أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - دنيز دوكلو - ارباب العمل الفاسدين والقتلة المجانين















المزيد.....


ارباب العمل الفاسدين والقتلة المجانين


دنيز دوكلو

الحوار المتمدن-العدد: 208 - 2002 / 8 / 3 - 13:17
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


 

       Denis DUCLOS

في زمن "رأسمالية الدجل" والافلاسات الاحتيالية الضخمة: انرون، ورلدكوم، اووست، تيكو، لوسنت، كزيروكس 000الخ  التي ادت الى افلاس عشرات الألوف من الموظفين ـ المساهمين، ما هي العلاقة بين "قتلة مجانين" من امثال ريتشارد دورن و"اسياد العالم" كما كانت حال جان ـ ماري ميسيه؟ على غرار "ارباب العمل المجانين" الذين حاولوا تضخيم شركاتهم حتى الانفجار، يطمح "قتلة الجموع" ايضا الى الاندماج في الآخرين من خلال عناق مجنون وقاتل. ازاء ما نشعر به من اشمئزاز وانبهار امام هذا الجنون الاجرامي، هل سنظل نقبل لوقت طويل بتجاوزات رؤساء الشركات "المعولمين" الاشبه بطائفة عالمية تعارك للسيطرة على الافراد وعلى الموارد؟


تغذت ازمة 1929 كما يذكّر جون ك. غالبريت [2] بالاستثمارات غير المعقولة.  وفي حينه كان مديرو المصارف بدأوا يرمون بأنفسهم من نوافذ ناطحات السحاب في "وول ستريت" مما اثار فضول المحللين النفسيين: هل ينتحرون غيظا ام على العكس، شأنهم شأن لاعبي القمار المدمنين الذين يفلسون محيطهم قبل ان يدمروا انفسهم، هل يختتمون جنونا تلذذوا في ان يورطوا فيه اكبر عدد من السذّج، على طريقة زعماء الطوائف الداعية الى الانتحار؟

في هذه الازمنة المضطربة، تستجيب التجاوزات الفردية للانفعالات الجماعية. وتنعكس عبر مرآة ملعونة رغبة الربح الجامحة ذات الاستهداف القاتل عند "اسياد العالم" في الاجرام الصريح لدى "القتلة المجانين" في تضخيم للنزعات الاجتماعية الى درجة الكاريكاتور المشؤوم.  هكذا تستفز الازمة الثقافية هؤلاء "القتلة المجانين" الرهيبين فتحتضن افعالهم الدموية وهم يحاولون في الوقت نفسه القضاء على مصيرهم ومصير الجمع، تماما كما يدمر ارباب العمل المضاربون ثروات الشعب ويقضون على انفسهم.

خلال عشرين عاما يمكن ايجاد صلة بين بعض الحوادث التاريخية (من اصل العشرات) التي شهدت مجازر انتحارية في اماكن عامة في كيبيك والولايات المتحدة وسويسرا وفرنسا وحديثاً في المانيا. دنيز لورتي يطلق نيران رشاشه في 8 ايار/مايو 1984 على قلعة كيبيك (على أمل ان يقتل نفسه) ثم على البرلمان الكيبيكي حيث يوقع ثلاثة قتلى. مارك ليبين يقتل 14 طالبا في مدرسة البوليتكنيك في مونتريال يوم 6 كانون الاول/ديسمبر 1989 قبل ان يطلق النار على نفسه. فريدريك ليباشر يهاجم البرلمان المحلي في زوك (14 قتيلا) يوم 28 ايلول/سبتمبر 2001 قبل ان ينتحر. ريشار ديرن يقتل 8 اعضاء في مجلس بلدية نانتير في 26 آذار/مارس 2002 ثم يرمي بنفسه من النافذة في اليوم التالي. في ايرفورت يوم 26 نيسان/ابريل 2002، يقدم روبرت شتاينهوزر على قتل 16 شخصا في مدرسته الثانوية (منهم 13 مدرسا) ثم ينتحر. وفي شرحه لدوافعه يشير شتاينهوزر صراحة الى عملية القتل المدبرة في 20 نيسان/ابريل 1999 (عيد ميلاد هتلر) والتي سقط ضحيتها 13 شخصا على يد اريك هاريس وديلان كليبولد في مدرستهما في ليتلتاون قبل ان ينتحرا.

