أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبدالباري الشيخ علي - العراق ....والخطاب الديموقراطي الاميركي















المزيد.....



العراق ....والخطاب الديموقراطي الاميركي


عبدالباري الشيخ علي

الحوار المتمدن-العدد: 996 - 2004 / 10 / 24 - 04:13
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


العراق .. والخطاب الديمقراطي الأمريكي
عبدالباري الشيخ على (*)
تشكل العلاقة بين الأمة Nation والدولة State الأساس في ضمان الأمن القومي والاستقرار السياسي. إن هذه العلاقة ليست ثابتة بين البلدان، وإنما تختلف تبعاً لموقف الدولة تجاه بناء وتطوير الأمة من جهة، ومدى درجة ثقة واعتماد الأمة على الدولة في ضمان أمنها الوطني من جهة أخرى. فالتجارب التاريخية تعلمنا، بأن بناء وتكامل الأمة هي ليست صيغة ثابتة، لأن سيرها خاضع للتغيرات الكمية والنوعية لقانون مسيرة التطور الطبيعي للقوى المنتجة وعلاقات الإنتاج التي تفرض ضرورة تطوير وتجديد القوانين، لتسيير عملية متطلبات هذه التغيرات. فعندما تعتمد الدولة على الأمة، فإنها تستجيب لمتطلبات التغيرات المطلوبة التي تفرضها متطلبات التطور، ويكون التجاوب الطبيعي بين الأمة والدولة. وبذلك تكون الدولة أقل عرضة لانعدام الاستقرار السياسي. وعندما يجري العكس، أي عند عدم استجابة الدولة لمتطلبات الأمة من أجل تطوير وتكامل الأمة، فإن الدولة تفقد دينامكية التطور، وتعمق بذلك من حدة التناقضات التي تتراكم نتيجة التغيرات الكمية في ضرورة التجديد، وتتعرض لانعدام الاستقرار السياسي عندما تعجز عن تلبية المتطلبات في التغيير. للتحول إلى مرحلة نوعية جديدة تتجانس ومتطلبات الأمة. وعندما تشكل مطاليب الأمة الملحة تهديداً لها، تصبح الدولة في حالة هاجس الخوف المزمن داخلياً وخارجياً، وتتحول تلقائياً إلى عدو لمتطلبات الديموقراطية التي تطرحها مؤسسسات المجتمع المدني في التعامل والتفاعل مع الدولة، ومن أجل البقاء، فإن الدولة تشدد من مركزيتها، وتفرض القوانين غير الديموقراطية، التي تمكنها من الهيمنة على الأمة.
وهنا تنفصم العلاقة الطبيعية بين الأمة والدولة، وتصبح بمرور الزمن غير ملزمة بحماية مواطنيها بجميع الأبعاد التي تتطلبها هذه الحماية، اقتصادياً واجتماعياً، وهذا ما يطلق عليه فقدان مستلزمات "الأمن الوطني". وكلما تفقد الدولة زمام الأمر حول الأمن الوطني يزداد استعمالها أساليب الإكراه ضد أبناء الأمة، وتبرز عنصرية القومية الكبرى في اضطهاد القوميات الصغرى، مما يضاعف من تمزيق الأمة ويخلق الأرضية لانتعاش التوجهات العرقية والطائفية والعشائرية وتتشرذم وحدة المواطنة في الدفاع عن حقوقها ومطاليبها أمام شراسة الدولة.
إن دخول العراق في الحرب الطويلة مع إيران أفقدها ليس، فقط، غالبية ثروتها وتكبيلها بالديون إلى أبعد من طاقة الوطن، وإنما جرى تحويل الاقتصاد الوطني الذي يشكل الجزء الأساس للأمن الوطني لخدمة متطلبات الحرب، وشوه، ليس فقط، نمط الإنتاج الوطني، وإنما فرض نمط استهلاكي لا يلبي الحاجيات الضرورية للمواطن في ضمان حياته كمواطن، وقد أضاف الاجتياح العسكري على الكويت خسائر مادية وبشرية، نتيجة ما ترتب عليه من العقوبات والمقاطعة اللاإنسانية التي فرضها المجتمع الدولي بوصاية الولايات المتحدة، تلك المقاطعة التي قادت إلى أن تفقد الدولة أبسط مقومات الأمن الوطني، وتحولت إلى كيان شرير وعبئ على الأمة، التي تكاملت بها داخلياً وخارجياً جميع المقومات التي تدعو إلى حتمية إسقاط مثل هذه الدولة، حسب الأعراف والتجارب التاريخية، بغض النظر عن ديكتاتورية ودرجة قسوة النظام الصدامي.
إن إعتماد غالبية الأحزاب والتكتلات السياسية العراقية المعارضة على مبدأ الطائفية والعرقية، في توجهاتها السياسية لإسقاط نظام صدام، أدخلها في أزمة سياسية وفكرية وتنظيمية، انعكس في عدم قدرتها على طرح برنامج مشترك للعمل وتوضيح ماهية النظام البديل، وإن تقاطعت مصالحها مرحلياً حول شعار إسقاط نظام صدام وقيام نظام ديموقراطي بديل.
