أنور العمر
الحوار المتمدن-العدد: 965 - 2004 / 9 / 23 - 09:06
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
مازلت أذكر صورته حتى الآن وكأنه غادرني البارحة: في يده حقيبة "الأركيلة" التي صار يدمنها في الفترة الأخيرة، وكرشه الذي بدأ يكبر أيضاً في الفترة الأخيرة رغم إصراره الدائم على أن جسمه لم يتغير وأن وزنه لم يزدد.
كان محمد عرب محط أنظار الجميع ما إن يدخل المقصف المركزي لكلية الطب في جامعة حلب التي تخرج منها العام الماضي ويكمل فيها دراساته العليا قبل أن يفصل من الجامعة في أواخر آذار الماضي. ما إن يدخل المقصف حتى تتوجه الأنظار له، وهو يشير بحركاته الانفعالية دائماً وصوته الخشن المرتفع الذي كان يطغى بعلوه وسرعة كلامه على كل من يتحاور معه ولحيته الكثيفة وجبهته العريضة التي كان تعطيه مظهراً كاريزمياً طالما كان محط مداعبة وسخرية من أصدقائه المقربين.
محمد عرب شاب تعرف على الحياة من خلال ذاته (إحدى أكبر انتقاداتي له أنه كان ذاتياً جداً في فهم الأمور مما أدى إلى صعوبة كبيرة في فهم تحركاته وأرائه من قبل الآخرين) فاكتشف على حد قوله أن السعادة في الحياة لا تقاس بما تحققه من منجزات بل بما تناضل من أجله من أهداف. كنت أختلس النظر إلى قسمات وجهه وكلماته السريعة المبلولة باللعاب تتدفق من غزيرة من فمه، وهو يشرح كيف أن الإنسان الذي لا يناضل من أجل حريته لا يستحق أن يمنح ذلك اللقب.
تعرف محمد عرب إلى معظم من حوله بشكل غير اعتيادي، فمعظم من عرفهم كان قد دعاهم مسبقاً إلى حوار حول موضوع ما، أقصد حواراً مبرمجاً محدد المحاور و الأهداف، ومعظم من عرفهم تربطه بهم علاقة "شغل" كما كان يسميها، والتي تعني ببساطة نشاطاً طلابياً يتراوح بين توزيع البروشورات حول مناسبات وطنية معينة إلى حوارات وندوات إلى اعتصامات حول قضايا وطنية بدأت تنحو منحى أكثر قرباً من القضايا الداخلية في الفترة الأخيرة.
محمد عرب – سجين حالي ومنذ حوالي شهرين في أحد فروع الأمن في دمشق – كان يؤمن ببساطة أن طريق النهضة في بلده يمر من انفتاح سياسي وحريات سياسية تأتي في مقدمتها الحريات الطلابية، فقام مع مجموعة من الطلاب في جامعة حلب بمجموعة من النشاطات التي تبنت عنوان الديمقراطية في سورية كمدخل إلى بناء وطن جديد للسوريين، يكون فيه المواطن محور الحياة وطن يحترم فيه الإنسان وحريته.
في الحقيقة إن من يعرف محمد جيداً يدرك مدى حبه للحياة. لقد كان يعرف كيف "ينبسط" كما كان يقول هو نفسه. ورغم أن أمور "الشغل" كانت تأخذ حجماً كبيراً من وقته إلا أنه بالمقابل كان يجد متسعاً جيداً لنفسه بين أشرطة الكاسيت وأفلام السينما التي كان مولعاً بها جداً، خصوصاً ما كان يسميها "أفلام بتعبي الراس"، وكان يقصد المقولة الكامنة وراء كل فيلم.
يصعب كذلك الحديث عن محمد المولود في حارة شعبية حلبية دون أن تتطرق إلى احتفالاته الطقسية التي لم يكن يستطيع التنازل عنها بعد كل اعتصام أو نشاط ناجح. فالأركيلة والمعسل، ثم بالخصوص صباح فخري الذي لا يمكن أن تمر سهرة إلا ويكون صوته قد ملأ الأسماع، وما إن يصل الشريط إلى الأغاني التي كان يحبها كثيرا حتى يترك أركيلته ويبدأ بالرقص الحلبي "ع التقيل"، بحركات مدروسة يدعي أنها صحيحة تماماً واحترافية، وهكذا حتى يتعب فيجلس من جديد ليبدأ الكلام في "الشغل" الذي كان يبدو أنه لا ينتهي أبداً.
كان متكتماً جداً حول علاقاته العاطفية إلا لمن يخمن أنه سيفهم ما سيقوله عنها. كان حبه صعباً، كما كان يقول، لكنه كان بسيطاً للغاية ولا ينسجم أحياناً مع شخصيته المركبة. ولعل السجن وضع نقطة الختام لعلاقة كانت تسير اصلا نحو النهاية.
لقد كان محمد لا يفرق بين الحب و"الشغل"، ويرى أن الحب نضال والتزام فكري قبل كل شيء. ولذلك كان يرى أنه "من الصعب جداً أن أجد ما أبحث عنه". إلا أن السلام النفسي والتقدم الفكري المستمر والتغير الدائم كانت العناوين العريضة للحب عنده كما قال لي مرة.
اعتقل محمد عرب في 25 نيسان الماضي مع 10 آخرين (أفرج عن 9 منهم بعد اسبوعين، وبقي هو ومهند دبس، طالب الدرسات العليا في كلية الهندسة في جامعة دمشق)على خلفية تنسيقه مع طلاب في جامعة دمشق للاعتصام احتجاجاً على فصل بعض الطلاب من الاتحاد الطلابي ومن الجامعة لاعتصامهم من أجل قضية مطلبية تتعلق بتوظيف المهندسين.
تحدث كثيرون عن اعتقاله: البعض اعتبر حماسه واندفاعه الزائدين ومحاولة إقناع الجميع برأيه وتفرده بالقرار هو السبب وراء اعتقاله، بل وحمله مسؤولية تراجع النشاط الطلابي إن حدث ذلك في المستقبل. وبعض آخر اعتبره بطلاً دفع ثمن ما جرى في جامعة حلب وتحمل المسؤولية الكبرى عنه. بعضهم يريد أن يحوله إلى رمز (خصوصاً بعد ما سمع عن إحالته إلى محكمة أمن الدولة الغنية عن الوصف في السادس والعشرين من الشهر الجاري – أيلول-). لكن معظمهم يريده أن يبقى في السجن، إما لـ"تأديبه" أو لتقديسه، أما أنا فلا أريده بطلاً ولا أريده رمزاً، أريد صديقي محمد عرب، الشاب الذي يغني ويرقص ويحب ويفشل في حبه ويتكلم رشّاً... ولا أريد إلا أن يعود إلى حياته الطبيعية، وإلى مواساته لنا وقربه من الجميع، أريد له أن يعود إلى أمه، وإلى ذلك الشغف للحياة والنظرة المتفائلة دائماً.
زميل للمعتقل الطالب محمد عرب
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