يهاجم كل من هؤلاء "القتلة المجانين" محيطا يحبه ويكرهه في الوقت نفسه، قريباً منه ويرفضه بشدة: الجيش الكندي ثم البرلمان الاقليمي الذي مثل بالنسبة الى لورتي "صورة والده"، "عصابة انصار تحرير المرأة المتطرفين" هي التي استهدفها ليبين في الرسالة ــ الوصية التي تركها وراءه بينما اشار ليباشر الى "مافيا مقاطعة زوك" وحدد ريشار ديرن خصمه في "النخبة الصغيرة المحلية" المتمثلة في شخص رئيسة البلدية، وهي الوحيدة التي اطلق عليها النار عمدا. اهداف شتاينهاوزر هم مجموع الاساتذة، او هم ايضا مجموع التلامذة بالنسبة الى هاريس وكليبولد.

ان للقاتل المجنون علاقة بالمجموعة التي يعتدي عليها، سواء كانت لجنة ام مجلساً ام برلماناً ام صفاً دراسياً ام مؤسسة ام مدينة. فالكابورال لورتي كان "عنصرا ممتازا" في نظر رؤسائه وكان يمكن قبول مارك ليبين [3] في مدرسة البوليتكنيك، في حين أن ليباشر موظف بلدي نموذجي، وديرن مناضل في جمعيات اهلية وانسانية ويتقن لغات عدة. من جهته كان شتاينهاوزر زميل دراسة محبباً ومبرمجاً لامعاً بينما كان هاريس وكليبولد تلميذين جيدين.

بيد ان كل منهم يشكو من عدم تمتعه بقيمة اجتماعية خاصة وانه محض "شيء" يتلاعب به "الاقوياء". هكذا يجتذب العداوة التي ستكون مفجر فعلته. كي يؤكد وجوده، على "القاتل المجنون ان يتميز عن التفاهة المحيطة به، فيقرر ـ سلفا في الغالب ـ ان يعطي نفسه حجما على رأس المجموعة التي يسعى للقضاء عليها. كأن مجرد ارتكابه المجزرة يمنحه قيمة اضافية في نظر الجماعة. ففظاعة الفعل ترفع مرتكبه الى مصاف الرمز البطولي "الذي يعترف به الجميع" (بحسب قول شتاينهاوزر) ويخلص الى الموازاة التالية: ان موته الخاص يساوي مجموع موت الآخرين. واذا فشل في الانتحار يطلب الموت على يد المجتمع الذي اعتدى عليه (الزملاء العسكريون بالنسبة الى لورتي واعضاء الجماعة السياسية بالنسبة الى ديرن) [4] .

 ينقلب القاتل المصاب بهذا الجنون الى رغبة انصهار مأسوية بينه وبين الآخر، بين الفردية والمجتمع. لكن هذا الدوار ليس خاصا بـ"المجانين" كونه يمثل انبهارا بإمكان الجمع بين الجسد (الفردي) والروح (الثقافي)، وهذا ما يتوق اليه الكل.

من جهتهم، يشكل انصار العولمة المهتاجون نوعا من طائفة عالمية تطمح الى الحلول محل المجتمعات المختلفة مع رفضهم لمشروع الديموقراطية العالمية [5] وهم ليسوا في ذلك بعيدين عن ارادة الاندماج المأسوية الخاصة بالقتلة المجانين. وتشكل هذه الطائفة العالمية مجموعة جذابة ومنفرة في آن واحد، جماعة لطيفة وقاهرة تستبق الرغبات وتنظم الحاجات وتدقق في العقود وتقدم تحديدا علميا لمن هو سويّ او شاذ من الأفراد فتفرغهم من قدرتهم على التلاقي العفوي.

