أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد عدلي أحمد - هل من تجديد حقيقي للإسلام؟















المزيد.....



هل من تجديد حقيقي للإسلام؟


أحمد عدلي أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 954 - 2004 / 9 / 12 - 11:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لكي نستطيع أن نخرج بفهم جديد للآيات و الأحاديث التي وردت حول النساء ، ولسائر آيات الأحكام يجب أن نحقق ثورة على مستوى المناهج المستخدمة تتجاوز المقولات التي أنتجها القدماء في علم أصول الفقه ، مع الاستفادة الكاملة من المناهج النقدية الحديثة في تحليل النص وفهمه دون حساسية من مصدرها الأجنبي ، ويكفي لمن يهوى البحث عن دليل من القديم لقبول أي أمر أن يراجع استفادة "ابن عباس" من الأشعار الجاهلية في تفسير القرآن ، وكذا استفادته من المعارف الشائعة وقته لتفسير بعض الآيات مثل آيات الخلق ، وقصص الأنبياء لكي يطمئن إلى أن الاستفادة من علوم غير المسلمين في تفسير القرآن ليست بدعة جديدة ، أما أنا فيكفيني أن القرآن قد صرح بأنه نزل بلسان عربي مبين أي نزل ككلام صيغ بأسلوب أدبي داخل لغة لها قواعدها التي تشترك مع اللغات كافة في السمات التي أوضحها علماء اللغة منذ "دي سوسير" وأول هذه السمات كونها ظواهر إنسانية اجتماعية ، هذا الكلام الأدبي قابل بطبيعته ، وبصرف النظر عن مصدره الإلهي ، للتحليل وفقا للقواعد الفنية التي تخضع لها سائر نماذج هذا النوع من الكلام ، وقد أوضح العلامة" عبد القاهر الجرجاني" في القرن الرابع الهجري أن إعجاز القرآن البلاغي يكمن في الخضوع العبقري لهذه القواعد وليس في التمرد عليها بمعنى استخدام القرآن للطاقة القصوى للغة وقواعدها من أجل إنتاج الدلالة اللغوية ، وبالتالي فإن أي وسيلة تقنية متاحة لاكتشاف كيفية استفادة النص من القواعد اللغوية ، وكيفية تفاعله مع الواقع اللغوي ، ومع الواقع الاجتماعي من أجل إنتاج الدلالة ، وتحقيق التأثير المرجو داخل بنية اللغة ، وداخل البنية الاجتماعية كذلك تعتبر وسيلة نافعة يجب استخدامها من أجل تحقيق اقتراب توفيقي أفضل للحقيقة في ذلك النص الإلهي الذي هو القرآن الكريم ، ويجب أن لا يمنعنا المصدر الأجنبي لهذه الوسائل التقنية من الاستفادة بها ، رغم تفهمي لصعوبة الاحتكام لمناهج "الكفار" في فهم القرآن عند بعض العقول ، ولكن يجب أن نعترف أن ما أوصلنا إلى ذلك هو حالة التراخي الفكري التي أصابتنا بعد القرن الرابع الميلادي ابتداء من ذلك الوقت الذي أصبح فيه العالم هو ذلك القادر على اجترار أكبر قدر من أقوال السلف ، وأصبحت الفتاوى مجرد عملية اختيار من متعدد ، وصارت كل كتب الفقه ، والبلاغة ، والتفسير ، والأصول باستثناء نماذج قليلة بمثابة كتاب واحد كتبه كل العلماء ووقعوا عليه جميعا بالأحرف الأولى {مع الاعتذار لنزار قباني} ، بينما استطاع الآخرون الانطلاق بعيدا في جميع العلوم بما فيها العلوم الإنسانية ، فأنتجوا علمي اللغة النظري و التطبيقي ، وعلم الأسلوبية {البلاغة الحديثة} ، وعلوم الهارمينيوتكس {التأويل} ، والنحو التوليدي ، وغير ذلك ، بينما نحن لا نزال غير قادرين حتى على الاستيعاب التام لكل هذه العلوم في ثقافتنا العربية ، وتطبيقها على اللغة و النصوص العربية بشكل موسع فضلا عن محاولة استخدامها لتطوير فهمنا للقرآن الكريم ، والسنة الشريفة ، أو إنتاج إضافات بناءة لهذا التراث العلمي العالمي الذي أصبح شديد التضخم ، ويستقبل مساهمات من الشرق والغرب على السواء ، لكن الغصة التي في حلوقنا من ذلك يجب ألا تدفعنا للقول بأن هذه المناهج لا تناسب لغتنا وثقافتنا ، و إعادة الحديث المكرور المملول عن الخصوصية الثقافية ، و انتقاد نظرية المركزية الأوروبية بينما نحن ننتج بذلك – دون أن نشعر- نظرية المركزية العربية بتصور أن ما ينتمي إلى دائرتنا الثقافية هو وحده الحقيقة ، أو الحقيقة التي تهمنا وتعنينا ، أما سائر الأفكار فهي في الحد الأقصى مناهج ضالة مضلة ، وفي الحد الأدنى أفكار محلية لا تناسب إلا البيئات التي أنتجتها ، أو ربما تناسب الجميع عدانا ، ولكن مع ذلك ينبغي الوعي الدائم عند محاولة الاستفادة من هذه المناهج ، فالمناهج الحديثة متعددة ، بعض هذا التعدد يمثل تعدد الطرق المختلفة إلى الغاية الواحدة ، والبعض الآخر يمثل تعدد التناقض ، فهناك مناهج بنيوية ،وأخرى لا بنيوية ، وهناك بنيوية شكلية ، وأخرى توليدية ، وهناك مناهج تنظر للنص في علاقته بمبدعه ، وأخرى تنظر له في علاقته بمتلقيه ، وثالثة تنظر في علاقاته الداخلية ، ورابعة تنظر في العلاقات الاجتماعية المؤثرة في النص ، وهلم جرا ، ولذلك ينبغي دائما عند استخدام هذه المناهج من الاختيار الواعي بينها وربما الجمع الخلاق والإضافة الواعية ،وكذا النقد الدائم لهذه المناهج ، وللطريقة التي نستخدمها لتطبيقها دون السقوط في فخ التحيز المذهبي لمنهج محدد ، ودون السقوط في فخ احتقار التفسير التراثي ، ومحاولة الاستفادة القصوى منه و عدم السقوط في أوهام القطيعة المعرفية مع التراث ونحو ذلك . كل ذلك يجب أن يتم بوعي شديد وبحرفية عالية تنتج فكرا توفيقيا قدر تجنبها إنتاج فكر تلفيقي ، والفرق بينهما أن الأول يستوعب جميع المناهج والأفكار ثم يكون من نتيجة استيعابه لها أن يكون قادرا على تجاوزها ، والاستفادة منها جميعا في إنتاج منهج فكري جديد مغاير قد تتضح فيه سمات معظم هذه المناهج الأصلية ولكنه مع ذلك على درجة كبيرة من التماسك المنطقي على نحو يسمح بأن يكون منهجا جديدا سواء من جهة الإجراءات المتضنمة فيه أو من جهة النتائج الجديدة التي تكون متسقة مع الإجراءات الفكرية المؤدية إليها ، بينما يظل الفكر التلفيقي تائها في إجراءات الضم التعسفي ، والخداع اللفظي ، والإظهار والإخفاء من أجل الوصول إلى نتائج صيغت أولا، ثم وضعت المناهج كي تؤدي إليها .
