أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة - -رائع- ما بعد الحداثة أو الفن والثورة (ليوتار، نغري...)















المزيد.....


-رائع- ما بعد الحداثة أو الفن والثورة (ليوتار، نغري...)


أم الزين بنشيخة

الحوار المتمدن-العدد: 3356 - 2011 / 5 / 5 - 13:59
المحور: الادب والفن
    



"رائع" ما بعد الحداثة
أو الفن والثورة
( ليوتار، نغري ...)

" منذ قرن من الزمن ، لم يعد الجميل هو الرهان الأساسي للفنون ، بل صار رهانها شيء ما يتعلق بالرائع"
فرنسوا ليوتار، اللاّ-إنساني
"إنّ الرائع الأنطولوجي هو الذي يهمنا : ليس فحسب بوصفه مجرد طبيعة خارقة للمقاييس أو عددا لا متناهيا ،انما بوصفه كائنا فظيعا .سكون وسيلان .شكل انفجار الخلق نفسه .انه الكائن الذي يتحرك و كأنما من داخل رحم عميق ، من أجل أن يتخذ شكل عالم .خفقان كوني "
نغري، الفن والجموع

سوف نقف هنا عند ولادة آداب الرائع sublime) ) ما بعد الحديث. وبالرغم من أن هذه العبارة ، أي عبارة "ما بعد حديث"، صارت منذ زمن تعاني من ضرب من الهشاشة والريبة الفلسفية ،فإننا لا زلنا نشهد على ترددها تحت أقلام ذات نفوذ فلسفي من جنس رورتي وأنطونيو نيغري ونانسي ورنسيار... وآخرين. ما يهمنا هنا هو فكرة الرائع التي انتعشت في أفق الفكر ما بعد الحديث مع ليوتار أساسا و مع آخرين من جنس نانسي ونيغري .
سوف نكتفي بفتح جماليات الرائع على الأفق الراهن للفلسفة. انّ فنّ الرائع هو للفكر المعاصر، بمثابة الحقل الوحيد المتبقي له بعد نهاية كل السرديات الكبرى، وبعد فشل الثورات واليوطوبيات .لكن أشد ما يثير هو نزاع حاد في شأن الرهان الحقيقي لفن الرائع : أهو لمجرد الشهادة على ما يسميه ليوتار ،"صراع ألعاب اللغة " أو "صراع اللانسانيات" ؟ أم أن الرائع بعبارة نيغري، "أنطولوجي" و" عملي"، وبوسعنا تحويله الى شكل من المقاومة لأهوال المجتمع ما بعد الحديث ؟
هناك ضرب من النقيضة الفلسفية تامة الشروط بين "خلاف" ليوتار الذي يستحيل معه الوجود معا ، و"مشترك" نيغري الذي يصممه فن الرائع العملي من أجل "الجموع" ما بعد الحديثة ، ذات الاقتدار والصلابة الأنطولوجية الكفيلة بمواجهة صلابة الوجود الذي يسحقنا . انه ما بين توصيف ليوتار عن هشاشة الانسان ما بعد الحديث الذي يعيش في عصر لا-إنساني، يقتصر فيه على صياغة الجُمَل والشهادة على استحالة انصاف الخلافات على نحو عادل ، وبين نداء نغري نحو "الرائع العملي" الذي بوسعه أن يحقق لنا "القفزة النظرية نحو الحقل العملي"،- ثمة هوّة سحيقة يصعب العبور فوقها بسلام .
