه الوقوف إلى جانب الفلسطينيين العرب، فلم يلقَ نداؤهم أية استجابة عندما أصرَّ الاتحاد السوفياتي على موقفه. لكن رفض الشيوعيون خطة التقسيم في البداية لمدة شهرين وتحوّلوا بعدها بعد ذلك إلى انتقاد التصلب السياسي في الموقف العربي. وسارت القيادة الشيوعية العراقية في خط السياسة السوفياتية، واتخذت لنفسها فكرة تقول: ب«إقامة دولة عربية ديموقراطية مستقلة في الجزء العربي من فلسطين»( ).
تضافر عاملان نابعان من عدم ثبات موقف الحزب الشيوعي العراقي من العمل الوحدوي العربي، بشكل عام، وموقفه من القضية الفلسطينية بشكل خاص، ليفسِّرا ابتعاده عن الموقع العروبي، وشكل السبب الذي دفع إلى انحسار امتداد الحزب الشيوعي في صفوف العرب.

III - إتجاهات الأحزاب الشيوعيـة العربيـة، التي تأسست في أواخر المرحلة الستالينية

أولاً: مواقفها من المسألـة القوميـة والوحدة العربيـة
لم تتصدَّ معظم الأحزاب الشيوعية العربية للمسألة القومية العربية، أو لموضوع الوحدة العربية، بشكل مباشر. لكن هذا لا يمنع من أن بعضها القليل قد عمل على ملامستها بشكل سريع. وعلى الباحث أن يجهد نفسه عندما يريد أن يتتبَّع هذا الجانب محاولاً التقاط رأي أو اتجاه متكامل. ومن بعض القليل الذي وجدناه بعض النماذج التالية:

1-الحـزب الشيوعـي المغربـي:
عمل تحت اسم حزب التقدم والاشتراكية. وتأسس، في العام 1943م، على أيدي مجموعة من الشيوعيين الفرنسيين، مما جعله غير مقرَّب من الجماهير التي كانت تناضل من أجل الاستقلال، بينما دعا إلى إعطاء أولوية للنضال ضد الفاشية على النضال من أجل الاستقلال( ).

2-الحزب الشيوعي السوداني():
تميزت مواقفه من القومية العربية والوحدة العربية، «بالمرونة والتفهم قياساً بغيره من الأحزاب الشيوعية العربية»( ).
على المستوى السياسي، تميَّزت علاقات الحزب الشيوعي السوداني مع بعض القوى والأنظمة التقدمية العربية بالمرونة والإيجابية. فمنذ العام 1954م، كانت العلاقات مع عبد الناصر خاصة وإيجابية على الرغم من سوئها مع الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى. واستمرت علاقته على وتيرتها الإيجابية مع عبد الناصر بعد أن أخذت علاقات الأخير، مع بداية العام 1959م، تسوء مع تلك الأحزاب( ).
هنا، لكي تتّضح أمامنا صورة موقفه من المسألة القومية والوحدة العربية، نرى من المناسب، أن نرصد موقفه الإيديولوجي الذي يستند إليه في فهم المسألة القطرية السودانية كمعبر لتحديد موقفه من المسائل القومية.
يرى الحزب أن الثورة السودانية تمر، كحاجة تاريخية وموضوعية، « بمرحلة إنجاز الثورة الوطنية الديموقراطية، كشرط للانتقال إلى مهام الثورة الاشتراكية»( ). ويحدد الحزب سمات المرحلة الانتقالية بما يلي: معاناة السودان من ثقل التكوينات قبل الرأسمالية في اقتصاده - تحريره من التبعية السياسية والاقتصادية - العمل من أجل الأهداف الديموقراطية بتصفية كل القيود القديمة والتكوينات السابقة للرأسمالية في ميدان الإنتاج ومظاهر الحياة الاجتماعية الأخرى - إنجاز الثورة الديموقراطية في إنماء قوى الإنتاج لتتَّضح معالم الصراع الطبقي من خلال قوانين التطور ضد أعداء الثورة الديموقراطية والصراع ضد الاستعمار( ).
تتحقق شروط نجاح المرحلة الانتقالية في التحالف مع الحركة الشيوعية العالمية، وتوفير أفضل شروط الوحدة فيما بينها، ويأتي الاتحاد السوفياتي على رأس تلك الحركة( )؛ وتشكل هذه المرحلة حاجة تاريخية للحزب الشيوعي السوداني( ). وتليها في الأهمية «قضية الاتجاه إلى الارتباط مع النُظم التقدمية العربية وعناصر الثورة العربية الأخرى»( ).
يسترشد الحزب بنظرته الطبقية عندما يبحث عن الصعوبات التي تحيط بحركة التحرر العربية، لأنها «تضم في إطارها طبقات وفئات اجتماعية مختلفة، كما أنها تواجه في الوقت نفسه قضايا متشعبة لا يمكن مواجهتها إلاَّ من الزوايا الطبقية»( ).
ويرى أن قوى الثورة العربية تتشكَّل من «جماهير الفلاحين، والطبقة العاملة، والبورجوازية الصغيرة الوطنية والتقدمية، وكل الدوائر المناهضة للاستعمار والرامية إلى التقدم». أما أعداؤها فهم: الاستعمار العالمي، والصهيونية، والإقطاع والبورجوازية المتحالفة معهما.
أما الأساس الثابت لحركة التحرر العربية، بما في ذلك الثورة الفلسطينية أنها «جزءٌ من حركة التحرر الوطني العالمية». ويصبح «من المستحيل» أن تواجه القضايا الكثيرة في سبيل حلّها من غير التحالف الوثيق مع المعسكر الاشتراكي وحركة الطبقة العاملة العالمية.
تعمل حركة التحرر العربية على العديد من الجبهات: يعمل بعضها من أجل الاستقلال الوطني، وبعضها يعمل ضد النُظُم الرجعية المتواطئة مع الاستعمار، وبعض آخر يناضل من أجل عبور طريق التطور غير الرأسمالي وحسم الثورة الديموقراطية. وكل انتصار تحرزه جبهة منها «يشد من أزر الشعوب، ويُضعِف من مواقع أعداء الثورة العربية»( ).
لكن ائتلاف أطراف حركة التحرر العربية لا يقتصر على وحدة نضالية، بل تقع الوحدة العربية في دائرة أهدافه. ويحكم النضال من أجل الوحدة العربية عدة من العوامل الموضوعية، ومثلها من العوامل الذاتية:

