عمر العبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 969 - 2004 / 9 / 27 - 11:32
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
إن الإجابة على هذا السؤال تتوقف على رؤية أوروبا للعولمة التي يندرج مشروعها في إطارها، لكن هل تختلف الرؤية الأوروبية عن مشروع العولمة الليبرالية بقيادة أمريكا؟
إن الأسباب التي ضمنت للولايات المتحدة الهيمنة عقب الحرب العالمية الثانية قد تآكلت في المجال الاقتصادي حتى لم يعد لها وجود، فأوروبا وكذلك اليابان أصبحت قوة اقتصادية كسبت قدرة تنافسية في مواجهة الولايات المتحدة، وصارت قادرة على أن تسعى إلى تحقيق مصالحها،ولو تعارضت في هذا الإطار مع خطط واشنطن،وبالتالي يقال أن المرحلة المقبلة سوف تتصف باحتداد المنافسة بين قطبين "أمريكي وأوروبي".
ولكن هناك تحفظات على هذا الطرح المبسط، فالولايات المتحدة ولو أنها فقدت بالفعل أسبقيتها الاقتصادية المطلقة التي اتصفت بها عقب الحرب العالمية الثانية، فما زالت تحتفظ بموقع عسكري لا مقابل له على الصعيد الأوروبي،كما أن دبلوماسية الولايات المتحدة قد أدركت تماما فعالية هذا السلاح،من أجل التواء المنافسة الاقتصادية لمصلحتها كما سنرى:
إن التوظيف الماهر لهذا السلاح- من خلال التدخل المباشر في شؤون أوروبا- قد أتى بثماره على الأقل في الأجل القصير، فقد أدى إلى احتداد التناقضات داخل أوربا من جهة، وبين المراكز الثلاثة المتحالفة (أمريكا وأوربا واليابان) وبين الأطراف ولا سيما الصف الأول الذي تنتمي إليه روسيا والصين والهند من جهة ثانية، وفي هذا الإطار يقول هنري كيسنجر:"إن العولمة ليست إلا الاسم السري للهيمنة الأمريكية" أو بمعنى آخر لن تكون هناك عولمة اقتصادية ليبرالية دون عسكرة بقيادة واشنطن.
وتقوم هذه الاستراتيجية العسكرية- السياسية على أربعة مبادئ وهي:
أولا:إحلال الناتو محل الأمم المتحدة بصفتها مؤسسة مسؤولة عن إدارة السياسة العالمية وضمان السلام.
ثانيا:تكريس التناقضات داخل أوربا من أجل إخضاعها لمشروع واشنطن.
ثالثا:منهج عسكري يكرس "الميزة"التي تستفيد الولايات المتحدة منها وهي القذف الجوي دون التعرض للحد الأدنى من الخطر والامتناع عن إنزال قوات عسكرية برية أمريكية،وقد تقوم القوات الأوربية المرؤوسة بهذا الدور إن لزم الأمر،تليها القوات الأمريكية .
رابعا:توظيف قضايا الديموقراطية و"حقوق الشعوب" لمصلحة الخطة الأمريكية، وذلك ما دامت الظروف قد أتاحت استغلالها في خطاب موجه إلى الرأي العام.
إن لهذه الخيارات الواضحة نتائج بالغة الضرر،فهي أساليب تلغي كل مصداقية للخطاب من أجل الديموقراطية وحقوق الشعوب بسبب اعتماده على سياسة "الكيل بمكيالين"،فهناك شعوب يجب أن تحترم حقوقها مثل شعب كوسوفو،وهناك شعوب أخرى لا حق لها مثل الفلسطينيين وأكراد تركيا...الخ. وللأسف الشديد لا يُرى أن هناك ما يشير إلى تبلور مواقف أوروبية سياسية موحدة غير متماشية مع الخطة الأمريكية إذا استثنينا تحالف فرنسا وألمانيا وروسيا فيما يخص الحرب على العراق.
إن المشروع الأوروبي لن يكون قادراً على تحدي الولايات المتحدة إلا إذا اكتسب مضمونا اجتماعيا تقدميا، أي إلا إذا تطور ميزان القوى قي أوروبا لصالح قوى اجتماعية راديكالية ،هذا هو الشرط الذي لا مفر منه لكي يندرج المشروع الأوربي في تطلع يسعى لبناء عالم متعدد القطبية بالمعنى الصحيح،فإذا توافر هذا الشرط لاستطعنا أن نتصور مواقف أخرى من قبل أوروبا في مواجهة روسيا والصين العالم الثالث بشكل عام العربي والأفريقي بشكل خاص،أقصد مواقف تنبع من تفاهم ودي،مبني على احترام استقلالية البلاد المذكورة تحل محل المواقف العدوانية السائدة في ظل الخضوع للمشروع الأمريكي.
لكن الطريق للوصول إلى هذه الرؤية إن جازت تسميتها لا تزال طويلة، على الرغم من أنه احتمال موجود، بسبب وجود موروثات تاريخية إنسانية واشتراكية في أوروبا لا مثيل لها في أمريكا الشمالية.
ولعل البعض وفي ظل القوة المتغطرسة للولايات المتحدة اليوم يصل إلى نتيجة بالغة التشاؤم وهي أن الهيمنة الأمريكية لن تقهر أبدا.
ولكن نقاط الضعف في القوة الأمريكية اليوم أصبحت واضحة تماماً، فهناك الموقف الشاذ من الجمهور الأمريكي الذي يقبل الحرب طالما أن أولاده لا يتعرضون لخطر القتل، وهذا الموقف يشل استراتيجية واشنطن ويجعلها منوطة بمشاركة قوى حليفة مرؤوسة يطلب منها القيام "بالعمل القذر".
ثم هناك الوضع المالي المزعزع للاقتصاد الأمريكي الذي يتسم بالاعتماد على التمويل الخارجي اعتمادا كاملا، يعود انعدام قدرته على توفير حد أدنى من الادخار إلى الاستهلاك الخاص والعام (يشمل النفقات العسكرية)الذي يمتص الدخل القومي بالكامل، وهذا الوضع يجعل استمرار وتثبيت الهيمنة الأمريكية أمرا مستحيلا.
وفي مواجهة هذا النمط من العولمة العسكرية فإن المطلوب اليوم العمل من اجل بناء حركة عالمية تسعى لمواجهة عولمة رأس المال بقيادة الولايات المتحدة.تكون دول الجنوب في مركز اهتماماتها.
كما أن تعاوناً بين الشمال والجنوب لن يكون مؤثراً على تطور هذه البلدان ما لم يكن هناك مشروع لدول الجنوب يحمل إمكانية خروج هذه البلدان من تخلفها. مشروع متعاون مع المشروع الأوروبي الساعي إلى الاستقلال عن المشروع الأمريكي والهيمنة الأمريكية.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