|
العائلة المقدسة - الرقيّم الثالث - الأحـلام
حازم كمال الدين
مسرحي، روائي، مترجم، صحافي
(Hazim Kamaledin)
الحوار المتمدن-العدد: 932 - 2004 / 8 / 21 - 08:53
المحور:
الادب والفن
لوح خامس عشر بطاطس
كانت الأحلام متشابهة في بنيانها. عزيز الغضبان يرى نفسه يُقتل ويصعد إلى السماء. في السماء يطلّ عليه سور من الطين. في أسفل السور جحر كالغار أو الدهليز. يحشر عزيز الغضبان نفسه في الدهليز تساعده وتتبعه الملائكة. في نهاية الدهليز تنبثق بوابة الجنة! يدلف! الجنّة تشبه إلى حد بعيد المنزل القديم الذي ولد فيه. أبواب حجرات الجنة تطلّ على الباحة وكذا الشبابيك والممرات المبرقعة بالستائر. تنفتح أحد الأبواب فيرى عزيز الغضبان الممر المؤدي إلى الحمّام. من أحد الثقوب يرى امرأة عجوز تهجع في حوض زجاجي مليء بالماء، وتلبط ببطء كسمك الزينة. ينظر إلى فخذ المرأة ويهمس: ـ سليمة؟.. وهو في حيرة مما يرى. حيرة تبددّها شامة رابضة في أعلى فخذ المرأة العجوز. شامة قبّلها وداعبها كثيرا في صباه: شامة سليمة العذراء. ينتفض عزيز الغضبان وهو يرى كيف أنه لم يتعرف على أخته إلا من خلال علامة فارقة! تردّد سليمة العذراء العجوز وهي تسمع صوت عزيز الغضبان بصعوبة وتفتح عينيها الخالية من الرموش: ـ من هناك؟ ـ أنا عزيز الغضبان! ـ عزيز الغضبان؟! ـ نعم! أخوك! يؤكد عزيز الغضبان. ـ يا إلهي! بعد ثمانية وعشرين عاما!! تعوم سليمة العذراء بين أشجار قصيرة وأحجار صناعية ملونة، تتحرك زعانفها ببطء، ثم تستدير فجأة. تخبط الماء بذيلها مخلّفة فقاعات هوائية مختلفة الأحجام. ـ الخبّاز ما زال يسأل عن الدنانير العشرة التي لم تسدّدها له حين أرسلك أبي لشراء الخبز. تعوم بين الأشجار القزمة، تنهمر من فمها الكلمات والفقاعات وعلامات الاستفهام دون أن تنتظر إجابة، وكأنما الأجوبة قد حدثت قبل أن تطرح السؤال. ـ لماذا انقطعت عن الاتصال بنا كل هذا الزمن؟ خمسمائة عام من الضياع في أرض الروم؟ هل أنت في أرض الروم؟! هل أنت في بروكسل أم في برلين؟ هل تأكل بما فيه الكفاية؟ من يطبخ لك؟ هل لديك بطانيات؟ تفتقد البلح؟ تدور حول نفسها وتدور وكأنها ترقص رقص الدراويش! ساعداها الزعنفيان يرتفعان إلى مستوى الكتف ويتخذان هناك وضعية ثابتة، الزعنف الأيمن منفتح إلى الأعلى والأيسر منغلق إلى الأسفل، وقدمها الزعنفة اليمنى ترتفع لتضرب الزعنفة اليسرى وتنسحب حالما يحصل التلامس بإيقاع رتيب لتكرر التكّة الخفيفة مرة تلو مرة! ـ منذ عشرة أعوام والأملاح تغطي إقطاعيات الوالد. كل الجداول الصغيرة التي اجتمعت مع بعض لم تتمكن من إذابة أملاح الفرات. حتى البلح لم يستطع ذلك، لأنّ المردة الحمير انقضّوا عليه ودفنوه في أمواج الملح وهم يرددون خطابات رنانة عن السيوف الخذيني وعن (عين الذيب عيب تنام من تصوفر الحية) وعن البطاطة والطماطة والزلاطة. ولأجل أن يصل الوالد إلى البلح حيث ينتظره الفلاحون، يعوم ساعات في الملح، دون قارب، معتمدا على ساعديه القويتين. وحين يصل فلاحيه مهدودا بالتعب، وبعد أن يقبّلوا يديه الكريمتين ينمو ما بين ساقيه عمود داكن، يغشي بصره وبصيرته، فلا يعود قادرا على تمييز أي شيء. ولا يعود إلى وعيه إلا إذا ما شاهد امرأة، أيّ امرأة. عندها يمسك بزمام نفسه ويطلق من فمه رذاذ صراخ: ـ أزيلوا الأملاح عن سروالي. تصرخ سليمة العذراء كما كان يصرخ الأب بوجوه فلاحيه وتسترسل في حكايتها عن والدها صقر الصقور وفلاحيه المجبرين على منحه امرأة تزيل عنه مشقّة السباحة الطويلة في الملح كلما زارهم! تحكي بمزيج من كلام وقرقعة فقاعات هوائية كيف شاهد صقر الصقور في إحدى لحظات التقاط الأنفاس قبل ثمانية أعوام أجمل فتيات الفلاحين، وكيف قرّر أن يتزوج منها، وكيف أقام الفلاحون الغاضبون عرساً يليق بشبق الوالد وغزوا دبره بالبعابيص والزغاريد وأدخلوه غرفة العرس، وكيف وجد صقر الصقور في ثياب العرس عانس القرية البالغة من العمر ثمانين عاما بدلا من الفتاة الجميلة التي أراد، وكيف أنه لم يتمكن من التراجع عن الزواج؛ ـ أنت تعرف الطقوس! أم تراك نسيتها؟ ـ لم أنس شيئا. يصيح عزيز الغضبان بغتة كمن يدفع عن نفسه تهمة. وتسأله أخته فيما لو كانت الشريفة ما تزال تعتني به، وما إذا أنجز دراسته. وتصيبها صاعقة حين تعرف أنه ما يزال في الصف الثالث الابتدائي. تدور بغضب في الحوض الزجاجي وتسأله عن السبب، وتسأله فيما لو كان قادر على التأقلم مع أولئك الأطفال الشياطين المتجددين كل سنة. ثم تسأل فيما لو كان قد طبع كتبا كما كان يعد في طفولته، وتتساءل عن هوية القراء وتعجب أن ثمة قراء ما في مكان ما يشترون كتبا، وتسأل عن هوية القراء، وتباغته بسؤال: ـ هل تحدثت عني في أشعارك؟! لا تكذب!! ـ نعم! يصيح عزيز الغضبان كمن يدفع عن نفسه تهمة، فتباغته سليمة العذراء وقد استشاطت غضبا: ـ كيف تسمح للأغراب أن يطّلعوا على أسرار العائلة؟ وترتجل خطابا مفاجئا عن زوال مكانة عزيز الغضبان في العائلة المقدسة، وكأنها تتشفى منه بذلك. ترطن بحيادية عن وصول أنباء للعائلة فُهم من خلالها أن العسس قتلوهما هو والشريفة، وعن كيفية تسمية عمّار وريثا للعائلة المقدسة باعتباره آخر السلالة النقية، وعن العسس الذين داهموا غرفة نومه بعد عامين من اختفائه وعثروا على فجوة تحت إحدى الطابوقات تضم الملفّات السريّة أخذوا على أثرها عمّار رهينة واعتقلوها أيضا وهددّوا أنهم لن يطلقوا سراحهما إلا بعد ظهور عزيز الغضبان والشريفة، وعن اللحظة التي انتزعوا فيها عمّار من زنزانتها بعد أن قالوا أنّ هذا الطفل بحاجة إلى عناية خاصة ومكانه ليس السجن: ـ الطفل بريء لكن أهله هم المجرمون. تصيح كما صاحوا ولكن بصوت خافت حيادي، ثم تخبره دون أن تتحرك فيها أي مشاعر عن شائعات تفيد بأن العسس وضعوا عمّار تحت أشعة الشمس الحارقة وغطّوه بقبّة زجاجية ذات ثقوب إلى أن جفّ ومات، وعن شائعات تقول أن العسس أنشأوه على شاكلتهم ولم يعد يعرف من هو. تصيب عزيز الغضبان صاعقة من الصمت. تقول سليمة العذراء فجأة: ـ هل مازلت تفكر بي؟ ـ نعم! يصيح عزيز الغضبان كمن يدفع عن نفسه تهمة. فترد سليمة العذراء بحسرة أن البعل الذي يقاسمها الفراش منذ أكثر من عشرة سنوات لم يفكر بها يوما، ولم يمنحها أطفالاً. وتعصر ثديها وتقول: ـ لقد جفّت أثدائي من الحليب بعد أن كنت موعودة بطفل من أصل مقدس! بيد أن زوجي كان متزوجاً من قبلي بمدفع هاون تلقّف قنبلتيه السفليتين ذات حرب وأطلقهما في إحدى الزنزانات... زوجي معروف في تجارة اللحوم. كل ما يُهرّب بين سمرقند وجنة عدن لا يتم إلاّ من خلاله. ـ لماذا تزوجت منه؟! يسأل عزيز الغضبان. ـ لأن سخّان المياه عاطل والمياه قذرة وعفنة وعندما تدخل في الحنفيات تلوّث حتى الميكروبات. تصيح سليمة العذراء وتضيف: ـ لذلك قررت أن أدمر عدّادات إسالة المياه. هل جلبت لي معك من أرض الروم كوندومات؟ ـ نعم! يصيح عزيز الغضبان كمن يدفع عن نفسه تهمة. ثم سرعان ما يتمالك نفسه ويقول: ـ لا! لماذا؟! ـ عد إلى أرض الروم واجلب لي كوندومات تقيني مشاكل العمل يرحم أبوك ويسكنه فسيح جناته. وعندها يفقد عزيز الغضبان رباطة جأشه! يرمي ثقب الباب بكتلة من الطين بينما يغدو صوت سليمة العذراء وهي في الحوض الزجاجي المليء بالماء غناء شجيا يلاحق عزيز الغضبان وهو يدور في الجنة التي وجد نفسه فيها برفقة الملائكة. لوح سادس عشر الملفّات
