|
حرب اكتوبر1973 فى قصص محمود البدوى
على عبد اللطيف
الحوار المتمدن-العدد: 988 - 2004 / 10 / 16 - 11:31
المحور:
الادب والفن
يقول البدوى: " هناك أناس فى العالم يصنعون الحروب ويقتلون النساء والأطفال ، إذا واجهناهم بوداعتنا وحمامة السلام التى على وجوهنا سحقونا ، وإذا أرسلنا عليهم الصواعق من السماء وصفونا بالتوحش " " أتمنى أن أحمل على بساط الريح ، وانطلق وأدمر كل المصانع التى تصنع الخراب والدمار للبشر .. القنبلة الذرية .. وقنبلة الكوبالت .. والهيدروجين وكل ما يجىء بعدها .. وكل ما يحطم الحضارة ويشل عقـل الإنسـان .. وكل ما يشـوه الجمال والسكون ويمنـع الحقيـقة من أن تنطلق من الأفواه .. وكل ما يقتـل روح البشر" ****** كتب محمود البدوى ست قصص ذكر فيها القليل من أحداث الحرب " عدا اثنتين الحدث فيهما كثير وهما قصتى " الحارس والرسالة " أما القصص الأخرى فلا يتعد الخبر فيها بضعة أسطر وهو فى معرض الحديث عن الشخصية أثناء القاء الضوء على ماضيها وهو يعرضها بخيرها وشرها كما هى موجودة فى الحياة ، ليستطيع القارىء متابعة نمو الشخصية أثناء الأحداث ، ويرد كل ما يجيش فى صدرها وعقلها من عواطف وخواطر وانفعالات إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية ، وكأن البدوى يريد أن يقول " إن مستقبل الإنسان مرتبط بتصرفاته وأفعاله وأعماله فى الماضى ، وهى التى تحدد شخصيته فى المستقبل . ومن خلال أحداث تلك القصص أستطيع أن أحكى وقائعها حرب اكتوبر1973 أثرت هزيمة حرب 1967 فى الشعب ، وكان يفكر دوما فى الحرب وما الذى يستطيع عمله لإرضاء الوطنية المشتعلة فى النفوس . وكانت إسرائيل ككل عادتهم فى الحروب ، حركهم جبنهم إلى ضرب مدرسة بحر البقر وما تحت مرماهم فى الإسماعيلية والسويس ، ليثيروا الشعب ضد حكامه .. وهل شهر رمضان بنوره الكريم على الأمة الإسلامية ، وكنا فى الخريف ، ولم تشتد بعد وطأة الحر على الصائمين ، وبعد صلاة الظهر بقليل ، والناس لايزالون فى المساجد ، أذاع الراديو أن الجيش المصرى عبر خط بارليف ، ورفع العلم المصرى على شرق القنـاة ، وانتفـض الناس من الفرحة وهللوا وكبروا فى المساجد والشوارع والبيوت وفى كل مكان ، ولم يكن أكثر الناس تفاؤلا يقدر الانتصار بعد الهزيمة . وتطوعت النساء فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسائية ليعملن فى المستشفيات ، وسار العمل فى البلاد بصورة طبيعـية فى النـهار ، وفى الليل يحس الأهالى بجو الحرب ، من الإظلام فى الشـوارع والبيوت وخاصة سكان البيوت المجاورة للصحراء . وكان الغريب الذى لايعرف طباع الشعب المصرى ، يتوقع الانهيار التام ، فالشعب المصرى يتحرك فى المحن بقلب واحد وعزيمة صلبة وينسى متاعبه ليحقق هدفه ، فكل شىء يقبل إلا الهوان .. فالحرب مع اسرائيل لا تشيع فى قلوبنا الخوف ولو امتدت مائة عام ، وانما الخوف جاء من الداخل ، ولم يأت من الخارج قط ، وعندما ذهب شبح الخوف ، عادت إلينا القوة ، وعبرنا القناة وانتصرنا . لقد انتصرنا بالجندى الأصيل ، وبالشجاعة الضاربة فى الجذور عبر اعماق التاريخ ، وبالإنضباط الدقيق ، والنظام الصارم . إن الرجال فى العالم كله لا يرغبون فى القتال ولا يؤمنون بالحـرب أبدا ، ولايمكن أن يفكروا فيها ، والسلام سيحمل فى طياته السـعادة للبشرية والرخاء والأمان والحرية التى يتطلبها كل إنسان . ويتمنى الراوى فى قصة "حـوار فى الطريق" أن يحـمل على بساط الريح ، وينطلق ليدمر كل المصانع التى تصنع الدمار والخراب للبشر .. القنبلة الذرية .. وقنبلة الكوبالت والهيدروجين وكل ما يجىء بعدها .. وكل ما يحطم الحضارة ويشل عقل الإنسان .. وكل مايشوه الجمال والسكون ويمنع الحقيقة من أن تنطلق من الأفواه .. وكل ما يقتل روح البشر . فلقد تعذبت البشرية من الطغاة الذين دمروا نفس الإنسان ، منذ عصر نيرون ، وهم يحاولون تدمير البشرية وتلطيخ وجهها فى الطين ، والقوا القنابل الذرية والقنابل السامة على الشعوب الآمنة ، وعذبوا الأبرياء فى السـجون وهتكوا أعراض النساء ، وسـحقوا بجيوشـهم ودباباتهم الأطفال الرضع ، وسمموا دم البشرية بحيلـهم وخـداعهم ، وعلقوا رجالها الأفذاذ فى المشانق ليخلوا لهم الجو لتدمير الحياة ."