أ-العوامل الموضوعيـة: وهي تلك العوامل الضرورية لقيام الوحدة العربية، ومن أهمها: التحرر من كل أشكال السيطرة الاستعمارية، وإنجاز الثورة الديموقراطية التي تقضي على الطبقات الطفيلية المستفيدة من حالة الانقسام القومي( ). ويعير الحزب اهتماماً للمنطلق البروليتاري لحركة الوحدة العربية، فهو يعطيها محتواها التقدمي، و«يحررها من المفاهيم العاطفية والمتعصبة»( ).

ب-العوامل الذاتيـة: وهي العمل من أجل اتحاد القوى الثورية في كل بلد عربي، والاعتراف «بالخصائص المميزة لكل بلد ومؤسساته وتقاليده». وإن ما يعطي للوحدة العربية محتواها الجديد هي أسس «الحرية والتقدم والاشتراكية»( ).
ومن الشروط التي على القوى الثورية أن توفرها كسبيل لإنجاح العمل الوحدوي، هي: وحدة كل القوى الثورية العربية، وتقارب كل الأنظمة التقدمية، والنضال من أجل تصفية الوجودين الإسرائيلي والاستعماري في الأرض العربية( ).
تتمظهر أهمية الوحدة العربية من خلال ما يلي:
-تُمثِّل الوحدة العربية حاجة تاريخية لشعوب هذه المنطقة.
-توضع الشروط اللازمة للوحدة خلال تحول المجتمعات العربية صوب الاشتراكية «حينما تُصفّى قواعد الطبقات الاجتماعية المستغِلَّة وأيديولوجيتها التي تستند إلى التعصب الوطني الضيق».
-يُعدُّ الشرط الجوهري في أن تجد الحركة الثورية في كل بلد عربي الصيغة الملائمة للاتحاد بينها في النضال من أجل التقدم والاشتراكية، واستنهاض الجماهير على أسس ديموقراطية.
-أن لا تُفرَض الوحدة فرضاً، بل من خلال الرغبة الشعبية( ). وأن يكون من واجب الثورة في كل بلد عربي أن تنقل بلادها إلى مواقع التقدم عبر الثورة الزراعية والصناعية. وإن حاجة الثورة ليست اقتصادية فحسب، بل حاجة سياسية واجتماعية. ولهذا السبب لا بُدَّ من المساعدة المتبادلة بين الدول العربية والتعاون التجاري في وجه الضغوط الاستعمارية( ).
-للعوامل الاقتصادية أهمية في بناء الوحدة العربية، وفي هذا الصدد يؤكد الحزب على أهمية التكامل الاقتصادي كمدخل للوحدة، ووجوب نقل كل بلد عربي إلى مواقع التقدم من خلال الثورة الزراعية والصناعية، والتعاون التجاري في وجه الضغوط الاستعمارية، والوقوف في وجه القادة الاقتصاديين الذين يتمسكون بنظريات بورجوازية، وإيلاء الأهمية للأسس الاقتصادية المتكافئة بين البلدان العربية لأن الأسس الغير متكافئة «تلهب المشاعر القومية الطبقية»( ).
ثانيـاً: مواقفها من الصهيونيـة والقضيـة الفلسطينيـة
قبل العام 1947م، كانت الأحزاب الشيوعية العربية تسير في محاذاة الأممية الشيوعية في مواقفها التي كانت تضع الصهيونية في دائرة التحالف مع الاستعمار والمعاداة للدول الاشتراكية. فكانت الإيديولوجية الماركسية - الشيوعية تعمل على محاربتها والنضال ضدها. لكن إعلان الموقف السوفياتي حول تأييد تقسيم فلسطين، في العام 1947م، أحدث انقلاباً في مواقف الأحزاب الشيوعية العربية، فبادرت إلى تأييده بعد أن كانت تندد بالصهيونية، وعدُّت تدخل الجيوش العربية عدواناً، بعدما كانت ترى أن النضال العربي ضد الصهيونية يصب في خدمة حركة التحرر العربي. وتميزت المرحلة من العام (1947 - 1954م)، بمثل تلك المواقف( ):
-نظّم الحزب الشيوعي العراقي مظاهرات، في كانون الأول / ديسمبر من العام 1947م، تأييداً للقرار، وتشابكت أيدي شيوعي عربي مع شيوعي يهودي تدليلاً على الصداقة والمحبة، ودعا الحزب إلى الاعتراف بدولة «إسرائيل»، وسحب القوات العربية من فلسطين. ودعا، أيضاً، إلى تعاون ديموقراطي عربي - يهودي في سبيل شجب الحرب الفلسطينية القذرة( ).
-أصدر الحزب الشيوعي السوري اللبناني مذكرة يصم فيها الحرب بين العرب واليهود بأنها دينية عنصرية تتعاون فيها الرجعية العربية مع الاستعمار لمنع قيام الدولة العربية المستقلة في القسم العربي من فلسطين.
-بشَّر الحزب الشيوعي المصري بولادة أمة جديدة / الأمة اليهودية، وطالب بإعطائها الحق في تقرير المصير.
-جارى موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني مواقف أترابه من الأحزاب الشيوعية العربية.
-لم يجار الحزب الشيوعي الأردني تلك المواقف على الرغم من أنه رفض مقاومة القوات الصهيونية، في العام 1956م، عندما دخلت قطاع غزة( ). لكنه لم يتخذ موقفاً حاسماً من وجود «إسرائيل»، وعدَّها فقط مخزناً للأسلحة الأمبريالية بدون الدعوة إلى مقاومتها واقتلاع غزوها( ).