و رغم ذلك، سوف نجازف برسم الملامح الكبرى لهذين الخطين لفن الرائع. من أجل ذلك سوف نجيب تباعا على سؤالين اثنين: كيف يكون أدب الرائع ، مثلما يريد ليوتار، هو الشاهد الوحيد على كل أشكال الحيف والظلم الثاوية في ألعاب اللغة ؟ وكيف يكون بوسع "الرائع الأنطلوجي" ، بعبارة نيغري، أن يصير الى فن للمشترك ؟
1 ـ الرائع و الخلاف :
" منذ قرن من الزمن ، لم يعد الجميل هو الرهان الأساسي للفنون ، بل صار رهانها شيء ما يتعلق بالرائع" . هكذا كتب ليوتار في نص له تحت عنوان مثير هو كتاب اللانساني لسنة 1988 ،معلنا عن أفول الجميل عن سماء الجماليات، ودخول الفن في عصر الرائع .لكن ما الذي حدث من أجل أن تصير فكرة الرائع بكل المريع الكامن فيها ، حقلا وحيدا للفنون ؟
ان الأمر يتعلق تحديدا بثلاثة أحداث نظرية كبرى يوقعها ليوتار، على نحو فريد ،تحت راية فكرة الرائع الكانطية التي لم تعد حكرا على الفنون، بل صارت منذئذ الى قبلة للفكر برمته :
أوّلا ـ دخول أنظمة المعرفة الحالية في ما يسميه ليوتار "الوضعية ما بعد الحديثة".
ثانياـ ولادة مفهوم" الخلاف "بين ألعاب اللغة، على نحو يستحيل علينا دوما تحاشيه ولا حله بشكل عادل .
ثالثا ـ دخول الانسانية الحالية في ضرب ممّا يسميه ليوتار، "نزاع اللاانسانيات" الذي لا نملك أمامه شيئا غير الشهادة بالكتابة على أحداث تتجاوز حدود التمثيل لدينا. و ذاك هو تحديدا أدب الرائع .
أ ـ كيف دخل فن الرائع أفق ما بعد الحداثة ؟ علينا أن ننبه أولا الى أنه بالرغم من ارتداد ليوتار عن هذا المفهوم ،أي ما بعد الحداثة ، فانه يعتبر أوّل من تملّك هذه العبارة تملكا فلسفيا .ان الأمر يتعلق بضرب من التساوق مابين نهاية السرديات الكبرى، وولادة أدب الرائع بوصفه آخر ما تبقى لنا من أجل انقاذ شرف الفكر ازاء الحدث الذي يفلت من حدود التمثيل ، لكنه يبقى مع ذلك في حجم فن الرائع ما بعد الحديث .لكن ما هي الدلالة الدقيقة لمفهوم "الوضعية ما بعد الحديثة"؟
يقول ليوتار: "إنّ موضوع دراستنا هو وضع المعرفة في المجتمعات الأكثر تطوّرا. ولقد تقرّر تسميتها بالوضعية ما بعد الحديثة" . غير أنّ أهم ما يميز هذه الوضعية هو " الريبية ازاء السرديات الكبرى" .لقد حدث "ما بعد الحديث" اذا نتيجة للتحولات العلمية الكبرى ، وهي تحولات انتهت أخيرا الى احداث "أزمة في السرديات الكبرى " . وحسب ليوتار، لم تعد حقائق من قبيل جدلية الروح أو تأويلية المعنى أو تحرر الذات العاقلة، قضايا ملزمة لأحد ، انهزمت هذه السرديات والأنساق الكونية ، ودخل عصر برمته ضمن ما سمّاه ليوتار ، "براغماتية الذرّات اللغوية" .
مع الوضعية ما بعد الحديثة سوف تنهزم كل السرديات منذ سردية التنوير الى سردية التغيير الماركسي للعالم. لا شيء تبقّى وحتى الآمال الثورية ويوطوبيات المدن الفاضلة قد تبخرت بلا رجعة .كم هي مريعة هذه الوضعية ما بعد الحديثة ؟ اننا بذلك نعيش لعبة الرائع والمريع في أقصى ريعانها .تنفجر الأنساق و السرديات، وتتشظى من أجل أن تنتثر في عناصر لغوية وصفية و براغماتية.بل وحتى اللغة نفسها بوصفها كيانا للمعاني النهائية ما عاد بوسعنا الحديث عنها الا مجازا وكناية.لم يبقى في كل هذا الرسم العدمي غير أن نحيا على حافة الشظايا اللغوية . لا شيء قد تبقى مقياسا للنجاعة غير التكنولوجيا.غير أنّ المحرج أكثر هو أن هذه التكنولوجيا لا تصلح البتة من أجل أن نحكم على العدل، و لا هي تصلح من أجل هدايتنا إلى كيفية الاتفاق والتعاقد . و ربما سيصير من الصعب علينا أن نوجد معا ، لأنه حتى اتيقا النقاش التي يقترحها هابرماس ، تبدو في عيون ليوتار غير كافية أصلا .بل وربما لا يكون التواصل غير ممكن الا بوصفه يمارس ضربا من" التعنف على الاختلاف الكامن في ألعاب اللغة". وفي آخر المطاف يدفع ليوتار بفكرة الوضعية ما بعد الحديثة الى حد اعتبارها لحظة اكتمال قصوى لعمل الحداد .يقول ليوتار :" بوسعنا أن نقول اليوم أن عمل الحداد هذا قد اكتمل ، وأنه لم يعد ممكنا استعادته مجدّدا " .