في زمن العولمة لم تعد الطبقة المالية تقيم في الاقتصاد بل تحتل مسرح التحكم. وهي اذ تحارب احدى العملات او تدعم نظاما مطيعا لتوجيهاتها، تؤكد سلطتها التحكمية وتتحدى الديموقراطية. وقد استفادت من التزايد الضخم للرساميل على مدى 15 عاما لتتملك قطاعات كاملة من الاقتصاد العالمي وتتحكم بباقي القطاعات من جراء قدرتها على تدبير هجمات مدمرة.

هكذا ادت حركة دخول الرساميل المضاربة وخروجها الى ضرب المكسيك (1994) وتايلاند (1997) وكوريا (1998) وروسيا (1999) والبرازيل (1999) وتركيا (2001) والارجنتين (2002)، ويدل هذا في الظاهر على فوضى الاسواق. لكن الحقيقة انه البرهان على موقع النفوذ الفعلي لمن يجهله عند اتخاذ الخيارات الاستراتيجية. انها بمثابة مطرقة كهربائية ذات مفعول جيوسياسي تدل على تسلّم مجانين جيو ـ اقتصاديين مقاليد التحكم وقد بدأ الرأي العام الواسع لتوه اكتشاف عنفهم الخفي واتقانهم فن الكذب والسلوك الاحتيالي، من انرون الى ورلدكوم مرورا بغلوبال كروسينغ وتيكو وكويست وايمكلون ولوسنت وكزيروكس، من دون ان ننسى فيفندي يونيفرسال والعديد من "الاستشاريين" من امثال ارثر اندرسن.

 تقوم السلطة المالية في الاساس على تجريد الآخرين من مالهم. وهي القادرة على التضحية بمبالغ هائلة على مدى سنوات عدة كي تعود وتربح الرهان اثر عجز الآخرين عن الاستمرار، تشبه السيدة العجوز الاميركية في فيلم لويجي كومنشيني [6] والتي تقوم في كل سنة بإفلاس احدى ضواحي نابولي البائسة في لعبة تعطي الافضلية لمن معه مبالغ اكبر من المال ليفوز في الرهان بأكمله. ومع ذلك يتقدم في كل عام لاعب ينتدبه الشعب الفقير ليخسر ما وفره على يد صورة الموت هذه. اهو سؤ طالع ام نزعة مازوشية؟ ربما جاذبية سلطة المال حيث يفضل المرء ان يضحى به على ان يتحمل فكرة عالم اكثر مساواة.

ان الواقع يتجاوز الخيال. فالسيد جان ماري ميسيه وقبل ان يقال من رئاسة فيفندي يونيفرسال، كان قد حصل على تكليف من ضحاياه الموافقين، وهم من المتذاكين الذين خدعهم من هم اكثر ثراء، وتسحرهم شعلة اللعبة الكبرى. احرق ميسيه فيها ايضا الاموال التي وضعت شرعيا في تصرفه ولكنها في الوقت نفسه ثروات صناعية وثقافية تشرف الشعوب التي انتجتها ثم حرمت منها بضربة نرد. لعبة بوكر كاذبة قامت بها بعض العائلات الدولية التي ضاربت ضد اسهم فيفندي فدفعته الى الاستقالة وتهدد الآن بتحطيم شبكة قنال +، الراعي العظيم للسينما الاوروبية كما قد تقدم على التخلي عن شركة المياه العامة افضل الشركات الفرنسية في حقل التكنولوجيا الخفيفة وذلك من اجل المحافظة على استثمارات غير مقنعة في وسائل الاعلام الاميركية.