ونتيجة لتلك المواقف رفعت الأحزاب الشيوعية العربية، منذ العام 1950م، شعار الصلح مع «إسرائيل»، وظلّت تفسر الأحداث من خلال اعتبار اليهود أمة مُعتدىً عليها( ). أما في المرحلة الممتدة من (1955 - 1967م) فقد بدَّل الاتحاد السوفياتي في مواقفه تجاه قضايا الأمة العربية القومية، فبدّلت الأحزاب الشيوعية العربية، أيضاً:
كان الشيوعيون العرب يعملون على أساس أن الاتحاد السوفياتي، في عهد خروشوف() (1894 - 1971م)، يعمل لتحقيق سلم بين العرب و«إسرائيل»( ). وفي عهده انتهج سياسة انفتاح وتفهم وتأييد إزاء دول العالم الثالث، وبخاصة البلدان العربية( ).
- في العام 1955م، هاجم الحزب الشيوعي السوري الصهيونية، ونفى أن تكون لليهود مقومات الأمة( ). وأكَّد، في العام 1956م، أن قيام الوطن القومي اليهودي في فلسطين ليس إلاَّ فكرة استعمارية عدوانية قائمة على الاغتصاب وحراب الاستعمار، وهي تسعى إلى كبح الحركة الوطنية في الشرق العربي، وإلى نهب ثروات العرب واكتساح أسواقهم. لكنه لم يحدد حلاً للمسألة بل ظلَّ الحل النهائي العادل غامضاً( ).
وما إن حصل عدوان 5 حزيران / يونيو من العام 1967م، وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفياتي كان يقف ضد سياسة الكيان الصهيوني العدوانية، إلاَّ أنه كان يعترف بحقه في البقاء. ويتأكد صدق موقفه هذا من خلال إقامته العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل». وأكد كوسيغين() هذا الموقف في خطاب له من على منبر الأمم المتحدة( ).
ظلت مواقف الأحزاب الشيوعية العربية، بعد الخامس من حزيران / يونيو 1967م، استمراراً لمواقفها قبله، وهي المرحلة التي سبقت المواقف النقدية الذاتية التي مارستها الأحزاب الشيوعية العربية في مؤتمراتها، وتتلخص بما يلي:
-فضح العدوان الصهيوني وارتباطه بالأمبريالية.
-الدعوة للحل السلمي والمرونة والتعقل.
-الأمم المتحدة هي القوة الوحيدة القادرة على حل المشكلة( ).
-إتهام المقاومة بالمغامرة، تحت حجة التشكيك بإمكانيات العرب من جهة، والدعوة إلى الصلح من جهة أخرى( ).
1- الحـزب الشيوعـي الأردنـي():
تمسَّك بموقفه الداعي إلى قبول قرار تقسيم فلسطين. واعتمد أهدافاً مرحلية، من أبرزها:
-الدفاع عن السلم العالمي ومقاومة مؤامرات الاستعمار.
-النضال من أجل جلاء القوات البريطانية عن الأردن، والاستقلال الوطني، وتنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة حول فلسطين، الصادر في 29 / 11 / 1947م، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، وتوزيع أراضي الإقطاعيين وكبار الملاكين على الفلاحين. وتأمين حقوق العمال.
عرف الحزب أول انشقاق في صفوفه، في العام 1964م، حينما شكَّلت مجموعة من أعضائه «المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين». وقد تحفَّظت قيادة الحزب على نهوض العمل الفدائي الفلسطيني بعد العام 1967م، بدعوى أن الظروف لم تنضج بعد للخوض في أسلوب الكفاح المسلح، فضلاً عن أنه يعرقل التوصل إلى تسوية سلمية( ).فكان موقف الحزب واضحاً في انتقاده حركة الفدائيين ومعارضته لأسلوبهم من جهة، ومطالبته بالاعتراف بإسرائيل من جهة أخرى( ).
إزداد الاتجاه المؤيد للعمل الفدائي داخل الحزب قوة فأصدر، لأول مرة، بياناً في آذار / مارس من العام 1969م، يطالب فيه بحماية «المقاومة المسلحة الناشئة، وتنميتها، وتنظيمها، وتوحيدها». واستكمل هذا الاتجاه خطواته الإيجابية نحو العمل المسلح، فأسس في آذار / مارس من العام 1970م، «قوات الأنصار» بتعاون بين الأحزاب الشيوعية في كل من الأردن وسوريا ولبنان والعراق؛ لكن التنظيم بقي ذا وجود وتأثير هامشيين داخل صفوف المقاومة الفلسطينية. واستكمل الحزب خطواته النقدية بإدانة خطه السياسي السابق، وصادق على خط سياسي جديد، ووضع الكفاح المسلح ضمن أساليب عمله. ولم تمر تلك الخطوة من دون معارضة حزبية داخلية تتبنى اتجاه التحفظ ضد أسلوب الكفاح المسلح، وقد عززت هذه المعارضة قناعتها بما حصل من مجازر ضد المقاومة الفلسطينية في أيلول من العام 1970م، السبب الذي دفع بها إلى إعلان انشقاق عن الحزب في كانون الأول / ديسمبر من العام 1970م، وأطلقت على نفسها اسم «الحزب الشيوعي الأردني - الكادر اللينيني»( ).