قصة الإنسان". ****** وبعد الحروب الدامية فى سنة 1948 وسنة 1956 وسنة 1967 وسنة 1973 ، حروب ذرعت الحقد والخوف فى النفوس .. وذهب فيها آلاف الشهداء ، وضربت فيها المدن ودمرت .. فكر الرجل العظيم رئيس مصر السادات ، فى أن ينهى هذا كله مواجهة .. ودون لف أو دوران ، وذهب إلى القدس .. يحمل حمامة السلام وراية السلام البيضاء .. واستجابت له النفوس واهتـزت من الفرحة القلوب . فما جدوى القتل وما جدوى التدمير ، وما الذى يستفيده الناس من الحروب ، الغالب والمغلوب فى خسارة . وسأقوم باستعراض قصتى " الرسالة " و " الحارس " لأبين الهدف والمقصود من وراء كل كلمة ، وكل جملة ، وما وراء السطور . قصة الرسالة: ملخص القصة: فى ليلة من ليالى أكتوبر استدعى الملازم "كمال" من بيته فى ضاحية مصر الجديدة ، وكان يسكن فى شقة من عمارة ضخمة كبيرة وتقع بجوار الصحراء ، وترك زوجته فى البيت ومعها شغالة فوق العشرين ، وبعد أيام قليلة اشتعلت الحرب ، وعبرت القوات . وكانت زوجته تقوم بكل شئون البيت كما تعودت فى بيت أبيها قبل أن تتزوج ، فتخرج فى الصباح وتشترى ما يلزم للطعام اليـومى ولم تنقص الكمية إلا قليلا . وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسائية ليعملن فى المستشفيات . وفى مساء يوم توقف القتال ، وعاد بعض المقاتلين فى إجازات ولم يعد زوجها ، ولما طال الوقت شعرت بالقلق والخوف وازداد وبلغ مداه عندما كثرت الأسئلة عنه من الأهـل والجـيران ، وكانت فى حيرة ، فاضطرت أن تكذب وتقول بأنها تلقت منه رسالة يخبرها بأن فرقته أول من عبرت القناة ورفعت العلم المصرى هناك . وكانت تجلس بجوار الباب فى الصالة تنتظر رسولا يحمل لها رسالة من زوجها ، وتقضى وقت فراغها فى الاستماع إلى الموسيقى والأخبار والأناشيد الوطنية وتقرأ ما تحب وتشتهى من الكتب ، وكان بعض الجارات يأتين اليها فى إلنهار والليل كلما وجدن الفراغ . وذات ليلة من الليالى الأخيرة فى شهر رمضان نامت دون سحور ، ورأت فى المنام زوجها وهو يخوض معركة فى مقدمة الصفوف وأصيب جندى مصرى فحمله لينقله إلى عربة الميدان ، وفى أثناء تلك الحركة أصابته رصاصة وسقط ، وقامت من نومها مذعورة ، وبكت ، فهى تعرف طباع زوجها وأنه يفعل مثل هذا وأكثر . وجاء والدها ثالث أيام العيد من "إتليدم" محملا بالنعم ، وجرت اليه عند سماع صوته ، وقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها ، وعندما رأى الوالد الشحوب على وجهها ، لم يسـألها عن زوجها حتى لايثير فيها القلق ، كما أنه لم يحدثها عن أخيها الذى يقاتل مع زوجها فى الجبهة ، وكانت تعرف صفات والدها كرجل فى كل الأحوال والظروف ، وتعرف أنه لو استشهد ابنه سيقول كما قالت "الخنساء" من قبل "الحمد لله الذى شرفنى بقتله" وبعد سفر والدها فى اليوم التالى أحست بأنه أعاد اليها ، باستبشاره ومرحه ، السـكينة إلى نفسها ، وأحست بهزة الفراق بعد سفره . وسمعت وهى جالسة فى الشرفة من مسجل فى الشقة المجاورة صوت الشيخ "رفعت" وهو يقرأ سورة "الرحمن"، وظلت جالسة ساكنة خاشعة حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت ، وأحست بالحيوية والانتعاش ودخل قلبها الأيمان بالحياة ، فهى لم تسمعه من قبل بمثل هذا الصوت . وفى الظهر أعـدت مائدة الغـداء بعنـاية ، ولم تنس طبق زوجها وأدوات مائدته ، وجلست تأكل وكأنه أمامها يحدثها حديثه المألوف ، وبعد ساعة دخلت الحمام وخرجت معطرة وازينت وانتقت أجمل ثيابها ولبسته وجلست فى الشرفة ، تنتظر عودة زوجها . وفى الليل جلست فى الصالة وعلى خديها الدموع ، ونامت فى جلستها ، وصحت على حركة المفتاح فى الباب ودخل زوجها ، فهبت واقفة وجرت إليه ، وتعلقت به وارتمت على صدره . وأعـدت مائدة العشاء وجلسـا يتعشيـان ، وكانت تنظر اليه ، وتتعجب لأنه يبدو من هيأته أنه لم يحـارب كما كانت ترغب وتتمنى ، لينتقم لأطفال مدرسة بحر البقر وعمـال أبى زعبـل وسكان السويس والإسماعيلـية وبورسعيـد ، وبدت غير منشرحة ، وعـلا وجهها الامتعاض . وقالت له يبدو أنك لم تحارب فليس فى جسـمك خدش واحد ، فأخبرها أن فرقته أول فرقة رفعت العلم ، فقالت فى نفسها ، إن هذا ما قلته للناس . وبعد نصف الليل ، انكشف عنه الغطاء وهو مستغرق فى النوم ، وكانت هى نائمة بجـواره نصف يقظة ، فقـامت تضم عليه الغطاء ، فلامست يدها شيئا غريبا تحت "الفانلة" فرفعتها ووجدت جرحا بليغا فى الكتف وقد غطى بالضمادات وربط بإحكام ، فضمته إليها فى عنف وجنون. ****** قبل أن أبدأ وأخوض فى تحليل هذه القصة ، وأبين نظرة البدوى الفلسـفية ، أقول أنه أراد أن يصب رأيه فيما يشغله من القضايا التى تستحوذ على فكره وتفكيره فى أعمال فنية ، فالقضـايا الاجتماعية التى تشغل باله تتعلق بالأسرة والزوجة والعلاقة بينها وبين زوجها وقضاياها المضطربة على الأرض ، ومن ثم أستعين بالحوار الذى أجراه معه الناقد علاء الدين وحيد والمنشور فى مجلة "أسرتى" فى31يناير 1981 (مأخوذ من الكتاب المعنون باسم "محمود البدوى" للناقد علاء الدين وحيد..