|
ازمنة الحب 1- زمن عبد الحليم حافظ
عارف معروف
الحوار المتمدن-العدد: 1015 - 2004 / 11 / 12 - 07:41
المحور:
الادب والفن
افهمني صديقي ما الذي تعنيه كلمة" Belgium" وقال انها تعني بلجيكا ، ثم تمادىفي استعراض معرفته فتحول الى السؤال : وما الذي تظن ان عليه اسم المانيا ؟ واستطرد فورا ، ان الالمان لايسمونها "المانيا" كما نفعل نحن ، وقبل ان انبس عاجلني، ولا حتى "جيرمني" كما تريد ان تقول .. انهم يسمونها " دويج D ..U..T..C..H." تصور... المانيا... د ويج ما اغرب هذا!! ورغم جدة هذه المعلومات وخطورتها بالنسبة الي فانها لم تبهرني كثيرا كما كان يحدث في حالات مماثلة ، وازاء اشياء اقل غرابة واثارة للدهشة وكان رد فعلي الوحيد ان قلبت قطعة النقود النيكلية التي تحمل على احد وجهيها نحتا نصفيا بارزا تحيط به وباحرف لاتينية كلمة "BELGIUM " واعطيتها لصاحبي الذي كان شغوفا بجمع هذه التحف ، ولم اتابع باهتمام روايته الغريبة والتي راح يحدثني بها ومفادها ان ملابس " البالة" احتوت في حالات حسن طالع ليست نادرة على مبالغ هائلة ولقى وكنوز ذهبية اغنت اصحابها مدى الدهر .., فبالنسبة الي لم اكن معنيا ساعتئذ بأي امر، اذ كنت مأخوذا تماما بالجاكيت الازرق الجديد والذي كان يلتمع تحت ضوء الشمس بطيف بنفسجي اخّاذ . قالت امي انه" صدر الحمام" الذي لم يكن يرتديه الا الاكابر " سبحان الله" وصحح ابي بحزم العارف المتيقن ، بل " موهير" ، وقال انه رغم صداقته للبائع بحكم كونه زبونا دائما فقد ابى ذاك الاّان يكون ثمنه دينارين كاملين... ديناران!اتسعت حدقتا امي وجالت نظراتها المندهشة بيني وبين ابي حيث داخل الدهشة نوع من الافتتان والعرفان . كان مبلغا جسيما حقا بالنسبة لجاكيت " بالة " مهما بدا جديدا وجذابا . ارتديتها عدة مرات . كانت مقاساتها منطبقة على مقاساتي تقريبا ، فلم تتعب الوالدة كما في كل مرة ، عدا طول في الاكمام قالت انه شيء حسن وان لباس المرء اذا طال عن حده فمعنى ذلك الفيض واليسار . استعرضت نفسي امام المرآة بخيلاء وغطرسة واتخذت عدة اوضاع مما اشتهر عن نجوم السينما ، ثم جعلت انتظر بفارغ الصبر هبوط المساء ، وما ان غربت الشمس وانسابت عتمة الغروب لتلف الحي بزرقتها الداكنة حتى كنت اخطر مرة اثر مرة وانا ابالغ في التأنق بجاكيتتي الجديدة تحت ضوء المصباح الكهربائي الوحيد في الزقاق ، صافرا اللحن السر ، اللحن النداء ، وحائما كزنبور حول البيت المتميز في الحي كله بشرفته ذات الاعمدة وحديقته الصغيرة وقفص طيور الحب الملونة التي تسقسق تحت شجرة التين الضخمة، صفرت لحننا المشفر مرارا ... الحلوة.. الحلوة .. برموشها السودة الحلوة ... آملا ان تطل " اقبال" من الباب او النافذة المواربة لبيت الضابط الوحيد في الزقاق ، لتراني وترى كم ابدو مترفا ذلك المساء ولكن عبثا، فقد شاء نحسي ان ابقى هائما في الحي طوال تلك الليلة وانا اتضرع الى الله ان تخرج فتراني ، دون اية جدوى ، ومما القى بالمزيد من الحطب في نار غضبي المتقدة ان عجوز النحس، تلك