2-الحزب الشيوعي السوداني:
منذ البداية، لم يقلِّد الحزب الشيوعي السوداني موسكو، كما فعلت الأحزاب الشيوعية الأخرى، ووقف بشكل متمايز من قضية فلسطين( ). وحول هذه المسألة يقول الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني: «نعتقد أن هذه الأرض العربية يجب أن تكون جمهورية ديموقراطية عربية، ولا مكان لإسرائيل وسط العرب»( ). لكن موقف الحزب تغيَّر بعد سنوات قليلة بتأثير من نتائج حرب حزيران / يونيو 1967م، في أعقاب صدور قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 242، الذي يدعو إلى التفاوض بين العرب و«إسرائيل». وفي هذا الموقف الجديد يُشهر الحزب اعترافه بوجود «إسرائيل» من دون أن ينسى أن الواجب يقتضي «دعم الثورة الفلسطينية وتقويتها بهدف استعادة الأرض الفلسطينية دولة ديموقراطية تقدمية»( ).
يرى الحزب أن ليس لليهود قومية لها الحق في تقرير مصيرها، وأن دولتهم ألحقت الضرر بالجبهة المناوئة للاستعمار، لأن نشاطها كان موجهاً ضد القوى المعادية له. وهي تباشر نشاطاً تخريبياً ضد حركات وطنية أخرى، هذا بالإضافة إلى أن الصهيونية العالمية تقوم بالتخريب في حركة الطبقة العاملة العالمية، وفي داخل الاتحاد السوفياتي أيضاً. فيصبح انتصار حركة التحرر العربية، لمجمل الأسباب السالفة، أمراً يقوّي «الجبهة الثورية المناوئة للاستعمار العالمي»( ).
شكَّلت مقررات المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني، الذي انعقد في شهر تشرين الأول / أكتوبر 1967م، تحولاً جديداً في استراتيجية الحزب الشيوعي العربية. ولهذا نلاحظ أنه يبني مواقفه اللاحقة على مقررات ذلك المؤتمر. الذي تنص مقرراته على عدة مبادئ يسترشد بها الحزب لتحديد مواقفه من القضية الفلسطينية، ومن أهمها:
-إزالة الاحتلال الإسرائيلي، وتعزيز وضع الأنظمة التقدمية()، وتوحيد قوى الثورة العربية، ودعم الثورة الفلسطينية( ).
-قبول سياسة التفاوض حول قرار مجلس الأمن 242، الذي يمسُّ موقعين من مواقع الثورة العربية: الموقع الأول يتمثّل بالأنظمة التقدمية، خاصة مصر وسوريا، التي تحتل «إسرائيل» جزءًا من أراضيها؛ أما الثاني فيتمثّل بالثورة الفلسطينية. ويقوم قبول الحزب لسياسة التفاوض على أساس أنه يؤمِّن بعض المكتسبات لقوى الثورة العربية، ومن أهمها:
أ- إن انسحاب «إسرائيل» من الأراضي المحتلة يؤدي إلى تقوية الدول التقدمية؛ فالاحتلال يؤثر سلباً على تطورها الاقتصادي، وهو يحول دون إدخال إصلاحات جذرية في تلك الأنظمة مما يشكِّل عائقاً في وجه استكمال مرحلة الثورة الديموقراطية بشكل حاسم( ).
ب- أما المكسب الثاني، فيتمثّل بمنع «إسرائيل» من الاستفادة من عدوانها في بناء دولة صهيونية على أرضٍ فلسطين. وكي لا توضع العراقيل أمام نمو قوى الثورة الفلسطينية، يجب أن تتَّحد جميع قوى الثورة العربية في موقف واحد يهدف إلى: تقوية المنظمات الفلسطينية، وعدم الاعتراف ب«إسرائيل»، والوقوف ضد الاتجاهات الرجعية العربية( ).