وفي سياق البحث عن قراءة جديدة لآيات الأحكام التي تدور حول ظهور النساء وإخفائهن و مدى مساواتهن بالرجال سوف أتبع ما أسميته بالمنهج السياقي التاريخي ، وهو ما يعني الدراسة المتوازية للنص أو لجزء منه داخل سياقات بنائية واجتماعية متعددة بغرض الكشف عن المعنى الحقيقي له ، ويمكن أن نحدد عدد من السياقات المهمة التي سوف نركز عليها عند تفسيرنا لأي آية قرآنية مع اعترافنا بوجود سياقات أخرى مؤثرة ، ولكنها أقل أهمية ، وهذه السياقات بدون ترتيب أهمية هي :
السياق المصحفي ؛ ويعني سياق الآية أو مجموعة الآيات داخل السورة وموقعها بين السابق واللاحق من الآيات.
سياق التنزيل ؛ ويعني سياق الآية أو الآيات بين الآيات بحسب ترتيب النزول.
سياق الموضوع ؛ وتعني دراسة الآية أو الآيات في علاقاتها بالآيات الأخرى التي تناقش نفس الموضوع ، وهو ما يمكن تقسيمه إلى سياق الموضوع العام كدراسة قصة موسى في القرآن في ضوء دراسة موضوع القصص القرآني ، وسياق الموضوع الخاص كدراسة قصة موسى كما وردت في سورة القصص في سياق الروايات القرآنية لنفس القصة في سور "طه" و"النمل" و"الأعراف" و"الأنبياء" و"النازعات" وغيرها.
سياق المقاصد الشرعية ؛ ويعني النظر إلى الآيات المراد تفسيرها في علاقتها بالرؤية القرآنية العامة حول الموضوع الذي تعالجه والتي يمكن التعرف عليها من خلال قراءة جميع الآيات حول الموضوع ، ومن إيحاءات النص القرآني الكامل.
السياق التاريخي ؛ ويشمل السياق التاريخي العام وهو سياق الأحداث التاريخية السابقة والمعاصرة لنزول القرآن والذي جاء القرآن ليتفاعل معها , والسياق التاريخي الخاص ويعني به أسباب النزول المباشرة.
السياق اللغوي ؛ ويعني دراسة الآيات بمراعاة المدلولات اللغوية للكلمات و التركيبات داخل البنية الثقافية.
سياق النصوص الدينية غير القرآنية ؛ وهي الأحاديث النبوية حول الموضوع الذي تناقشه الآيات.

والدراسة النظرية لكل هذه السياقات قد تحتاج منا لفصول مطولة ليس ذلك البحث موضعا مناسبا لها ، ولكننا هنا سنكتفي بمثال توضيحي واحد لتطبيق هذا المنهج قبل أن نبدأ بمحاولة تطبيقه في آيات النساء ، والآية التي سنتعرض لها هي الآية رقم 76 من "سورة القصص" :
"إن قرون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين"
و ظاهر الآية الكريمة يفهم منه تحريم الفرح باعتبار أن ما لا يحبه الله ممنوع شرعا ، ولكي نفهم ذلك جيدا فعلينا أولا أن نتعرف على مدلول الفرح المذكور في الآية ، والفرح في مفهومنا يعني السعادة أي الشعور النفسي بالبهجة والرضا ، ولكن هل هذا المدلول هو الذي كان في الثقافة المعاصرة للوحي وللتعرف على ذلك فإننا نتعرف على معنى الفرح كما جاء في معجم ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني فنجد أنه "انشراح الصدر بلذة عاجلة" وهو المعنى المستخدم في القرآن في جميع المواضع مثل قوله تعالى" وفرحوا بالحياة الدنيا " وقوله " ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون" وقوله "فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله" وقوله"فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون" وقوله " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله" وقوله "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" ، " وفي جميع هذه الآيات القرآنية نجد أن الفرح يرتبط بتلك النشوة المرتبطة بنعمة ما ، ولذلك كان الفرح مذموما في معظم الأحيان لأنه يؤدي للانخداع بهذه اللذة الزائلة الذي يدفع إلى الغرور، فيصاب الفرح بالكبر وجحود الله بعد أن تقع غشاوة الفرحة على عينيه ، فلا يبصر ما وراءها، أما الموقعين المرخص فيهما بالفرحة ، فهي الفرحة بنصر الله أو بفضله ورحمته ، وهي فرحة بنعمة ليست لا تدفع للغرور والجحود طالما تذكر الإنسان دائما مصدرها الإلهي ، فالفضل فضل الله والنعمة نعمته ، ولذلك فهي فرحة توجب التواضع و الشكر، وبهذا المعنى فإن الله لا يحب الفرحين ذلك الفرح الخادع الغرور ، وذلك كما يتبين من دراسة الآيات الأخرى في القرآن الكريم التي تتناول ذم الفرح ، وهو فرح الكافر بغير الحق الذي يؤدي إلى البغي كالذي كان من قارون على قومه ،أو فرح المنافق بالمعصية "بالقعود خلاف رسول الله" ، أما السعادة ، فهي عكس الشقاوة كما ورد في لسان العرب وهو شعور بالرضا والانبساط النفسي لم يرد ذم له في القرآن الكريم، و الحديث عن فرح قارون الذي انتهى به إلى الخسف قد ورد في سياق سورة القصص ، وهي سورة تضم إلى جانب قصة قارون تلك إحدى الروايات القرآنية لقصة موسى الأكثر ترددا في القرآن ، وتبدأ سورة القصص مباشرة