الممرات ذاتها. الشبابيك. تعريشات النباتات تكتسي الجدران؛ لون الحنين وتخطيطات الأحلام المنسية. ينفتح أحد الأبواب. يظهر الممر المؤدي إلى.. لكن الحلم، أو طريق الجنة، ينعطف فيعرّج على ممر آخر تنفرج في نهايته باب تليها ستارة. من شقّ الباب يرى صالون المعيشة. صالون مغطى بشراشف رمادية شفافة، شبابيك مسدلة الستائر وإبريقا كبيرا. يجد نفسه في الصالون. يقترب من الإبريق، ينظر في داخله فيرى امرأة قد بلغت من العمر عتيا. تتحدث عن زمان في رأسها، وتدور مع عكازة متبعة الخطوط الدائرية المنحوتة في الإبريق السيراميكي. يدخل عزيز الغضبان الإبريق، يمشي بين تعاريجه الداخلية إلى جانب المرأة، يصل بستانا زجاجيا يرفل بالثمر. الشمس الداخلة من عنق الإبريق تضيء بستانا شفافا أصله نيجاتيف صورة. بدون مقدمات، ولا تحايا أو أشواق للقاء دام تمنيه 28 عاما يقول عزيز الغضبان: ـ أنا مريض! بدون مقدمات، وكأن الأمر الحوار لم ينقطع ذات يوم تبقبق المرأة بقبقة ماء في قدر أصابه الغليان. تضرب بعكازها على الإبريق: ـ ماذا هناك؟ ـ لماذا لم تأتِ معي؟ يموء عزيز الغضبان. ـ معك؟! لقد ارتبت بي وقلت لا أريد أن أرى سليمة العذراء بعد اليوم. يدقق عزيز الغضبان بالمرأة فيرى فيها سليمة العذراء وهي تنقر بعكازها: ـ أرتاب فيك أنتِ؟ لا! ارتبت بإساف زوج دجلة الغضبان، نعم، ذلك أني اعتقدت أنهم جندّوه ووشى بنا تلك الليلة. ـ لقد ضربتني بغصن الرمّان البارد؟ تلوّح سليمة العذراء بعكازها. تصيب عزيز الغضبان ضربة شمس حين يتذكر أنه ضرب سليمة العذراء دون رحمة في تلك الليلة قبل 28 عام. يدوخ. يدور بعيدا عنها كزهرة عباد شمس تبتعد عن الظل. يلتفّ على إحساسه بالخطيئة ويغيّر الموضوع: ـ ما هي أخبار عمّار؟ تقول سليمة العذراء وكأنها تضع خضارا في ماء مغلي: ـ عمّار؟ لقد عفى الزمن على كل ما حدث! ـ هل انقطعت أخباره؟ يكتشف أنه يورّط نفسه في حديث لا يريد أن يخوضه، فيخرج من الحديث كمن يخرج من بوابة غرفة. صمت طويل. يقول عزيز الغضبان بعد فترة: ـ هل سامحتني على سلوك ذلك المساء؟ ـ أستطيع أن أفهم لماذا فعلتَ ذلك! تجيب سليمة العذراء، وتضرب ضربا لا إراديا بالعصا على السيراميك، وكأنها تخلط خضارا بماء مغلي في قدر. يشعر عزيز الغضبان أنه سيورّط نفسه مرة أخرى في حديث يريد أن يتجنبّه. يغلق بوابة الحديث. دهر من الصمت. يقول عزيز الغضبان: ـ كان علينا أن نتلف تلك الملفات، لا أن نخفيها في تلك الفجوة تحت الطابوق! تزعق سليمة العذراء وتشير بالعصا إلى عزيز الغضبان بحركة من يدعو واحد لتناول حساء جهز للتو: ـ لقد استدل رجال العسس السري على ذلك المخبأ بمساعدة إساف. يتنفس عزيز الغضبان الصعداء هدفه أن يصدق حكاية أخته العجوز بأن ابن خاله وزوج أخته إساف يقف وراء تلك الأحداث المأساوية. يوغل عزيز الغضبان في التصديق غايته تبرئة ساحة نفسه أمام نفسه، لكنه إذ يتكلم يخرج حوار مناقض لنواياه العقلية: ـ كان علينا أن لا نضع تلك الملفات تحت الطابوق. ـ لقد حذّرت في حينه من ذلك. لكمة من الصمت. يبحث عزيز الغضبان عن مفاتيح جديدة لكي يخلي سبيل حاله من الذنب، بيد أنه ما أن يفتح فمه حتى تنطلق منه مرة أخرى كلمات لا إرادية: ـ ألم تسمعي أي شيء في السجن عنه بعدما أخذوه منك؟ بقعة من الصمت. يثور عزيز الغضبان على نفسه لأنه ورّط نفسه مرة أخرى بحديث يريد تجنّبه: ـ لو كنت أعرف استخدام السلاح لما هربت هروب الجبناء. ـ كنت صغيرا ولهذا لم تتعلم كيف تحمل السلاح. ـ لم أكن صغيرا. لقد قرأت كل كتب الفلسفة. لطخة من الصمت. تسأل سليمة العذراء وكأنها انتهت من تناول الحساء: ـ كيف حالك؟ ـ كانت الملفات هي السبب في الـ.. ألهذا السبب تم اعتقالكما؟ هل صحيح أنهم رموا عمّار في أحد الزنزانات الزجاجية تحت الشمس الحارقة إلى أن مات من البكاء وتيبس؟ هل هذا صحيح؟.. سليمة! يردد عزيز الغضبان بلوعة طفولية محزنة. تسيل من عينيه دموع مختلطة بحشائش صغيرة ميتة. ـ عزيز الغضبان... لقد مضى على هذا زمان طويل. يا حبيبي! ـ إذن لم تكذب الأخبار! ـ أنت لست مذنباً في شيء تقول سليمة العذراء. بيد أن الصمت يصادر كيان عزيز الغضبان. يتوقف عزيز الغضبان في مكانه ويستحيل تمثالا حيّا. تهزّ سليمة العذراء العصا وكأنها تستعد تفرغ ما بقي من حساء في صحن: ـ لا تكن بمثل هذه البلاهة فلو افترضنا أن عمّار مات فلست أنت من قتله بل ابن خالنا ومديرية العسس السري..... وكأن سليمة العذراء تغني تتبع طريقا متعرّجا في الإبريق: ـ في الصندوق الذي أرسله العسس إلينا لم يستطع أبي التعرف على عمّار. تقول وكأنها تقرأ تعويذة لطرد الشياطين. تتبع مسلكا آخر في الإبريق: ـ كانت لدى عمّار ندبة فوق الحاجب الأيسر لم نجدها في الجثة. تقول سليمة العذراء، وتقرأ شعرا وتتبع ساقية طويلة: ـ كان الوجه مسلوخا. تقول سليمة العذراء. ينوح تمثال عزيز الغضبان نواح الثكلى. ـ إذا بقيت تبكي بهذه الطريقة سأطردك وأغلق الإبريق! تقول سليمة العذراء. ـ أشفق عليّ.. تقول سليمة العذراء. ـ أنت لم تطلق عليه النار.. تقول سليمة العذراء. ـ عزيز الغضبان.. تقول سليمة العذراء. ـ كفّ عن هذا العويل الجنائزي يا خرا! تقول سليمة العذراء، وتضرب بإبهامها على العصا. تدور في حلقة الإبريق الداخلية المعتمة. تهشّ عزيز الغضبان بعصاها حتى يجد نفسه خارج الإبريق، ثم في باحة الجنة من جديد. لوح سابع عشر كيف حال الشريفة؟
يتلفّت عزيز الغضبان في الباحة. ممر في نهايته باب. من شقّ الباب يرى صالونا مغطى بشراشف صفراء. شبابيك مسدلة الستائر. يجد نفسه في وسط صالون الضيافة. ثمة طاولة واطئة. فوقها فناجين قهوة. ينظر عزيز الغضبان فيرى نفسه في فنجان قهوة ينتظر أن يقرأه شخص ما. يرى سليمة العذراء أيضا داخل الفنجان. ـ هل تعتني بها جيدا؟ ـ أعتني بمن؟! ـ الشريفة العزيزة. يشاهد عزيز الغضبان من بعيد خط متعرج وكتلة كبيرة غير منتظمة من القهوة الجافة وهي تمنح مفاتيح طريق آخر: إلى قمة جبل، أم لعله رأس نسر؟ ـ كنت أحلم أن نلتقي في أرض الروم وليس هنا. كنت أود أن أريك بحيرات الشمال.. أن أريك لحظة امتزاج البحيرات مع الأفق... تهبّ سليمة العذراء هبّة ماء في ركوة قهوة منسية على نار. تقول وكأنها تضع قهوة مرة أخرى في الركوة: ـ والشريفة العزيزة؟ ـ كنت أريد أن أريك كيف تولد الشمس بين أمواج البحيرات كالنحاس... تعرّج سليمة العذراء على أخدود بين كتلتين من القهوة يمتزجان بخط متعرّج يظهر ويتلاشى، وتظنّ أنها ترى في البعيد، بجانب رجل مديد القامة نحيف كخيط حياكة ينتفخ بالعقد، ما يشبه القمر الأسود. ـ وماذا أردت أن تريني أيضاً؟ يتردد عزيز الغضبان فيلجأ للمزاح، يحكى عن أبقار حمراء، أحذية من غيوم، سلالم ذهبية. تجيب وكأنها تخلط القهوة بسكّر معتدل. تزعق وتشير إلى عزيز الغضبان بحركة من يدعو واحد لتناول قهوة جهزت للتو. تسأل وكأنها قلبت فنجان القهوة بعد أن فرغ فوق طاولة وراحت تنتظر أن يجف. تهزّ بدنها وكأنها تستعد لقراءة فنجان القهوة المقلوب. تغني مقطعا من شرح الجلجلوتية. تقرأ تعويذة لطرد الشياطين. تقرأ شعرا وتتبع ساقية طويلة. تقول كمن يبصم في قعر فنجان قهوة تيبّست. تتبع خطا آخر. توغل سليمة العذراء معه باللعبة وتزيد من الأسئلة، يردد عزيز الغضبان بآلية دون أن يميز بين سليمة العذراء البعيدة وكتلة تشبه بحيرة من الطين على جرفها حصان: ـ هل أردت أن تريني رموش البحيرات؟ تقول سليمة العذراء. يردد بنفاذ صبر أن: نعم! ويترك الأسئلة والأجوبة تترى: رموش اصطناعية؟ نعم! فرشاة أسنان من الشعر الحقيقي؟! نعم! أسنان لا يزرية؟! نعم! كوندومات ذهبيةً؟ وتصيب عزيز الغضبان رعدة عند سماعه كلمة كوندومات. يتوقف عن الركض. يلتفت إلى ظل سليمة العذراء المتكئ على سلسلة جبلية من القهوة الجافة، ويسأل الظل بدهشة: ـ لماذا تسألين هكذا سؤال؟ فترتبك الأخت. تهبط في أحد وديان القهوة الجافة قبل أن تجيب بتلكؤ: ـ الحيوانات في الخطوط الأمامية تريد أن تتبادل الآيدز أحيانا بدل الطلقات. ـ هل أصبحت عاهرة في الخطوط الأمامية؟ ـ لا! تجيب بتحدي، وتضيف: ـ أنا ربّة منزل. ـ وما علاقتك بالكوندومات إذن؟! تنظر إليه بأسف ولوم: ـ لقد قضيت شبابي مع أحد الملائكة تحت سقف واحد. وعود وأشجار تين وزيتون وأنهار تجري من تحتها الـ....... بيد أنه وقت رحل تحت جنح الظلام نسي أن يرسل رحمة الله إلي. ـ أنا لم أنساك. ـ كيف حال الشريفة؟ ـ مذ لعبنا تلك اللعبة..... ـ كيف حال الشريفة؟! ـ كان علينا أن نتزوج. ـ كيف حال الشريفة؟! ـ لو كنا تزوجنا لما أنحدرت الأمور إلى هذا المستوى. ـ نحن في زمان لا يحق فيه للأخ أن يعاشر أخته! ـ هل أنت عفيفة؟ ـ لم أكمل كلامي بعد. ـ هل أنت شريفة؟ ـ دعني أكمل كلامي أيـ... ـ لن تكملي. هل غطست في سرير رجل آخر؟ عاصفة من الصمت: ـ عندما رحل حبيبي في ذاك الزمان باعني، وباعني من بعده أهلي وقت عزّ الرجال! لا أحد له الحق في اللوم. زوجي يشتغل في تصدير العاهرات إلى الخطوط الأمامية. ـ هل تزوجت من قواد؟! تبتلع الإهانة ببطء: ـ أتعرف ما معنى أن يكون لدى المرأة رجل أيام الحرب؟! ـ لقد وعدت ملاكا بالانتظار! ـ ملاكي مازال صبيا. ـ أنا لست صبيا. لقد حملت مني! ـ كان ذلك لعبة أطفال. ـ الحمل ليس لعبة أطفال. ـ كنت طفلا، وكنت لم تبلغ السنة الثانية بعد! ـ كنت تعرفين أني رجل في جسد طفل. ـ كنا نلعب لعبة بيت أبو بيوت. كل الأطفال يلعبون هذه اللعبة! ويقفز عزيز الغضبان من الفنجان. لوح ثامن عشر عمّار