3- الحزب الشيوعي اللبناني:
في مؤتمره الوطني الثاني، الذي عُقِد في خريف العام 1968م، مارس الحزب الشيوعي اللبناني نقداً حول مواقفه السابقة من القضايا القومية العربية. وفي وثائق المؤتمر يشير إلى أنه أهملها، ولم يفهمها بشكل موضوعي، لمرحلة طويلة، ولم يرَ طبيعتها الثورية، بحيث كان ينظر إليها باعتبارها «قضية البورجوازية وحدها»، فوقع «في الدوغمائية»، وكان أسير «الصيغ الجاهزة» عندما عقد مقارنات غير صحيحة، وغير علمية، بين نشوء وتطور القوميات في أوروبا، وبين نشوء وتطور القومية العربية( ).
نظر الحزب إلى القضايا القومية العربية، كمثل قضية فلسطين، من خلال الوجوه العميلة والرجعية، ولم ير «التيار الشعبي العميق الذي كانت تحركه الدوافع القومية بقوة» من جهة، ومن خلال ردود فعله ضد أفكار بعض التنظيمات القومية، التي أسهمت في تفاقم مواقف الحزب «الانفعالية في القضية القومية» من جهة أخرى( ). أسهمت تلك الأسباب في تشديد هجوم الحزب «الاتهامي على جميع القوى دون تمييز»، وهذا ما جعله يبتعد عن إيجاد الأشكال السياسية للعمل المشترك مع القوى الوطنية ضد القوى الرجعية المتآمرة( ). وظهر هذا التصرف أكثر وضوحاً في الخط «السياسي الانعزالي، اليساري المتطرف» للحزب في العامين 1948 و1949م( ).
- - -
لم يجمع الأحزاب الشيوعية العربية أي إطار تنظيمي قومي، بل كانت تتجمَّع من خلال المؤتمرات الشيوعية العالمية تحت رعاية الحزب الشيوعي السوفياتي. لهذا السبب نرى أن تلك الأحزاب، على الرغم من أنها تنتمي إلى اتجاهات فكرية أكبر من القطرية والقومية معاً، فهي كانت في الواقع أحزاباً قطرية. فكان كل واحد منها، واقعاً ونظراً، يمارس نشاطه السياسي ويناضل من أجل قضايا مطلبية سياسية واجتماعية واقتصادية على قاعدة الارتقاء بكل قطر، على انفراد، وكأن المطلوب منه أن يكون قومية منفصلة عن الأقطار الأخرى، والعمل على تأهيله طبقياً للدخول في النادي الأممي مباشرة حتى لو اقتضى الأمر أن لا تمر الأقطار العربية بمرحلة الوحدة القومية، وكأنها ليست قومية واحدة تمَّت تجزئتها إلى أقطار متفرقة متناحرة ترتبط مباشرة بعجلة الرأسمال الغربي.
نحن نحسب أن نظرة الشيوعيين العرب لم تكن تلح على الوحدة العربية، كما كان ينظر ماركس - على الأقل - إلى الوحدة الألمانية، وكأنها حاجة ضرورية لتصليب مواقفها وتوحيدها من مسألة الصراع مع الاستعمار، وهي من أهم المسائل التي يوليها الفكر الماركسي - اللينيني أهمية في سبيل نجاح المشروع الشيوعي الأممي.