بقصة موسى بعد الحروف "طسم" ،هذه الرواية التي تبدأ بقوله تعالى" إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين، ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" هذه المقدمة توضح المنطلق التي ستروى من خلاله قصة موسى في هذه السورة ، وهو منطلق نصر الله للطائفة المستضعفة في صراعها مع الطاغية "فرعون"وبعد انتهاء هذه الرواية لقصة موسى تنتقل السورة لجدال مع كفار مكة حول صدق الرسالة المحمدية ، والقرآن ثم التحذير من مصير القرى الظالمة وتوعد الكفار بالعذاب في الجحيم ثم تنتقل لذكر قصة قارون ، وفيها يتعرض الله لنوع آخر من الطغيان وهو طغيان ذي المال وبيان مصير الطاغية الثاني الذي لم يكن أحسن من الأول {فرعون} ، والتماسك الموضوعي للسورة لا يتضح إلا بمراجعة الظرف التاريخي الذي جاءت فيه ، فالسورة من آخر ما نزل من القرآن المكي وقد نزلت آياتها الأخيرة بالفعل في الطريق من مكة إلى المدينة أثناء الهجرة ، ونستطيع أن نتلمس مواكبة السورة لهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الجماعة المسلمة، فمع تطور الدعوة النبوية في مكة احتدم صراعها مع الملأ من قريش وهم جماعة السادة الممتلئين حسبا ونسبا ومالا وسلطة ، بينما معظم من انضم إلى الدين الجديد كانوا من عوام الناس إن لم يكونوا من الطبقات الأكثر ضعفا وهامشية في مجتمع مكة ، وقد كان الصراع بين المعسكرين صراع أفكار بين دين وافد وتقليد راسخ بقدر ما كان كذلك صراعا على سلطة ومال توفر التقاليد الدينية والقبلية القائمة غطاء لأصحابها ، ومعروف أن الصراع قد اتخذ منحنى عنيفا من قبل الملأ الذين لم يتورعوا عن تعذيب من يستطيعون تعذيبه من أصحاب النبي {ص} ، ثم محاصرة المسلمين في شعب أبي طالب ومقاطعتهم ، وقد اضطر المسلمون تحت هذا الضغط إلى الهجرة إلى الحبشة أولا ثم إلى يثرب ثانيا ، فكانت الآيات والسور ومنها سورة القصص تتنزل مثبتة للمستضعفين محذرة للباغين مؤكدة سنة الله في نصر المستضعفين ، وفي أخذ الطغاة العالين في الأرض بدافع من سلطتهم أو مالهم ، من فرعون إلى قارون وبين ذكر هذا وذلك يتواصل اشتباك الآيات فكريا مع الملأ من المشركين ترد شبهاتهم و تحذرهم من مصير القرى الباغية وتدعوهم لعدم الاغترار بمتاع الحياة الدنيا لتنتهي بعد ذلك مؤكدة وعد الله لنبيه المخرج ظلما بعودة مظفرة " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد" ، وبين النهاية العادلة لقصة موسى وقارون والنهاية السعيدة الموعودة للنبي الطريد وأتباعه يتضح أحد أهداف ومقاصد الإسلام الملتزم جانب الضعفاء الواقف بوجه الباغي والعالي والمفسد في كل مكان وزمان ، ذلك الباغي الذي يفرح بالمتاع الزائل ، فينسى قدرة الله عليه "أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون" ويدفعه ذلك إلى البغي والاستعلاء على الناس واستعبادهم ، والاستهانة بالناصحين له من الصالحين ، بل ربما معاقبتهم حتى يأتيه عذاب الله ويأخذه بالحق ، فيكون بذلك كالحيوان الذي يفرح بما يمنحه مالكه من طعام ناسيا أن السكين تنتظره في نهاية الرحلة "والذين كفروا يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم" ومن هنا يتضح لنا أن قوله تعالى " إن الله لا يحب الفرحين" يتجاوز ذم الفرح لذاته إلى أبعاد أخرى قيمية وعقائدية ، واجتماعية لم تكن لتتكشف لولا قراءة الآية من سورة القصص في سياقات مختلفة ، وقد قمنا هنا بوضع الآية أولا في سياقها اللغوي بالكشف عن المدلول الذي يشير إليه الدال فرح في الثقافة العربية وقت نزول الآية ، ثم وضعنا الآية في السياق الموضوعي بالبحث في تناول القرآن لموضوع الفرح في معظم المواضع المذكور فيها ، ثم وضعنا الآية في سياقها المصحفي في إطار قصة قارون التي تناولناها أيضا في موضعها بسورة القصص ، وعرجنا من ثم على السياق التاريخي الذي أنار لنا الكثير من مقاصد السورة والآيات محل الدراسة وأشرنا أخيرا للآية في سياق المقاصد الشرعية التي تتضح من خلال السورة بوضع الآية داخل إطار انحياز الشريعة الإسلامية للضعفاء ووقوفها بوجه المستعلين والمتجبرين وتوعدهم بالخسران في الدنيا "و استكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق و ظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين" وفي الآخرة "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين" ، وإذا عدنا إلى ما كتبه المفسرون القدماء حول هذه الآيات من سورة القصص قد نلمح بعض ما قلنا في أقوالهم ، فالقرطبي يلمح إلى ذكر آية "إن قرون كان من قوم موسى" بعد قوله تعالى "وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا " بيانا للمشركين بأن قارون قد أوتي من متاع الدنيا فاغتر بها فلم تنفعه ، ولكنه لا يوضح لماذا انفصلت الآيتان عن بعضهما بخمس عشرة آية ، كما لم يستمر في محاولة فهم الترابط النحوي والمعنوي للآيات ، بل تجاوز ذلك ليتحدث عن نسب قارون و صفة قرابته لموسى ، وقصصا حول كيده لموسى وقومه ، وكل ذلك مما لا يقوم عليه دليل من الكتاب والسنة أو من الأدلة التاريخية المقبولة ، بل روايات تجمع بين الفلكلور الشعبي والإسرائيليات ، وخطر هذه الروايات ليس فقط في تشويه العقلية التاريخية لدى القراء ، بل يكمن أساسا في رهن النص القرآني لروايات من خارج السياقات الثقافية التي نزل ليتفاعل معها مما لن يؤدي للوصول إلى أي فهم حقيقي للنص في ظل هذا الالتباس السياقي ، وعندما يصل المفسر إلى تفسير قوله تعالى "إن الله لا يحب الفرحين" يذكر ما قيل فيها :لا تأشر ولا تبطر ، أو لا تفسد ، أو لا تبخل ، أو لا تفرح بالمال ، وجميع هذه التفسيرات لا تخلو من صحة في النهاية ، ولكنها لا توضح لنا لماذا انتقل أصحابها من المعنى الحرفي للفرح إلى هذه المعاني المجازية ، وعلى أي أساس كان ذلك الانتقال ، ولكن إذا اتبعنا المنهج القديم الشائع فسنجد أن العلماء قد أدركوا التعارض الظاهري بين الآيات التي تذم الفرح وتلك الآيات التي ترخص به ، كما أدركوا أن حرمة الفرحة غير متصورة ، فهو شعور تلقائي في النفس مع أي لذة سارة تعرض للإنسان مما يكون في تحريمه مشقة غير متسقة مع طبيعة التشريع الإسلامي ، ولذلك فهم يلجئون في مثل هذه الحالات إلى تقنيتين أحداهما هي النسخ والأخرى هي الجمع ، ولا يمكن تطبيق تقنية النسخ هنا لأن الآية خبرية ، فبقي الجمع ، وذلك بتصور معنى للفرح المذموم غير ذلك الذي للفرح المباح ، ولكن مشكلة هذا المنهج تبدأ في هذه الآية عند محاولة الخروج إلى المعنى المجازي إذ تبقى تفضيلات المؤول هي الحاكمة ، ولم يضع القدماء من شرط لذلك سوى أن يكون لذلك التأويل نظير في كلام العرب ، وفي هذا الشرط خطئان :الأول إن هذا الشرط غير ناجع وحده في منع انحراف التأويل "بمعنى أنه لا يضمن حدا أدنى من الخطأ الناتج من تأثير تفضيلات المؤول وتأثيرات الثقافة المحيطة به" ذلك لأن اللغة بطبيعتها تمنح المؤول العديد من الخيارات المتاحة ، وقد دفع الاحتراز من ذلك بعض السلف لإنكار وقوع المجاز في القرآن ودافعهم في ذلك قطع الطريق على بعض المتأولين لآيات الاعتقاد متجاهلين الأدلة الواضحة لوقوعه فيه ، والثاني: أنه يغفل قدرة النص على إنتاج لغته والتوليد في اللغة ، وهو ما تقوم به النصوص البشرية فما بالك بالإلهية ، وقد قال جمهور اللغويين إن المعنى الشرعي لفاسق و منافق ليس له وجود في اللغة العربية قبل الإسلام ، وفي مثالنا هذا فقد حاول المفسرون الانتقال بالفرح في هذا النص إلى معنى مجازي على نحو ما أنست له أفهامهم إما بتخصيص نوع واحد من الفرح عدوه المقصود وهو الفرح بالمال ، أو جعلوا الفرح هنا بمعنى "البطر" وهو سوء استقبال النعمة ، أو بمعنى الفساد ، والبطر أقربهم للصواب من وجهة نظري ، فالفرح الغرور الذي قلنا أنه المقصود يؤدي إلى البطر ، ولكن المنهج نفسه وإن أدى إلى نتائج مقبولة في كثير من الأحيان إلا أن به الكثير من أوجه القصور ، وتبرز بعض مشكلاته عند تحديد النصوص التي يجب أن تفهم على ظاهرها ، وتلك التي ينبغي تأويلها ، وكيف نميز النصوص التي تعتبر ناسخة من تلك التي تعتبر منسوخة ، وكيف نختار بين آليات النسخ ، والجمع ، والترجيح ، فالمنهج القديم صريح في ضرورة حمل جميع الآيات على الحقيقة مالم يظهر دليل على حملها على المجاز ، وحمل كل الأحكام على العموم مالم يرد دليل على تخصيصها ، حتى حين يرد سبب لنزولها ، فخصوص السبب لا ينفي عموم الحكم ، وحمل كل الأحكام على ظاهرها حتى يرد الدليل على نسخها، والدليل الضروري لنقل المعنى إلى المجاز هو تعارض المعنى الحرفي مع منطوق آيات أخرى ،أو مع المفهوم العام حول الموضوع الذي يتضح من جميع الآيات ، أو مع مفهوم العقل في ما يسوغ تحكيم العقل فيه، ولكن المشكلة تبرز عند التطبيق ، فعند وجود آية متعارضة مع آية أخرى أو آيات أخر فإن تحديد أي الجانبين هو الذي يبغي تأويله يشكل التحدي الأكبر ، وقد ظهر ذلك جليا في ما يتعلق بآيات العقيدة ، فقد رأى المعتزلة أن الآيات التي تتحدث عن كون الله سميعا بصيرا تتعارض مع قدم الله بمعنى وجوده قبل أن يوجد شيء في الكون ، وهي فكرة قالوا إنها مفهومة من مجموع آيات الاعتقاد في القرآن على اعتبار أنه خالق كل شيء مما يتوجب معه عقلا أن يكون قد وجد قبلها ،ولذلك فقد لجئوا إلى