في بطن حوت في إحدى جنان الله في الحلم يلتقي عزيز الغضبان أخاه عمّار. وهو الشقيق المولود قبل عام من رحيل عزيز الغضبان وتركه العسس السري يجف تحت قبّّة زجاجية وضعوه داخلها منتصف شهر آب، ولما يبلغ عمره السنوات الثلاث: ـ أنت عمّار؟! ـ نعم! أنا أخوك، عمّار. ينظر عزيز الغضبان بريبة إلى تلك السلّة الكبيرة التي تحتوي عمّار. يرى أن الطفل الذي مات من اليباس قد أصبح رجلا في التاسعة والعشرين من العمر، ولكنه رجل مجفف كالمومياء. ويفكر عزيز الغضبان أن ظهور أخاه هو ظهور من يحمّله مسئولية موته، فيقود الحوار إلى منحى بعيد: ـ أنت على علم بكل شيء. ـ أي شيء؟ ـ لا تراوغ. أعرف أنها أخبرتك. ـ ماذا تعني؟ ـ أتعتقد أني أبله. لقد قضيتما فترة طويلة في زنزانة واحدة. يرى عزيز الغضبان عذوقا ما زالت تترك التمر يتساقط ناضجا فوق التراب. حار، طازج. نصفه بني ونصفه أصفر، يرى أن النخلة ما زالت ترتعش من اللذة: ـ هل أخبروا عمّار أن أبي كان يضعني في السلة، ويحملني معه إلى قلب النخلة، يقطف التمرات ويضعها في السلة. هل أخبروه ما حدث في مناسبة تجاوزي سن الأربعين يوما؟ يرى نفسه وقد وضع سلّة التمر وصقر الصقور ينظر إليه. وكلّما يرى صقر الصقور ابتسامة عزيز الغضبان يهبط من قلب النخلة ليقبّله. يأخذه في السلّة إلى قلب النخلة، يقطف التمر وهو يتمتم، ينظر فجأة في السلة فلا يرى عزيز الغضبان. يحث بين نوى التمر ويخرجه من قلب السلة. ـ معجزة! معجزة! لقد اختفى كل التمر في أحشاء الابن المقدس. يصيح النصب التذكاري ويهرول ناحية الأم سارة ليزفّ لها أخبار معجزة ما. تركض الأم سارة بجنون! تريد أن ترى فيما لو كان عزيز الغضبان حقا ما يزال على قيد الحياة. وعندما لا تجده، لا في السلة، ولا في الحديقة يجن جنونها، ولا يهدأ إلا حين تلامس أقدامها الحافية رطوبة فوق الآجرّ. تتابع سارة آثار الزحف الرطب فوق آجرّ الباحة، حتى تصل السلم العتيق في نهاية الباحة، حيث يطلّ من فوقه باب عجوز محتضر، باب مخزن البلح. تبحث عن عزيز الغضبان بخوف مريع وسط ثمار التمر المتعفنة أولا وبين الديدان العملاقة التي نمت هناك بعيدا عن الناس ثانيا. ذلك أن أحدا ما لم يجرؤ منذ زمن طويل على دخول المخزن إلا لا لغرض واحد: رمي التمور البائرة واغلاق الباب بسرعة البرق. وبعد أن تبحث سارة في نهاية المخزن الكابوسي بين الديدان تشاهد عزيز الغضبان لكنها لا تميّزه عن الديدان أولا، ولذلك تصيح: ـ تعال يا صقر الصقور؛ أيّهم وريث العائلة المقدسة وأيّهم الدود؟! بعد صمت طويل يعلّق عمّار: ـ أنت تماما كما كانوا يصفونك لي. رجل في ثياب طفل يتحدث طوال الوقت عن التمر القديم! ـ أنا لم أختر أرض الروم بحثا عن الراحة. تريد أن تتأكد؟ تعال! يتناول عزيز الغضبان من بطن السمكة بقايا معدن حاد، يحيله سكينا ويرميه في سلة أخيه الواسعة: ـ هيا، إطعن! بيد أن الأخ المجفف المأخوذ يرمى المدية خارج السلة. ـ هذا ليس صعبا عليك. ألم تكن ضابطا في فرق الإعدام؟ يقول عزيز الغضبان ـ لا.. لم أكن ضابطا في فرق الإعدام. ـ لقد أخذوك من أحضان سليمة العذراء وأخضعوك لتربيتهم وصنعوا منك جلادا! ـ لقد تركوني أتيبس في زنزانة زجاجية تحت الشمس وهم يتضاحكون قائلين: سنصنع من هذا الطفل سميطا بشريا! ـ الجميع يحمّلني مسئولية موتك. ـ لا أحد يحمّلك أية مسئولية.. ـ أنت تكرهني. ـ أنا لا أكرهك. ـ طبعا لا! أنا الغبيّ الذي نسي من أنت. أنا الذي نسي أنهم أطلقوا عليك اسم الحكيم المنتظر بعدما يأسوا من معرفة مصيري. أنت المخلّص الذي سيزيل إحساس الخذلان عن كاهل العائلة المقدّسة إلى الأبد. أنت من سيجترح المعجزات...... ـ أتعرف كم يفتقدك أبي؟ ـ يفتقدني؟! ـ نعم. ـ حقا؟! ـ لقد قطع قدمه اليسار لأجلك. ـ لأجلي؟! ـ نعم. ـ لماذا؟! ـ ذات يوم وضعني في سلّة كما هي عادته وراح يقتلع شجرة بالفأس. وعندما ظنّ أنه سمع صوتك قادم مع الريح ضرب الفأس في المكان الخطأ وقطع قدمه اليسار بدلا عن ساق الشجرة. بعد صمت طويل يرمي عزيز الغضبان السكين مجدّدا في السلّة: ـ خذ! إطعن! لكن عمّار يهرب في أعماق السلّة التي بدت للطيّب كفوهة بركان برد للتو: ـ اللعنة. إطعن أقول لك! ويهزّ عزيز الغضبان السلّة هزا عنيفا: ـ أخي! يصفع السلّة: ـ اقتلني. يصفع عمّار بوحشية. لكن عمّار يخفي وجهه في شرشف السلّة. يغرز عزيز الغضبان المدية بين ساقي أخيه: ـ أنا لا أمتلك الشجاعة لأن أفعل ذلك بنفسي. بعد صمت يقتلع عمّار المدية ويعيدها إلى عزيز الغضبان: ـ لن يساعدك أحد. هنا، في الجنة، لن يستطيع أحد أن يموت. إذا كان لديك إحساس بالذنب عليك أن تتعلم التعايش معه. ويغطي عمّار نفسه بالشرشف ويغيب. سكاكين في الزغب. يضع عزيز الغضبان فوق عويناته سوائل تصبح دموعا. يغرز عويناته بالزغب. بالسكاكين يقتلع وجهه عن العوينات. تلامس أحراش عينيه الهواء للمرة الأولى منذ ثلاثة وثلاثين عاما. لوح تاسع عشر هلوسة عربات
تراكمت الأحلام وصارت سدّا في وجه عزيز الغضبان. بكى عزيز الغضبان. أحس بأنه منفي داخل ذاته. لا شيء يمنعه من العودة إلا هذه التخيلات اللعينة التي ينتجها بنفسه. سهر اللّيالي الطوال يضرب أخماسا بأسداس لكي يمنع توالد الأحلام، لكي يطردها، لكي يتجنّبها، لكي يهملها. فمشى عند أسوار المدن القديمة وشجّ رأسه بالأحجار علّ الأحلام تتقافز مفزوعة هاربة. قفز على ظهر حصان حين وجد نفسه في غابة كثيفة معتقدا أن بإمكانه أن يهرب ويترك الأحلام تائهة لا تعرف طريق العودة إليه. جلس عند حافة الأنهار ورمى ما في جيوبه من كوابيس. سرق تمائم من صندقجة الشريفة لعلّها تطرد ما يسكن فيه من هذيانات. جرّب أن يعثر على أفضل الطرق الواجب سلوكها إلى مكتب السفريات دون أن تعترضه رؤيا ما، خيال ما. بيد أنه ما أن أخذ باص رقم أربعين حتى صاح صوت في رأسه: ـ كيف يمشي بسرعة ستين ورقمه أربعون؟ ـ ما الخطأ في الأمر؟ ـ لا، لا! لا يجب أن تتراجع! ـ يا ثرثار. رأى أخته بانتظاره. سمع صوت. لا إله إلا الله. كوندومات. خذ معك كوندومات. الملح يغطي أراضي الوالد. باصات الجيش؟! لا تسرع يا جرذا ذا عوينات. لا. اركب الشمندفر! مقطورة من هنا، وفاركون من هناك بينهما يضيع الحلم! علّب الأحلام في قطار شحن! للريل وحمد! وقف في محطة قطار. ثمانية أرصفة للقطارات في محطات الروم. خط رقم 18 يستطيع تجنّب الكوابيس، ميترو رقم 6 باء يدهس كل احتمال لأحلام اليقظة! غيّر ترتيب مقطورات الريل وفكّر بالشريفة العزيزة، بالخطوط الأمامية، بقواويد خط النار! مقطورة شحن، عربة نقل أسلحة، لوري موتى، هارموني! هارموني! طائرة سمتية، أتتركون حمار الله وتركبون الشمندفر؟ دراجة هوائية، حصان من حديد. حصان طرواده، عمّار مقدّد، زبر الوالد في فراغ مظلم. قف! إلى الخلف در! إلى الأمام في الرتل! دبابة، مدرّعة، لاندروفر، تاكسي، سيارة أجرة، سيارة عادية، سيارة مجمدة، بيك آب، شاحنة، موتور سايكل، سفينة نوح. قف! إلى الخلف در! إلى الأمام في الرتل! فرقاطة، غواصة، باخرة، طائرة ورقية، منطاد، ميترو، تلفريك! قليلٌ من الهجع.. هجعٌ. هجعٌ.. هجعٌ يفيض بالعربات. هجعٌ، هجع. العربة الحقيقية التي توصله للقبيلة هي: أم الجبك جبك. لا، العربة الحقيقية هي الأقدام. مشيا على الأقدام. لا، بل هي عربة خيول. لا، شمندفر، ريل، لا، في باص مصلحة نقل الركاب، بغل، بغل، بغل، بيك آب، حمار، قفزة ثلاثية، زانة، لام، مشيا على الأقدام، صفير، قارب، بعير، حمام زاجل، زفير، طائرة ورقية، هدير، قارب، صغير، قارب، بغل، بغل، حمام، علامة استفهام، سفينة، سفينة، بعير، مشحوف، سفينة، قارب، بيك آب، طائرة ورقية، ألف، تاء، لام، نون، باء، بعير، صفير، واو، زاي، على ظهر الجاموس، إحدى عشر طائرة، أين الناموس؟ ألف غواصة، مائة وأربعون مليون طريقة يا مهووس!! وهكذا ظل عزيز الغضبان يدور حول نفسه حتى نام ووجد نفسه في الجنة. العائلة المقدسة الرقيّم الرابع دبّور النار لوح عشرون أبنـاء دجلة الغضبان