2 ـ كيف يولد فن الرائع من الخلاف اللغوي ؟ مع كتاب الخلاف لسنة 1983، يوقع ليوتار دخول فن الرائع المنعرج اللغوي للفلسفة. وهنا سوف يولد مفهوم الخلاف ومعه يظهر الشعور بالرائع ، بوصفه لصيقا بالحدث الذي يحدث فيما أبعد من دائرة التمثيل .لكن ماذا يعني الخلاف تحديدا ؟ يجيب ليوتار:" ان الخلاف هو حالة عدم استقرار ، ولحظة اللغة التي فيها ينبغي لشيء ما أن يصير مصاغا في شكل جمل ، غير أنه لم يقدر على ذلك بعد .ان هذه الحالة تتضمن الصمت ، وهو جملة سلبية ،لكنه يدعو الى جمل أخرى من حيث المبدأ." يولد الخلاف اذا في صميم اللغة. لكنه لا يولد سعيدا. لذلك يصاحب بالشعور المريع المصاحب لأدنى خلاف يقع بين ألعاب اللغة.ان ما يريع في الخلاف هو وضعية المعاناة اللغوية التي ينبجس في كل مرة من رحمها. فالخلاف يحدث كلما نزع شيء ما الى أن يوضع في قالب جملة ، لكنه يحرم من ذلك في حينه.انه معاناة من حيف ما وقع اسكاته أو وقع ارجاؤه أو وقع تهميشه و اقصاؤه .وهنا تأتي الجملة من أجل أن تصير الى الحدث الذي يتجاوز الفهم والتفسير والتأويل معا. فحينما تنهزم السرديات الكبرى، لا شيء يبقى غير الجملة في عرائها المحض. انها الجملة بلا مرجع ولا ضامن ولا مقاييس علمية .انها الجملة كفكرة جمالية محضة بلا مفهوم ولا كاتب ولا جمهور . أن نكتب جملا أو أن نسكت جملا أخرى ، في كل الحالات ينبغي أن تحدث الجملة .ذاك هو القدر الوحيد الكفيل بجماليات الرائع في وضعيات الخلاف التي لا حل لها .من الصمت أو من الكتابة ، من الغياب أو من الحضور ، تحدث الجملة دوما .ذاك هو معنى مفهوم الخلاف، بوصفه حدثا لغويا كفيلا باستفزاز فكرة الرائع نفسها. وهنا ينبغي على فن الرائع أن يشهد على نزاع بين ألعاب لغوية لا تنتهي ولا يمكن حلها بشكل عادل . لذلك يصوغ ليوتار المشكلة الحاسمة التي تشغل باله في العبارات التالية: "اعتبارا 1 ـ لاستحالة تحاشي النزاعات (استحالة اللامبالاة)، 2 ـ لغياب نوع من الخطاب الكوني من أجل تنظيمها ...كيف بوسعنا أن ننقذ شرف الفكر؟" .و من أجل شرف الفكر يحدد ليوتار مهاما جديدة لأدب الرائع ما بعد الحديث بوسعنا جمعها في ما يلي :