إن الاعتماد على المبدأ الطائفي والعرقي، جعل هذه التكتلات السياسية المعارضة، غير قادرة على التمكن من الإجابة في حينها، على جوهر معضلة الدولة العراقية الجديدة: هل أن التغيير السياسي يستهدف تشييد نظام اقتصادي ـ اجتماعي جديد يعيد بناء الأمة ـ الدولة، نحو مستقبل واضح المعالم؟، أم أنه مطلب سياسي، يتوقف عند مرحلة الإطاحة بالنظام الصدامي؟. إن عدم الإجابة وبيان الوضوح حول هذا الطرح، وبالأخص، حول أهمية الربط العضوي بين التغيير السياسي والتغيير الاقتصادي ـ الاجتماعي المطلوب لإعادة بناء الأمة ـ الدولة، قاد إلى الفشل في إيجاد صيغة عمل مشترك في اسقاط نظام صدام، وفي وضع برنامج موحد واضح المعالم لمستقبل العراق. وقاد إلى الاعتماد الكلي، لتلك القوى، على العامل الخارجي، والقبول بالاحتلال العسكري الأمريكي، كحل وحيد لأزمتها السياسية ـ وهو ما انعكس على مهزلة اجتماعى لندن وصلاح الدين اللذين رعتهما المخابرات الأمريكية ـ وهو ما أدى إلى التشوه الأساس في التركيب السياسي لإعادة بناء العراق الجديد بعد الاحتلال. وأبرز مظاهر ذلك التشوه، الدمج بين المحاصصة الطائفية والعرقية وبين النظام الديموقراطي، اللذين هما على طرفى نقيض من بعضهما، ويتنافى ذلك النهج مع إعادة بناء الأمة ـ الدولة على أساس المواطنة لتشييد النظام الديموقراطي.
لذلك فإن القوى التي قبلت بالحل العسكري، بدون قيد أو شرط، وبدون برنامج مستقبلي واضح المعالم، يعتمد على الربط العضوي بين التغيير السياسي والتغيير الاقتصادي ـ الاجتماعي المطلوب، انعكس فشلها، ليس فقط، على انعدام الرؤى لمجلس الحكم الوطني، وبعده الحكومة الحالية التي إعتمد تشكيلها على هذه القوى، وعلى ظاهرة محاصصة التكتلات العشائرية المتخلفة التي يتنافى مضمونها السياسي والاجتماعي مع بناء الدولة الديموقراطية الحديثة. وكتحصيل حاصل هذه التشكيلة السياسية المشوهة، تجلى ضعفها وعجزها تجاه سلطة الاحتلال الأمريكي وأمام المجتمع العراقي في معالجة القضايا الأساسية التي خلفها نظام صدام، والخراب والتشويهات السياسية التي فرضها الاحتلال. وأصبحت بحكم هذا الواقع خاضعة لما يرسم ويخطط لها، أو ما يفرضه حاكم العراق الأوحد (السابق) السيد بريمر، لوضع الأسس لتطبيق وترسيخ الخطاب الديموقراطي الأمريكي، الذي يعتمد في جوهره على خلق نموذج لنظام يعتمد على حتمية التزاوج بين الديموقراطية السياسية والفكر الأمريكي الليبرالي الجديد الذي يروج لنظام السوق، وهو خطاب لا يرتبط بضروريات التصدي للتخلف والفقر لغالبية الشعب العراقي. لأن هذا الخطاب الديموقراطي الأمريكي، ينطلق من أيدولوجية نخبة الإدارة الأمريكية، التي تؤمن بأن غالبية بلدان المنطقة ليس لديها القدرة على إدارة المشاكل والمتطلبات الدولية المعقدة، التي تطرحها المصالح الأمريكية.
أن حرية وتوجهات واختيارات بلدان المنطقة للنظام السياسي ـ الاقتصادي، حتى وإن كان بالاتجاه الديموقراطي يمكن أن تتعارض مع توجهات وقيم "رسالة أمريكا" في إدارة العالم بشكل عام والمنطقة بشكل خاص.
لذا يجب الاعتماد على نظام، تقوده نخبة وطنية (عراقية)، تملك الدرجة المطلوبة من الالتزام الفكري والسياسي، لتطبيق المخطط السياسي والاقتصادي في العراق والمنطقة. إن هيمنة أمريكا على العراق والمنطقة، إعتمد على الأبعاد الجديدة التي فرضها نظام القطب الواحد في العلاقات الدولية بشكل عام، وما بين الشمال والجنوب بشكل خاص. وحول هذا التركيب الهيكلي للنظام الدولي الجديد، يذكر الروفسور وليم روبنسون "بأن هذا النظام الاقتصادي العالمي يتحكم به إحتكار الرأسمال العالمي، ويدار من قبل وكلاء يشكلون نخبة عالمية واعية لمصالحها الطبقية، وتتخذ من بلدان المركز (الشمال) مقراً لإدارة هذا النظام الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة الامريكية. إن تسارع عملية تمركز رأس المال والقوى الاقتصادية والمالية بيد هذه النخبة العالمية في بلدان المركز، جعل لها القدرة على التأثير بشكل حازم في تنظيم العلاقات بين شرائح المجتمع، وتكوين اصطفاف طبقي جديد، وتسيير النظام السياسي في كل بلد من البلدان التي يحتويها هذا النظام العالمي، وذلك من خلال إعادة توزيع الحصص والمنافع الناجمة عن عملية تراكم النفوذ السياسي والاقتصادي، وتكوين نخب جديدة في كل إقليم من أقاليم العالم، ترتبط بالرأسمالية العالمية والشركات الكبرى ومجمل الاقتصاد الكوني. ويصبح تسيير الاقتصاد والسياسة لهذه الدول، مندمجاً وخاضعاً لمسيرة العولمة التي تقودها النخبة العالمية المذكورة، وتضع هذه النخبة العالمية وكلاء تكنوقراط، في كل بلد من بلدان الجنوب، لتدير وتراقب مسيرة إعادة التركيب الاقتصادي والاجتماعي الجديد"(1). إن هدف هذا الهيكل العالمي الجديد، هو اختراق المجتمعات ومنظماتها الاجتماعية والسياسية في بلدان الجنوب، وتهيئة نخب منها تقف أمام احتمالات تحرك القوى الاجتماعية الرافضة للظواهر السلبية التي يفرضها النظام الكوني الجديد، والتي أخذت تشكل قوى أساسية كامنة قد تتحرك لمواجهة هذه التأثيرات الدولية.