تأويل تلك الآيات التي تتحدث عن صفات الله لتوافق قولهم بوجود صفات ذات وأخرى محدثة ، أما الأشاعرة فقد رأوا فيما ذهب إليه المعتزلة انتقاصا لذات الله بتصور أنه كان في زمن ما ليس بسميع ولا بصير ، فحملوا تلك الآيات على الحقيقة ، واعتمدوا التأويل ، بينما فطنت جماعة للتلفيق والافتعال في هذه التأويلات فرفضتها جميعا ولكنها لم تستطع التوصل إلى منهج مختلف لتفسير تلك المتعارضات ، فقالت إن الأصل معلوم و الكيف مجهول ، وإذا كان القدماء لم يقدموا حلا ناجعا للحكم على المجازي والحقيقي في القرآن فكذا كانت فكرتهم عن الناسخ والمنسوخ ، فلكي تكون الآية منسوخة عندهم يجب أن يقع التناقض من كافة الوجوه بين آيتين أو أكثر مع ضرورة معرفة تاريخ نزول كل آية بحيث يمكن القول أن أحد هذه الآيات ناسخ لحكم الآية الأخرى ويعتبر مثال آية الخمر في المائدة "يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر و الأزلام والنصاب رجز من عمل الشيطان فاجتنبوه" ونسخه لآية الخمر في البقرة "ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" نموذجا كلاسيكيا للنسخ ووقوعه في القرآن ، وقد توسع قوم من المفسرين في النسخ ، فجعلوا معظم آيات الأحكام منسوخة ، وزعموا أن آية واحدة في سورة براءة ناسخة لأكثر من مئة آية ، وهكذا صار النسخ سلاحا يستسهل رفعه على أي آية تستعسر على الفهم ، غير أن هذا السلاح لم يسلم لأصحابه ؛ فقد كان وقوع النسخ عند بعض العلماء مدعاة لمظنة وجود التردد و الارتباك في أحكام الله ما يعد نقصا يجب تنزيه الله وكتابه عنه ، ولذلك رفض بعضهم وقوع النسخ في القرآن الكريم ولجئوا إلى تأويل النص المرجعي الذي استند إليه القائلون به وهي آية البقرة "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" وهكذا لم تسلم أحد التقنيات الرئيسية للفقهاء من أجل اكتشاف دلالة النصوص المقدسة من طعن ، ولكن النسخ على أي حال ظل مقبولا من القطاع الأوسع من القدماء ، وظل مجاله ولو نظريا على الأقل محصورا في عدد قليل من الآيات التي يقع التعارض التام بينها ، وعند التخصيص لمن يرى أن التخصيص نسخ ، ولكن الآلية التي لها الأسبقية هي آلية الجمع بمعنى محاولة التوفيق بين الآيات المتعارضة {وكذا بين الآيات والأحاديث المتعارضة وبين الأحاديث المتعارضة وبعضها}، بينما تظل آلية الترجيح مقتصرة على الأحاديث النبوية فحسب باعتبار القرآن قطعي الثبوت كله ، والملاحظة الأولى على هذه الآليات وتطبيقها أنه يتم بمنطق أن النظرية تعتبر حقيقية وصحيحة لمجرد كونها منطقية أو متصورة ، والحق أن منطقية الفكرة شرط لكي تصبح نظرية أصلا ولكنها لا تقدم دليلا على صدقها فإذا كان أسلوب معين في الجمع يؤدي إلى نتيجة منطقية فإنها تعتبر مقبولة دون تقديم أدلة أخرى على أن تلك النتيجة هي المقصودة عند المشرع سوى منطقيتها ، رغم أن هناك وسائل أخرى للتوفيق مثل طرق أخرى للجمع أو النسخ تصلح للتوفيق بين آيات متعارضة في مثال ما، ولكن الجمع يقدم نظريا على النسخ لمجرد انه الطريقة الأقل إهدارا لمنطوق النصوص رغم أنه يمكن أن يكون مقصود الشارع من هذا النص تحديدا هو النسخ رغم أنه أقل تحفظا، ولكن طريقة الأقدمين في تفضيل التفسير الأكثر تحفظا مادام منطقيا حال دون البحث عن وسيلة للوصول إلى المعنى الأقرب لمراد الشارع بين جميع النتائج المتصورة عقلا ، و لا يكون ذلك إلا بوضع النصوص المتعارضة داخل سياقها التاريخي العام والخاص وداخل سياق المقاصد الشرعية ، ولكن العلماء لم يفعلوا ذلك فقد كان سبب النزول وهو أحد أبعاد السياق التاريخي غير ضروري من وجهة نظرهم في تقرير أحكام النصوص إلا فيما يتعلق بفهم معاني بعض الألفاظ مثل المراد بالتهلكة في قوله تعالى "ولا تلقوا بأيديكم إلا التهلكة" ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب رغم أن أسباب النزول من أهم الوسائل المتاحة لدينا لكي نفهم في إطارها البعد الاجتماعي للحكم الشرعي والموقف الاجتماعي الذي نزل ليتفاعل معه وبالتالي يمكننا من معرفة الهدف الاجتماعي للحكم في وقت نزوله واللب العميق له الذي يبقى صالحا في كل زمان ومكان ، مع ضرورة ملاحظة أن أسباب النزول ما هي إلا مرويات يعتريها كل ما يعتري مرويات الآحاد من عوامل القصور مثل إمكانية الدس ، والوهم ، والتحريف ، وضرورة فحص أسانيدها ومحاكمتها للنصوص المتعلقة بها ، وللأحداث التاريخية الأكثر توثيقا. إن هذه المناقشة تقودنا إلى لب النظرية القديمة في تفسير النصوص المقدسة وهو المحافظة القصوى على المعنى الحرفي للنصوص {سواء كانت من نصوص العقيدة أو الأحكام أو غير ذلك} إلا عندما