أولا ـ ضرورة اقناع القارئ بأن " التفكير والمعرفة والاتيقا والسياسة والتاريخ والوجود، مرتهنة بتسلسل جملة وراء جملة أخرى" . ثانيا ـ لن يفلت أحد من سلاسل الجمل التي لا تنتهي .فأنْ تكون معلما أو عادلا او مغريا أو مراقبا ..أنت دوما ضمن العاب لغوية قد لا تنتهي .لكن حذار أن تتوهم أنك في أحضان اللغة .لأنه "ليس هناك لغة بعامة.." . ثالثا ـ ولتكن على حزم من أمرك .فأنت وحيد ازاء الخلافات اللغوية .لا ضامن لك ولا صديق .ذلك أن" ليس هناك أي خطاب كوني" يقيك من الحيف الذي يترصد بك من بين أنظمة الجمل. رابعا ـ بعد نهايات الخطابات الكونية (سردية التنوير والسردية الاشتراكية وسردية العلم ) حان وقت الفلسفة .لكن الفلسفة تولد من صدمة الرائع . انها الاندهاش والتعجب من روعة ما يحدث هنا والآن .لكن لم يتبقَّ من الفلسفة، حسب ليوتار، غير كانط وفيتغنشتاين .كانط لأنه فتح العقل البشري على تجربة الرائع .أما فيتغنشتاين فلأنه جعل كل ما يقال انما يقال فحسب ضمن ألعاب اللغة. ويعبر ليوتار عن مدى اعجابه بهذين الفيلسوفين، بما هما بمثابة "خاتمين للحداثة وفاتحين لما بعد حداثة مشرفة" . خامسا ـ و بالرغم من ذلك " اننا لا نلعب مع اللغة وبهذا المعنى ليس هناك ألعاب لغوية .بل هناك رهانات مرتبطة بأنماط الخطاب، وحينما يقع تحقيقها، سوف نتكلم عن النجاح .ذلك يعني أنّ هناك نزاعا .لكن هذا النزاع لا يحدث بين البشر ..انما ينتج بالأحرى بين أنظمة الجمل". سادسا ـ لقد انتهت "كل أشكال العبور الموعودة الى مآزق دموية، لم تنتج غير اكتئاب المتفرجين في هذه النهاية للقرن العشرين"، لذلك صار الحل بين أيادي الفنانين الطلائعيين .ان الفن هو الميدان الشرعي لانقاذ شرف الفكر ولإنجاز ما بعد حداثة مشرّفة. انه كلما أمسك الرسام الفرنسي سيزان فرشاته تغيرت للتو رهانات فن الرسم ؛كذلك يحدث الأمر نفسه لفن الموسيقى الذي يغير قبلته منذ أن يجلس شونبارغ الى البيانو؛ ويصطدم الأدب بميدان آخر غير الجميل كلما شرع جويس في الكتابة . ذلك أن الأمر بالنسبة الى هذا النوع من الفن الطلائعي، وعلى حد عبارات ليوتار،"ليس .. مسألة استراتجيات جديدة لربح الوقت فحسب، لكن طبيعة النجاح نفسها توضع موضع سِؤال .هل مازال الأمر يتعلق بالامتاع من خلال الجميل ،أم هو الألم بسبب المريع " . هكذا اذا يفتح الخلاف الفن والفكر والكتابة بما هي سياسة ما يحدث ، على ميدان الرائع المترامي الأطراف، بما هو الدرب الكفيل بإنقاذ شرف الفكر. مع فن الرائع كل شيء يصير، حسب ليوتار، الى سياسة .لكن حيث لا تعني السياسة غير " امكانية الخلاف بمناسبة ادنى تسلسل للجمل " .