وهنا يجري تفسير دور أمريكا في إحباط كافة المحاولات للإطاحة بنظام صدام، عن طريق التحرك العسكري العراقي الداخلي بمشاركة القوى السياسية المعارضة لهذا النظام، وبان ذلك في الكثير من المصادر، وآخرها كتاب مسؤول المخابرات المركزية الامريكية في العراق، العميل السيد روبرت بير Robert Baer في كتابه سقوط CIA ، في الفصلين الثالث والرابع من الكتاب، تعرض فيهما للترتيبات التي جرت خلال مكوثه في كردستان ـ صلاح الدين ـ منذ عام 1995 للتحضير لانقلاب عسكري في العراق، يقوم به جنرالات عسكرية عراقية، بالتعاون مع البشمركة الكردية (جناح جلال الطلباني)، والقوى السياسية المعارضة المتواجدة في كردستان.
ويذكر العميل روبرت بير تفصيلاً، كيف تم التحضير لسنوات لضمان نجاح الخطة، وكيف أجهضت الإدارة الامريكية الجديدة هذه الخطة!. إن هدف إفشال هذه الخطة كان مخافة أن يأخذ الشعب العراقي زمام الأمور بيده، إذا ما قامت بها القوات العسكرية العراقية والأحزاب المعارضة، ونجحت في استلام السلطة بشكل مستقل، قد يتعارض والاستراتيجية العسكرية للنخبة الأمريكية الحاكمة الجديدة، الساعية إلى الهيمنة المباشرة على العراق سياسياً واقتصادياً. وقد سعت هذه الإدارة إلى تبنى نهج يسعى إلى شق المعارضة وترسيخ الطائفية والعرقية، والحيلولة دون قيام تحالف له برنامج مشترك، وقادر على تولي إدارة العراق بعد سقوط نظام صدام.
لقد تجلت الحقائق الآن أكثر، وتكشفت الأسباب التي جعلت أمريكا تتخلى عن تلك الخطة وتتحول إلى خيار العمل العسكري المباشر، بادعاءات كاذبة تجلت بشكل واضح أمام الرأى العام العالمي والمجتمع الدولي.
إن الحرب على العراق هي انعكاس للاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي لم تعد تعتمد على الحسابات السياسية التقليدية، وإنما تعتمد على التوجه العسكري، وهي استراتيجية تبلورت ملامحها بداية من العام 1992 ، وتنطلق من أن أمريكا التي انتصرت في الحرب الباردة يجب أن تقطف ثمار ذلك الانتصار، باستغلال انفرادها وهيمنتها العسكرية والسياسية دولياً، ولقد تتوج انتصار هذا التوجه بانتخاب الرئيس بوش الإبن ومعه أقطاب الإدارة الجديدة (المحافظون الجدد)، وقد أجهضت الحسابات السياسية الأمريكية الجديدة بحربها على العراق محاولات المجتمع الدولي لحل المشاكل الدولية سلمياً، ولأول مرة منذ نشأته يلجأ مجلس الأمن الدولي لاستخدام القوة، بسبب خضوعه للضغوط والهيمنة الأمريكية، ويفقد دوره إذا ما تعارض ذلك الدور مع أهداف ومرامي النخبة التي تتولي السلطة في الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو ما جرى عند احتلال العراق.
إن أسلوب احتلال العراق والإجهاز على الدولة العراقية ومؤسساتها وما رافق ذلك من فقدان للأمن وتخريب للاقتصاد العراقي... إلخ، يؤكد تخلي السياسة الأمريكية عن حساباتها التقليدية السابقة واعتمادها على الحسابات العسكرية المباشرة في تطبق سياستها بالدرجة الأولى بصرف النظر عن تعارضها مع المتطلبات السياسية والاقتصادية لذلك البلد (العراق).
إن تطبيق هذه السياسة يفرض إعادة النظر في تقييم العلاقات التقليدية بين الولايات المتحدة والبلدان النامية (بلدان الجنوب) وبالأخص بلدان الشرق الأوسط، وينبه إلى عناصر التباين بين الغرض السياسي والاقتصادي الخارجي والقرار الوطني السياسي والاقتصادي، وما سيفرضه هذا التباين من صراع حول مستقبل بلدان المنطقة، وبالأخص بعد احتلال العراق، كنموذج لفرض الخطاب الأمريكي الجديد.
ليس من الصواب ما يذكره بعض العراقيين أن الأمريكان قد حرروا العراق.. إن التحرير هو رفع عبء بجميع أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت تعانيه الأمة في إعادة بناء الدولة بالشكل الطبيعي المتعارف عليه دولياً، ويعكس متطلبات التطور المعاصر، وليس عبء قديم وإبداله بعبء جديد، مما ضاعف من موت الأطفال دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية وفق ما تذكره مصادر هيئة الأمم المتحدة IRIN وازدياد تردي حالة الفرد المعيشية والصحية والتعليمية.. إلخ، وخلق الأرضية لانعدام الاستقرار السياسي، الذي ذهب ضحيته عشرات الآلاف بضمنهم شيوخ ونساء وأطفال. إن العبء القديم هو نظام صدام حسين (السلطة) بجميع أبعادها، وليس الدولة العراقية الحديثة نسبيا،ً التي نشأت منذ حوالي السبعين عاماً، ولم تتكامل بالشكل الطبيعي نتيجة التدخل الخارجي وفشل الأنظمة المتعاقبة في ترسيخ العلاقة بين الأمة والدولة. إن هدم مؤسسات الدولة الأساسية الدفاعية والأمنية والإدارية .. إلخ، بادعاء القضاء على نظام صدام، وأن العالم أصبح أفضل كما يدعي بوش الإبن، ينطبق عليه المثل التركي عن ذلك الشخص الذي حرق البساط من أجل أن يقتل البرغوثة.