دار سنابل للنشر والتوزيع2000) . يقول البدوى : المرأة العربية كانت كلها طاعة وامتثال عن اقتناع وحب للرجل ، أما الآن فهى تنحو نحو التمرد على سلطة الرجل ، وفى بعضهن نشـاذ إلى درجة عدم الطاعة التى تتولد عن حرية مزعومة أو تتجاوز الحد . وإن ما يعيبها عامة فى الغالب هو أنها لاتراع ظروف عمل الزوج ، والكثـيرات منهن يمثلن عبئا على رجالهن فى أزماتهم . فالواحدة منهن لاتعايش أو تتعاطف مع ما يمر به الزوج من أحداث ولا تهون عليه أمرها ، بل تزيده تعبا وإرهاقا وشقاء ، بسبب جهلها النفسى ، فهى غالبا مهما تكن متعلمة ، ضيقة الأفق ، تشغل زوجها بأمور البيت . وتربيـة الوالدين للأبنـاء هى الأصل ، بالإشراف الحقيقى للأب والأم ، فاعتناق المثل والتعود على الصدق والأمانة وحب الخير تنبع أولا من البيت . وعلمـته مربيته التى تولته بعد وفاة والدته وكان فى السابعة من عمره ، علمته أن الاهتمام أو الحب لاينبع من داخل الأسرة فحسب ، بل يمكن أن يأتى من الخارج . وتكالب المجتمع على المادة واختفاء العنصر الأخـلاقى وانمحاء الإيمان بالقيم والبعد عن الدين هى المسئولة عن التفكك الأسرى ، وبجعل الشباب فارغا من داخله بعد أن اختفت المثل من أمانيه . هذا من ناحية القضايا الاجتماعية ، أما تلاوة الشيخ محمد رفعت "قيثارة السماء" للقرآن (ذكريات مطوية .. مجلة الثقافةالعدد 74 نوفمبر 1979) فقد أوجد عنده الرغبة الشـديدة لسـماع القرآن ، أوجدها منذ كان يسمع صوته الخاشع فى مسجد "القاضى" وهو فى ريعان الصبا .. وظلت هذه الرغبة متأصلة فى أعماق نفسه . وعندما يسمع الشيخ رفعت وهو يرتل سورة الرحمن .. يعرف أن الله موجود وهو الخالق والقادر سبحانه . وقد اختار البدوى فى هذه القصة شخصية الزوجة من الصعيد ومن قرية "إتليدم" وهى القرية التى نبتت ونشأت وتربت فيها والدته قبـل أن تتزوج وكان والدها عمدة القرية ، وكانت هذه القرية قديما آخر حدود مديرية أسيوط ، أما الآن فهى تتبع محافظة المنيا . "كتاب سيرة محمود البدوى .. على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى .. مكتبة مصر2002". ويقول فى قصـة الأعـمى "نشرت بمجـلة صوت الإسلام 25|8|1935 وبمجلة الرسالة فى العددين 156و157 فى29|6و6|7|1936 وأعيـد نشــرها بمجموعة "الذئاب الجائعة" عام1944 .. يقول : "فتاة الريف لاتزال بخلقها البكر ، ولا يزال ضميرها حيا ، لم تخدره بهارج المدينة الكاذبة ، إنها لاتزال ترى الأشياء على حقيقتها ، لا تزال بطبعها البكر ، طاهرة نقية ، قوية الإيمان عفيـفة الإزار .. تسـتهول الجريمة الجنسية ، وتستفظع الخيانة الزوجية ، وترجف حتى من مجرد التفكير فيها ، هكذا شعورها بفطرته ، تعرف من غير معلم ولا مدرسة أنها خلقت لرجل واحد ليس إلا ، رجل واحد يأخذ منها قلبها وجسمها ويستغرق تفكيرها ووجودها ، وتدفعها فطرتها على أن تكون له أبدا". ******* الرؤية الفلسفية: لاشىء يمكن أن يقوم وينهض به الفرد وحده ، لأنه وحدة واحدة فى عالم كبير ، ولا يوجد أحد قائم بذاته كالجزيرة ، فالإنسان يعيش بغيره ، جزء من كل يتحرك : "نسيت سهير نفسها ، ونسيت زوجها .. وأصبح الفرد لا وجود له فى نظرها بعد أن تحرك المجموع ..... أصبح زوجها بكل صفاته الخلقية وشجاعته .. ترسا صغيرا فى آلة كبيرة تتحرك فى عنف وضراوة .. فلم يعد له صوت مع صوت الآلة وضجيجها .. وإن كان له وجود حتمى". يتحرك الجميع فى المحن ، ويفكر كل منهم فى الاشتراك فى المعركة بعمل إيجابى ، شيئا ذا قيمة يساهم به ويشعر معه بالزهو والانتصار : "وتطوعت السيدات فى الهلال الأحمر وفى الجمعيات النسـائية .. ليعملن فى المستشفيات ، ويقمن بإرسال الهدايا والرسائل إلى الجنود فى الجبهة . وكانت سهير وهى فى بيتها تشاركهن هذا العمل بفرح". أشياء تحدث فى الحـياة لايمـكن تفسـيرها ، فالعلم والحضارة وكل عبقريات البشرية وكل طاقاتها وكل إمكانياتها لايستطيع تفسيرها ، لأنها فوق عقـل البشر ، شىء من النبع الإلهى : "بلغ القلق مداه عندما أخذ أهلها يسألون عنه صراحة فى التليفون وفى زيارتهم لها .. وفى كل يوم يكون السؤال الذى يمزق أعصابها .. فاضطرت بعد التفكير أن تكذب وتقول لهم بأنها تلقت منه رسالة حدثها فيها عن عمله البطولى فى الحرب .. وكيف كانت فرقته أول فرقة فى الجيش عبرت القناة ورفعت العلم .. وسرى الخبر فى الحى الصغير الذى تعيش فيه". ثم يورد الراوى الحوار الذى دار بين الزوج بعد عودته من الحرب وزوجته .. فيقول : "وجلسا يتعشيان .. وكانت تلاحظه بعينيها وتقيسه طولا وعرضا .. وتفكر .. ولما فرغا من الطعام .. قدمت له فنجان القهوة وهى تحدق فى وجهه .. فسألها : مالك .. لماذا تنظرين الي هكذا .. ؟ تبدو لى ..كأنك لم تحارب .. ليس فى جسمك خدش واحد .. لقد كانت فرقتى .. أول فرقة عبرت القناة ورفعت العلم .. وقالت سهير لنفسها أن هذا هو ما قلته للناس فعلا .." غيرت الحرب نفوس الناس وأظهرت معدنهم النفيس وهم يتنافسون لمساعدة امرأة وحيدة ، ذهب زوجها إلى ميدان القتال : "أحست بأن الناس ينظرون اليها فى إكبار .. وكل واحد منهم يتمنى أن تكلفه بخدمة ..كانت السعادة تغمرهم إذا ساعدوها فى أبسط الأشياء ". الإنسان فى حاجة إلى الوحدة ليطلق العنان لأفكاره وعواطفه وأمانيه وأحلامه وما يصوره له الخيال بعد أن تمزقت أعصابه ، وأن فى وجـود آخـرين معه يصيـبه بالضجر : "وكان بعض من جاراتها يزرنها فى النهار والليل كلما وجدن الفراغ .. ولكنها كانت تفضل أن تقضى وقتها بمفردها .. وكانت هذه العزلة هى أحب الأشياء إلى نفسها ، لأنها تجعلها تفكر فيه وحده ، وتحصر نفسها فى عمله هناك .. وتتصوره وهو فى الخندق .. أو فى العراء .. مقاتلا أو مستريحا .. يفكر فيها ..كما تفكر فيه .." الزوجة العاقلة تحس فى بيتها بأنها تعيش لغاية وأمل ، فهى تنمى شجرة الحياة وتحملها بالثـمر ، لا أن تعمل بسلبيتها على جفافها وموتها ، ليأتى الولد وترى فيه صورة زوجها إمتداد له وحياة ، ويكربها ويحزنها عدم تحقق الأمل بوجود قطعة منها : "وكانت تتوق لأن تنجب منه .. ما دامت بعد أن تزوجت قد رضيت بأن تترك الجامعة وتتفرغ لعمل البيت ، بيد أن الولد لم يأت بعد .. وقد يأتى غدا .. ولكنها كانت تتوق إلى وجوده فى أحشائها فى هذه اللحظة لتشعر وهو بعيد عنها بأن قطعة منه فى أعماقها .. تتحرك وتنمو .. وتنتظره كما تنتظر هى .." حينما ينشغل الإنسـان ويفكر فى شىء معين يشغل به ، يستيقظ فى الليـل على أحـلام ذهبية أو أحـلام مروعة ، ولكن هناك عالم آخر ، عالم يعلو عن فهمنا وإدراكنا وأسراره لاتحيط به عقولنا ولا ندرك منه شيئا : "ورأت زوجها فى الحلم يخوض معركة ضارية .. وكان فى مقدمة الصفوف مع المشاة .. تقدموا واخترقوا طوابير العدو .. مهللين منتصرين .. وانقلب الجو كله إلى نيران تتأجج ودخان وقصف . وفى غمار المعركة .. أصيب جندى مصرى .. وأحس به زوجها .. فرجع إليه يحمله وحده .. والرصاص حوله يتساقط ..حمله ومشى به حتى وضعه فى عربة الميدان الطبية .. وفى أثنـاء هـذه الحركة أصيب زوجها برصاصة وسقط . واستيقظت من نومها مذعورة .. كانت تعرف طباع زوجها ، وهو يفعل مثل هذا وأكثر منه .. ولذلك اشتد بها القلق .. وزاد الحلم بكل ما فيه من بشاعة من أحزانها وتعاستها .. وبكت". يعيش الأب ليعطى السعادة لأولاده ، ويبذل كل ما فى وسعه من مال وجهد لإسعادهم ، ونتيجة للإشراف الحقيقى للوالدين فى تربية الأبناء واعتناق المثل ، تكون الثمرة التى نبتت فى بيت طيب طيبة : "وفى اليوم الثالث للعيد .. جاء والدها من "اتليدم" فى قطار الظهر .. سمعت صوته بعد أن فتحت له "الشغالة" الباب فأصلحت من شأنها وجرت إليه فقبلت يده ، وجلست بجانبه تسأله عن والدتها وأخواتها فى البلد .." فى أيام المحن والإحساس بالألم والمرارة يلجأ الناس إلى الله ، ويستمعون إلى تلاوة القرآن ، ويذهبون إلى المساجد ، وتزداد النفس صفاء وشفافية ، وينـزاح الهم عنهم ، وفى أيام راحتهم ورغدهم ينشغلون بما يجرى على الأرض : "وسمعت وهى جالسة فى الشرفة ـ تتطلع إلى رمـال الصـحراء والسكون يخيم على المنطقة ـ صوت الشيخ "رفعت" من مسـجل فى الشقة المجاورة ،كان يتلو سورة "الرحمن" وتنبهت "سهير" وأنصـتت مأخوذة .. لقد سمعت الشيخ "رفعت" كثيرا من قبل .. ولكنها لم تسمعه بمثل هذا الصوت الحنون .. أهى حالة نفسية ..؟ وتندت عيناها بالدموع .. أى صوت ؟ إنه كروان يغنى فى الجنة . ظلت جالسة فى مكانها ساكنة خاشعة .. حتى انتهت التلاوة وانقطع الصوت . وأحست بالحيوية والانتعاش .. وتبدلت تبدلا تاما .. ودخل قلبها الإيمان بالحياة ". النساء زينة الحياة ، وكل شىء ينسى معهن ، والمرأة المدركة الإدراك الصحيح للحياة ، تحاول بكل وسيلة أن تجـعل بيتها المكان المريح الذى يضم الزوج ، بإدخـال السرور على قلبه لينس ما كابده من شقاء وتعب ، فهو عنـد عودته ويراها فى أبدع زينـة وآنق ملبس ، يحس براحـة لذيذة ، ويشعر بأنه شغل تفكـيرها واحتـل شعورها ، وأن جذوره متأصلة فيها ، فتجعله أكثر إقبالا على الحياة : "وأعدت مائدة الغداء بعناية فائقة .. أعدت طبق زوجها .. ووضعت أدوات المائدة الخاصة به . وجلست تأكل وكأنه أمامها .. يحـدثها حديثـه المألوف .. وبعد ساعة دخلت الحمام .. وخرجـت معطرة ، محلولة الشعر ، بادية النضـارة .. وجلست فى غرفتها أمام المرآة تتزين وتمشط شعرها . ثم انتقت أجمل ثيابها .. ثوبا مخمليا يبرز تقاطيع جسدها وكل ما فيه من فتنة ..... ثم لبست حذاءها ووقفت أمام المرآة ..... ورأت الثوب المخمـلى قد حدد خطوط جسمها .. الوركين .. والخصر .. وبروز الصدر ." تشعر المـرأة بإحسـاس باطنى لاتعـرف مصـدره ولا مأتاه ، بتوقع قدوم زوجها الغائب فى كل لحظة ، وحينما تراه ، ترد إليها روحها ، وتخرج سعادتها من أعماق قلبـها ، تعـبر له من أقصر طريق عما تكنه جوارحها ويحـمله قلبها ، ليعرف قيمة حياته ووجوده بجوارها : "وجلست فى الشرفة تتطلع إلى الطريق ، وفى الليل كانت جالسة فى الصالة نائمة وعلى خديها الدموع ، بعد أن برحها الانتظار الطويل .. وصحت على حركته وهو يفتح الباب .. وجرت إليه وتعلقت بعنقه وارتمت على صدره وضغطت ، وأعدت مائدة العشاء .." تريد الزوجة وتحلم بأن يكون زوجها شجاعا ، يعبر عن شعورها وعن خلجاتها وما تعجز هى عن فعله ، ولا تغفر له إن كان جبانا : "وبدت غير منشرحة .. وعلا وجهها الامتعاض ..... فهو لم يحارب كما كانت ترغب ..! وتتمنى .. أين بسالته .. وأين شجاعته ..؟ هل انتقم لأطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبى زعبل وسكان السويس .. والإسماعيلية وبور سعيد .. الآمنين ..؟ هل انتقم لهؤلاء ..؟ وبعد نصف الليل كانت بجواره على السرير .. فى قميص النوم .. نصف يقظة .. وكان هو قد استغرق فى النعاس وانكشف عنه الغطاء .. فأخذت تضمه عليه ، ولامست يدها شيئا غريبا تحت "الفانلة" ورفعت الفانلة وكشفته .. فتبينت جرحا بليغا فى الكتف قد تغطى بالضمادات .. وربط باحكام . وضمته إليها فى عنف .. وجنون .." ****** قصة الحارس: ملخص القصة: سقطت "لينا عازر" بملابسها العسكرية بين المزارع فى منفلوط فى اليوم التاسع من أكتوبر ، بعد أن أسقطت طائرتها الاستطلاعية بقذيفة ، واستدعى ضابط الأمن من بيته على عجل وهو مريض ، لمرافقتها فى السفر إلى المكان الذى يتجمع فيه الأسرى ، لأنه يجيد التحدث بالعبرية التى تعلمها من جيرانه فى حارة اليهود . وعاملها الحارس بالحسنى من أول لحظة رآها ، فمنع عنها سباب النساء وغضب الجموع التى أحاطت بها ، ونقلت إلى المركز ، وجىء بمدرسة من المنطقة لتفتيشها ، ووضعـت أشياءها فى حرز ، ولم يفتشها أحد من رجال الأمن ، ونقلت بسرعة إلى القطار فى الليل . وسافر بها فى ديوان صغير مخصص للسيدات يحتوى على كنبة جلدية واحدة ، فى آخر عربة من القطار بعيدا عن الركاب ، وكان الحارس تعبا ولم ينم منذ يومين ، وخشى أن يغلبه النعاس فتهرب ، فأخذ يفتح عينبه بصعوبة . وكانت جائعة ، فاشترى لها الطعام والشراب عندما وقف القطار فى محطة "القوصية"، ووضع الحرز بجانبه وابتعد عنها ليكون قريبا من الباب ، وليفسح لها المكان لتنـام ، وتكورت بجانبـه بعد أن تعشت وأغمضت عينيها ، وظل متيقظا وهو يغالب النوم ويفتح عينيه بقسوة بعد كل غفوة ، ويتلفت فيراها فى مكانها . ويحلم بأنها نزلت من القطار وهربت ، ويقدم للمحاكمة ، ويحكم عليه بالسجن . وكانت الأسيرة تريد الذهاب إلى دورة الميـاه ، فذهب معها ، وهناك طلب منها ترك الباب نصف مفتوح ، ووقف فى الخارج ، ولكنه وجد نفسه يصارع رغبات لاقبل له بها ، فحرك الباب وأغلقه عليها ، ووقف فى خـوف ورعـب وينضح عرقا خشية أن تكون انتحرت أو ألقت نفسها من الشباك بعد أن غابت فى الداخل . وخرجت وحدقت فى وجهه ، ومضت إلى مكانها ، واستغرقت فى النوم . ولا يدرى أكان نائما أم صاحيا حينما فتح عينيه على حركة وقوف القطار ولم يجدها ، فاندفع نحو الباب وبيده الحرز ولمحها وهى تجرى بأقصى سرعتها متخطية القضبان فى اتجاه حقل ذرة . ووقف على رأس الغيط ، ولم يستعمل جهاز اللاسلكى ويطلـب النجدة خشية الفضيحة ، ولكنه أخرج مسدسه ، وأطلق ثلاث طلقات إلى أعلا وطلقة فى مستوى رأسه ، وسمعها تصرخ بالعبرية بأن يكف عن اطلاق النار . وأوثق يديها من الخلف وخرج بها فى الظلمة إلى المحطة . ******* الرؤية الفلسفية: يقدم الراوى فى هذه القصة ، الصراع الأزلى الموجود فى هذه الحياة منذ بدء الخليقة ، الصراع بين الخير والشر ، فالشر دفين فى النفس منذ عهد قابيل وهابيل ، وسيبقى الصراع أبديا إلى قيام الساعة ، وتلك إرادة الله وحكمته . ففى الحياة أناس أكثر شرا من الأبالسة وألعن من الشياطين ، فبدلا من أن يجملوا الحياة ويجعلونها أكثر نضارة يتحركون بكل ضراوة ويمزقونها ، وما دام الخير موجودا فالدنيا باقية ، وبالخير نقاوم كل عناصر الشر بكل ما أعطانا الله من قوة حتى نقضى عليه مهما كانت ضراوته . فالبدوى يصـور لنا النـوازع الخيرة والشريرة فى داخل النفس البشرية ، بين شخصيتين ، شخصية خيرة للضابط المصرى صافى النفس والقلب والذى لم تلوث طباعه وأخلاقه شرور الحياة ، والذى يملك القدرة على السيطرة على أعصابه ، كدلالة طيبة على الطيبة ، والتمسك بالقيم ، وشخصية الأسيرة ، التى تمثل روح الشر الخبيثة التى تجرى فى دمها ، وتمثل الجبروت والإجرام ، والتى جردها المجتمع اليهودى من إنسانيتها ، وسـلب نفسها وقلبها وأعادها إلى وحشيتها الأولى ، وجاءت تلقى قنابل الخراب والدمار من السماء ، لتمزق حياة شعب فى أشد لحظات أمنه ، شعب يحب السلام والحرية ، ولا يعرف روح الشر التى تحركهم . وقد جعل الراوى بطل قصته بطلا إنسانيا ، وحافظ على روحه الطيبة وسماحته المتأصلة فى داخل نفسه ، ولم يجعله عرضة للأذى ، رغم ما وقع فيه من خطأ . يقـدم الراوى من خـلال علاقة الحارس بالأسيرة نموذجا للخير المطلق فى الإنسان .. فيقول : "عاملتها بالحسنى من أول لحظة .. ومنعت عنها سباب النسـاء ، ولعنة جنسها ، وغضب الجموع التى أحاطت بها . فإن شخصا يسقط فى المزارع وبين الفلاحين بعد أن كان يحلق ليرميهم بقنابل الدمار له فى نظرهم حكم واحد .. الموت .. وقد نجيتها ." "كان الحرز الذى وضعنا فيه أشياءها لا يزال بجـانبى فألصقـته بالمسند واتكأت عليه .. وابتـعدت عنها حتى أصبحت قريبا من باب الديوان لأفسح لها مكانا لتنام .." وحينما قالت له الأسيرة أنها جائعة .. يقول الراوى : "ورأيت أن أشترى لها طعاما فى المحطة التالية ، أو فى "ديروط" ..... واشتريت الطعام الذى يكفينا". "وفى محطة "ديروط" ناولتها زجاجة من العصير ، وكنت أود أن أشرب القهوة .. ولكنى لم أجدها فى داخل المحطة .." وتفرست فى وجهها الحزين وكل كيانها المرتجف .. كانت خائرة القوى .. أتخاف من المجهول .. بعد أن ضاعت الأحلام .. وأصبحت تواجه الحقيقة المرة .." "وأحسست بالقطار وهو يسير .. وملت عليها فوجدت جلستها غير مريحة فعدلت وضع رجليها ، وكانت مستغرقة فى النوم". "أدركت بجـلاء ، وأنا أحدق فى هذا الكائن ، أن هناك من يمتص الحياة من هذا الجسد البشرى .. أخذت أتفرس فى ملامحها دون حركة وأنا واقع تحت وطأة المشاعر التى كانت تفيض بها نفسى .. وأدركت فى تلك اللحظة الكثير مما تفعله إسرائيل برجالها ونسائها ، فهذه التى ولدت لتكون زوجـة أو مدرسـة أو طبيبة أو عاملة نافعة لجنسها .. حولوها إلى شيطانة للدمار". "كانت أمـامى بكل حقدها وما فى نفسها من خساسة .. ولكن مـاذا أفعل وأنا الرجل المسلح أمام امرأة قد جردتها من السلاح". ويقـدم الراوى فى الفقرات التـالية صـور من روح الشر الخبيثة ، التى تجرى فى دم الأسيرة ، والتى تمثل الجبروت والإجرام .. فيقول : "وبدا عليها السهوم ولعلها تذكرت ما فعلوه هم بالأسرى المصريين فى الحرب الماضية". "وساعدنا السكون الشامل على أن نسمع صوت الراديو ، وكان يذيع انتصارات الجيش المصرى على طول جبهة سيناء . وقرأت "لينا" الانتصار على وجهى فامتعضت وبدا عليها الذبول لقد أطلق الراديو مشاعر كانت فى عـداء صريح مع عقلها وتفكيرها .. كانت تتوقع انتصار جيشهم ولم تكن تتوقع هزيمة كهذه أبدا وأصيبت بخيبة أمل مرة .. وغدت سحنتها مخيفة ، ضاعت منها كل علائم الأنثى". "ورأيت فى وجهها أطفال مدرسة بحر البقر .. وعمال أبو زعبل .. وسكان بور سعيد .. والإسماعيلية .. والسويس الآمنين فى بيوتهم ، كل هؤلاء كانوا مدنيين عزل .. لم يطلقوا رصـاصة ولم يصوبوا مدفعا فى صدر أحد .. كانوا يعيشون فى سلام للحياة .. فقصفوا أعمارهم بقنابل الدمار .. إن الحقد يعشعش ويبيض فى قلوبهم ..". ويبين البدوى الصراع بين الخير