رسميه محمد
الحوار المتمدن-العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 10:47
المحور:
اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت
بقدر ماكان سقوط جدار برلين رمز انهيار الدول الاشتراكية في وسط أوربا وشرقها درسا قاسيا, هز جميع القوى الطامحة للتقدم والحرية وبناء المجتمع الديمقراطي الجديد والمتطلعة للاشتراكية ودفعها لاستخلاص مايقوم مسيرتها ويعيد بنائها على اسس سليمة وصحيحة , وبقدر ما أطاح هذا السقوط بكل العقائد والافكار المتشددة والانظمة الدكتاتورية التي كانت تتستر وراء ماركس وتعيق كل أشكال التكيف مع الازمات المعاصرة, بقدر ماكان ذا تأثيرات سلبية (مادية ومعنوية, سياسية وفكرية) ليس على الاحزاب الشيوعية والحركات اليسارية الثورية وحسب وانما على جميع قوى التقدم الاجتماعي والتحرر الوطني , وانصار السلام والديمقراطية.(1) الازمة الراهنة للاشتراكية اذن هي أزمة عميقة لاينحصر أثرها في الاضطراب الذي أصاب الملايين من الناس في مشاعرهم وأحلامهم , واصابهم في وعيهم بل تطال النخب من الاشتراكيين , مفكريين وقادة أحزاب وأحزابا بكاملها, وتطال مشاعرهم وتطال صيغ تعاقدهم وأشكال نضالهم. وقد طرحت مع انهيار التجربة الاشتراكية قضية كبرى مثيرة للجدل والنقاش عبر عنها السؤالان الكبيران الاتيان( هل للاشتراكية مستقبل في بلداننا العربية وفي العالم .. وأي اشتراكية للمستقبل)(2) . الواقع أن البيريسترويكا السوفيتية كانت هي التي أطلقت على نطاق واسع في الثاني من الثمانينات النقاش حول اشتراكية المستقبل, غيرأن سقوط البيريسترويكا كان تعبيرا عن فشل المحاولة الاخيرة لتجديد الاشتراكية الواقعية من داخلها, وهو مااستتبع نقل النقاش الى دائرة جديدة من خلال البحث عن العوامل التي أدت الى الانهيار والسعي من أجل الاجتهاد في الاجابة عن أسئلة من نوع هل الانهيار يعود لمجرد خطأ في التطبيق أويعود الى أن التطبيق قد تم في المكان الخطأ أو أنه يعود الى قصور في النظرية نفسها واذا كان العطب يطال النظرية فما علاقة اللينينية بالانهيار, وهل شكلت اللينينية منبعا للستالينية , بل ماهي علاقة ماركس نفسه بالانظمة التي تداعت(3). وبالموقف من تفسير عملية الانهيار وكيفية التعامل مع نتائجها وخلفياتها, مع مدلولاتها وأفاقها داخل الاحزاب اليسارية, فقد تم تشخيص ثلاثة اتجاهات—1/ الاتجاه المحافظ المتسم بالركود والانشداد الى الماضي والدفاع عنه, كما لو أن شيئا من نوع ما أعتبر زلزالا,لم يحصل. 2/ الاتجاه العدمي المتسم بالليبرالية والتحلل من الالتزامات السياسية والفكرية. 3/ الاتجاه التجديدي الذي يسعى باستمرارللاقتراب من الواقع والتعامل بموضوعية مع الظواهر(4). غير أن ممثلي هذا الاتجاه رغم تميزهم أو ادعائهم التميز مازالوا غير قادرين على تجاوز الازمة, ولم يفلحوا بعد في رسم ملامح مشروع اشتراكي على أسس جديدة يكون ملهما لفعل تاريخي واسع ,يعمل على استعادة ثقة الجماهير , اذ لم تعد الجماهير تثق في أن أصحاب المشاريع الكبرى قادرون على أن يعيدوا صياغة مشاريعهم في شكل أفضل لكي يساهموا في اعادة وترشيد حركة التاريخ من جديد. هنا بالذات تكمن الازمة الراهنة التي تواجه الاشتراكية في حاضرها ومستقبلها وتواجه الاشتراكيين وتواجه كل الطامحين الى التحرر من الاستغلال والقهر الرأسماليين , من ذوي المصلحة في ذلك وهؤلاء هم الاكثرية الساحقة من البشر في كل البلدان(5) . لكن العجز عن صياغة مشروع اشتراكي جديد لايعني أن النقاش حول قضية الاشتراكية ظل يراوح في مكانه منذ انهيار التجربة الاشتراكية, فقد شهدت عملية اعادة التفكير في قضية الاشتراكية تقدما ملموسا, فمن خلال دراسة التجربة المنهارة تم التوصل الى العديد من الاستنتاجات النظرية والعملية الهامة منها— 1- لقد حصل الانهيار بفعل القصور النظري(التخلف الفكري, الركود والجمود العقائدي) والاخطاء التطبيقية(الاقتصادية والسياسية والادارية)لبناء التجربة الجديدة في التاريخ, وبفعل عمليات التخريب المتواصلة لاعدائها(الداخليين والخارجيين) التي امتدت وبضراوة متناهية, منذ انتصار ثورة أكتوبر حتى بداية التسعينات, ولم يحصل بسبب المثال الاشتراكي وقيمه النبيلة الانسانية, وما يؤمنه من عدالة اجتماعية واطلاق لقوى الانسان المبدعة, والغاء استغلال الانسان لاخيه الانسان , ومن حرية حقيقية, وتقدم على اساس أحدث منجزات العلم والتكنولوجيا, واعلى انتاجية وتنظيم. 