كم من المسؤولين في فرانس تيليكوم والكاتل وارسيلور ولو كريدي ليونه ولو كريدي اغريكول وشركة بيشينه البائدة وجمبلوس، حاولوا تقليد السيد ميسيه في محاولاته للمقامرة على مستوى عال قبل ان تتعرض مؤسساتهم للسرقة والتفكيك وتوريث المكلفين في بلدانهم المختلفة شركات مدمرة وديوناً بمئات المليارات من الدولارات؟ كم من النخب المعروفة بثقافتها انزلقت في اللعبة بحماسة كلفت مواطنيها بعد كل فشل (لا مهرب منه امام تفوق السلطة المالية) المهانة والافقار؟ 

في هذه الاثناء لا نشك ابدا في انه بين عمليتي احتيال محسوبتين من اجل استدراج ساذج جديد الى طاولة اللعب القاتلة، يسخر ارباب العمل الدنيئون والمستشارون الفاسدون من هؤلاء الذين ينظمون، بعلم منهم او من دون علم، تبعية شعوبهم ونخبهم للسلطة المركزية الحقيقية. الا نشهد تناقص الوظائف الاستراتيجية المعطاة لـ"المحليين" ما ان يسيطر الرأسمال المالي الاميركي على احدى الشركات الاوروبية او الآسيوية؟

لكن في ما يتعدى سكرة السلطة ومرارتها فلنطرح السؤال الاساسي: اين الفائدة حتى من جهة الرابحين في هذه النزعة الجامحة للسيطرة على الناس والموارد؟ فعلى ماذا تحصل في نهاية المطاف السلطة المالية الفظة عندما تدمر كل ما يعترض طريقها من مهن وولاءات؟ فالبطالة تترسخ في الولايات المتحدة كما في غيرها، ويبدو "اسياد العالم" عاجزين عن اطلاق مشاريع ذات قيمة كونية. فهم المهووسون بتحويل دفق المال الى سلطات على الانسان، يعطون الافضلية للنفقات العسكرية ـ البوليسية ولا يستثمرون كفاية في المغامرة العلمية، يدمرون الطبيعة بوتيرة اسرع ويفرضون المعاناة على اعداد ضخمة من اصحاب العمل المأجور والمستهلكين المطلوب منهم تبجيل هؤلاء الاسياد، لمحض تبجيلهم لا غير.

تشير هذه المحصلة السلبية لرأسمالية سوق الاسهم (التي تحولت الى "رأسمالية الكذب") الى ما يعتمل من لاعقلانية في تفكير السيد. الا يسعى الى نقطة اللارجوع؟ الا يبحث عن النشوة في الدمار، دمار الغير اولا وفي النهاية دماره الذاتي ايضا؟ حتى المضارب المتهور جورج سوروس والمنظّر الذكي لـ"المجتمعات المفتوحة"، يؤكد ان مصير الاسواق ليس التوازن (بحسب فعل ايمان ما زال ساريا في اوساط من اعدموا البصيرة)، بل هو على العكس من ذلك، الكارثة الناتجة من التضخم الذاتي.

فلنتذكر الفرضية القائلة بأن الطبقة السياسية التي مضى عليها زمن طويل في الحكم، تهدف من خلال اخطائها المتكررة الى الفشل الكامل. أليست تلك حال النخب العالمية التي تحارب انخفاض الارباح بدل السعي الى تثمير الموارد على المدى الطويل وتبدو في ذلك تحت سحر الخسارة؟ ان الخطاب الاداري البارد الذي يوجهه المساهمون الكبار وعملاؤهم المتحكمون الى الجموع المنضبطة من اتباعهم، قد يخفي شغفا حارقا لمجاراة المخاطر بصحبة الآخرين كما "القتلة المجانين" في اندفاعتهم الاخيرة.