التي جعلت من ترصد خطواتي كل مساء هوايتها المحببة وما كان اسعد على قلبها من ان تفجأنا ، انا واقبال ،لحظات اللقاء وتوقع فينا الروع ، كانت قد انبثقت من ظلام ركنها الخرب في الجوار واطلت بطلعتها الحقودة كأنها تعرف مواعيد لقائنا بالهام وحدس لايخطئان وراحت كالعادة، تتابعني بنظراتها الشاكة المستريبة التي تنطلق كاشعاعات شريرة من عينين لامعتين تنبضان وسط خارطة تجاعيد صفراء اشبه باللغز وانف معقوف كمنقار جارح، تلك النظرات التي تحولت بعد ساعة من الزمان الى نظرات تشف وسخرية ترافقها ابتسامات ظفر متهدلة على شفاه شمطاء تبدو كشقوق متعرجة في ارض ضربها الزلزال . وبعد ساعتين اخريين كانت الاضواء في بيت الضابط قد اطفأت ولفته العتمة وكان الاجهاد قد صعد من الاقدام التي تحولت الى لدائن لا اكاد احس بها الى جسدي كله ، فهّده الاعياء وقادني التعب من انفي مرغما باتجاه البيت فتكومت على الفراش مهدودا متألما حتى الصباح. في ضحى اليوم التالي كانت الشمس ساطعة ، وانبعث دفء غير عادي جعله يبدو كيوم صيفي قائظ 0 بدا الجميع بملابس ربيعية خفيفة0 كنا في ظلال السدرة الكبيرة خلف المدرسة نختلس اللقاء ، كلينا يعاني من الارتباك ، هي خوف ان يرانا احد ما فيخبر اهلها وانا بسبب ما كان يسببه لي الجاكيت الصوفي المقفل الازرار من ضيق وحرارة كانها الاتون . وكالعادة ، لم نكن نعرف من اين نبدأ ، قلت لها بارتجال :اريد صورتك. فاجابت بتلقائية وبراءة: ليست لدي صورة ثم انك تراني كل يوم تقريبا فما الذي تفعله بالصورة؟ افحمتني اجابتها وتبعثر تركيزي ، اذ لم اكن انوي بطلبي ذاك الا اتباع ما حسبته تقليدا غراميا شائعا ، ثم بحثت عن ايما موضوع او كلام ينتشلني من براثن الخجل الذي الم بي وتسبب في اندفاع نافورة من الدماء الحارة النابضة في اوصالي ، تضرج لها وجهي وجعلت اذناي تحتقنان بقوة ، فسألتها عن دروسها . لم نكن نعرف من اين نبدأ ولا كيف نتحدث او مالذي ينبغي ان يقوله حبيبان يلتقيان هكذا ، مثلنا، كانت الكلمات صعبة .. صعبة ومستحيلة ، كل الكلمات التي كنت اهيئها واكررها في اكثر من "بروفة" كانت تتبخر عند اللقاء ولا يحل محلها الا الحيرة والارتباك وكلمات وتصرفات عارضة وغير محسوبة. ولان حلقي كان يجف ويصبح قاحلا كصحراء ، ولان فكري كان يتحول الى كتلة صوان لا انجح في اقتلاع وصقل الا نزر لايكاد يذكر من الكلمات الفجة منه ، فقد كنت استنجد بوسيلة اهتدينا اليها معا ، تواطيء عوّض هزائم المواجهة الفعلية واللقائات الحييّةوجعل لشجاعتنا المفقودة ان تتبدى في اجرأ صورة.. الرسائل ... كنا في كل لقاء : اسلمها رسالة وتسلمني اخرى ، ثم نقطع الطريق من المدرسة الى البيت او بالعكس صامتين ، ساهمين ، تلفنا سعادة غامضة ويغمرنا شعور مفعم بالرضا. كانت رسائلنا تمتليء بالكلمات الكبيرة والجمل الطنانة ، كنت اكتب ما تسعد له " اقبال" وتطير من الفرح ، وازين حواشي الرسالة برسوم طيور وزخارف نباتية وفراشات وحتى زوارق ، ثم ازوق اركانها الاربعة برسوم ازواج قلوب مشكوكة بسهام