2- أن أدوات البحث والتحليل والاستنتاج التي ارتبطت بأسم الاشتراكية القديمة لم تعد صالحة كلها اليوم للبدء بالنقاش حول ما نحن معنيون به من قضايا تتعلق بالمستقبل , في ظل هذا النوع من التطور العاصف في المعارف , وفي ظل هذا النوع من التوحش عند الرأسمال المعولم , وفي ظل هذا الحشد من التناقضات التي تترافق مع تطور الرأسمالية المعاصرة, وفي ظل كل المتغيرات التي يعجز المرء عن تحديدها وتحديد اتجاهات سيرها,بما في ذلك ما ارتبط منها بالحدث الامريكي وبتداعياته, ولذلك بدء بعض الكتاب بطرح شعار تجاوز الرأسمالية كمهمة أساسية أمام قوى التغيير ويوضح مروه أن موضوعة تجاوز الرأسمالية لاتعني الاشتراكية, في هذه المرحلة من البحث الهادف الى صياغة مشروع جديد لتغيير العالم, ولاتعني البقاء في نمط العلاقات الرأسمالية السائدة اليوم في ظل ما نطلق عليه اسم العولمة, وهي مختلفة من حيث الجوهر عن موضوعة( التطوراللا رأسمالي), التي أثبت فشلها التطور السريع للاحداث في تلك الحقبة من ستينات القرن الماضي,بل هو شعار يعبر عن مرحلة انتقالية جديدة طويلة غير مسبوفة في تاريخ البشرية(6). علما أن هذه الموضوعة قد أثارت العديد من التساؤولات في مدى صحتها من قبل بعض الباحثين والمهتمين بالشأن الفكري. 3- أن الماركسية , والمقصود بها فكر ماركس المتحرر والمسترجع لقوته الاصلية , ضرورية أكثر من أي وقت مضى, فالماركسية حية لان الرأسمالية التي قامت الماركسية بتشحيصها أفضل تشخيص ,هي حية بدورها . ولقد أستشف سارتر ذلك عندما كتب في (نقد الفكر الجدلي) ( الماركسية غير قابلة للتجاوز لان الظروف التي ولدتها لم يتم تجاوزها بعد). يجب على الماركسية المتحررة من جمودها ويمكن لها أن تسوق البراهين النظرية والعملية على حد سواء عن قدرتها الابداعية ولاشك أن برنامج عمل هذه الماركسية غير محدد اذ أنه كان وسيكون حصيلة المبادرات المناهضة للنظام الاستغلالي, ولكن هذا البرنامج ينبع من ضرورة ملحة, من مبدأ الامل كما يقول ارنست بلوخ, هذا المبدأ الذي يمثل الجواب الوحيد الملائم لثقافة العولمة التي لامستقبل لها , والبديل الوحيد عن الخيار المعدوم البدائل الذي تدعي اللبرالية أنها تمثله(7). 4- أن النظرة الى الاشتراكية بوصفها عقيدة في التاريخ , باتت متفادمة اذ تسود القناعة بأن التاريخ لايمكن استيعاب حركته استيعابا كاملا وعليه فأن النضال من أجل الاشتراكية لم تعد تفرضه حنمية تاريخية ما وانما الطموح الاخلاقي الانساني الى عالم أفضل. يشير ميليباند أن الاشتراكية نظام اجتماعي جديد يمتد تحقيقه لاجيال متتالية وقد لايتحقق بشكل تام ونهائي أبدا. بمعنى أن الاشتراكية تقتضي ارتقاءا دائما بالاهداف التي ينطوي عليها تعريف الاشتراكية ويحددها بديمقراطية تتجاوز الى حد بعيد مايمكن للديمقراطية الرأسمالية أن تقدمه. ومساواتية يحددها بتخفيف جذري لجميع مظاهر التباين وعدم التكافؤالتي تشكل جزءا من تكوين الديمقراطية الرأسمالية. وتحقيق الملكية الجماعية لوسائل الانتاج(8). 5- برزت في المقدمة قضية الديمقراطية وحقوق الانسان وما أكد ذلك فشل جميع الانظمة الاجتماعية بهذه الدرجة أو تلك في تحقيق هذه القضية الاساسية , وانكشف الى أي حد أهينت شعوب وجماهير كانت رافعة لاحزاب تدعي النضال من أجل الديمقراطية وخقوق الانسان والعدالة ولكن بالواقع والممارسة كانت شيئ مختلف. 