إن الحقائق التي انكشفت حول الاحتلال العسكري الأمريكي تشكل خرقاً للقوانين والشرعية الدولية وتحمل أمريكا المسؤولية عن جميع التدميرات والكوارث المادية والبشرية التي لحقت بالعراق ويستدعي ذلك فرض العقوبات الدولية المتعرف عليها.
من هذا التوجه يتوجب التعامل مع الاحتلال الأمريكي، ليس باعباره محرراً بل محتلاً مما يستدعي مقاضاته دولياً وتحميله مسؤولية الاحتلال وفق المواثيق الدولية. إن مثل هذا التوجه يشكل الضمانة لمصداقية الدولة العراقية الجديدة داخلياً وخارجياً ويخلق الاستقرار السياسي والتفاف الأمة حول الدولة في بناء النظام الديموقراطي المطلوب.
إن الديموقراطية هي ليست وصفة جاهزة يفرضها العامل الخارجي والتكوين الطائفي والعرقي والعشائري اللامدني داخلياً، وليس الاعتماد على مبدأ الرفض أو القبول في التعامل بما يفرضه الواقع الخارجي والداخلي.
إن واجبات المحتل حسب القوانين الدولية (جنيف وهاك)، هي حماية تلك الدولة المحتلة، بتأمين المتطلبات اليومية لأبناء البلد المحتل وحماية الأمن، وأن هدم مؤسسات الدولة وتغيير القوانين البائدة هي من الصلاحيات الداخلية الوطنية لذلك البلد، الذي ترضى عليه الأمة في إعادة بناء الدولة وترسيخ النظام الجديد، وليس ما يفرضه الاحتلال من إجراءات وقوانين، هي ليست بالضرورة في خدمة إعادة بناء الدولة، وهي إجراءات وقوانين أدانتها غالبية المجتمع الدولي، بالرغم من إصرار أمريكا بوجوب تأييدها ولو بالقوة. إن أمريكا هي المسؤول عن إشاعة عدم الاستقرار وفرض التركيب الاقتصادي والاجتماعي وغيره من الترتيبات، التي جعلت العراق ساحة للقوى الإسلامية السلفية المتخلفة والمعادية لأهم متطلبات الدولة الديموقراطية، من أجل تبرير سياسة الرئيس بوش إلى شعبه، بأنه يحارب الإرهاب الدولي ويحمي أمن أمريكا، وقد أكد ذلك رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عندما أعلن "أن بلاده مستعدة لحرب عالمية ثالثة ـ ذكرها بلير حرب عالمية ثانية) ضد الإرهاب إنطلاقاً من العراق.
إن بوش بسياسته هذه يحارب الشعب العراقي، ويشيع عدم الاستقرار، ويشجع نمو التوجهات السلفية، ويخلق أرضية صعبة تحول دون إعادة بناء الدولة الديموقراطية العراقية المطلوبة، عندما يجعل من أرض العراق ساحة أو حلبة يصارع أو يحارب فيها عدوه الهلامي (الإرهاب).
وفي العلاقة بين العلة والمعلول، في تفسير ما عليه العراق الآن من واقع مأساوي وخطير؛ أن أحد الأسباب الرئيسية لذلك، هو فرض سلطة الاحتلال نفسها كسلطة تشريعية على العراق، رغم أن ذلك يخالف قرار هيئة الأمم المتحدة والشرعية الدولية.
ومن منطلق العنجهية العسكرية في إدارة الشؤون السياسية لإعادة بناء الأمة ـ الدولة العراقية، أجهضت سلطة الإحتلال أية مبادرة لإعادة تنظيم الحياة السياسية، كما يذكر السيد لاري ديموند الأستاذ الأول في جامعة ستانفورد، الذي اشتغل لفترة أربعة أشهر (منذ بداية عام 2004) كمستشار أول لسلطة الاحتلال في العراق، ففي تقييمه للوضع العراقي في مقال له بعنوان (ماهو الخطأ الذي حدث في العراق؟)، نشر في المجلة الأمريكية "الشؤون الخارجية" يذكر "بأنه عندما أرادت محافظة البصرة إجراء انتخابات محلية مباشرة، فإن هذه المبادرة وغيرها رفضتها سلطة الاحتلال باستعمال حق الفيتو، باعتبار أن مثل هذه المبادرة تضعف سلطة الاحتلال"، "لقد فرضت هذه السلطة مبدأ استحالة قيام أي نوع من الانتخابات المباشرة بشكل عام" وهو ما سر له به مسؤول احتلال بريطاني حول ذلك "بأن سلطة الاحتلال الأمريكي لا تقبل بأي أجراء يجري خارج سيطرتها" (2)
إن قبول أمريكا لقرار مجلس الأمن في نقل السيادة إلى حكومة عراقية مؤقتة وإجراء انتخابات في بداية عام 2005، هي خطوة جاءت للتخفيف من أزمتها في خلق الوضع المأساوي الذي سببته في العراق خلال عام ونصف من الاحتلال لتتنصل من المسؤولية بترحيلها إلى حكومة قامت هي بتعيينها، كما أشرفت على مسرحية انتخاب المجلس الوطني الانتقالي، وكليهما ـ الحكومة والمجلس ـ إعتمد على المحاصصة الطائفية والعرقية والعشائرية ليشكلا القاعدة للإنتخابات القادمة، عبر هذه النخبة الديموقراطية الحاكمة التي تبلور تكوينها خلال الاحتلال.