وهي تقطر دما ، من ذلك النوع الذي كنت اراه موشوما على اذرع واكف محترفي العشق الكبار في الحي ممن كانت تروى حولهم اساطير في العشق ويقال انهم نكبوا وعذبوا حبا. كنت اتفنن في سبك الجمل ، التي تصف " اقبال" وجمالها الاخاذ: الشعر الذي شبهته مرة بليل يرقص ، والعينان اللتان كانتامرة بحيرتي عسل واخرى نافذتي امل ، والخدان الورديان اللذان كانا دائما شقائق نعمان رغم انني لم اكن قد رايت هذه الشقائق مرة في حياتي ! اما " اقبال " فقد تميزت بقدرة انشائية مشابهة وكانت تفجأني بتعابير تثير لدي بلبلة حقيقية وكلمات تجعلني اخف الى كراسات الرسائل الغرامية مما لدى اصحابي لكي اوفق الى معانيها . كانت هذه اللقاءات الحيية وتلك الجمل المتلعثمة والرسائل المزدانة بالرسوم اضافة الى بضعة روايات غرامية وهدايا صغيرة : مشط، ياقة مدرسية بيضاء ، علبة الوان باستيل ، مبراة اقلام على شكل ارنب، هي كل حبنا ، لكن هذا كان كافيا لأن يملأنا فرحا وحبورا. كنا فخورين بهذا وممتلئين به ، حتى فاجئتنا امها بوجهها الاحمر الشرس ذات مساء ، لقد الهمني حدس غامض بان حدثا اليما سيحصل حالما انبثق رأس جارتهم العجوز من ركنها الاثير ، راسها الشيطاني الذي اندفع كراس دجاجة تطل خارج قفص وما ان توارت حتى اطلت ام " اقبال" من على الشرفة ذات الاعمدة لتفجأني وانا اتحدث الى ابنتها من خلال قضبان سياج الحديقة الحديدي فتمطرني بسيل من الشتائم لاحقني حتى بعد ان لذ ت بالفرار . جعلنا مذاك نبالغ في التكتم ونمارس لقاءاتنا الخاطفة بمزيد من الحذر ، لكن امها ما عتمت ان فاجئتنا ثانية في احد المساءات وفي ذات المكان حينما كانت تطل من شرفة الدار فاستشاطت غضبا واحتقن وجهها متحولا الى كرة زرقاء محززة ومتغضنة ،قبل ان تقذفني بقنينة زجاجية فارغة تهشمت قرب قدميّ وكادت شضاياها ان تجرحني بينما كان فمها يقذف حمما من السباب المتواصل بلهجتها الغريبة المليئة بالقافات الجافة فقررت هذه المرة ان اتصدى للهجوم وادافع عن حبي ، واستجمعت كل مخزون شجاعتي لاقول لها بكلمات مرتبكة متعثرة انني احب ابنتها حبا شريفا وانني اريد ان اتزوجها ، فصعد في وجهها لون اسود كالبارود وصرخت بانفعال قاتل بانها ستأدها قبل ان تتزوج " صعلوك" مثلي بل انها ستخنقها " بكفيّ هاذين المحاسبين امام الله" ان سمحت لنفسها ان تصبح زوجا لواحد من الرعاع ، الشراقوة ! ومن يومها اصبح حبنا مطاردا وبداأ يعاني من نوبات ربو واختناق كثيرة . ما كنا ندرك ان اصرارنا على المواصلة لم يكن الا نوعا من اللعب في الوقت بدل الضائع ، كما في كرة القدم، حتى كان يوم وجائتني منكوسة الرأس وعيناها في الارض " افعل شيئا .. لقد قرروا ان يزوجوني من ابن عمي " فصرخت ، وانا لااصدق مااقول، " سأقتله.. بماذا يفضلني" قالت انه ابن عمها وانه ضابط حديث الرتبة وانه قوي واضافت و..