يتعذر ذلك ، ويبدو للوهلة الأولى أن هذا الهدف صحيح تماما ، فمن ناحية يضمن عدم تشويه التفسيرات بالتأويل الناتج عن المواقف البشرية ، ومن ناحية أخرى فإن المعنى الحرفي للخبر أو الأمر والنهي يفترض أنه الأقرب للحقيقة الغيبية أو لما يريد الله سبحانه من كل مسلم أن يفعله بافتراض أن الله سبحانه سيوجه تعليماته إلينا بصورة مباشرة في الأغلب حتى لا نقع في العنت ، ولكن ذلك غير صحيح على الإطلاق ،فالمراجع لكتب الفقه يستطيع أن يعثر على مئات الآلاف من الخلافات الصغيرة والكبيرة في كل جزئية تقريبا من جزئيات الفقه ، والمراجع لكتب العقيدة يكتشف الخلافات العميقة بين الفرق الإسلامية ، تلك الخلافات التي لم تكن بسيطة ولم تكن تترك بين المختلفين أي مساحة للسماحة والود بل اتهامات وسباب و تفسيق وتكفير ، وليست كثرة الخلافات الفقهية والكلامية إلا دليلا على عدم نجاعة فكرة التفسير التحفظي السابق ذكرها في تحقيق أول أهدافها و هو تقليل التأثيرات البشرية عند التفسير و إلا لكان التوصل إلى معنى واحد أو مجموعة احتمالات قليلة محققا في معظم الأحوال ، ولكن هذا المنهج رغم حرفيته وتشدده الظاهرين يترك عند التطبيق كما سبق وأوضحنا مساحة كبيرة للتأثيرات البشرية التي تنتج تفسيرات جد متباينة للنص القرآني ، ولكن المشكلة الأهم أنه لا يقدم لنا وسيلة ناجعة لتقييم هذه التفسيرات جميعا وتبيين أيها الأكثر اقترابا من المراد الإلهي الحقيقي ، ولذلك فإن المتأمل لهذه الأقوال كثيرا ما يعجز عن ترجيح إحداها ما لم يكن له انتماء مذهبي مما يجعه يفضل ما اختاره أصحابه وأساتذته من أتباع المذهب ، و إلا فهولا يملك في معظم الأحوال إلا أن يقول "المسألة فيها قولان " وربما ثلاثة أو خمسة ، والخطأ الثاني الذي يقع فيه أصحاب المنهج التحفظي هذا هو تصور أن المعنى الحرفي للخبر أو الأمر والنهي هو الأقرب للصواب ولما يريد الله من كل امرئ أو امرأة الاعتقاد به أو فعله ، وهي فكرة شائعة نتجت بناء على تصورين كلاهما خطأ الأول يفترض القرآن نصا علميا وتاريخيا "عندما يتحدث عن أصل العالم والإنسان والأنبياء والتاريخ القديم والبعث والحساب" ، ونصا قانونيا "عندما يتحدث عن الأحكام" والحق أن القرآن نص أدبي أصلا ، وهو لا يفارق هذا التصنيف عندما يتحدث عن ما سبق كله ، وعندما يتجادل مع الكفار ويحذر ويعد ويتوعد ويدلي بدلوه في المسائل الأخلاقية ، وكل خصائص الأسلوب القرآني تصرخ بذلك بحيث لا يمكن أن يغفل عنه إلا جاهل بالحد الأدنى من المعرفة اللغوية والبلاغية ، ومثله ليس مخاطب بذلك البحث ، كل خاصية من خصائص الأسلوب القرآني من الفواصل ، إلى الموسيقى بآلياتها الظاهرة والمعنوية ، إلى الصور الفنية ، إلى القصص القرآني وتكراره ، واختلاف طريقة صوغه من مكان لآخر؛ جميع ذلك يؤكد طبيعة الأسلوب القرآني الأدبي ، وهي ملحوظة لست عابرة ، بل أساسية في فهم النص القرآني ، و التصور الثاني الخاطئ هو النظر إلى القرآن باعتباره نصا نزل ليخاطب الجميع من لدن محمد {ص} إلى قيام الساعة في جميع الأزمان والأصقاع ، والحق أن هذا التصور شائع جدا لدرجة أنه أصبح من المسلمات التي لا يجادل فيها إلا مطعون في دينه ، وقد آن الأوان لتحطيم ذلك الصنم الفكري ، فليس من الممكن أن يكون المخاطب الأصلي بالقرآن هو جميع المسلمين وأن يطلب القرآن من جماعة المسلمين في كل زمان ومكان أن يستجيبوا له بنفس الطريقة ، وذلك لسبب أساسي وهو أن مفهوم "جماعة المسلمين" بهذا المنطق هو مفهوم اعتباري لا وجود له إلا في أذهاننا فقط ، فقد نزل القرآن الكريم في فترة زمنية محددة لا تشبه كل الفترات وفي بقعة مكانية محددة لا تشبه كل البقاع في قوم بتكوين اجتماعي وثقافي لا يشبه كل الأقوام ، وقد خلق هذا التمايز الزمني والمكاني والثقافي لمهبط الوحي مشكلات ثقافية واجتماعية وسياسية متمايزة في طبيعتها ، وإن تشابهت في عمقها الداخلي مع مشكلات الأزمان والأمكنة الأخرى من حيث ارتباط هذه المشكلات المحلية بقضايا عامة تشكل الهم الإنساني عبر العصور مثل قضايا سر وجود العالم والإنسان ، والصراع بين الأفراد والطبقات ، و أساس العلاقات الاجتماعية بين الآباء و الأبناء ، والرجال والنساء ونحو ذلك ، ولكن هذه القضايا العامة لا تكفي لكي توحد الفهم والاستجابة للنص القرآني في عقول أبناء ثقافات متعددة منتثرة على طول الزمان والمكان ، ولكي يكون لنص لغوي ما معنى فلابد أن يشير بمفرداته وتراكيبه وصوره إلى مدلولات ذهنية في عقول مستمعيه ، هذه المدلولات لا يمكن أن تتحقق بنفس الصورة في أذهان جميع البشر من متحدثي اللغة في جميع الأزمان فالمدلولات ليست فقط