دافيد سوج
الحوار المتمدن-العدد: 953 - 2004 / 9 / 11 - 10:45
المحور:
الادارة و الاقتصاد
تحولت المساعدات الدولية الرسمية صناعة ضخمة، يتجاوز رقم الأعمال فيها 60 مليار يورو سنوياً، ويعمل فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ما يزيد على 000 500 شخص. لكن النقاش يجب أن يتناول اعتماد الديموقراطية في نظام تقديم المساعدات أكثر منه مجموع المبالغ [1] . وفي الواقع أن هذا النظام يشتمل بشكل دائم على أفكار تتعلق بالتنمية وتشكل محور العلاقات بين الدول الغنية والدول الفقيرة . وإذا كانت الدول المانحة كما المستفيدة تشدد، اقله علناً، على فضائل هذه المساعدات، فإنها لا تخلو من بعض النواحي الغامضة. فالمفارقة الغريبة هي أنه في الدول التي تلعب فيها دوراً مسيطراً زالت مشاعر الفخر والطموح لصالح الارتهان والمراعاة. وقد تزايدت حالات الفقر والظلم وسيطر الاضطراب الأمني. مثلاً جمهورية الكونغو الديموقراطية وسييراليون وهايتي وغينيا بيساو التي استفادت بدرجة كبيرة من المساعدات هي كلها دول في حالة إفلاس.
لكن المساعدات الدولية قد أرسيت تاريخياً على قواعد أخرى. وقد اكتسب نجاح مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية بعداً رمزياً، وكانت الولايات المتحدة قد أطلقته وأوكلت إدارته إلى الدول الأوروبية، ولم تكن واشنطن تطلب إلى الدول المستفيدة أن تتخلى عن حماية صناعاتها ولا أن تطلق العنان لأسواقها المالية ولا أن تسدد ديونها من دون تحديد مهل [2] . وإذا كان مشروع مارشال قد تمكن من النجاح فذلك لأنه، باستيحائه مفهوم كينز الاقتصادي (دور الدولة)، هدف إلى إعادة تنشيط الرأسمال الأوروبي عبر عملية تنظيم رسمية وعبر الاستثمارات الاجتماعية.
لكن ابتداء من خمسينات القرن الماضي بدأت بعض الخيارات الإيديولوجية المختلف حولها ترافق عملية تنفيذ المساعدات في إفريقيا أو أميركا الجنوبية أو أوروبا الشرقية. وقد اعتبر بعض علماء الاقتصاد أن حالات التفاوت الاجتماعي أمر محتوم وحتى ضروري من أجل تحقيق النمو [3] . وهكذا بات في الإمكان استبعاد فكرة توزيع الأراضي أو المداخيل على أنها غير قابلة للتحقيق أو أنها في المختصر من باب الغباء. لكن لم يلبث أن ظهرت نقاط ضعف في هذا النموذج البائد. فقد رأى بعض الباحثين أن الفوارق تشكل في الحقيقة عائقاً أمام حركة النمو ومكافحة البؤس [4] . ذاك أن المساعدة كان بانتظام تفشل عند حدود الليبيرالية المطلقة وعلاجات الصدمة التي تفرض التقشف على المواطنين البسطاء فيما تؤمّن التقديمات السخية لمستثمرين ليسوا في الحسبان. وفي غياب أنظمة الرقابة الرسمية وآليات تحديد المسؤوليات انتفعت بعض الشركات الغربية أو شريحة من الأوليغارشيين المافيوزيين المحليين من برامج المساعدة كما حدث في دول الاتحاد السوفياتي سابقاً. ويرى البعض أنه لا يمكن لوم واضعي مفهوم المساعدة، بل بالعكس فان مقاربتهم الأمر، بحسب جوزف ستيغليتز حائز جائزة نوبل للاقتصاد، تقوم على أنهم "يستعملون خراطيم النار من أجل نزع الطلاء المتفقع عن منزل ما، ثم يتذمرون من عدم تمكنهم من طلائه مجدداً بذريعة أن المنزل قد ترمد" [5] .