قرر إساف بعد هروب الشريفة واختفاء عزيز الغضبان أن انتقامه من العائلة المقدسة قد اكتمل. وكرّس سبعين أسبوعا لبناء صرح الحب مع المرأة التي اتهمها بعدم العذرية، وكان ميثاق ذلك الجهد الرغبة في إنجاب ابن. بعد مضي أربعين أسبوعا على إعلان تلك الرغبة، أي وقت مجيء الوليد، اقتنع إساف أن مجرى حياته قد استقام وأنه تحرر من نزعة الانتقام التي زرعتها فيه أمه. في إحدى الليالي، وكان الطفل بلغ الشهر الأربعين من العمر، انخطف لونه، واصطكت أسنانه، وقبض على لسانه بين فكيه، وارتفعت درجة حرارته، وصار يرتعد، ويهذي. دثروه بالأغطية السميكة. بيد أن ارتعاداته لم تتوقف. وعندما غرق في النوم انخفضت درجة حرارته. صباح اليوم التالي عجز الطفل عن تحريك أطرافه، وصرخ وتلّوى جذعه ودار حول نفسه ودار. صار الطفل يصرخ كلما اقترب أحد الوالدين منه، وانتبهت جدته أم إساف إلى أن الطفل فقد قدرة التعرف على أبويه. بعد بضعة أيام استجاب الطفل لأعشاب اقتطفتها جدته من أرض كريمة قرأت عليها مقاطع حفظتها عن ظهر قلب من الجلجلوتية الكبرى، بيد أن حيويته وقاموسه اللغوي المحدود لم يطلاّ. راحت عظامه مع الأيام تنحل ثم تختفي وكأنها ذابت! ولم تتمكن عضلاته من حمل جسده فراحت تسترخي بعد توتر، ويستحيل الجسد بمرور الأيام إلى كتلة مترهلة من اللحم الساكن. انتحبت دجلة الغضبان وهي تضم أكداس اللحم إلى قلبها. أما الأب الموهوب في الرياضيات فقد راح يضرب ويجمع ويصنع متواليات عددية وهندسية للوصول إلى ما أسماه السادن المعادل الموضوعي الزمني للشفاء من لعنة ما أو خطيئة. وصاح إساف على أثر زيارة الهبش: ـ الويل والثبور لعائلة صقر الصقور. لقد أجبرتني على قبول ذلك الزواج العفن. واختط طريق الانتقام. على أثر موت عزيز الغضبان وبعد أن أصبح من المستحيل على الوالد صقر الصقور ممارسة العملية الجنسية اثر عملية البروستات، بلغ إساف مديرية العسس السري أن سليمة العذراء تمارس نشاطا محظورا وأنها أدخلت في السر كومبيوتر وانترنت وأخفتهما في غرفة عزيز الغضبان المغلقة سنينا كما لو كانت ضريحا مقدسا لا يجوز المساس به. فما كان من العسس إلا أن داهموا غرفة عزيز الغضبان ووجدوا الملفات تحت الطابوقة واعتقلوا سليمة العذراء وأخذوا معها عمّار الصغير: ـ لكي يسليها في أوقات الوحدة. كما علّق أحد الرجال البشوشين.
***
عاد السادن لزيارتهم مجددا فأصغى إساف لتقرير السادن إصغاء الأموات: ـ يمكنني أن أبوح لك بالحقيقة. أظن أن خلايا تفكير ابنك قد توقفت عن الحركة ولم يبق سوى أعصاب الأحشاء وعضلات الأطراف وردود الفعل الانعكاسية التي ربما تعني موهبة استثنائية في المستقبل كالنبوغ في علم الرياضيات أو الفيزياء أو الاقتصاد. بقية الخلايا ما تزال حية ولكنها غير ناشطة. ثم انطلق من فم إساف سؤال فيما لو كانت ثمة أصول وراثية لهذا المرض الغامض، بيد أن السادن التف حول السؤال بطريقة دبلوماسية ولم يقدم جوابا: ـ هذه الأمور ليست من اختصاصي وباشر إساف في بناء طريق محسوب الخطوات لكي يمنح ولده حبا لم يحصل عليه هو نفسه في طفولته. وصار يواسي دجلة الغضبان ويتعالى على ذلك الاتهام الأبدي بأنها لم تكن عذراء عند الزواج. وخبّأت الزوجة أسلحة الدفاع اللا مجدي في صندوق النسيان، وكذلك الغضب العارم من زوج غدر بكل أولئك الضحايا، وراح الاثنان يتدربان على تناسي الماضي الأليم. ودامت فترة تدعيم إيقاف الهجوم والهجوم المضاد فترة من الزمن تحولت خلالها العلاقة فعلا إلى علاقة زوجية. بعد سنتين على الهدنة اتفق الزوجان على قرار: ـ علينا أن ننجب طفل آخر. ردد الاثنان في لحظة من لحظات الذروة الجنسية في الفراش. وبعد سنوات أربع مليئة بالتردد من عواقب الحمل والبحث في كتب الرياضيات الفلكية عن أفضل المواقيت للقاء الحيمن بالبويضة ولد الطفل الثاني فعلا. لكن أعراض المرض الأول سرعان ما ظهرت فيه عند بلوغه الشهر الأربعين، وأصيب الطفل بالبله. ومن النكبة الجديدة راح إساف يندمج في حسابات الأنسال التي وضع اللوم على خطأ فيها: ـ الرقم خمسة متعلق بمسيرة النمو. يشير الرقم إلى الطريق الواجب سلوكها والمهارات. فيها يتبلور مسار الجنين في عدة اتجاهات. الرقم صفر متعلق بالقدرة على البقاء. يسلط الرقم الضوء على الأشياء التي يجب تفاديها؛ تناول التفاح، والمضاجعة أثناء السكر الشديد. الرقم سبعة متعلق بمسيرة النضج. يبين الرقم نضوج الشخصية البيولوجية. يضمن هذا الرقم خلال حياته في الرحم يختبر هزات تأتي مع النمو المستمر والبحث عن الفراغ المناسب داخل الرحم. إرادة حرة. وفي الأسابيع اللاحقة ستتطور حرية الجنين الشخصية بشكل كامل. أما القمم الأربع فتمثل لحظات تصل فيها حياة الجنين إلى أهداف محسوسة ويتعلم فيها بعض الأساليب الدفاعية ضد الوراثة. في حال كانت البويضة في بداية عنق الرحم فمن الممكن التنبؤ أن هذا يساعد على الابتعاد عن التشوهات الخلقية. تبدأ القمة الأولى عند اللقاء الحميم بين البويضة والجنين وتستمر إلى عمر الـ 27 يوم. رقمها هو 14. ويشير الرقم 14 إلى تطور دماغي، على صعيد اكتشاف العواطف والتعرف الروحي على النفس. رقم القمة الثانية هو 3. هذه الفترة تعتبر في وقت من حياة الجنين بابا مفتوحاً للتعبير عن الذات. لا بد أن تكون هذه الفترة خلاقة بالنسبة لتطوير علاقات الجنين بالعضلات البطنية. رقم القمة الثالثة هو الرقم 1 واحد. تشير القمة الخاصة بالرقم 1 إلى وقت محاولة اعتماد الجنين على نفسه ويسمح للجانب الشخصي لديه بالازدهار. هذا الوقت هو الزمان المناسب للبحث عن مخرج محتمل من الرحم. من خلال هذه الدراسة توصل إساف إلى نتيجة مفادها أن الطفلين الأولين حملا جينات الأب الوراثية، ولن يحمل الطفل الثالث إلا عناصر الأم الوراثية. وقد انبثقت تلك الالتماعة على أثر نصيحة الحكيم وقالع الأسنان الجديد، المرجع الموثوق في أمور الأسنان والوراثة؛ حلاّق الطرف الجديد. بعد أربع سنوات على مرض الطفل الثاني انبثقت ومضات من الأمل وشوق للطفل السوي الثالث. واستعجل الأب في دراسة الوضعية القمرية والشمسية وضربهما بطريق التبانة ثلاثا ثم قسّم الحاصل على نصف قطر الكرة المعلّقة فوق رأس الفراش ووصل إلى أن ميعاد لحظة الحمل المثالي ستمر بعد نصف ساعة. فخلع عنه منشفة الحلاّق الجديد وركض والصابون يغطي نصف لحيته بينما النصف الآخر حليقا، وما أن وصل المنزل حتى جرجر زوجته من المطبخ ودحس قضيبه كيفما اتفق في فرجها وراح أثناء الرهز يعد الثواني ويؤجل القذف حتى أيقن أن ميعاد اللحظة حان. أطلق إساف العنان لحيواناته المنوية في ساحة الرحم فأسر أحدها تلك البويضة. تردد إساف إبان فترة الحمل على أحد الأضرحة المقدسة مصطحبا معه دجلة الغضبان. ربط دجلة الغضبان إلى شباك الضريح كل ليلة جمعة. وحين اقتربت أيام الولادة قرر إساف أن يقيم مع زوجته بالقرب من صحن الضريح حيث أنجبت الأم بين يدي الإمام! وكان الوليد الثالث صبيا! ومرّت الشهور الأربعين المرعبة دون أن يحدث شيئ ومرت السنة الخامسة والسادسة وفي مطلع السنة السابعة تكرر ما حدث مع الطفلين السابقين. على أثر تلك الخيبة المذهلة اقتنع إساف بوجوب وضع حد لهذا النسل المرعب. ـ أبناء عاجزون عن المشي وعن الجلوس. كتل لحمية طرية وكبيرة قادرة على الزحف فقط. ردد