إن أمريكا لن تقبل بأي نظام عراقي يخرج عن سيطرتها، لذلك فهي تسعى بغطاء خطابها الديموقراطي، فرض أنظمة تحكمها نخبة مختارة، تدير الدولة العراقية حسب النموذج المطلوب الذي يتطابق ومصالحها، ويتطابق أيضاً مع مخططاتها الساعية إلى التأثير في شؤون المنطقة، بدون أخذ المستجدات على المسرح الدولي بنظر الاعتبار، ودون اعتبار لمتطلبات التوجه الوطني المستقل.
إن قبول ومباركة المجلس الوطني الانتقالي والحكومة المؤقتة الحالية بالإجراءات والقوانين التي فرضها السيد بريمر الحاكم الأمريكي السابق، وكذلك اشكالية العلاقة ما بين سلطة الاحتلال والسلطة العراقية الحالية وربما المستقبلية، تشكل أهم العقبات أمام إعادة بناء الأمة ـ الدولة، وإقامة وترسيخ نظام ديموقراطي يتماشى ومتطلبات مستقبل العراق في إعادة بناء الدولة العراقية. ومن هنا يجب الإعتماد على مبدأ المواطنة التي تجعل الأمة تقبل بهذه الدولة، وتلمس عبر البرنامج والتجربة بأنها المؤسسة التي تضمن أمنها القومي، وتخلق الحرية والمساواة التي بدونهما لا يمكن تشييد نظام ديموقراطي.
إن الديموقراطية السياسية هي أسلوب من أساليب حماية الحرية والمساواة التي تعتمد عليها الأمة في تشييد الدولة، وخلق أسس المواطنة للفرد في علاقته مع الدولة. لذلك فإن الديموقراطية السياسية تخضع لمفهوم الحرية والمساواة وليس العكس، حيث هناك الكثير من الأنظمة التي تأخذ بحرية تكوين الأحزاب والانتخابات البرلمانية وغيرها، ولكنها لا تحقق بالضرورة الحرية والمساواة بين جميع المواطنيين عندما يتحكم بها نظام يرتكز في جوهره على استغلال القوي للضعيف، وتستقطب الأمة بين الغني والفقير، وعندما يترسخ الفقر كحالة اجتماعية هيكلية فهذا يقود إلى ترسيخ دور النخب الطائفية والعرقية والعشائرية في إدارة مطالب المجتمع والدولة، التي جميعها تشكل النقيض لقيام النظام الديموقراطي. لأن مثل هذه الأنظمة التي لا تتصدى لمعالجة الفقر والتخلف وتحرم غالبية المجتمع من المشاركة في قراراتها تفقد المضمون الديموقراطي، ويصبح المواطن يتمتع يوماً واحداً أو دقائق بالحرية والمساواة وهو يوم الانتخاب.
وكما ذكرنا في مجال سابق "يتميز البعد الاقتصادي لحالة الفقر بصورة عامة في انعدام التكافؤ وغياب المساواة في توزيع الموارد المتاحة خصوصاً رأس المال والأرض، إضافة إلى غياب العدالة في استخدام هذه الموارد واستغلالها. ويتجلى البعد الاجتماعي لحالة الفقر في انحسار أو تلاشي الدخل اللازم لتأمين احتياجات الفرد الأساسية للعيش والديمومة ومستوى مقبول بالنسبة إلى عصرنا أو مقارنة بالمقاييس الدولية. لذلك تؤدي هذه الظاهرة بلاشك إلى حرمان غالبية السكان من المشاركة في عملية اتخاذ القرارات السياسية ضمن إدارة الدولة والمجتمع، وبالتالي إلى غياب المشاركة الجماهيرية في تقرير مصيرها الذي يشكل البعد السياسي لحالة الفقر".
وتثور اليوم المخاوف لدى القوى الديموقراطية العراقية، من تراجع مفهوم الحرية والمساواة في الحياة اليومية للفرد، عندما أخذت تدرك تدريجياً من خلال مسيرة الأحداث، بأن الديموقراطية السياسية التي تقودها أمريكا في المنطقة، ويعمل بها النظام الحالي في العراق، قد تقود إلى دفع أكثرية المواطنين إلى العيش بحدود خط الفقر، وتتلاشى بذلك أهم مقومات الدولة الديموقراطية. وهم في ذلك يتذكرون قول رائد الديموقراطية العراقية الأستاذ حسين جميل "بأن تاريخ الإنسانية أظهر أن أهم ما يتعلق بقضية الحريات، هو إدراك الارتباط التام بين جانبها الاجتماعي والسياسي، باعتبار أن التحقيق الأمثل للحريات لن يكون بوجود أحدهما بغير الآخر، ولاشك أن الحرية الاجتماعية أي التحرر من الاستغلال الاقتصادي هو الأساس باعتباره مضمون الحرية السياسية ومحتواها. والحرية السياسية تضمن التحرر الاقتصادي، ولهذا فإن ارتباطهما هو ما يعطي كلا منهما معناه الحق وفاعليته العملية، وفي ظل مجتمع كمجتمعنا تعيش فيه الملايين العديدة على حافة الجوع الأبدي، لا أمل في ديموقراطية حقيقية ولا شبه حقيقية" (3)
إن ما قام به الاحتلال الأمريكي في 28 يونيو، وما جرى من تضخيم دولي في مسرحية مجلس الأمن، هو في الواقع، لا يتعدى تسليم سلطة الاحتلال إلى حكومة عراقية قامت هي ـ سلطة الاحتلال ـ باختيارها، وليس تسليم السلطة إلى دولة متكاملة السيادة، وبعد أن قام الاحتلال الأمريكي بتحطيم كيان الدولة العراقية، وخلف الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولهذا فإن المشروع السياسي للحكومة العراقية الحالية في إعادة بناء الدولة العراقية لا يختلف عن المشروع الأمريكي المهيئ للعراق، وقد انعكس ذلك في خطاب رئيس الحكومة العراقية المؤقتة السيد أياد علاوي يوم 23 سبتمبر أمام الكونكرس الأمريكي، والذي علقت عليه التلفزيون الألماني، بأنه خطاب كان أفضل من أي خطاب يكتبه له الرئيس بوش. إن خطاب السيد علاوي بجانب تزوير الحقائق، كان خطاباً خالياً من أي تصور حول الواجبات الأساسية في إعادة بناء الدولة وإزالة حالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي ومتطلبات إزالة الكوارث والتخلف وحالة الفقر، وماهي المستلزمات والمسؤوليات التي تقع على أمريكا حول ذلك، ولم يعط دوراً للمجتمع الدولي وبالأخص دول الاتحاد الأوروبي ودول آسيا مثل الهند والصين وبلدان العالم الثالث، التي هي أكثر وفاءً من أمريكا في إعادة بناء الدولية العراقية.