ولم يصبح الحد من الفقر مبرراً رسمياً للمساعدات الدولية إلا في أواخر تسعينات القرن الماضي. لكن بما أنها وضعت من أجل تحقيق أهداف أخرى من ورائها، مثل مكافحة الشيوعية وفتح الأسواق أمام المنتجات والمستثمرين الغربيين، يمكن التشكيك في حقيقة هذا التغيير في الاستراتيجيا. فالحقيقة أن المساعدات، كعامل استقطاب لدينامية التنمية، يمكن أن يكون له انعكاسات تحريرية أخرى مثل حملات التلقيح وتعزيز أنظمة الصحة العامة في جنوب آسيا وفي بعض الدول الإفريقية، ودعم حركة مناهضة التمييز العنصري والنضال ضد كبار الملاكين في تايوان الخ. وبالعكس عندما تكون المساعدة موجهة بنوع من المفهوم اللينيني للسوق (فرض نموذج مشارك وغير متكافىء في السياسة الاقتصادية لصالح الدعاية الأورويلية)، فإنها تصبح مشكلة بقدر ما هي حل. هكذا نجد أن عملية تصحير إفريقيا الساحلية والساحلية الجنوبية في سبعينات القرن الماضي قد أوكلت إلى شعوب تعيش في مناطق مشجرة وذات مراع، معروفة بقصر النظر وسوء الإدارة. غير أن هذه الاتهامات ليست شيئاً بالنسبة إلى الحقيقة وليست سوى ذرائع من اجل حرمان الشعوب من محيطها الطبيعي وتثمين مشاريع المعونات التكنوقراطية.
إن عمليات المساعدة على التنمية مليئة بالحالات الملتبسة. فأبعد من التصريحات يمكن القول إن واجب العطاء يخفي فكرة ملازمة له وأضخم بكثير هي الرغبة في الأخذ. فالتحويلات التي تجري من أموال الأغنياء إلى الفقراء أدنى بكثير من الأرقام الرسمية المعلنة. فمعظم المبالغ الممنوحة أو المقرضة تنفق في الدول المانحة أو هي تعود إليها عبر عمليات تسديد الدين وهروب رؤوس الأموال وتحويل الأرباح سرياً وهروب الأدمغة وشراء المواد والمعدات... ففي العام 2001 مثلاً منحت الدول النامية مساعدات بقيمة 29 مليار دولار فيما عاد منها 138 مليار دولار إلى الدول الدائنة على أساس تسديد الدين [6] . والجميع، من عالم الاقتصاد جوزف ستيغلتز إلى رجل المال جورج سوروس، يتفقون على القول بأن الفقراء هم الذين يساعدون الأغنياء.
وإن ظل هناك دائماً في الخطابات بعض الموازنة بين الاهتمامات الاتجارية (المركنتيلية) والمصالح الجيوسياسية، فليس من السهل دائماً العمل على كشف التراتبية الفعلية للدوافع، إذ أن النخب قد برعت في تغيير التعابير اللغوية من دون تغيير السياسة، من "النمو المتوازن" إلى "فتح الأسواق" و"تلبية الحاجات الأساسية" و"مكافحة الفقر" الخ. كلها تشكل مظهراً جديداً للرؤية نفسها. فالمساعدة تبدو مثل مسرح ظل يصرف الانتباه عن الرهانات الحقيقية. فالحروب التي شنت من بعد على أنظمة وطنية يسارية أو ضد الدول التي تزرع الأفيون أو الكوكا قد زرعت الفوضى في مناطق من المفترض بالمعونات أن تساعدها. أما عملية إغراق السوق التي اعتمدها الغرب لصالح منتوجاته من الحبوب أو اللحوم أو الأنسجة قد أكلت، إن لم نقل قضت على أشكال الدعم المعتمدة للمنتجات المحلية في إطار هذه المساعدات. وكذلك فان من المفترض بالدول الفقيرة أن تنمّي رأسمالها البشري بفضل المنح المقدمة عبر المساعدات، ولكن الدول المانحة توظف في الوقت نفسه وبقوة أختصاصيين في مجال الصحة ومهندسين ومعلوماتيين من الجنوب. فواحد من كل ثلاثة أفارقة يحملون إجازة جامعية يعمل خارج القارة الإفريقية.
والحال فأن مساهمة المساعدات في فرض أصولية ليبيرالية هي في أساس كل حالات التضارب هذه، وهي بتواطئها مع مدرسة ذات فكر اقتصادي تعزيمي، تولد هذه التناقضات. ففي أميركا الجنوبية وإفريقيا والاتحاد السوفياتي السابق تسمّى انعكاسات هذه الرؤية السياسية نمواً ضعيفاً أو فصلا اجتماعيا أو إفقار الخدمات العامة أو عدم الاستقرار السياسي. غير أن هذه الظواهر بالتحديد هي التي تفقد المساعدات فعاليتها. وهكذا فان التوجهات السياسية الاشتراكية في تانزانيا، في سبعينات القرن الماضي أغرت في السويد الاشتراكيين الديموقراطيين الذين شجعوا على دعم القطاع العام وعلى الاستقلال الوطني. لكن في أواسط الثمانينات جاءت الموجة النيوليبيرالية وفرض تنسيق المساعدات لتحمل السويديين على التوقف عن دعم تانزانيا في رفضها عملية الإصلاح البنيوية. ومذاك ارتكزت سياسة ستوكهولم على "توافق" واشنطن.