والشر إذا اجتمعا فى مكان واحد ، وخوف كل منهما من الآخر ، والعلاقة المتوترة بين الحارس والأسيرة .. فى الفقرات الآتية : "وكحارس لاتفوته ثغرة أخذت على ضوء القمر ، وضوء البطارية التى معى ، أدور بعينى فى هذا الجزء الخلفى من العربة ". "وأصبحت مسؤلا عنها وحدى حتى أصل بها إلى المكان المعين لنا . وحدث كل شىء بسرعة رهيـبة حتى أننى لم استرد أنفاسى وكنت فى أشد حـالات التعب إذ لم أنم منذ يومين ، وخشيت أن يغلبنى النعاس فتهرب ، كنت فى خوف موصول من حدوث ذلك .. ولهذا أخذت أفتح عينى جيدا .." "من الذى يستطيع أن يتبين من ملامح المرأة ما تبطن من خفايا نفسها .." "خفضت رأسها وراحت تنظر إلى أرضية العربة .. وجعلنى هذا أراقبها بحذر ولا تغفل عينى عنها لحظة". "خطر فى ذهنى خاطر .. أن أحـدا من رجـال الأمن لم يفتشها فى المركز .. واستدعى لتفتيشها مدرسة فى المنطقة .. فتشـتها فى غرفة مغلقة .. ولكن هل فتشتها هذه المدرسة كما يجب ..... ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ". "وبعد منتصف الليل وفى الساعات التى اعتاد أن ينام فيها الناس بقيت مستيقظا ، وفى أشد حالات الانتباه واليقظة وأصبحت أغالب النوم بصعوبة بالغة .. فقد كنت فى أشد حالات التعب والارهاق البدنى وأفتح عينى بصعوبة .. وأحدق بجانب دائما .. وأظل جالسا فى خط مستقيم .. لأنى اذا اضطجعت إلى الوراء سيغلبنى النعاس ، كان شعورى بالمسؤلية الضخمة مضاعفا .. ورغم الجهد النفسى الذى بذلته .. ولكن النعاس كان يغلبنى على فترات قصيرة جدا وأنا جالس وكنت أفتح عينى بقسوة بعد كل غفوة .. وأتلفت فأراها مكانها .. فأطمئن .. ولكنى أعود للنوم .. وأحلم .. بأنها نزلت من القطار .. وتخطت القضبان وهربت وقدمت للمحاكمة ، وحكم على بالسجن ، ويحدث كل هذا سريعا .. ولكن بوضوح .. فى شريط الرؤية الذى يدور .. وصرخت .." ويرسم البدوى صورة بصريه للأسيرة أثناء قيامه بتفتيشها ، وحالته النفسية أثناءها ، وما صوره لها خيالها وسذاجتها ، من أنها تستطيع أن تسيطر عليه ، وكأن جسدها شفيعا لها للهرب .. ولا يعدو خيالها هذا من أن يكون أوهام تسبح فى عقل مرعوب .. فيقول : "ووقفت وفتشتها بدقة متناهية ، وهى تنظر إلى بدلال .. وعجبت وأنا أضع يدى على لحمها من كونى لم أشعر بأية عاطفة نحوها .. وهى رشيقة الجسم وتعد جميلة فى النساء .. كانت تقاطيع جسدها بارزة من خلال القماش الكتانى المشدود ، وكأن يداى تتحركان على تمثال من الشمع الجامد .. وربما كانت تتصور أننى أتلذذ من هذه الحركة لأنى فتشت الجيوب وقلبتها .. ولمست صدرها وفخذيها ، تحـت القميص وفوقه . ربما كانت تتصور أن فى الأمر متـعة لأنها طالـت .. ولكن إحساسى كرجل كان يغطيه دخان الحرب ويغلفه ، وكنت جامدا وأى ضعف من جانبى معناه ضياعى كرجل .. وكانت هذه اللحظة هى سلاحها الوحيد الذى تحمله ضدى .. فلما رأت جمودى .. تحولت سحنتها فجأة من دلال الأنثى الناعم إلى سحنة نمرة .." ولم تيأس الأسيرة فحاولت مرة ثانية ، متعمدة ، واستخدمت ذكاءها وقوة أعصابها لإيقاع الحارس فى الفخ الذى نصبته له .. وقد نسيت أن شرف الإنسان هو أثمن شىء يحوزه فى كل العصور .. ويقول الراوى : "قالت بلهجة حزينة .. لما وجدتنى أرفع رأسى : ـ أريدأن أذهب الى دورة المياه.. وفتحت باب الديوان ، ودفعتها أمـامى إلى الخـلف فى الضـوء الشاحب والقطار يجرى .. وكانت دورة المياه ملاصقة لنا تماما فلم تتحرك أكثر من خطوتين فى هذا الظلام .. وفتحت لها الباب ودخلت ، وقلت لها بصوت آمر : -ـ دعى الباب نصف مفتوح .. فلم ترد .. وتركت الباب نصف مفتوح .. ووقفت نصف دقيقة فى الظلام ، أصارع رغبات لا قبل لمثلى بها .. ثم حركت الأكرة وأغلقت عليها الباب .. ووقفت أنضح عرقا .. وربما انتحرت أو القت بنفسها من النافذة فماذا يكون مصيرى .. وطال مكوثها بالداخل .. وأنا فى الخارج فى صراع ورعب ، ثم خرجت فوجدتنى على الباب فحدقت فى وجهى فى الظلام ، ثم مضت لا تلوى على شىء ". ويبين حاجـة النفس البشرية إلى الجـمال ، وبغرس الورود مكان الشوك ، للاستمتاع بالطبيعة ومباهجها، وما تحدثه من أثر فى داخل الإنسان ، والسعى وراء الخير والجمال ، وليس للتخريب والتدمير .. فيقول : "شاهدت فى مجلة أجنبية منذ اسبوع فقط صورة لأسرة رومانية تجلس فى حديقة بين الورود والرياحين ، أسرة وديعة مسالمة .. فلماذا تختلفون أنتم عن جميع أجناس البشر وتريدون تخريب العالم" ولم ينس البـدوى أن يرسم بقلمه