إن فرض النموذج الأمريكي لإعادة صياغة الدولة العراقية، كنموذج يحتذى في المنطقة، لا يختلف عن فرض الأيدلوجية الواحدة في تنظيم العلاقة بين الأمة والدولة الذي شكلته دول كبرى (أوروبا الشرقية)، وانهارت بعد أن تحولت نتيجة هذا الفرض إلى دول ديكتاتورية. إن التجارب التاريخية توضح لنا بأن قيام دولة عظمى بفرض أيدلوجية معينة على دولة أخرى تختلف جذرياً عن أيدلوجيتها ونظامها، سوف لن يحظى بتأييد غالبية الأمة، وقد ينعكس هذا الرفض بأن تتحول هذه الدولة (النموذج الأمريكي مثلاً) إلى دولة مركزية غير ديموقراطية، عندما يتغلب هاجس الخوف عليها. وترى في مطالب المجتمع الملحة عدواً لها، وتفقد العلاقة الطبيعية بين الأمة والدولة. إن مثل هذا النموذج للدولة لا يخرج عن ترسيخ العلاقة المتخلفة بين الأمة والدولة الذي شكلته الأنظمة الوطنية السابقة في العراق وفي المنطقة، عندما تشكلت الدولة كهدف بحد ذاته، جرى من خلاله تسخير الثروة الوطنية لمصالحها الذاتية، وتراجعت مسؤولية الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ودور المجتمع كلياً في مستقبل يتفاعل ويشارك في بنائها وفي تكامل وتطور الأمة.
إن مثل هذا التناقض الجوهري هو الذي قاد إلى فشل وتخلف جميع البلدان العربية، في وضع العلاقة الطبيعية بين الأمة والدولة، وقد يتفاقم هذا التناقض عندما يدخل العنصر الخارجي كعامل في فرض مثل هذه العلاقة باسم الديموقراطية، ويزيد من حدة الصراع داخلياً وخارجياً، وقد تأخذ أنماط المجابهة أشكالاً جديدة تسمح للقوى غير الديموقراطية بأن تلعب دوراً قد يذهب ضحيته القوى الديموقراطية الناشدة للحرية والمساواة. وفي معالجة هذه المشكلة الأساسية يجب الاعتماد على العلة والمعلول في تفسير جوهر المشكلة، وليس التوقف عند الظواهر المتعددة التي تفرزها الأحداث.
إن جوهر المشكلة هو غلبة التوجه العسكري الأمريكي على المنطق السياسي، الذي حال دون قيام سلطة عراقية مدنية تعيد بناء الدولة التي هدمها الاحتلال بشكل غير شرعي، رفضته جميع قوى الرأى العام العالمي.. لذلك فإن الاحتلال أضاف وعمق في تشويهات وكوارث نظام صدام، وطرح مستجدات جديدة في إعادة بناء الدولة.
إن رياء الاحتلال الأمريكي في إعادة بناء العراق، ينعكس في حقيقته، أن 75% مما أنفقه الأمريكان على العراق لم يذهب إلى منفعة العراقيين، كما يذكر ذلك الصحافي Paul Richerفي 26 سبتمبر في Iraq occupution watch حيث أنه يؤكد على ماذكره James Glanz في 25 سبتمبر في جريدة نيويورك تايمز، بأن أمريكا أنفقت لحد الآن مليار دولار فقط على الشعب العراقي، من مجموع 18.4 مليار تعهدت بها أمريكا كمساعدات لإعادة إعمار العراق في مؤتمر مدريد. وحسب توقعات الكثير من المحللين بأن هذه المساعدات سوف تذهب غالبيتها العظمى إلى نفقات الأمن التي تحتاجها الولايات المتحدة نفسها. كما أن البلدان الدائنة للعراق بحدود 128 مليار دولار تتردد في إعفاء العراق من دفع ديونه، عندما تستفسر عن الجهة التي قامت بصرف الموارد المالية التي تقدر بحدود 18 مليار دولار، إضافة للعوائد النفطية المتواضعة بعد الاحتلال، كذلك أرصدة صدام المسروقة وغيرها من الأموال التي يكتنف مصيرها الغموض برغم من كشف أحد المعاهد الأجنبية ـ وليس العراقية عن غموض صرف بعض هذه الأموال (4). كما أن هذه الظاهرة شكلت بدورها الأرضية لإشاعة جو السرقة والرشوة كأسلوب في التعامل على مختلف المستويات داخل العراق.
ان هذا الغموض الذي يكتنف الموارد المالية العراقية ، خلقت بدورها انعدام الثقة بإنفاق مبلغ الـ 14 مليار دولار الذي تعهدت به الدول الاخرى المختلفة في اجتماع مدريد كقروض ومساعدات لإعمار العراق . فبحسب المصادر المختلفة ، فان هذه الدول ( المانحة ) لم تدفع لحد الان من هذا المبلغ سوى بضعة مئات من الملايين ، انفقت – اساسا – لشراء مستلزمات المدارس والمساعدة في تدريب بعض موظفي الحكومة في الخارج !! .