لنفسه وعاد إلى اسطوانته القديمة، الاتهام الأبدي بفقدان العذرية قبل الزواج، ذلك أن الحلاّق الجديد الذي ظل يدافع عن وصفته السحرية بينما يتلقى سخرية إساف، ابتكر تشخيصا هو عبارة عن توليف بين وصفة السادن ونصيحة الهبش ونظريته الوراثية وشجّع الأب الموهوب في الرياضيات على جمع متواليات عددية توصله إلى المعادل الوراثي الموضوعي الزمني الكامن وراء توقف خلايا التفكير ونشاط ردود الفعل الانعكاسية التي تسببت بها لعنة ما أو خطيئة! ـ وستساعد في تطرية تلك المعادلات تعويذات مرسلة إلى القمر الزائر وشاي ورد لسان الثور شريطة أن يتبول أحد الأبناء فوق تلك الوصفة وتجفف وتأكلها الأم على أربع دفعات: كل يوم خميس عند منتصف الليل قطعة واحدة! وستلد زوجتك الابن المرتجى! فأسباب اعتلال الصحة والمرض هي أربعة: أسباب مادية، أسباب فاعلية، أسباب صورية وتمامية.. أما الأسباب المادية المنحصرة في الأشياء الموضوعة التي فيها تتقرر الصحة والمرض، كالموضوع الأقرب؛ أعني عضو أو روح. والموضوع الأبعد: الأخلاط. والموضوع الأبعد منه: الأركان (العناصر). وأما الأسباب الفاعلية وهي الأسباب المغيرة أو الحافظة لحالات بدن الانسان، وهي: أسباب خارجية تتمثل في الهواء وما يتصل به من مطاعم ومياه ومشارب وما يتصل بها. وأسباب داخلية تتمثل في الحركات والسكنات البدنية والنفسانية كمثل النوم واليقظة وما يتصل بها وتخلص البدن من العصارات والفضلات وما يتصل بها! وأما الأسباب الصورية فهي تقع في ثلاثة موضوعات؛ المزاجات، التراكيب، والقوى الـ... لكن إساف لم يسمع من ذلك الشرح الطويل سوى رذاذ من مثل كلمة (لعنة ما أو خطيئة!) مضافا إليها (يتبول أحد الأبناء فوق تلك الـ)، موضوع إلى جانبها (الأخلاط)، وقرر أن يتبول فوق العائلة المقدسة لكي يزيل عن نفسه أوزار تلك الخطيئة! وراح يربي الحقد عن طريق الغناء فابتدأ في الحمّام بلازمة: "يا عباس قل لحسين ما ظلْ مَشهَديْ بالصحن إحنه الكتلنه دعبول ظلّن خواته يصيّحنْ!" ثم أعجبه صوته فراح يغني مقاما: "لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد!" ثم صار يخطب كالحادي في البادية: "أرى رؤوسا قد اينعت وحان قطافها، وإني لقاطفها! ثم هوسة ساخرة من حسين قسّام: "مات المعيدي ولك موته معلعلة ما شفت ميت مثل هذا ابتله!" ثم أغنية ريفية: "مكتوب مكتوبين أوديّيلك وبكل رسالة حسي يحجيلك شوقي وتحياتي، والحبر دمعاتي" ثم أغنية معاصرة: "مشيت ويا للمكيّر أودعنه مشيت وكل كتر مني يرف بالحسرة والونّه على الرمله الرمله الرمله يناشدني وانشدنّه" ثم أبو ذيّة: "علامك لا ومي ردّك ولا ندا جفيت وما عرق خدّك ولا ندى عرفت البالهند ساكن ولنده وأنا جارك تضيع العرف بيّه!" ثم قصيدة من قصائد الفخر بالقتل، ثم أغنية من أغاني سعدي الحلّي. وحوّر إساف الكلمات لتتناسب مع موضوع الانتقام. وكانت التحويرات للغرابة خالية من الزحاف وغير خارجة عن الوزن بل وغير مباشرة رغم أنها تشير إلى تصفية بشر عن بكرة أبيهم. قطع رؤوس. اغتصاب. ملاحقة بعد الموت. شتائم رخيصة. شتائم ساخرة.. الخ هكذا غنى إساف لنفسه وهو يترجم كلمات البول والخطيئة إلى شهوة للعثور على عزيز الغضبان والشريفة العزيزة! ـ هذا هو الطريق! صاح. وكان ذلك هو ما رآه بصفاء تام! لوح واحد وعشرون طريق البول
حين عاد عزيز الغضبان دفاعا عن أرض القصب سالكا طريق هضاب الأرز الصحراوية بصحبة ثلاثة مهربين وأربعة جمال أوصلوه واحة فيها بيت شعر وعائلة بدوية ملفّقة مكونة من أم وابنة شابة وابن عم يرعى، وشيخ يكاد يقضي: ـ أحد المهربيّن مدسوس. همس عزيز الغضبان لنفسه. وكان أحد المهربين مدسوسا حقا. لكن عزيز الغضبان المختص بالعمل السري سرعان ما قطع صلته بالمهرّبين متبّعا تكتيك قيلولة الظهيرة، وهو تكتيك يقتضي تقديم صينية دائرية كبيرة فيها ثلاثين بيضة مقليّة عيونا كالقمر التمام وهو تقليد خاص بالضيوف، تليه ذبيحة، دلالة كرم البدوي. طعام دسم لمهربين متعبين يؤدي بهم إلى النوم المحتم بعد نصف ساعة، ذلك لأن تلك الساعة في فصل آب هي الأبعد عن شبهة أي مخلوق في الصحراء: ـ في ظهيرة آب يبول الحمار دما. يصف الناس تلك الساعة، لكي يعبّروا عن استحالة الحركة في تلك الساعات الثقيلة. وبعد أن استغرق المهربون بالنوم خرج عزيز الغضبان مع بدوي مسؤول عن صلات الصحراء العيارية وهو معروف بتخصصه في العمل إبان تلك الساعات الصيفية اللاهبة. وارتحل الاثنان في الصحراء مسافة يومين التقيا في نهايتهما بمهربين آخرين بانتظارهم، أخضعهم أولا لامتحان الأمانة كما كان يسميه، قبل أن يجتاز الطريق إلى المدينة. في تلك الأثناء وصل مديرية العسس السري التقرير التالي؛ (وكان يبدو فتى في الحادية عشر من العمر يخفي عينيه وراء عوينات غامقة لا تسمح برؤية ما وراءهما، ولا أدري إذا أعور أم أحول أم طبيعي العينين لأنني لم أتمكن للأسف من رؤية لون العين، ولا تشخيص مظهرهما الخارجي لأنه كان يرتدي نظاراته حتى وهو نائم. فتى يحظى باهتمام استثنائي، ويتم التعامل معه باعتباره رجل كامل) ـ إنه ذلك اللعنة المتخفية في جلد طفل. يجب العثور على ذلك الكائن، قبل أن يبتكر خطة جنونية كمثل الخطط التي ابتكرها سابقا وكلفتنا الكثير. ردد زورخان العسس الكبير وأعطى تعليماته بتفتيش كل من يبدو عمره أحد عشر عاما، وفكّر بمثل سرعة البرق: ـ سيتوجب علينا استدعاء ابن خاله إساف لتنفيذ هذه المهمة. وكان ابن الخال قد صرف سنوات لإصلاح علاقته مع العائلة المقدسة وكسب الثقة من جديد عن طريق سيناريوهات محكمة أعدتها له مديرية العسس السري بدقة متناهية، أحدها سقوط أحد كوادر المردة الثانويين في مأزق مميت أنقذه منه ابن الخال بطريقة تقترب من التضحية بالذات، وبني لنفسه بمساعدة رجال العسس السري طريقا للولوج في أحشاء المردة. وكان عزيز الغضبان عند عودته إلى أرض القصب يريد أن يحارب على جبهتين؛ من ناحية ضد الفارس الأبدي، ومن ناحية أخرى ضد كبير رعاة البقر، طريقه في ذلك تصفية الفارس الأبدي والاستحواذ على التاج لكي يستطيع أن يحشّد الجماهير خلف جبهة عريضة تضم الجميع دفاعا عن أرض القصب بوجه رعاة البقر. لكن عزيز الغضبان لم يكن مرشحا لرئاسة أو وزارة أو شيء آخر. عزيز الغضبان لم يكن أكثر من أداة ذات اختصاص محدد توصل آخرين إلى التاج. لوح ثاني وعشرون دبّور النار
بعد أن تلبّس إساف لبوس المردة وغادر إلى العاصمة مستفيدا من بلاهة أعطت عنه انطباعا بالوقار، ومن موهبة رياضية منحته اسما شعبيا (آينشتاين الطرف)، ومن مآثر بطولية سابقة أبعدت عنه الشبهات ومنحته رتبة مرافق صدامي ينفّذ ولا يناقش! بعد كل ذلك غاص زوّادته تلك المؤهلات في أوكار ذلك العالم المبهم. حيّا إساف عزيز الغضبان تحية تليق بغياب السنين الثمانية والعشرين حين التقيا وشرح له قصة مقنعة تماما عن ملابسات هجوم العسس السري على عزيز الغضبان والشريفة وعن موت عمّار وبرأ نفسه من مسئولية ذلك الموت التراجيدي! وأوضح له أنه منذ ليلة اختفاء عزيز الغضبان اعتكف وجمع أخماسا بأسداس وأدار أضلاع المربع تسعين درجة وأدخلها في ثنيات المعين وحذا حذو عزيز الغضبان وحذو الشريفة. وبلغ عزيز الغضبان من أقرب المقربين إليه أن إساف شخص مؤتمن حقا وسمع حكايات عن ذلك التاريخ البطولي الملفّق! فارتبكت أدوات تحليل عزيز الغضبان. فهل يعقل أن ما سمعه عن دور إساف في وقائع تلك الليلة ومقتل عمّار مجرد نميمة أقارب وحسّاد؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف يوفّق بين ذلك الماضي وكل تلك الثقة التي يمنحها لإساف الشخص الأكثر إئتمانا في التنظيم؟ وضع عزيز الغضبان ابن خاله موضع امتحانات الأمانة. اجتاز إساف الامتحانات بطريقة تجيد البراءة، وكان ذلك بمساعدة نظرية أمنية استفادت من موهبة إساف الرياضية وحوّلتها إلى شفرات قابلة للترجمة. ـ الفكرة بسيطة. قال زورخان العسس الكبير: ـ إذا حوّلت الكلمة إلى رقم، وطلبت من (أينشتاين الطرف) أن يحفظ تلك الشفرات عن ظهر قلب فقد أوجدت لغة لا تحلّها أي معادلة كومبيوترية. كل كلمة يقابلها رقم وبالعكس، كل رقم تقابله كلمة: أضاف زورخان العسس وهو يرى تلمّظ الحاضرين حول ابتكاره الباهر: ـ رقم 1 مثلا تقابله كلمة (أنا)، ورقم 4 يعني (أنت)، رقم 0 يعني (ساعة)، ورقم 9 تقابله كلمة (الصفر)، علامة (+) تعني نقطة، ورقم 3 يعني (أقتل)، رقم 8 يعني (الطريدة)، وهكذا ما لا نهاية من الأرقام، تحللها موهبة الأبله الفطرية بالرياضيات إلى لغة شفرات. فيصبح الرقم التالي 90+38 مثلا (ساعة الصفر. اقتل الطريدة). وقضى إساف بالفعل بضعة سنوات لكي يتقن حفظ الما لا نهاية من الأرقام على عدد كلمات اللغة بمساعدة عالم نفسي، وهي فترة ظهر بعدها مجدوع الأنف مدعّيا أن العسس قد دفنوه في سرداب السلمان وتندّر أحد رجال التعذيب بطريقة طريفة لانتزاع الاعتراف رغم أنف المتهم أو من أنف المتهّم، وكان شهود تلك الحادثة مناضلون سّهلوا عملية هروبهم من السجن تحت قيادة إساف ليأكدوا الواقعة قبل أن يغيّبوا إلى الأبد في زنزانات مجهولة! وكان إساف يترجم كلمات عزيز الغضبان غير المسموعة والحكايات المؤثرة على سياق الكلام ونقص المعلومة إلى أرقام يرسلها بشكل منتظم عبر ميكرفون تمت زراعته تحت جلدة رأسه ومربوط بجهاز الكتروني مركزي خاضع للإنصات الدائم. ولم يثر حديث إساف الرقمي الشكوك. فالجميع يعرف أن (آينشتاين الطرف) العم إساف مهووس بالأرقام حالما ينفرد بنفسه. وبعد أن يستلم الكومبيوتر المركزي شفرات الأرقام يحولها في الحال إلى كلمات تليها تعليمات أو إجابات عن طريق سمّاعة زرعت في أذن إساف من الداخل. ولهذا كانت إجابات إساف مسبوقة دائما ببرهة من الصمت ترجمه عزيز الغضبان ككل من سبقه: ـ علامة من علامات البلاهة. ومع ذلك، ظلّ عزيز الغضبان في حيرة من أمر إساف. لعب عزيز الغضبان في البداية ألعابا بدا من خلالها بنظر الناس طفل مشاكس وغبي يرتدي نظارات غامقة ويمشي بصحبة عم لا يختلف عنه كثيرا (آينشتاين الطرف) هدفه مراقبة ردود أفعال إساف على تلك الأحداث الطفولية وتحييد عيون العسس عن الاشتباه به بالنظر لمظهره المنتمي لعمر الحادية عشرة سنة. وعندما لم يجد ما يؤيد شكوكه، أخضع عزيز الغضبان ابن خاله في لحظة ما لامتحان صارم من امتحانات الثقة اجتازه صاحبنا، اتبعه عزيز الغضبان بآخر قاسي، فاجتازه صاحبنا، اتبّعه بثالث معقد جدا، ومع ذلك اجتازه إساف عن طريق التوجيهات التي كانت ترده عبر السماعة المزروعة في الأذن. بالتدريج أصبح إساف مرافقا للطيّب وحارسا شخصيا له.
***
ذات يوم توجب على عزيز الغضبان أن يختفي. أخفاه إساف في مكان سري لأشهر طوال. عكف عزيز الغضبان على تصميم خطة سرية تمتد إلى قصر الفارس الأبدي وبموافقة قوات حراسة الفارس الخاصة لكي تقطف من هناك الفارس الأبدي قطف الثمار الناضجة، وهي خطة في غاية الدقة، تعتمد على اختطاف ضابط الارتباط القادم من خطوط القتال الأمامية، وهو في طريقه لاجتماع حاسم مع الفارس الأبدي، واستبداله بنسخة شبيهة طبق الأصل تمّ استيلادها في أرض الروم وإدخالها في السر أرض القصب. أما مهمة ابن الخال فقد كانت واضحة: ـ كن حريصا على وريث العائلة المقدسة، إلى أن نعلمك عن ساعة الصفر. وكان هدف مديرية العسس السري هو معرفة طبيعة مهمة عزيز الغضبان وخيوط اتصالاته قبل الإجهاز عليه. ذات يوم كان الاثنان يتناولان وجبة الظهيرة في مطعم من الدرجة المتوسطة. علّق إساف على أصوات طائرات حربية شقّت السماء فجأة: ـ هذه ليست طائرات حر... بيد أن أصوات الطائرات المهاجمة لم تفسح المجال لإكمال كلمة حربية: ـ بم بم بم بم بم! ـ قاذفات! وضاعت الصرخة في زلزال القصف: ـ هناك! دعنا نجري خلف أولئك الرجال! صاح إساف وركض. ـ أين؟ إلى المطبخ؟ تساءل عزيز الغضبان بارتباك. ـ لا! هنا. بيد أن عزيز الغضبان لم يعد ير ابن خاله ـ أين أختفيت؟ ـ هنا! أسرع. ـ في المخبأ تحت السلّم؟ ـ نعم. أركض! ـ أنها أدب خانه يا رجل! ـ أدب خانه؟! ـ مرحاض يا رجل! ـ أدخل! هذا هو المكان الملجأ الوحيد. أدخل! وعندها انهال قصف الطائرات الحربية وضاعت أي إمكانية للتفكير أو الحركة. فركض عزيز الغضبان تاركا وراءه في فضاء المطعم ريح متجمدة مسكونة بلازمة مكرورة: ـ أدخل! أدخل! أدخل! أدخل! ومحاطة بصرخات كفقاعات انفجرت وتوقفت صورتها عن الحركة في الهواء. ودلف عزيز الغضبان حيث يجب. مرحاض من متر مربع. أكثر من اثني عشر إنسان مكبوسين فيها يتنفسون من رئات بعضهم ويتلمسون أيدي من بجانبهم وهم يعتقدون أن ما يلمسون هو أيديهم الشخصية. كتلة من اللحم انصهرت مكونة كائنا من عشرات الأطراف والعيون والأصوات. روائح الطعام ما زالت تخرج مع التنفس المتقطّع لمن حطّ في التواليت وهو مازال يمضغ لقمته. ومن كثيبات الظلام اشتعل صوت آمر: ـ النساء خروج! والرجال راوح مكانك بانتظار الأوامر! فانطلق من عزيز الغضبان تعليق لا إرادي: ـ لماذا تخرج النساء إلى الخارج؟ هل ثمة اتفاق على أن تنحرف القنابل عن طريق النساء؟ أم ماذا؟ وحاول إساف المدرّب على مثل هذه المواقف منذ عدة حروب أن يكسر التوتر. فراح يتكلم ويصغي بتهيب منشؤه هالة عزيز الغضبان وريث العائلة المقدسة إذ رآها تطلّ مرارا حول عويناته وتحيط بشعره الأجعد، غير غافل عن مشاعر الانتقام التي تبعث فيه رهبة من يقدم على فعل مقدس. ـ تمـالك أعصابك! أنت لم تعتد على الحالة هنا بعد. افعل فقط ما يقال لك. ـ إنهم يفصلون الناس عن بعضهم. ثمة ما وراء الأكمة! فرد إساف بهدوء العارف قبل أن يختفي بطريقة سحرية من التواليت: ـ أنت هنا في مأمن! وصاح عزيز الغضبان وهو ينظر إلى المعجزة التي امتصت ابن الخال من ذلك الكيس البشري: ـ وكيف عرفت أننا في مأمن؟ هل اشتغلت سابقا في هذا المطعم، أم ربما لديك أيضا اتفاق عدم اعتداء مع القنابل؟ انقضّت حزمة من ضوء القذائف الفراغية الأحمر من ثقب المفتاح الباب واستحوذت على ما تبقى من شجاعة في القلب، فالضياء الأحمر إذا انجلى في موقع ما يعني أن القذائف موجهة إلى ذلك المكان بالتحديد. وشق القصف الدنيا وانقلبت الأرض على عقب، وتساقطت عدة درجات إسمنتية من السلم سدّت باب التواليت، وارتفعت ببطء مياه البالوعة ووصلت إلى الركبة. هدر صوت عزيز الغضبان دون أن يكون لديه أي دافع للكلام، وكانت كلماته لا أكثر من ردود أفعال انعكاسية كان يتابعها بعين المأخوذ: ـ يا لها من رائحة كريهة. أريد هواء! فصرخ صوت صادر من أحد أطراف الكيس البشري: ـ اغلق فمك أيها الصبي الملعون. ألا تشعر أنك ستقابل وجه ربك؟ ـ وجه ربي، هنا؟! ـ أيها الطفل اللعين أنت ملحد وطريقك مستقيم إلى جهنم. تَشاهدْ قبل أن تموت. قل: بسم الله الرحمن الرحيم. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا صقر الصقور الله. أشهد أن عليّا وليّ الله. وإذا ما سمعت الانفجارات فأنت آمن. أما إذا رأيت إلى السماء وقد احمرّ لونها فقل أصبحت روحي عند باريها.. اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أنّ محمدا صقر الصقور الله واشهد أنّ عليا ولي الله. ربنا اغفر لنا ذنوبنا نحن عبيدك الخاطئين. وارتفع صوت القصف وكأن ثمة اتفاق بين مخرج الحرب ومجوّد الآيات: ـ لا تتردد يا ابني.. ردد معي: إذا زلزلت الأرض زلزالها. وأخرجت الأرض أثقالها. وقال الإنسان مالها. يومئذ تحدّث أخبارها. بأنّ ربك أوحى لها. يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. لم يردد عزيز الغضبان تلك الآيات خلف الرجل. لقد كان مشغولا في الإصغاء لأصوات القذائف الصاروخية لكي يحددها المسافة التي تفصله عن الموت. وكان كلما سمع ذلك الصوت المريع، واهتز مع الكيس البشري نتيجة ضغط القذائف الفراغية، أصابته الغبطة لأنه ما زال على قيد الحياة. وتمنى أن لا يرى تلك الشرارة الحمراء المرعبة، أو ما أطلق عليها في تلك اللحظة اسم: دبّور الضوء. وراح بمرور الساعات يتآلف مع روائح البعض وإرتجافات البعض اللا إرادية ورطوبة بنطلونات البعض وانتصاب قضيب البعض لدى اشتداد القصف الجوي وانقلاع كل ما يحيط بالتواليت المختبئة تحت السلم الإسمنتي