والكلام عن المساعدات يستخدم عبارات من نوع "مشاركة المواطن" و"التحكم المحلي بالسياسات". غير أن مفهوم المساعدة وتنظيمها وتنفيذها يبقى من امتيازات الأجانب. وحتى عندما لا تكون الوكالات الغربية في الواجهة فان المؤسسات التي تنوب عنها والمتشكلة في دول الشمال، مثل "شيكاغو بويز" في أميركا اللاتينية أو "بيركلي مافيا" في اندونيسيا أو "أفريكاغوبويز"، تلعب دور المروّج البارع للمبادئ نفسها وذلك بفضل المواقع الاستراتيجية التي تحتلها داخل وزارات المال المحلية أو في المصارف المركزية.
لم تساهم آليات المساعدات في السنوات الخمس والعشرين الماضية في إضعاف السيادات الوطنية فحسب، بل ساهمت أيضاً في نزع الشرعية عن الدول وعن السلطات العامة. وهذا ما يتضح من طريقة إدارة هذه المساعدات. فالدول المانحة تفضل التعامل مع شركات خاصة أو منظمات غير حكومية أو مع بنى شبه رسمية بحسب الواقع على الأرض مثل شركات الإعداد والتنمية في إفريقيا الغربية.
وهذا الموقف يخرج الدول من دائرة العمل (حتى إذا وظف غالباً أفضل العملاء الرسميين لإدارة المساعدات المعفاة من الضرائب) ويمنع أي رقابة ديموقراطية. فالسلطات المحلية تقدم الحساب أمام الدول المانحة أكثر منها أمام مواطنيها. وفي النهاية فان الدولة كما مفهوم السياسة العامة يفرغان من مضمونهما. وفي الكثير من الدول التي تتلقى المساعدة نجد أن هناك تقهقراً في الخدمات العامة الأساسية (التعليم، الصحة...). وهو واقع يعترف به مثلاً تقرير نشر عام 2000 صادر عن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في خصوص مالي. وبحسب هذه الدراسة أن "المساعدات قد أضعفت المؤسسات الوطنية" بسبب التفافها على القطاعات الرسمية. ومن جهة أخرى فإنها معفاة من الضرائب والرسوم و"لا تأخذ في الاعتبار مساهمة الماليين في عملية التنمية". وتبرز منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التناقض بين أهمية المساعدة اللفظية للمساعدة (50 دولاراً للفرد على مدى عشرين عاماً) وحالة الركود، وحتى الانكماش في مستوى معيشة الطبقات الوسطى والفقيرة في هذا البلد الذي أخضع منذ العام 1981 لخطط إصلاح بنيوية [7] . يضاف إلى ذلك أن عمليات الخصخصة، وفي ظروف غامضة إجمالاً، قد أدت إلى نشوء طبقة من حديثي الثروة مرتبطة بالمصالح الغربية وغذت نوعاً من الاستخفاف العام. إنه النظام العام بأكمله الذي بات عرضة للتفكك.
وفي أواسط تسعينات القرن الماضي كان من شأن خطر انهيار بعض الدول وعدم احترام شروط الحصول على المساعدة والتهديد بعدم تسديد الدين، أنها أدت إلى تغيير التوجه. فأصبح مفهوم "الإدارة الجيدة" واحداً من شروط الحصول على المساعدة مع وضع هدف رسمي هو مكافحة الفساد وجعل الإدارة العامة أكثر "شفافية" وزيادة الجهود الضريبية والسماح للأصوات المعارضة بالتعبير في الصحف وفي المجتمع المدني. لكن إن كانت الإصلاحات ضرورية في الغالب فان كثيرين لا يرون فيها سوى مناورة لمواصلة سياسات التقشف الشعبي وتشويه القوى الرسمية، ويشددون على الاستمرارية الإيديولوجية في هذا "التحول" [8] . وماذا ستكون عملياً محفزات الأشخاص المكلفين النهوض بـ "حسن الإدارة"؟ من موروثات نظام المساعدات إفلاس ديموقراطي كبير يبقي في الحكم تكنوقراطيين وطبقات سياسية ومؤسسات ترى في جاذبية الربح أمراً جيداً وتعتبر السياسة تفنناً في منع المواطنين من التدخل في القضايا التي تعنيهم.