جميل، ولم يغيضني من كل ماقالته الا هذه الكلمة اذ حسبت ذلك اول تصدع مشؤوم في كوننا الذي كنا نحياه ، لكنها كانت اصيلة وظلت الى جانبي متشبثه بوهمنا المشترك عبر عدة مواجهات مع اهلها حتى جائتني محذرة يوما من ان غريمي قرر ان يتصدى بنفسه ل"ذلك الفأر" .. هكذا عبر الوحش .. تمتمت فيما يشبه الاعتذار ، وفعلا فقد نزل علي كالصقر ذات يوم . كان رجل مفتولا بشارب فتّي اسود، كان بالنسبة الي رجلا حقيقيا ولم اكن ازاءه غير فتى . بادر من فوره الى تهديدي بشدة فقال انه سيسحقني ويمحقني محقا ان عدت اليها ثانية ، ثم آثر الدبلوماسية على مايبدو فشرح لي وضعي ،لانه يعرفه " اكثر مني" وحدد ما ينفعني حقا ويفيد مستقبلي وما" يضرك ويؤذي عائلتك المسكينة" وقال ان هناك احلاما وصبوات من جهة وهناك سنن صخرية جامدة تحدد الامور والوقائع ولا تسمح بالعبث ، كما انها تحفظ الكون من الشذوذ والبدع من جهة اخرى ، وختم كل ذلك " دعني اقول لك شيئا .. لو امطرت السماء، واشار اليها، وكانت غبراء وكامدة ، لو امطرت قرودا وخنازير .. فيمكن ان يكون ذلك منطقيا وقد يحدث بالفعل ، اما ان تتزوج انت من " اقبال" فهذا هو غير المنطقي ، والذي لايعقل ان يحدث ابدا ثم انها قد خطبت له وانتهى الامر وستصبح زوجته. ولم اعد ارى اقبال ، ولم تعد تراني ، اختفت من البيت ذي الشرفة والاعمدة ، وتوارت عن الحي كله ، فقضيت الاسابيع الاولى في البكاء والحزن ، ثم الاشهر الاولى في احلام اليقظة واوهام الرجوع ، ذهب الشتاء ودارت الارض وزارها الربيع مرتين وفي كل مرة كانت تخضّر من خلل الرماد وتزهر وتدفع من قلبها اشياء جميلة وخارقة اللذة ثم تموت وتتكور على نفسها في سبات واعد ثم تعود فتينع وتزهر ويزهر قلبي معها مثل نغمة في نشيدها الشامل . لم اعد ابكي ، ولم اعد احلم احلاما غير منطقية ، لكنني بقيت اتذكر " اقبال" واتصفح، كلما هزتني الذكرى، رسائلها الاربعمائة التي صنعت منها مجلدا غلفته بجلد غزال!
#عارف_معروف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف حل السيد ميثم الجنابي ازمة اليسار العراقي المعاصر؟
-
الاخوة حكام العربية السعودية ..رسالة تضامن
-
-قصة الشاعر -طومسون فيتزجيرالد
-
النظام العربي والحالة العراقية...حقيقة الصراع 1و2و3
-
وعي الذات والموضوع: ملامح من خارطة الكفاح العربي الثوري
-
التيار الصدري وجيش المهدي...قراءة اخرى
المزيد.....
-
فنان مصري: -الزعيم- تقاعد واعتزل الفن دون رجعة
-
من إلغاء جولتها الفنية إلى طلاقها.. جنيفر لوبيز تكشف كيف -ان
...
-
غزة.. عزف الموسيقى لمواجهة البتر والألم
-
لعبة التوقعات.. هل يفوز عمل غير غربي بجائزة نوبل للآداب 2024
...
-
اندمج في تصوير مشهد حب ونسي المخرج.. لحظة محرجة لأندرو غارفي
...
-
تردد قناة روتانا سينما 2024 الجديد على نايل سات وعرب سات.. ن
...
-
الممثل الخاص لوزير الخارجية الايراني يبحث مع نبيه بري قضايا
...
-
سيدني سويني وأماندا سيفريد تلعبان دور البطولة في فيلم مقتبس
...
-
فشلت في العثور على والدتها وأختها تزوجت من طليقها.. الممثلة
...
-
-دبلوماسية الأفلام-.. روسيا تطور صناعة الأفلام بالتعاون مع ب
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|