اما الهدف من سير الناجحين المفترضة فهو سقوط ايكار الاسطوري وموت المصارع الذي يتوق اليه المشاهدون في السيرك العالمي. ولم يقم السيد ميسيه بدور الدامج بين الانا والكوني (مثله مثل العديد من المتعصبين) الا لكي يستبق اللحظة الدرامية الوحيدة، اي عندما يبدأ الاسياد الحقيقيون كعائلة برونفمان وغيرها من اصحاب التراكم المالي العملاق، بالمضاربة ضد اسهم شركة فيفندي ليلقنوا درسا لهذا الفرنسي الصغير المتعجرف الذي جاء يلعب في فناء الكبار.

نبدو كأننا منجذبون الى لعبة واسعة نخاطر فيها بخسارة كل شيء. هل يعود السبب فقط الى ان مستشارين عديمي الاخلاق يتلاعبون بنا ام لاننا نسلّم مستقبلنا الى "المنتجات المشتقة" ذات القيمة غير الثابتة او الى صناديق مالية مضاربة متجهة الى الافلاس او لاننا ننسى ماضياً من الخيبات المتكررة (ملايين المتقاعدين الذين افلسوا قبل الحرب في اوروبا والولايات المتحدة بسبب صيغ مماثلة لتوظيف مدخراتهم)؟

اذا رفضنا الاقرار بالنزعة الانتحارية المشتركة، فمن العبث اعادة النظر في كل شيء. لماذا نحطم ما بنيناه من اجل الصالح العام: خدمات مشتركة جيدة وقدرات مهنية وتقاليد جامعية عريقة ومراكز ابحاث اساسية وتعويضات تقاعدية متينة واحترام مدني للمحرومين وترسيخ للميراث الثقافي وتوازنات دولية واستقلالية المواطنين في اوطانهم؟

من المفيد بالطبع، قلب المؤسسات المريضة بالبيروقراطية وبالانطواء الشوفيني بغية تنبيه السلطات الواثقة من نفسها بشكل مفرط. لكن الاصرار على الاصلاح الدائم يثير القلق حول الغرض التحرري من جراء ذلك. في مثابرته غير المشروطة يتحول الفكر الليبيرالي المتطرف الى ارادة منحرفة تدمر ذاتها في العمق وإن كانت تقف في خدمته افضل النخب الصارمة، اشتراكية كانت ام ليبيرالية.    

ومهما بدت نزعة الموت الراهنة والارادية غريبة فإنها تكمل المنحى الابدي في تعريض الحياة والحرية والكرامة للخطر على امل السيطرة على الغير عن طريق العنف او الحيلة الشرسة. من السيرك الروماني الى برامج "لوفت ستوري" التلفزيونية، ومن "الاهرامات المالية" الاميركية الى لعبة الكراسي الموسيقية، ترتكز صناعتنا لمأساتنا على الرغبة في التمتع بأنظمة سلطوية شاملة وعلى نزعة "الانغلاق والتدمير الذاتي" [7] .

الى جانب اعمال التمرد والثورات التحررية فلنجرؤ على التذكير بأنه ما بين المصنع وفق المنهج "التايلوري" والابتزار الحالي لفرص العمل، عاش الناس ماضياً طويلاً من المعاملة الطفولية، اظهرت ميلهم الى قبول ما لا يحتمل والاستقرار فيه احيانا. باتت القاعدة الاساسية لليبيرالية الالغاء الذاتي للمرشحين او العاملين غير الناجحين ("الحلقات الضعيفة")، وهذا يدل على نزعة سادية ــ مازوشية تتستر خلف العقلانية الاقتصادية المزعومة. ففي جميع الشركات الصناعية الكبرى ادت اللعبة الاجتماعية باسم المساهمين في السنوات الاخيرة الى نصب العداء بين الشباب والشيوخ وبين الموظفين و"الخواص" وبين الوطنيين والاجانب وحتى بين الرجال والنساء.