معان يمكن استخراجها من المعجم ، بل منظومة شديدة التعقيد من التفسيرات لشفرة الرموز اللغوية متعددة المستويات ،والتي تتكون في العقل الجمعي من خلال ملايين التفاصيل الصغيرة المعاشة ،والموروثة والتي من المستحيل أن تستوعب في زمان آخر ، ولذلك نستطيع أن نفهم لماذا استطاع ملحد مثل "ابن الراوندي" في العصر العباسي أن يسخر من وصف الله سبحانه للجنة في القرآن الكريم قائلا"فيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه ، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع ، وذكر العسل ولا يطلب صرفا ، والزنجبيل وليس من اللذيذ إلا شربه ، والإستبرق يفترش ولا يلبس ، ومن تخيل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط" فلا يجد من يرد عليه إلا بقول "إن ما في الجنة من هذه الأشياء لا يشبه ما في الدنيا سوى في الاسم" رغم عدم وجود دليل على ذلك القول من الكتاب والسنة ، بينما استمع العرب في الجاهلية إلى ذلك الوصف فتاق أكثرهم للجنة ودخلوا في دين الله أفواجا ، بينما لم يجد أعداء الإسلام من مشركي مكة في هذا الوصف ما يعيب ، فلم يرو عنهم أنهم عابوا القرآن في ذلك رغم حرصهم على إيجاد ثغرة بذلك الكتاب الذي أعجزهم ، فالعربي في الجاهلية يعيش حياته يتقوت بلبن الأغنام ولحمها ، و يتحلى بالعسل الذي ينتجه النحل الجبلي أو الذي يعرش له ، وبثمر النخل والأعناب أيضا ، وهو يعيش بصفة عامة حياة غليظة ، فالجيد لديه من الثياب هو السميك الذي لا يتمزق مع الركوب أو الجلوس على الأرض أو خشن الأثاث ، ولا يفترق في ذلك الغني كثيرا عن الفقير ، فحتى من عنده مال ما كان ليستطيع أن يعيش حياة جد مختلفة ، فالأرض لا تمنح سوى النخل والسدر والكروم والزنجبيل وما شابه ذلك من الفاكهة والأعشاب الصحراوية ، ولا يمكن جلب الفواكه والأطعمة من الخارج ، فلم تكن وسائل النقل أو التخزين بصالحة لذلك في تلك الأزمان ، تلك إذن حياة العربي ، وتلك هي ملذات الطعام التي اختبرها والتي شكلت في ذهنه مدلول العيش الرغيد ، وأما غير ذلك من الأطعمة فهي بالنسبة له شيء غامض لا يشكل مدلولا واضحا في ذهنه ولكن الأمر اختلف حين انتقل الإسلام إلى بلاد الخصب والأنهار ، فعرفت سائر الفواكه الأكثر حلاوة وعرفت القصور ولبس رقيق الثياب ، ولذلك وجد بعضهم الصور القرآنية عن الجنة غير دالة على النعيم والحياة المرفهة الرغيدة ، فالمساكن في الجنة خيام {حور مقصورات في الخيام} ، بينما القصور في النار {إنها ترمي بشرر كالقصر}، ذلك أن القصر في ذهن العربي في الجاهلية يرتبط بالضخامة أكثر من ارتباطه بالفخامة ، إنه مبنى هائل الحجم له نفس المدلول الذهني لناطحة السحاب في عصرنا ، ولذلك اضطر بعض المفسرين أن يفترض تشابه الأسماء واختلاف المدلولات بين ما نعرف في الدنيا وبين ما في الجنة ، و هو قول قديم نشأ منذ بداية تعرف المسلمين على رغد الحياة الدنيا كما كان شائعا في بلاد الشام وفارس ، فقد نسب إلى "ابن عباس" وحتى الكثير ممن لا يعرف هذا القول المروي عن "ابن عباس" من عموم المؤمنين ، فهو ينتج مدلولا لأسماء هذه المأكولات عندما يقرأها في القرآن غير مدلولها عندما يستخدمها في الدنيا ، فتراه يشتاق للخمر رغم أن الخمر في مفهومه نجس يتوضأ إذا سقط بعضها عليه ، وتراه لا يطيق شرب اللبن في الدنيا ، ويغير طعمه بالشاي ، ولكنه يتلذذ عندما يتصور نفسه يشرب من أنهار اللبن الذي لم يتغير طعمه ، وما ذلك إلا لأنه عاش النص الأدبي القرآني ، فصنع في ذهنه مدلولا جديدا لهذه الأشياء ليس هو مدلولها عنده في حياته الواقعية ، وليس هو مدلولها في ذهن العربي في صدر الإسلام ، بل مدلول ثالث خيالي تفارق فيه هذه الدوال مدلولاتها الواقعية وقتيا أثناء قراءة القرآن وتحيل إلى مدلولات أخرى لكائنات أخروية غير محددة تماما ، ولكنها مبهجة ومفرحة ، وذلك إنما يكون بتأثير منطق النص الأدبي الاستثنائي المعجز القادر على إنتاج المفاهيم الخاصة به في عالم المتخيل ، والقادر أيضا على إنتاج العديد من الدلالات التي تناسب كافة الثقافات على مر الأزمان وهذه إحدى التجليات العميقة لصلاحية النص القرآني لكل زمان ومكان ، وليس المعنى المبتذل الشائع ، أما من لا يستطيع أن يعيش تلك الخيالات البهيجة عندما يقرأ آيات مشاهد الجنة في القرآن ، فهو متربص "كابن الراوندي الملحد" ، أو مسكون بالتصور الكاذب للنص القرآني ككتاب علمي يريد أن يصل فيه إلى حقائق مادية تجريبية عن الجنة والنار ، وليس بواجد في هذا الكتاب الجليل بغيته ، بل سيظل يتخبط في التأويلات والتفسيرات فسيفقد الخيال ولن يجد الواقع {إلا بعد أن يموت فيعاينه} .