6- أن قوى التغيير ليست في عصرنا الراهن حكرا على الذين يتبنون الفكرة الاشتراكية . بل أن هذه القوى متعددة وتنتمي الى مرجعيات ايديولوجية متعددة , أن الشرط الوحيد لكي تنتسب هذه القوى الى حركة التغيير هو أن تكون في أهدافها وفي سلوكها العملي منسجمة مع أفكار الحرية والعدالة والمساواة ومع الوعي يضرورة التقدم لبلدانها وللعالم على هذه الاسس(9). 7- أن عملية التجديد والمقرطة للاحزاب الحاملة لمشروع التغيير ضرورية ,وحاجة موضوعية باتت ملحة اكثر من أي وقت مضى , لان الاحزاب كمؤسسات على الطراز اللينيني لم تعد في شكلها وفي علاقة أطرافها بعضها ببعض وفي علاقتها بالقوى الاخرى وفي تحديد مهماتها وفي اختيار أدوات واشكال نضالها لم تعد صالحة لحركة التغيير في العصر الجديد , لكن هذا لايعني نفي ضرورة وجود الحزب , لانه لايمكن لاي مشروع سياسي أن يتحقق الا من خلال قوى تحمله والحزب هو التعبير السياسي عن هذه القوى. هنا يصح التساؤل عن مفهوم الحزب من طراز جديد, وتأتي الاجابة على السؤال من قبل الكثير من المفكرين والباحثين والمؤمنين حقا بالتغيير, هو الحزب الذي يكون ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة في حياته الداخلية, ويوضح مروه مفهوم الديمقراطية الداخلية للحزب هو أن ينص نظامه الداخلي على وجود مؤسسات ديمقراطية حقيقية منتخبة بحرية , وان تكون هذه المؤسسات المنتخبة مستقلة بعضها عن بعض, وأن تكون هيئة الرقابة محكمة دستورية حقيقية, تتألف من شخصيات مرموقة مقر بنزاهتها واستقلاليتها وكفائتها, وأن تتمتع بصلاحيات كاملة للبت بأي موضوع من المواضيع التي تطرح عليها والتي ترى هي أنها قضايا تحتاج الى تدخلها , وأن يكون قرارها ملزما وغير قابل للطعن, وأن أحد الشروط الاساسية لديمقراطية هذا الحزب هي مصداقيته سواء كان في المعارضة أو في السلطة , هو الحزب الذي يكون في أن معا في صراع مع الدولة وفي تكامل معها(10).أن حزب من هذا النوع يكون قادرا على احياء السياسة والفعل السياسي واخراجهما من أزمتهما المتفاقمة من خلال كسب المصداقية وثقة الجماهيروأن يحظى برضاهم واحترامهم, وهو مايوازي في أهميته تجديد النظرية واحيائها واعادة الاعتبار لها. 8- أن عملية اعادة التغيير تستوجب ليس فقط تجديد النظرية وتجديد الممارسة وانما اعادة قراءة الواقع الاقتصادي والاجتماعي لبلدانناواستخلاص الاسباب الذاتية لتخلفها . 9- أن المرحلة الانتقالية التي نحن فيها هي مرحلة صعبة وخطيرة ومعقدة لكن القوى الثورية في بلداننا وفي العالم لاتزال تمتلك رغم الهزات والخيبات والاحباطات القدرات الفكرية والنضالية على تجاوزها والخروج من أزمتها الراهنة , فلا زال للاشتراكية مستقبل في بلداننا وفي العالم.و كان مطلب المساواة,الذي هو حجر الزاوية في مفهوم اليسار , وراء انتزاع الحقوق الاجتماعية الاساسية , ولم ينته الامر عند هذا الحد, فقضية عدم المساواة بين الناس في كل بلد على حدة وعلى مستوى العالم ككل مازالت تطرح نفسها كمشكلة جدية , يظهر بعدها المأساوي في العالم الثالث خصوصا, لايمكن , كما يقول بوبيو , أن نغمض أعيننا عن رؤية ثلثي أو أربعة أخماس أو تسعة أعشار سكان العالم يعيشون في حالة فقر. لهذا مازال تحدي الشيوعية قائما رغم سقوط نظمها , لان جوهر الصراع الذي يدور حول العدالة الاجتماعية أعمق بكثير من جولات التاريخ والسياسة . في مواجهة هذه الحقيقة , يخلص بوبيو الى أن مثال المساواة هو النجم القطبي الذي يهدي اليسار في مهمته التي لم ينجزها بعد , ويكاد لم يباشر بها(11).
الهوامش
1- الثقافة الجديدة عدد292ص 11 2- الطريق اللبنانية العدد3ص18 3- الطريق اللبنانية العدد5 ص56 4- وثائق المؤتمر السادس للحزب الشيوعي العراقي 5- مصدر سابق ص15 6- مصدر سابق ص 9 6- الطريق اللبنانية العدد6 ص17 7- نحو تجديد المشروع الاشتراكي ص58 8- الاشتراكية لعصر ضحاك نقلا عن الثقافة الجديدةعدد282ص46 9- مصدر سابق ص18 10 الطريق اللبنانية العدد1 ص 34 11- الثقافة الجديدة عدد293 ص57
#رسميه_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