لهذا فان ما قدمه وزير التخطيط العراقي في اجتماع ( طوكيو ) الاخير للدول المانحة ، من قائمة طويلة من المشاريع الاعمارية التي تكلف بحدود 34 مليار دولار ، لم يجد له اي صدى او رد فعل ايجابي . لان ذلك الاجتماع لم ياخذ – وكذلك الراي العام والصحافة العالمية – تلك الاقتراحات والمطاليب بالجدية والاعتبار . لاسيما وان المشكلة المالية الاساسية التي تواجه اعادة بناء الامة – الدولة العراقية ، هي معالجة الديون المتراكمة التي لم تعالجها الحكومة العرافية الموقتة بشكل جدي ، كما انها لم تضع سياسة معلنة وواضحة لتلك المعالجة . وقد اكد الصحفي ناعوم كلاين ، في صحيفة غارديان البريطانية ( 16/10/2004) انه منذ سقوط نظام صدام حسين ، فقد دفع العراق مبلغا قدره 1,8 مليار دولار كتعويضات عن حرب الخليج الثانية ... كان منها 69,8 مليون دولار للشركات الاميركية والبريطانية والباقي ذهبت اكثريته للكويت الغنية التي تذرف دموع التماسيح على الشعب العراقي . ومن هنا فان تاكيد دفع هذه المبالغ يعني انعدام سيادة الحكومة العراقية الحالية وفقدان الامل في معالجة المشكلة المالية العراقية التي ستشكل ازمة هيكلية للاقتصاد العراقي ، يستحيل معها معالجة اعادة اعمار العراق لان مشاكل التعويضات ستفاقم هذه القضية الاقتصادية الحيوية . في حين ان مؤسسة اجنبية غير حكومية ، هي مؤسسة Jubilee Iraq تعكس مصالح العراق وكيفية اعماره بمعالجة مشكلة ايفاء الديون بشكل جذري .
ان تبني الحكومة العراقية المؤقتة ، لتوجهات هذه المؤسسة – وهو اضعف الايمان – في معالجة مشكلة العراق المالية ، قد يعطي لها المصداقية – داخليا وخارجيا – في مشروعها لإعادة إعمار العراق ، وتدفع – عبر الشفافية – الدول المانحة بايفاء تعهداتها وبجلب المساعدات والاستثمارات الى العراق .
إن انعدام الشفافية والمحاسبة حول هذا الموضوع، الذي لا يتسع المقال لذكره تفصيلاً، زاد من سحب الثقة وقاد إلى إدانة الاحتلال الأمريكي، وكشف رياء بوش وادعاءه بأنهم قد قدموا إلى العراق كمحررين. وكذلك في سحب الثقة عن سلطة المجلس الوطني وقدرته في معالجة الكوارث، وعن الأحزاب والتكتلات السياسية التي شاركت في قيادة هذا المجلس.
إن الدولة التي تنشد تحقيق سيادتها في اتخاذ قرارها الوطني، يجب أن ترفض القوانين الاقتصادية التي يفرضها الاحتلال، بنفس الدرجة التي ترفض بها الالتزامات المالية غير الشرعية، التي قام بها نظام صدام وإلغاء تعويضات الحرب... وغير ذلك من القرارات التي تقود إلى إضعاف سيطرتها على الأمن الوطني في تلبية حاجات الأمة.
ان الدول التي تفقد السيطرة على زمام الامن الوطني في عدم حل هذه المعضلةالاساسية وما سوف تفرزه من مشاكل في عجزها عن تلبية حاجات المواطن الاساسية ، سوف تكون عرضة للحركات الدينية والسلفية اللاديموقراطية ولا يمكن ان يدوم لها البقاء ، مهما تغالي بما تطرحه من شعارات حول الديموقراطية السياسية ، وما يحقن به العامل الخارجي من مساندة عسكرية وسياسية .
لذا نستطيع القول ـ استناداً إلى تجارب التاريخ وما تقدمه لنا من دروس وحقائق، أن فقدان الدولة لسيطرتها على الأمن الوطني يقود إلى تشجيع الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية، التي تخلق الأرضية المناسبة للصراعات الداخلية، التي تقود بدورها إلى تجزئة الوطن وإحلال الدمار الأبدي بالبلاد.
إن سياسة الاحتلال العسكري تعكس صيغاً جديدة، مختلفة عن الصيغ المعهودة في تاريخ الاحتلال الاستعماري والهيمنة الإمبريالية، هذه الصيغ الجديدة يتطلب تقييمها وتحليل خطابها، من أجل تمييز وفرز عناصر المجابهة داخلياً وخارجيا،ً بعدما خلقت الأرضية لانعدام الاستقرار السياسي بالمنطقة بشكل عام وفي العراق بشكل خاص، وانحصار الأمة العراقية بين هذه السياسة وعجز السلطة العراقية الوطنية، وبين ميكافيلية دول الجوار في تخوفها من إعادة بناء الأمة ـ الدولة العراقية ديموقراطياً، وما سوف يفرزه مثل هذا الوضع من بروز الحركات الدينية المتطرفة والسلفية المعادية للديموقراطية كعنصر مواجهة، وكذلك مخاطر تأثيرها على حسم الصراعات التي سوف تبرز في تطبيق النهج الديموقراطي المطلوب. وتقوى وتتفرز عناصر المجابهة الديموقراطية الوطنية، عندما تتمتع باستقلاليتها في طروحاتها حول بناء الأمة ـ الدولة، حسب متطلبات التنمية الوطنية، التي تفرضها متطلبات الواقع الاقتصادي والاجتماعي في تحديد المسيرة الديموقراطية السياسية، وليس العكس، بأن يحددها الخطاب الديموقراطي السياسي الذي هو عرضة للتأثيرات الخارجية وليس بالضرورة لمتطلبات الأمة الملحة.