على كل حال، فان رغبة في التغيير تتجلى في كل مكان من العالم تقريباً. فهناك مناضلو الجمعيات وجامعيون ووحدات أبحاث قد رفضوا، وفي رعاية الأمم المتحدة، الاستسلام أمام عملية التخويف الفكرية التي تمارسها بعض المؤسسات من نوع البنك الدولي. وهم شككوا في صدقية الأحاديث عن "السياسة الجيدة" المطلوب تنفيذها. ففي الهند والبرازيل أدى النقد الموجه إلى مشاريع المساعدة على النمو التي تدمر المحيط البيئي أو القروض التي تنتهي بإفراغ الموازنات العامة إلى بعض الإصلاحات في تسعينات القرن الماضي، مثل تقييم المشاريع ودراسة انعكاساتها على الفقر. وبذلك لا يكون في الضغط الممارس على الأجهزة الدولية أي تطرف. فهو بكل بساطة تصرف من ضمن التصرفات التي يفترض أن تقوم بها أي سلطة عامة في الأنظمة الديموقراطية.
ويعتبر البعض أنه لا يمكن إصلاح نظام المساعدات الدولية وأن من المفروض إلغاءها إلا في الحالات الطارئة . وعلى كل حال، يجب استكشاف وسائل أخرى في اتجاه عملية تنقيح للمبادئ التي تحكم العمل العام. فيمكن إعادة النظر في المساعدات في إطار إنشاء جهاز تشريعي أكثر اتساعاً من أجل إعادة توزيع الثروات فعلاً على المستوى العالمي وتعزيز التلاحم الاجتماعي. فمثل هذه الآليات لتوزيع الضرائب أو للتضامن، مألوفة في الدول الغربية لصالح المناطق الفقيرة ويشرف عليها نواب الأمة. فتحويل الثروات هذا في شكل "كتلة واحدة" تستجيب أولاً اهتمامات المستفيدين منها أكثر من المؤسسات المالية. وأنظمة من هذا النوع تعمل بشكل أفضل عندما تكون الساحة السياسية مفتوحة بالشكل الكافي ليتمكن المواطنون ووسائل الإعلام من متابعة النتائج ومراقبتها. وفي هذه الحال يمكن المساعدة العامة أن تساهم في تعزيز الحيز الاجتماعي العام. فإذا كنا نرغب في استبدال نظام المساعدات الحالي المكلف وغير المنتج وغير الديموقراطي، يمكننا أن نستوحي نماذج توزيع الثروة العامة الموجودة سابقاً.
--------------------------------------------------------------------------------
* مؤلف كتاب
Les Mirages de l’aide internationale, Enjeux Planète, Paris, 2003.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] . في العام 2002 وبعد خفض على مدى تسع سنوات، ارتفع حجم الأعمال الإجمالي للمساعدات الرسمية ليصل تقريباً إلى المستوى نفسه بالأرقام؟؟؟ الذي كان عليه في العام 1991. غير أن هذا الارتفاع هو في جزء منه مصطنع لأنه مما احتسبته الدول المانحة قد احتسبت مصاريف التشغيل.
[2] لم يخلُ على كل من بعض الاستثناءات. ففي فرنسا مثلا كان من المطلوب فتح الأسواق أمام المنتجات الأميركية حتى الأفلام منها.
[3] اراجع:
Simon Kuznets, “ Economic growth and income inequality ”, American economic review, Princeton, vol. 45(1): 1-28, 1955.
[4] راجع:
Simon Kuznets, “ Economic growth and income inequality ”, American economic review, Princeton, vol. 45(1): 1-28, 1955.
[5] اقرأ:
Joseph Stiglitz, “ Wither reform ? ten years of the transition ”, discours devant le conseil d’administration de la Banque mondiale, avril 1999. http://www.wordbank.org/research/abcde/pdfs/stiglitz.pdf
[6] . اقرأ:
Eric Toussaint, “ Briser la spirale infernale de la dette ”, Le Monde diplomatique, septembre 1999.
[7] راجع :
Jacqueline Damon et al, Réformer le système d’aide. Le cas du Mali, Club du Sahel/OCDE, Paris, 2000.
[8] اقرأ:
Bernard Cassen, “ Le piège de la gouvernance ”, Manière de voir, n°61 “ L’Euro sans l’Europe ”, février 2002.
[9] المرجع المذكور أعلاه :
Réformer le système d’aide. Le cas du Mali
جميع الحقوق محفوظة 2004© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#دافيد_سوج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