للوهلة الاولى يتيح الانغلاق في صراعات داخلية الحصول على عمل اكثر صرامة وبكلفة اقل. لكن التدقيق في الامر يبرز نزعة الى احتقار الذات تتخطى هذه اللذة في اضطهاد المرؤوسين والغبطة السلبية في معاناة سلوك الرؤساء. ومن غريب الصدف ان التفاضل في رفض اي نزعة فاشية يترافق عند العديد من مناضلي الليبيرالية المفرطة مع الشهية الى الدونية الثقافية (دائما ايجاد كلمة اميركية بدل عبارة من اللغة الام) والى نكران الذات (دائما اعطاء الافضلية لمستشارين "دوليين" على حساب الشركات المحلية) والخيانة (دائما افساح المجال امام مكتب ما يعج بعملاء المخابرات التابعين للدولة الكبرى كي ينقبوا في محفوظات الشركة الاكثر سرية) والوشاية (الوشاية الدائمة بأي مقاومة للسلطة) والفشل (الموافقة الدائمة على تقطيع اوصال آلة الانتاج واعادة شرائها على شكل قطع غيار على يد المستثمر المناوىء) واخيرا الشعور المتكلف بالذنب (دائما تبخيس المهنة الخاصة المعتبرة صاحبة امتياز من اجل الالتفات المرائي الى من هم "أكثر حرمانا").

ضمن هذا الاطار يثير الانحراف الهذياني لدى القوة العظمى الاميركية القلق على السلام في العالم. لكن هذا الانحراف يمثل خطرا اكبر على اميركا نفسها التي قدمت للحرية مساهمات جوهرية ورائعة احيانا. كأن مبدأين متعارضين يعتملان داخل المجتمع الاميركي العالمي: الانفتاح على الحياة المستقلة والمغامرة، الفخورة والقلقة من تجاوزات البيروقراطيين وتلك قيمة عظيمة لا يمكن أي نصير للتحرر الانساني انكارها او اهمالها، ومن جهة اخرى مثال اعلى يقوم على توضيب الاجسام (بدون جنس) والعقول (التي تعامل كعقول الاطفال) ضمن بنية تجارية واسعة تتحكم بمصير الجميع.

الى متى نطلق تهويماتنا في حق شخصية "سيد العالم" على اعتبار ان هذا الحلم الجماعاتي الليبيرالي هو عين العقل؟ متى نعي الضرورة الحيوية لوقف هذا المسار الهذياني والانتحاري؟ متى نجرؤ على اقتحام هذه "المكاتب" المعولمة حيث تعد بين لندن وهونغ كونغ مرورا بنيويورك المشاريع الآيلة الى الافلاس المنهجي للبنى الاجتماعية والجماعاتية والثقافية التي تخدم الشعوب او تدعم تحالف هذه الشعوب على قاعدة الاحترام المتبادل؟

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مدير ابحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية، باريس. من مؤلفاته Société-Monde : le temps des ruptures, La Découverte, Paris, 2002, et de Entre esprit et corps : la culture contre le suicide collectif, Anthropos, Paris,2002

[2] La crise économique de 1929 : anatomie diune catastrophe, Payot, Paris, 1989

[3] اقرأHélène Y. Meynaud, … Blanche-neige et liépine : femmes, technologies et folies î. Avec la lettre testament de Marc Lépine, Chimères, n038, printemps 2000, Paris

[4] العديد من اصحاب الجرائم المتكررة ليسوا في الواقع سوى قتلة جموع يقسطون جرائمهم في الزمن ويستهدفون فئة محددة من الاشخاص (يمثلون اجمالا صورة الام) وينتهي بهم الامر الى الانتحار او طلب الموت.

[5] كما يدل على ذلك رفض واشنطن التصديق على معاهدة محكمة الجزاء  الدولية.

[6] LiArgent de la vieille, 1972 

[7] كما كتب اندره بروتون عام 1942 في نص رائع موجه الى الطلاب الفرنسيين المقيمين في اميركا وعلى الجميع اعادة قراءته وهو بعنوان  champs des la cle, Pauvert, 1979


 



#دنيز_دوكلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - دنيز دوكلو - ارباب العمل الفاسدين والقتلة المجانين