إن إجماع القوى الديموقراطية على مثل هذا النهج كمعارضة سياسية، تعتمد على دور المنظمات المهنية وغير المهنية، واستقلاليتها قانونياً عن السلطة والأحزاب والتكتلات السياسية، هي الكفيل في مراقبة ومحاسبة النخبة الديموقراطية الحاكمة التي سوف يفرضها هيمنة الخطاب الديموقراطي الأمريكي.
إن الاعتماد على المنظمات المهنية وغير المهنية، باعتبارها تمثل مصالح أعضائها، وتعمل من أجل الدفاع عن مصالحهم المادية، سيجعل منها مؤسسات اجتماعية أساسية، يشكل أعضاءها غالبية شرائح الأمة، وتحمل بطبيعتها مضموناً وتوجهاً ديموقراطياً ـ اجتماعياً يضم قاعدة جماهيرية أوسع من القواعد الجماهيرية التي تحتلها الأحزاب السياسية الحاكمة وغير الحاكمة، حيث أنها تضم فئات مستقلة قد لا ترغب بالإنتماء السياسي، وتشكل نسبة كبيرة تتجاوز المنتمين لكافة الأحزاب السياسية، ويجمعها تنظيم مهني موحد، وتبلور حاجاتها ومشاكلها بشكل مستقل، بحيث يصعب على حزب سياسي مهما عظم دوره وعظمت مكانته الاجتماعية القيام بهذا الدور، وتكون طبيعتها الدفاع عن مصالح واسعة ومشتركة بدون تمييز، لأنها بالممارسة تستطيع أن تضعف النفوذ الحزبي السياسي والطائفي والعرقي والعشائري... إلخ، وتكون أقل عرضة للهزات والصراعات التي تبرز الآن على الساحة السياسية، واحتمالات بروز الاختلافات والتناقضات بين الديموقراطية السياسية والاجتماعية.
إن كون هذه المنظمات تتمتع باستقلالية مواردها المالية، سوف يعزز من استقلاليتها المهنية والفكرية، ولا تكون عرضة للرشوة والابتزاز المالي، وكما أن استقلاليتها قد تؤثر وتوفر أسس الحوار وتغليب المصالح المشتركة على الاختلافات السياسية بين الأحزاب في عملية الحوار مع السلطة... وقد تشكل استقلاليتها الطريق الكفيل بتقويض بيروقراطية السلطة.
كما وأن هذه المنظمات، ستكون لها تأثيرات واسعة في بناء المجتمع المدني المطلوب لاقامة النظام الديموقراطي، عندما تنطلق من الواقع وبوعي ، بأن الدولة ومؤسساتها وكذلك الأحزاب المؤيدة، ليست بالضرورة قادرة على مواجهة الأوضاع الاقتصادية وما يترتب عليها من مشاكل اجتماعية تطرحها مسيرة الحياة اليومية، وتلعب دورها في حل المشاكل الملتهبة، وبهذا التوجه، تقوى وتتعزز مكانتها واستقلاليتها، كلما تعجز الدولة عن حل المشاكل المستعصية . لذلك ستكون طروحاتها – اي المنظمات المهنية - مناهضة لمفاهيم الليبرالية الجديدة، التي تسير عليها سلطة الدولة، بحكم ارتباطها وتبنيها سياسة الخطاب الديموقراطي الأمريكي، في معالجة المشاكل الاقتصادية والإجتماعية وفي إعادة بناء الأمة ـ الدولة . وتكون بذلك ضد مفاهيم المجتمع المدني التي تفرضها مسيرة العولمة والتي تستهدف تحويل المجتمع العراقي إلى تابع بشكل مطلق لتحولات الجانب السلبي من هذه العولمة.
وبهذا التوجه، يتطور الفكر الوطني الديموقراطي مع متطلبات الواقع الاجتماعي، ويعمل على تحويل مأساة الأمة العراقية إلى عامل أساس في خلق مفهوم جديد لديموقراطية خاصة مغايرة للخطاب الديموقراطي الأمريكي. وقد يخلق – هذا التوجه - جبهة ديموقراطية واسعة معارضة – بالمفهوم الديموقراطي – فتحد من مركزية السلطة وتشكل بديله للتحول الديموقراطي ، في تداول السلطة ، وتسد الطريق امام القوى غير العلمانية والحركات الدينية السلفية ، من ان تقفز على السلطة وتجهض المسيرة الديموقراطية .
إن القوي الديموقراطية العراقية أمام امتحان جديد، يحسم توجهاتها ومصداقيتها لماهية النظام الديموقراطي المنشود، بعد فشلها في وضع برنامج عمل سياسي مشترك لإسقاط نظام صدام، وتحملها جزءً كبيراً من مسؤولية الكارثة التي تعيشها الأمة العراقية الآن.
ــــــــــــــــ
(*) أكاديمي عراقي يقيم في فيينا.
1 – William. 5. Robinson – pushing pulyarchy: the us- Cuba, Third word Quarterly – No. 4, Dec. 1995.
2 – Larry Diamond – what went wrong in Iraq – foreign affairs, Sep. /Ock. 2004.
3 ـ حقوق الإنسان في الوطن العربي: المعوقات والممارسة، ندوة أزمة الديموقراطية في الوطن العربي ـ مركز دراسات الوحدة العربية، نوفمبر 1984.



#عبدالباري_الشيخ_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبدالباري الشيخ علي - العراق ....والخطاب الديموقراطي الاميركي