إن ما سبق لهو مثال واحد على ارتباط النص القرآني بالواقع الثقافي ، والأمثلة أكثر من أن تحصر لو أردنا الاستطراد ، والنص القرآني بذلك ليس منتقصا ، بل هو يحقق أحد أهم شروط النص لكي يبقى نصا " باعتبار أن النص تتابع دال من الجمل " وهو "السياقية التاريخية" ، ففي إطار موقف اجتماعي وثقافي وسياسي محدد تتشكل دلالة النص التي لا بد لكي تتحقق من وجود مرجعية ما من المدلولات يحيل إليها النص ، يتبنى بعضها ، ويحارب بعضها ، ويستخدم أساليب المواجهة المباشرة وغير المباشرة لكي يؤثر قيها التأثير المرغوب من قبل الله سبحانه وتعالى منزل ذلك النص الفريد ، وبغير وجود ذلك الموقف المحدد ، بدون تلك اللحظة التاريخية المحددة يبدو النص هلاميا كقطعة من العجين يمكن تشكيلها على هوى أي خباز ماهر مهما وضعنا في سبيله من متاريس الحرفية و مناهج التفسير التحفظي ، وهكذا فإن التاريخية هي التي تحفظ للقرآن معنى وجوده كنص فاعل لا كمفعول به ، وليست فكرة دنيئة تهدف إلى تحنيط القرآن ووضعه في المتحف ، فكما أوضحنا من خلال مثال آيات الجنة في القرآن أن النص الأدبي القرآني يمتلك الأدوات الفنية التي تمكنه من تجاوز تاريخيته ، وإعادة إنتاج دلالته عبر الزمن ، ولكنها ليست الدلالة الحرفية التي يريد أنصار المنهج التحفظي أن يأسروا النص القرآني داخلها ، ولكنها الدلالة الأعمق التي تكشف عن إمكانياته الأسلوبية الفريدة ، وعن العمق العقائدي والأخلاقي والاجتماعي العبر زمني الكامن في أعماقه ، وهو العمق الصالح لكل زمان ومكان ، والمخاطب به الجميع حقا.
ولكن دراسة السياق التاريخي وحدها لا تصلح لتفسير النص تفسيرا سليما ، ذلك لأن دراسة النص القرآني نفسه في علاقاته الداخلية وأدوات ترابطه اللغوي والمعنوي ، وطرائقه في إنتاج الدلالة ، وربط بعضه بجميعه تظل هي الوسائل الأساسية للوصول إلى معانيه ، و بدونها يظل الخطاب التاريخي حديثا حول النص و ليس في صلبه ، إن دراسة النص يجب أن تراعي السياقات البنائية الداخلية مثل سياق الترتيب المصحفي والتنزيل والموضوع والسياق اللغوي غير أن الفصل بين ما هو تاريخي وما هو داخلي في نص مثل القرآن نزل منجما ومرتبطا بأحداث نزول ، ومتجادلا مع أعداء الله و داعما للمؤمنين ، ومتدخلا في خلافات الأسواق والبيوت يمكن أن يكون مستحيلا ، و لن يقدر المفسر في أغلب الأوقات إلا أن ينظر للآيات داخل مختلف السياقات في نفس الوقت وبشكل متداخل لكن يجب أن يكون حريصا على ألا يقع في إغراء المعلومات التاريخية المتوفرة حول النص بحيث يغفل سياقه الداخلي أو يقفز فوقه بل يجب أن تتم الدراسة بشكل متوازن ، وبحيث يكون السياق التاريخي بمثابة المرجعية التي يفهم فيها النص لا أن يستغل النص لتبرير استنتاجات الدراسات التاريخية.



#أحمد_عدلي_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام والحريم
- المرأة في المجتمع العربي...بين الظهور والإخفاء
- إنتاج الإسلام الإرهابي
- رؤية جديدة لنكاح المتعة....دراسة فقهية تاريخية في ظل الإسلام ...
- ..الجنس..الوحش الجميل :دراسة اجتماعية لتطور النظرة الدينية ل ...
- ..الجنس..الوحش الجميل :دراسة اجتماعية لتطور النظرة الدينية ل ...
- تساؤل الهوية ...لبنان نموذجا


المزيد.....




- ” علموا اولادكم العادات الدينية ” تردد قناة طيور الجنة الجدي ...
- -مبعوث يسوع-.. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟ ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تنفذ ردا تحذيريا اوليا للاحتلال ...
- العثور على موريتاني متهم بإطلاق النار على يهودي بشيكاغو ميتا ...
- عودة الإسلام السياسي.. بين مخاوف التمدد وفرص الاحتواء
- علماء الشام يوجهون نداء للمؤسسات الدينية العربية والإسلامية ...
- عراقجي: عودة نشاط المجموعات التكفيرية في شمال سورية لهي امر ...
- مستوطنون محتلون يقتحمون المسجد الأقصى
- إجراءات أمنية مشددة في باريس لضمان سلامة افتتاح كاتدرائية نو ...
- بابا الفاتيكان يدعو اللبنانيين إلى التعجيل بانتخاب رئيس


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد عدلي أحمد - هل من تجديد حقيقي للإسلام؟