***



#حسن_خليل_غريب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب الماركسيـة بين الأمـة والأمميـة - الفصل الأول: مقدمات م ...
- الناسخ والمنسوخ
- الإشكالية بين الفكرين القومي والديني


المزيد.....




- الخرطوم تطالب بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث -عدوان الإمار ...
- استمرار الاحتجاجات في جامعات أوروبا تضامنًا مع الفلسطينيين ف ...
- الرئيس الإيراني: عقيدتنا تمنعنا من حيازة السلاح النووي لا ال ...
- مظاهرة ضد خطة الحكومة لتمديد استخدام محطة -مانشان- للطاقة ال ...
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة خسائر القوات الأوكرانية خلال أسبوع ...
- أطباء المستشفى الميداني الإماراتي في غزة يستأصلون ورما وزنه ...
- مجلس أميركي من أجل استخدام -آمن وسليم- للذكاء الاصطناعي
- جبهة الخلاص تدين -التطورات الخطيرة- في قضية التآمر على أمن ا ...
- الاستخبارات الأميركية -ترجح- أن بوتين لم يأمر بقتل نافالني-ب ...
- روسيا وأوكرانيا.. قصف متبادل بالمسيرات والصواريخ يستهدف منشآ ...


المزيد.....

- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر
- محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي ... / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - حسن خليل غريب - الفصل الثاني من كتاب - الماركسية بين الأمة والأممية