3 ـ الرائع في عصر "نزاع اللا-انسانيات" :ماذا لو كان البشر مرغمين على أن يصيروا شيئا فشيئا لا-انسانيين تماما ؟ وماذا لو كانت "خاصة الانسان نفسه كونه مسكونا باللاإنساني " ؟.هكذا يدفع ليوتار صراحة ، وتحديدا في كتاب اللاانساني (1988)، بفكرة الرائع الى توقيع فريد لنهاية النزعة الانسانوية التي سادت كل الفكر الحديث، منذ كانط الى حدود سارتر. و ذلك من أجل تدشين عصر الشهادة على اللا-انساني بوصفه جوهر الحضارة ما بعد الحديثة .لكن أي تساوق حينئذ بين فكرة الرائع الفنية ومفهوم اللا-انساني ذاته ؟
غير اننا ننبه أولا إلى أن ليوتار ههنا يتخذ مسافة نقدية ازاء مفهوم "ما بعد الحداثة" مقترحا التفلسف منذ 1988 تحت راية المفهوم المشاكس المستفز "اللا-انساني".ضمن هذا التحول ينزل ليوتار فن الرائع بوصفه فنا مهمته الجوهرية هي أن يكون لا-انسانيا تماما .وفي الحقيقة يتعلق الأمر باستئناف ليوتار لاحدى الأطروحات الأساسية للنظرية الاستطيقية. انه ينطلق من قولة لأدرنو، وهذا هو نصها : "ان الفن يبقى وفيا للبشر فقط من خلال لا-انسانيته ازاءهم" . لكن أي فن بوسعه أن يكون وفيا للبشر ؟ انه تحديدا الفن الطلائعي. ههنا يقترح علينا كتاب اللاانساني نصا حول "الرائع والفن الطلائعي "وهو في أصله نص محاضرة بتاريخ 1983 .ويبدو أن هذا هو تاريخ اكتشاف ليوتار لأهمية جماليات الرائع التي معها ، وعلى حد عباراته الصريحة ،"صار رهان الفنون في القرنين التاسع عشر والعشرين الى الشهادة على ما لا يمكن تحديده" . و في عصر "صارت فيه كل الأعمال الثورية عاطلة عن العمل" ، يتسائل ليوتار مستنكرا "ماذا تبقى بما هو سياسة غير مقاومة اللا-انساني ؟ ..وهي مهمة الكتابة والفكر والأدب والفنون التي عليها أن تغامر من أجل أن تشهد على اللا-انساني" .كيف بوسع الفن الشهادة على اللا-انساني ؟ من أجل الاجابة عن هذا السؤال علينا أن ننبّه الى أن الرائع انطلاقا من ليوتار صار يقال على معان عدة. وبوسعنا تجميع هذه المعاني في ثلاث دلالات جوهرية:" الآن" و"هذا هو" و" المادة" بعد أن هجرتها فكرة الشكل. ان الرائع هو ما يحدث . لكن ما يحدث يتجاوز نطاق التمثيل. لذلك لا ينتظر الرائع أي تأويل. حسبنا التعجب ازاءه . لكن يبدو أن اكتشاف ليوتار لأهمية فكرة الرائع التي صارت لديه الى ما يسميه "نمط المحسوسية الفنية التي تميز الحداثة" ، انما يعود الى محاضرة 1983 حول لوحات الرسام الأمريكي الطلائعي نيومان. ان نيومان قد جعل من اللوحة حدثا ومن اللون حدثا ومن الجملة حول اللوحة حدثا. بل ان "ما يحدث (مع نيومان) هو اللون ، هو اللوحة" .
"الآن ، هذا هو الرائع" : تلك هي ترجمة ليوتار لعبارة عنون بها نيومان نصا له بتاريخ 1948،"الرائع هو الآن".ان نيومان الذي يبدو مدشنا للرائع في الرسم، انما يبحث عن "الروعة هنا و الآن..فهو يقطع مع لباقة الفن الرومانسي ..غير أنه لم يلق جانبا بما هو المهمة الأساسية فيه، وهو أن فن الرسم أو أي فن آخر هو الشاهد على ما هو غير قابل للتعبير عنه" . لكن لوحات نيومان سوف تجعل ما لا يمثل قابلا للتمثيل .بل وأكثر من ذلك انما يخترع نيومان اللحظة نفسها، هذا الآن هو الرائع نفسه.سوف يصير" الزمن هو اللوحة نفسها " بل سوف "يكون الرسم هو اللحظة نفسها " .لكن ما الذي يثير تحديدا في رسوم نيومان ؟ انه العراء التشكيلي المحض. لقد انهزمت كل المرجعيات والاحالات في رسومات نيومان .لا شيء في اللوحة غير الأبعاد والألوان .لا شيء تبقيه اللوحة لفئة المؤولين والمفسرين والمحللين .هو ذاك العراء التشكيلي الذي يصير الى احراج حقيقي يعبر عنه ليوتار: ماذا بوسعنا قوله ازاء هذه اللوحات؟ لا شيء غير عبارة "آه" وغير رسم نقطة تعجب. هنا اسم آخر من أسماء الرائع : انه العجيب . وبهذا العجيب سوف يكتب للرسم أن يتحرر من كل أشكال الوصاية عليه. انه فن مثير للعجب وللتعجب لأنه انتصر بعرائه المحض على الفنان والجمهور والرسالة والدلالة معا . و المثير أكثر، في هذه اللعبة للرائع مع العجيب هنا، هو الفضاء الجديد الذي تخترعه ريشة نيومان .لم يعد فضاء اللوحة منذئذ "فضاءً ثلاثيا" .لأنه لا يفترض لا الرسام ولا المتفرج ولا الرسالة الخفية داخل اللوحة . لم تعد اللوحة تحدثنا عن أي شيء .و لم يعد الرسام هو الذي يجعل الكلام ممكنا عبر فن الرسم.بل يصل ليوتار الى حد صياغة كل رسالة اللوحة في العبارات البسيطة التالية :"اني هنا ..انظر الي ، أو بالأحرى استمع اليّ" . لم تعد اللوحات أحداثا قصصية، انما صارت الى "أحداث مرئية" .أما الناظر اليها فقد صار الى مجرد "أذن مفتوحة للصوت الذي يأتيها من الصمت ، اللوحة هي هذا الصمت " فلنعد الصمت الى اللوحة ولنعد الى الصمت روعته.
ضمن كتاب اللانساني و تحت عنوان "بعد الرائع ،حالة الاستطيقا " (1987)،يكتشف ليوتار دلالة مثيرة لفكرة الرائع ما بعد الحديث.ان الرائع هو صدمة المحسوس .انه الاصطدام بالمادة بعد أن هجرتها مقولة الشكل .وهنا بالذات سوف يكون على ليوتار أن يستأنف الرائع الكانطي بوصفه في جوهره رائعا لأنه "بلا شكل ". وفي الحقيقة سوف تكون مهمة الاستطيقا بعد دخولها في فلك فكرة الرائع، أن تواجه ما يسميه ليوتار بمفارقة "الاستطيقا بلا أشكال" .
ما وضعية المادة بعد هجرة الأشكال لها ؟ أي كاووس يسقط فيه المحسوس حينئذ ؟ للاجابة عن هذه الأسئلة ينطلق ليوتار من الأطروحة التالية :" يبدو لي من الضروري اعادة المرور بتحليلية الرائع من نقد ملكة الحكم لكانط لو أردنا تكوين فكرة عمّ هو موضع رهان في الحداثوية" . لكن أي رهان أوكله الرائع الكانطي الى الفن الحداثوي ؟ يعتبر ليوتار أن "الفن الطلائعي يوجد على نحو جنيني في استطيقا الرائع الكانطية" . ان ما يهمنا من هذه الأطروحة التي تؤهل رائع كانط بوصفه فكرة موجهة نحو "ما بعد حداثة مشرفة" ،هو الأمر التالي :بعد أن خرج الفن من دائرة الشكل لم يتبق للاستطيقا غير المادة. لكن المادة هي هنا "لامادية "لأنها لا يمكن أن تحدث الا ومعها يحدث انفعال الرائع الذي لا نحتفظ منه بغير القلق أو الابتهاج . لكن أشد ما يؤرقنا في هذا الرائع بوصفه صدمة المحسوس، وقد غادرته الأشكال والمفاهيم والقواعد والغايات، هو المشكلة التالية :ان هذه المادة وقد هجرتها الأشكال لم يعد دورها أن تملأ صورة ما أو اطارا أو قالبا أو مخططا أو فراغا ما .لن تتوجه هذه المادة ، التي تحدث في الفن ،الى أي أحد .لن ينتظرها أي جمهور ولا أيّ فكر. وسوف لن تدخل هذه المادة ضمن "أي نظام براغماتي أو لغوي ذي هدف تواصلي أو غائي " .ان" الفن بعد الرائع " هو فن لا يريد شيئا ،انه فن فيما أبعد من الارادة .