صـورة بصرية للأسيرة بعد سقوطها بالمظلة من الطائرة .. فيقول : "ورجعت إليها انوثتها ، فأخذت تسوى شعرها ، وتصـلح من ردائها العسكرى .. فعندما هوت وجرت لما طاردها الفلاحون تعثرت وسقطت على الأرض بين الزراعات المروية فاتسخت حلتها ، وعلق بها التراب والطين .. فخلعت سترتها وأخذت تنظفها .. وبدا لحمها من تحت القميص الأخضر متسخا كأن به آثارجرح .." ويبين البدوى حلاوة الروح وحب الحياة بعد أن يقع الشريرفى الفخ ، ويحس بأن أمامه قوة أكبر منه لا قبل له بردها أو صدها .. فيقول : "فتحت عينى على حركة وقوف القطار فلم أجدها فى مكانها وارتعدت وقد مستنى فجأة حالة رعب قاتل .. ولكنى لم أفقد عقلى .. وتحسست بيدى الحرز فألفيته فى مكانه ، فتناولته بسرعة واندفعت من الباب ، وكانت هى قد تركتـه مفتوحا خشـية أن حركـة إغلاقه ستوقظنى ..... كانت تجـرى بأقصى سرعتـها فى طريق زراعى مترب بجانب زراعات البرسيم والخضر وفهمت قصدها فقد لمحت حقل ذرة .. وكان فى نظرها نعم المكان للاختفاء .. وجـرت واندفعت إلى الحقل وغابت عن بصرى وأخفاها الحقل والظلام معا". وقد حافظ البدوى على الروح الطيبة للحارس وسماحـته ، فلم يجعله عرضة للأذى رغم ما وقع فيه من خطأ ، حينما غفلـت عينيه وهربت الأسيرة .. فيقول : "وجرت واندفعت إلى الحقل ، وغابت عن بصرى ، وأخفاها الحقل والظلام معا .. وصعب على أن أصف إحساساتى فى تلك اللحظة ، فالشعور الذى انتـابنى إذ ذاك لا يمكن وصـفه . لا يمكن تسميـته بالخـوف ولا بالقلق ولا بالعار على ضابط مصرى هربت منه فتاة إسرائيلية ، هربت منه أسيرة وهو مسلح وهى عزلاء .. لابد أنها أسرته بمفاتنها فى الليل والظلام والوحدة فضعف واستسلم لها واستجاب لرغبتها .. وأطلقها تعيث فى الأرض فسادا ، أطلق جاسوسة تتجسس فى البلاد ونحن فى حالة حرب . والمحاكمة العسكرية .. والسجن والعار .. دارت كل هذه الخواطر فى رأسى .. وأنا أقف على رأس الغيط .. مسمرا ملتاعا .. واجهت ظاهرة غريبة وأصبح الزمان والمكان لاوجود لهما بالنسبة لى .. كان معى جهاز إرسال لاسلكى ، ولكننى لم استعمله ولم أطلب الاستعانة ولا النجدة .. خشية الفضيحة . ووقفت وحدى كأنما أنا فى الدنيا بأجمعها الذى يواجه وحده تحدى القدر .. ودخلت الحقـل اتخطى "الحوض" والمجراة .. إلى أين تمضى هذه الملعونة فى العتمة .. ولم أوغل كثيرا .. ورفعت المسدس وأطلقت ثلاث طلقات إلى أعلى وطلقة إلى مستوى رأسى وسمعت بعد هذا صرخة .. وصوتها وهى تطلب منى بالعبرية أن أكف عن إطلاق النار .. ووجدتها مبطوحة على بطنها فى قناة جافة وواضعة ذراعيها ويديها على رأسها .. وأوثقت يديها من الخلف .. وخرجت بها ." " وسمعت صفير القطار من بعيد .. وأخذت أستعد لجولة أخرى معها فى هذا الليل الساكن ". ***** المراجع من قصص محمود البدوى عن حرب أكتوبر 1973: 1ـ الحــارس ... نشرت بمجــلة الهـــلال ينـاير 1974 وأعيد نشرها بمجموعة الظرف المغلق 2ـ الرســالة ... نشرت بمجــلة الثقـــافة ينـاير 1974 وأعيد نشرها بمجموعة عودة الابن الضال 3ـ القـطار الانسيابى ... نشرت بمجلة الثقـافة نوفمـبر 1974 وأعيد نشرها بمجموعة عودة الابن الضال 4ـ الزورق المقـلوب ... نشرت بمجـلة الثـقافة ديسمبر 1976 وأعيد نشرها بمجموعة صورة فى الجدار 5ـ بائـع العطـور ... نشرت بمجـلة الثــقافة يوليـو 1978 وأعيد نشرها بمجموعة الظرف المغلق 6ـ الانســان ... نشرت بصحيـفة مــايو 15|3|1982 وأعيد نشرها بمجموعة قصص قصيرة السيد الأستاذ الأديب رئيس التحرير مع خالص التحية على عبد اللطيف القاهرة
#على_عبد_اللطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
Yal? Capk?n?.. مسلسل طائر الرفراف الحلقة 86 مترجمة للعربية d
...
-
دورة ثانية لمعرض كتاب الطفل والشباب بالدار البيضاء بمشاركة 2
...
-
كاظم الساهر وجورج وسوف يفتتحان مهرجان -دبي للتسوق- برسالة سل
...
-
-بقايا رغوة- لجهاد الرنتيسي.. رواية تجريبية تتأمل الهجرة وال
...
-
بعد تحقيق نجاح الجزء الأول “موعد نزول فيلم الحريفة 2 في السي
...
-
بيع رسالة للموسيقار النمساوي موزارت بـ440 ألف يورو في مزاد ع
...
-
السياف
-
“تابع كل الجديد” تردد قناة روتانا سينما الجديد 2024 علي جميع
...
-
مصر.. الفنانة مايان السيد تعلق على مشاهدها بمسلسل -ساعته وتا
...
-
الروائية الكورية الجنوبية الفائزة بنوبل للآداب -مصدومة- من ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|