2 ـ الرائع والمشترك :
مع المفكر الايطالي المعاصر أنطونيو نيغري، سوف يدخل الرائع أفق المشترك. وسوف يصير ملكا للجموع حيثما "تسلك هذه الجموع على نحو إبداعي" . ههنا سوف يكتب لميدان الرائع أن يتحرر فعلا من الاستطيقا وأن يدخل الحقل العملي من بابه الواسع. وسوف يقع تصنيف بشر ما بعد الحداثة الى صنفين : رجعيين " يختزلون ركح العالم في بهرج استطيقي .." و " ثوريين قادرين على نقد العالم لأنهم على علاقة حقة مع الوجود".وفي حين "يصمت الرجعيون، يتألم الثوريون من الفراغ " . حسب نغري، وحدهم "الثوريون" قادرون على فن الرائع ، لأنهم قادرون بآلامهم على صنع العالم. وذاك هو المعنى الدقيق لما يسميه نيغري "الرائع الأنطولوجي" .
في رسالة له حول "الرائع " بتاريخ 1988 ،نقرأ تحت قلم مفكر الجموع ما بعد الحديثة ما يلي :"ان الرائع الأنطولوجي هو الذي يهمنا : ليس فحسب بوصفه مجرد طبيعة خارقة للمقاييس أو عددا لا متناهيا ،انما بوصفه كائنا فظيعا. سكون وسيلان .شكل انفجار الخلق نفسه .انه الكائن الذي يتحرك وكأنما من داخل رحم عميق، من أجل أن يتخذ شكل عالم .خفقان كوني " . من أجل أن نفهم دلالة هذا النوع المثير من الرائع الذي يولد ، تحت قلم نيغري، من رحم الوجود نفسه، سوف نكتفي بإثراء خاتمة هذا الكتاب بالمعاني الجميلة التالية:
1 ـ " ان ما بعد الحديث هو ... السوق" .ذاك هو السياق الدقيق الذي يؤهل فيه نيغري فكرة الرائع الجمالية. ما يزعج صاحب كتاب"الفن و الجموع "، هو كيف صار المجتمع الحالي الى سوق هائلة من البضائع ، وكيف تم تسطيح العالم وتشيئته تماما .بل والأكثر هولا من ذلك هو القضاء على كل امكانية للتوتر.لقد صار العالم ما بعد الحديث الى عالم بارد برودة الموتى، عالم بلا توتر، بلا اقتدار، بلا انفعال وبلا قوى حيوية. عالم لا تحكمه غير البضائع. كيف للفن أن ينبت في صحراء قاحلة، في عالم "القحط الأنطولوجي" ،حيث لا مكان للمخيلة أو للهوى أو للشغف و الوجد ؟
2 ـ هل نقول "أن الفن قد أفل عنا" .ونكتفي بصمت "الرجعيين" ؟ أم نقول "كلنا أيوب" و "ان الفن يلعب دور المسيح المنقذ" ؟ أم نقول لنا بعد آلامنا لصنع اقتدارنا ؟ حسب نيغري، علينا أن نترك للـ"رجعيين" الاحتفال بالبهرج الاستطيقي .أما الرائع فهو الميدان الشرعي للـ"ثوريين". لكن ماذا تبقى للثوريين بعد انهزام يوطوبيا الثورات ؟ وهنا يكشف لنا نيغري بشاعة ما يحدث للانسانية ما بعد الحديثة. لقد أدركنا الحد الأقصى من الفراغ واللانساني واندثار المعنى. لكن هذا الحد من المريع لا حد له. ههنا يولد الشعور بالرائع من نسيج الحد الجذري للقلق الكوني الذي أصاب الجميع. أي الطرق تحررنا ؟ أين المسير ؟ لا أحد يعلم ان كنا ندفع بأنفسنا نحو المستقبل أم نحو الكارثة ؟
3 ـ كيف بوسعنا أن نجعل الانسانية تتمتع بمشاعر الفرح من جديد؟ ينبغي علينا تحديدا أن نحول الرائع الجمالي الى رائع عملي . و ذلك ، وبعبارات نيغري " أن المخيلة ليس بوسعها أن تتحرر الا متى اعترفت بالطابع العملي للشعور بالرائع." وهنا يحيل نيغري على كانط معتبرا أن "الرائع قد أحدث نوعا من الثورة الكوبرنيكية داخل مجال المحسوسية. انها ثورة تضمّد جرح الاستطيقا والديالكتيقا المتعالية معا" . لكن ما الذي يحدث لو استدعينا ثانية الرائع الكانطي وجعلناه وجها لوجه أمام السوق الفظيعة لما بعد الحديث ؟ لا شيء ربما غير "غثيان جديد وشعور بالفراغ ، وارتجاف جديد ورعب ، واعجاب سوداوي وارادة عمياء للتجاوز" .لكن لا يمكن لهذه المشاعر الغريبة التي يختلط فيها الرائع بالمريع أن تعبر عن العجز والقصور.ذلك انه كلما اعترفنا بلا-انسانية هذا العالم الذي سقطنا فيه جميعا ، كلما صار بوسعنا ان نتجاوزه . حينها سوف يصير الرائع هو "القفزة النظرية نحو الحقل العملي" . لكن ما هو الرائع العملي ؟ يقول نيغري: "حينما أتحدث عن العمل ، فإنني أقصد بداهة عملا يجد في الوجود دعامته ، يغيره ، ينتجه ويعيد انتاجه" .
4ـ كم من المسوخ الفظيعة ما بعد الحديثة تعبر اليوم مشهد هذا السوق ما بعد الحديث ، و كم من تنين جديد ؟ كيف التحرر؟ ان مسألة الرائع ما بعد الحديث تدفعنا الى تأمل الكائن ثانية والى التحديق به مليا .سوف نصطدم حينئذ بأمر مريع : لم يعد الكائن ما بعد الحديث "كمّا سائلا " أو بحرا لا نستحم فيه مرتين .اننا ازاء مادة صلبة، رخام كبير .اننا في صحراء قاحلة حيث الكثبان الحجرية والمنحدرات الصخرية الطويلة .لقد صرنا نحيا داخل أقصى أشكال القحط الأنطولوجي .ماذا يستطيع الرائع ازاء هذه "القحولة الأنطولوجية" التي لا مثيل لها ؟.ينبغي ، بعبارة نيغري، أن يصير الشعور بالرائع الى "اتيقا مادية للحسم" .و هنا تحديدا تظهر أهمية الفن :"لقد وقع تجاوز السوق بالاقتدار ووقع تجاوز ما بعد الحديث بالاتيقا ، أما الفن فهو اقتدار واتيقا معا" .
5ـ ما علاقة فن الرائع بالمشترك ؟ يقول نيغري :"ينبغي أن نقدم قراءة جديدة للابداع ..لقد قضينا حياة كاملة في البحث عن المشترك وفي اعتقادنا بأن الجموع بوسعها خلقه ..أما الآن فإن الشعور بالمشترك يسبقنا. وفي هذا العصر الذي نحن فيه، ليس هناك أية حركات طلائعية. ما هناك فحسب هو فائض من الوجود نسعى الى تملكه" . ان الفن هو "فعل جماعي للتحرر" . وان الابداع تدفق حيوي للوجود .لذلك ينبغي علينا أن "نقحم الجموع داخل اللعب الأنطولوجي " .بل ان الفن نفسه هو الجموع حيثما تسلك الفرديات على نحو ابداعي .غير أننا لازلنا اليوم نسكن "لحم العالم" الذي لم يتشكل بعد، والذي بوسع الفن أن ينتجه لنا. ولأن لغتنا لا تزال مبتورة، ولأننا لم ننجح بعد في خلق اللغة التي بمستطاع جسد الجموع، ينبغي علينا الاكتفاء بالمهمات التالية: الاقرار بأن الفن والولادة هي ملك للجموع . وأنّ الفنّ هو "جموع من الفرديات" . وأنّه ينبغي على الفن أن يحصّن الوجود من السقوط في الفراغ...



#أم_الزين_بنشيخة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات فلسفية في الثورة التونسية


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة - -رائع- ما بعد الحداثة أو الفن والثورة (ليوتار، نغري...)