نصف المهدّم: ـ بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد. وعندما ارتفعت الصلوات وراح الناس يقرأون الشهادة معا لتيقنهم أن مقابلة ربهم قد حدّدها العدو باتفاق مسبق مع الله. رأى عزيز الغضبان أن ذلك المكان المظلم الرطب المغروز بفراغ إسمنتي كعش طير في رماد غابة سيصبح قبرا له إذا لم يفعل شيئا بينما الشمس تشرق في الخارج. وانتابته رغبة لا تقاوم للموت فوق الأرض لا في مكان مغلق ومظلم. ولعن القبور وطلب من ربه أن يدفنه فوق الأرض بدون قبر لكي يستطيع أن يلامس الهواء والأشياء، وحسد لينين وديمتروف لأنهما يرقدان في قبر زجاجي ويلتقيان البشر يوميا. ثم حشر نفسه دون تفكير في فجوة كبيرة أحدثتها للتو إحدى الشظايا بجزء من حائط التواليت وأودت بحياة واحد وجرحت آخر جرحا طفيفا. وتسرّب عزيز الغضبان من تلك الفجوة إلى الخارج. وحالما رأى نفسه تحت مظلة السماء أطلق ساقيه للريح عابرا بقايا باب المطعم المنتوفة من كل شيء. من بعيد سمع صوت رجل يطلب منه القدوم على عجل. فركض عزيز الغضبان في رد فعل لا إرادي باتجاه الرجل. أدخله الرجل ملجأ مظلما واسعا. سلم الى الأسفل. انعطافة إلى اليمين. سلم آخر إلى الأسفل. انعطافة إلى اليمين. سلم آخر. انعطافة إلى اليسار. سلم آخر. ظلام مطبق. بكاء أطفال. تنويمة أمهات. سعلات شيوخ. همسات. تطمينات. اشتعل في لحظة ما مصباح يعمل بالبطارية فرأى جموعا مكدّسة من البشر: شيوخ وأطفال ونساء ورجال. أشار المصباح إلى رجل ثم ثان ثم ثالث ثم رابع ثم خامس ثم توقف عند عزيز الغضبان للحظة ومضى، لكن المصباح سرعان ما عاد واستقر على عزيز الغضبان لفترة ثم انتقل إلى السابع ثم الثامن ثم العشرين وابتعد ثم عاد بطريقة خاطفة وأشار إلى عزيز الغضبان أن يذهب معه. وأخذوهم تحت التهديد إلى الأعلى. وهناك رأى عزيز الغضبان كل شيء. ـ أنا الذي رأى كل شيء! ظلّ يردد مع نفسه وهو منهمك بتنفيذ أوامر لحمل أشياء معدنية مغلفة في ألواح خشب سميك. وظهر ابن خاله مجددا في خضم تلك الحيرة. وكان إساف في مظهر لا يحسد عليه: ـ أتعلم ماذا رأيت؟ قال عزيز الغضبان، فصرخ إساف وكأنه أطرش: ـ ماذا؟ ـ اكتم صوتك! همس عزيز الغضبان: ـ إنهم يخرجون أسلحة من داخل الملجأ! ـ ماذا تقول؟! وكتم عزيز الغضبان صوت إساف وبدا الإثنان كأب وابن في خصام على قطعة حلوى أراد أن يدخلها الأب في فمه: ـ ليس هذا أسوأ ما في القضية. لقد شاهدت قبل قليل أثناء حمل السلاح في إحدى منعطفات السلالم بابا مفتوحا فأسرع رجل بإغلاقها. بيد أني شـاهدته! لقد رأيته بأم عيني! هناك في ذلك المنعطف السفلي يجلس الفارس الأبدي مع مرافقيه ومستشاريه وخرائطه.. بينما هنا آلاف الهاربين في الملجأ وهم يعتقدون أنهم في مأمن من هجوم الأعداء. لقد صنع منا الفارس الأبدي هدفا عسكريا! إساف! ما العمل! إذا أخبرت الناس أن الملجأ إنما هو موقع عسكري، سيهربون بشكل جماعي وستحصدهم مقاتلات الجو، ستحصدهم عن بكرة أبيهم وسأكون مسئولا عن كل تلك الأرواح، وإذا لم أقل شيئا وحدث قصف الملجأ فسأكون مذنبا إلى الأبد بحقهم لأني لم أمنحهم الفرصة للهروب. وكاد ابن الخال المسحور بهالة القداسة أن يقتنع بحجج عزيز الغضبان لكن صورة البكارة الضائعة، والقطنة الملّوثة بالرطوبة سرعان ما طفرت بين عينيه، مما بعث فيه إحساس المقبل على عمل عادل، فصرخ عاليا، لكن عزيز الغضبان لم ير سببا لذلك الصراخ. تمالك إساف نفسه وأضاف: ـ أرجو أن تزن كلماتك! ـ أزن كلماتي؟! هنا، تماما بجانبنا ثمة.. الفارس الأبدي، وتحتنا يعلم لله كم من العتاد والأسلحة، وأنت تريدني أن أزن كلماتي؟! وراح عزيز الغضبان يبكي: ـ اللعنة! هل كُتب عليّ أن أتحمّل مسؤولية هكذا سر؟! وعلّق إساف وكأنه يكّذب تلك المعلومات: ـ لا يوجد أي سر يا ابن عمتي! أنت في حالة هذيان! إذا عددت تنازليا من الألف إلى الصفر بإيقاع منتظم شرط أن تقول قبل كل رقم تناقصي رقم تصاعدي من الواحد حتى الألف ستتحرر من الخوف عند التقاء الرقمين الصاعد والنازل! فأمسك عزيز الغضبان بكمّ ابن خاله وهمس في أذنه: ـ إن ما رأيت ليس له علاقة بالرياضيات. هناك، في أسفل طوابق الملجأ مخزن سلاح، وفي منعطف السلّم غرفة عمليات ابن العاهرة الذي حوّل هذه الجموع في الملجأ إلى هدف عسكري. أصيب إساف بالرعب من سماع تلك الحقيقة المريعة ومن سماع شتيمة تمسّ الفارس الأبدي، ولم يعرف كيف يرد. في تلك الأثناء حدث قصف رهيب لم يصب الملجأ ولكنه خضّه خضّا من الجذور. لم يعد إساف يسمع شيئا عن طريق السمّاعة الالكترونية. لقد قُصفت كل الاتصالات الالكترونية. وبعد أن ساد صمت جاف تمتم عزيز الغضبان: ـ ابن العاهرة! فرد إساف دون فاصل من الصمت: ـ كيف تجرؤ على اطلاق هذا اللفظ بحق الفارس الأبدي؟ ـ وماذا تريد أن أطلق عليه؟! ـ انتبه لكلماتك! الفارس الأبدي يجب أن يحمي نفسه! وأصابت عزيز الغضبان صحوة مباغتة. إذ لن يتكلم أحد من المردة عن حق الفارس الأبدي في الدفاع عن نفسه، وأعاد بسرعة تركيب صورة رجل الخط المائل: ـ يجب أن يحمي حضرته نفسـه، ولكن سيادته يقرر مصائر الآخرين، ويقود عملياته البطولية من مكان تتعرّض فيه حياتك وحياتي للخطر، وشبكات التجسس تعرف أين هو الآن. ـ لن يعرّض الفارس الأبدي أرواحنا للخطر، وليس بين أتباعه جواسيس! لقد كان أربعة عشر رجلا في حمايته، ضربهم بخمسة من مستشاريه، وقسّمهم على ثلاث، وأضاف واحدا كل مرة، وضربهم بأربع ووزع خمس منهم على بقية مساعديه فبقي عنده....... ـ احتفظ بحساباتك الرياضية لنفسك وتذكّر أن سيادة الفارس الأبدي قد عمل مع ذلك العدو عقودا وهم يعرفون عنه وعن مخابيء معدّاته كل شيء؛ كم بيت، وكم سيارة، ومتى يتنكّر جنابه بثياب المهرجين أو بثياب النساء... ولأن ابن الخال الأبله محاصر بفكرة الهيبة من عزيز الغضبان المقدس، كاد يصدق مرة أخرى حديثه. بيد أن صورة العداوة الأزلية تعلّقت هذه المرة على حائط رأسه فلمّ زمام نفسه وأزال الاقتناعات وكذّب ما سمع: ـ افترض أن العدو يعرف أن الفارس الأبدي هنا، فماذا سيحدث؟ ـ سيبيدوننا عن بكرة أبينا. ـ وهل سيقتلون جاسوسا لهم؟ تلعثم صوت عزيز الغضبان وما كان يظن أن ذلك الأبله المتخلف عقليا ونفسيا له مثل هذه الفطنة: ـ اسمعني جيدا وساعدني يا عديلي بالنصح.. آلاف المدنيين يعتقدون أنهم هنا في مأمن. هل أخبرهم وأجعلهم يهربون بالجملة، أم لا أخبرهم فيموتون هنا؟ إذا هربوا ربما تحصدهم نسور الجو عن بكرة أبيهم وأكون القاتل الأكبر، وإذا قصف الملجأ سأكون مذنبا إلى الأبد لأني لم أمنحهم فرصة الهروب! ـ إذا ما حلّت ساعة الشهادة فالفارس الأبدي هو أول من سيستشهد وسنرحل معه جميعا إلى السماء، وسينالنا ما يناله من نعيم. ـ أتعرف حقا معنى الموت؟ وعلّق إساف فجأة تعليقا لا يمت بصلة لصفات التخلف العقلي والنفسي: ـ هل سمعت يوما أن قائدا قُتل في معركة؟ القادة يحصلون دائما على أفضل المواقع للاختباء. واستحوذ على عزيز الغضبان الخوف من جديد، وتأكد أن إساف إنما قد تطوّر عقليا في فترة غيابه: ـ سفسطة. إذا كان عميلا فالقصف لن يناله. وإذا لم يكن عميلا فلن يقصفوا لأنهم لا يعرفون شيئا، وإذا كان كذا فكذا، ويمكن النقاش إلى ما لا نهاية في مثل هذه القضية، في وقت تتعرض فيه حياة الجموع للخطر. وهنا تحولت تعليقات إساف المترابطة إلى حسابات رياضية تجريدية! ـ اترك5 هذا9 المكان12 في 25 الحال 33 زائد! علّق إساف وقد فقد صبره تماما ـ يجب أن نجد حلا ليس عن طريق رياضياتك المجنونة! ـ قلت 11 لك 3 أترك 5 هذا 9 المكان 12 فورا 99 زائد! ـ 11، 3، 5، ثم لا أدري ماذا؟ ماذا تهذي؟ وعلّق رجل بجانب ابن الخال ـ ثمة عميل للعدو هنا! فسبق عزيز الغضبان لسانه وصاح: ـ نعم! ذلك اللوطي الأبدي! وانبرى إساف في خطبة حماسية رقمية: ـ إن حاصل مجموع محيط المكعبات زائد نصف قطر الكرة الأرضية هو خط الدفاع الأول. ذلك أنه يساوي قلت11 لك 3 أترك 5 هذا 9 المكان 12 فورا 99 زائد! وهي في كل حال ليست خطيئة أن تعلن أنك تريد أن تتقيأ على وريث العائلة المقدسة تحت الجذر التكعيبي. ثمة مدينة للواط مؤسسة من 5، 5، مكرر عشرة مطروحا منها قسم التوابيت. ذلك أن التوابيت ممنوعة في حال الـ 1350 درجة فهرنهايت. ـ هل فقدت صوابك؟ صاح عزيز الغضبان بإساف. لكن ابن الخال المرعوب أخذه السيل وراح يضرب أرقاما بكلمات، وقسّم جملا على أعداد، وترجم كلمات إلى أرقام ووضع جملة مفيدة تحت الجذر التربيعي، وتحوّل حديثه إلرياضي إلى شتائم رقمية وقحة في معادلات رياضية، أصلها جمل مترابطة، نثرها فوق رأس عزيز الغضبان ضد العائلة المقدسة التي خدعته وزوجته بامرأة عاهرة لم تكن عذراء، وبلغت الخطبة ذروتها حين أعلن إساف تهديده الناري للطيّب وإبلاغه أن ساعة الانتقام قد حانت ولكن بعد إيقاف إطلاق النار. هذيان عن التفاضل والتكامل، عن نصف القطر في النسبة الثابتة، عن مساحة الموشور، عن المعين المثمّن وعن أضلاعه، عن معادلات رياضية من الدرجة الأولى ومن الدرجة الثانية: إذا كانت قيمة سين كذا. وهو حديث لم يفهمه أحد سوى إساف، المندمج في قذائف رقمية هي انعكاس للغة شفرية متكاملة: فالمعادلات الرياضية تترجم قواعد الإعراب والنحو والصرف، أما التفاضل والتكامل فتحمل بلاغات اللغة. علامات زائد، ناقص، علامة الضرب، علامة التقسيم، النسبة المئوية، تحت الجذر التربيعي، تحت الجذر التكعيبي، تقابلها في مصطلحات اللغة: نقطة، فارزة، علامة تعجب، علامة استفهام، شارحة، نقطتان فوق بعض، فارزة تحتها نقطة. ـ نحن الآن في العام 1979 قبل الميلاد. إذا جمعت 1+9+7+9 يصبح المجموع 26. و 26 تعني 2X13. والرقم 13 رقم مشئوم في كل أعراف الأبراج، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الـ 26 هي ناتج علاقة الـ 2 (أنا وأنت) بالـ 13 الرقم المشئوم فإن 26 + 2= 28 وهو عدد السنوات التي قضيتها جنابك في أرض الروم. نقطة، سطر جديد. والنقطة هنا تعني علامة + إبان تحولها في جملة (ساعة الصفر. اقتل الطريدة)، الأمر الذي سأقوم به في الحال. نسي إساف تعاليم مديرية العسس السري وقتل عزيز الغضبان شرّ قتلة في الملجأ، وهو يردد تلك الأغاني القديمة (أغاني انتزاع الروح من الإست) كما أحب أن يسمي ذلك. ركضت روح عزيز الغضبان تنشد النجاة من ملجأ ضمّ مئات البشر مخلفة جسد القتيل وحيرته وقلقه وخوفه من مداهمة تلك الحالة التي توقف نموه، فيما اعتقد أن لحظات الحرب التاريخية تلك هي أوان بلوغ سن الرشد التي لا يجوز له تفويتها على الإطلاق. وكان عزيز الغضبان قد رأى كل ما سبق (ابن خاله وزوج أخته دجلة الغضبان) في ظروف رسمت بشكل دقيق في قصبة من مدن إحدى جنان الله بعد أن عاد بشكل سري دفاعا عن أرض القصب. ولم تكن تلك الرؤى سوى حلم كبقية الأحلام، وكذا أحداث وفصول سيرة حياة إساف وأبنائه، وطريق البول الذي اختطّه بنجاح، وعودته دفاعا عن أرض القصب سالكا طريق هضاب الأرز الصحراوية بصحبة ثلاثة مهربين وأربعة جمال. كلها أحلام. الفارق الوحيد بين تلك الأحلام وما سبقها هو أن الأخيرة أحلام يقظة منعت عزيز الغضبان من الحركة داخل بيته. العائلة المقدسة الخاتمة لام
لوح ثالث وعشرون صقر الصقور
وقال راعي العائلة المقدسة صقر الصقور حين ركض عزيز الغضبان لكي يحييه: ـ لماذا تحييني؟ وكان الأب المتعفف حتى عن ملذات الفردوس قد ابتنى صومعة في صحراء كبرى من صحارى الجنة. ـ بابا! وددت أن أراك مرة أخرى! إنها لمعجزة! ردد عزيز الغضبان بلهفة ـ لقد رسمت تاريخا للعائلة كما أردت. افترضت تاريخا وهميا. أليس هذا صحيحا؟ ـ أتعتقد أنني لم.... لقد كانت أحلاما يا أبي! ـ الأحلام تعكس النوايا الداخلية وأنت تفكر بأختك كما لو كانت زوجتك! ـ تلك كانت أحلاما يا أبي! ـ من ثقب جدران الحمام؟ ـ بابا! لديّ ما يكفي من الشعور بالذنب ـ لديك شعور بالذنب أم بالعار؟! كنت أود أن تقول كلمة العار بدلا عن الذنب! ـ وددت أن أعرف... كيف هي أحوالكم! ـ أحوالنا؟! بعد كل الكوارث التي تسبّبت بها!؟ ـ ماذا تعني؟! ـ ألا تعرف ماذا صنعت من العائلة المقدسة! لقد قيل لنا أنك مسئول العمل السري في بلاد الروم، وإنك تعرف كل خافية في بلاد الواق واق! ـ هل وضع الوالدة سيئ؟ ـ هذا ليس شأنك! ـ هل هي هنا؟ ـ فأل الله ولا فألك. ـ هل تركت أحدا مريضا هناك؟ ـ لقد تسببت بالعار. صار الناس يطلقون علينا اسم بيت الفراعنة، ولم أنقذ مسامعي من همس الناس إلا في هذه الصومعة على تخوم الجنة! وهنا حلّ صمت ثقيل كالقطران قطعه الأب بصفير صوته ـ اسمع جيدا! هذه آخر مرة تعترض طريقي بها! ليس مسموحا لك أن تقترب مني. ضع هذه الكلمة قرطا في أذنك! إذا اقتربت مني مرة أخرى، سأنادي الملائكة. أنا لا أعرفك، ولا أريد أن أعرفك أو أسمع أي شيء عنك. عمّار هو ابني الوحيد! وعندما ذهب عزيز الغضبان بعيدا عن والده، ظلّت دموع صقر الصقور تنهمر بحرقة افتقادا للابن الذي طرده للتو وقد اشتاق لمرآه كل تلك العقود من الزمن.. وكان ذلك آخر أحلام عزيز الغضبان. لوح الختام عزيز الغضبان
بما أن عزيز الغضبان يعرف أن القلق والحيرة يوقفان نموه فقد تأكد أن تلك الأحلام ليست وهما. لكن الرغبة في العودة التي يعرقلها الحلم كانت تعود مجددا وبقوة جامحة يقابلها حلم مرعب من نفس النوع والقوة، ويقرر على أثره أن لا يذهب إلى مركز التسفير والعودة، ثم يقرر أن يأخذ واسطة نقل ثم يقول الباص أحسن ثم يقول إذا ما ركبت الحصان لن يأتي الحلم ثم يقول مشيا على الأقدام. يقول عزيز الغضبان المترو يثير حفيظة الحلم دعني آخذ الباص. ولكن في الباص يأتيه الحلم المريع ويجبره على الهبوط قبل المحطة المقصودة فيقول. الباص يقود إلى الحلم لكن الحصان لا. بيد أن الأحلام بدأت تترى كلما اقترب من محطة باص أو مترو أو مكتب خطوط جوية أو دراجة هوائية، ولاحقا أصابه الرعب حتى من قدميه وقرر أن لا يأخذ واسطة النقل التي كان ينتظر، باص أو ترام أو مترو أو دراجة هوائية أو سيارة أو حصان.. الخ. إذ حالما تتحرك قدماه باتجاه محدد يلاحقه حلم عن العائلة المثالية، ومصير الشعب المثالي بغض النظر عما إذا كان الهدف من الحركة هو الذهاب إلى السوق أو فتح الباب لضيف ما أو لقضاء حاجة في التواليت. وقد ضاقت فسحة الحركة شيئا فشيئا ووجد عزيز الغضبان نفسه في بقعة صغيرة يتربع على كنبة. وبعد أن ظلت القشور تحيط به والخضار كذلك وتكومت أكداس العلب المعدنية وقناني المياه وبدت غرفته كغابة نمت فيها الطفيليات والحشائش ونمت بذور التفاح. عندها وجد عزيز الغضبان طريقة كهربائية بدائية تنقل له المواد من المطبخ إلى مكانه وهي عبارة عن زنجيل كهربائي يجلب المواد من المطبخ ويرمي الفضلات في المزبلة وهو روبوت صغير يلعب به الأطفال عادة ويتم تحريكه عن طريق علبة التحكم عن بعد. لكن الفضلات في المطبخ راحت تتكاثر وتنبعث منها رائحة غير محمودة. وراح يفكر بطريقة لحل هذه المعضلة حتى قرر أن يعتني ببقايا الخضراوات والفواكه بنفسه عن طريق ترتيبها بعناية حسب النوع وصار يترك بعض القشور تجف ويغذي بعض البذور بالماء لكي ينمو كعشب نعناع أو نبتة باقلاء أو شجرة تفاح صغيرة أو عريشة عنب. وصار يوصل الماء بطريقة منتظمة للنباتات. ولأن التيار الكهربائي انقطع لأنه لم يدفع كل تلك الأشهر ولم تعد لديه نقود لشراء الطعام. حفرت النباتات خشب الغرفة واندفعت جذورها إلى القبو الرطب تحت الأرض. امتدت الجذور إلى أرض القبو ثم شقّت طريقا إلى ما تحت الأرض من خلال الآجر الممزق والمقتلع عن مكانه. كبرت نبتة التفاح وصارت شجرة مرّت ساقها بين فخذيه. شبّت نبتة الموز وصارت نخلة أسندت ظهره. تقدمت شجرة برتقال من تحت إبطه. نبتت ما بين إبطه الآخر والصدر شجرة تين. تسلّقت عريشة الكروم بين ثنيات جسده. تحته حشائش الفجل والكرفس والنعناع. خضروات، خيار، طماطم، بصل، ثوم، فلفل وخس. ببطيء مع الأيام يرتفع عزيز الغضبان إلى الأعلى في الغرفة، ويصبح ساقا لحميا لشجرة من ثمار مطعّمة. لوح ما بعد الختام شـين
غرفة أو فنار عند سكة حديد. عناكب تعشش على الشبابيك. جرس حديدي صدئ معلّق إلى جانب باب بنيّ مخردق. يئن الجرس حينما ينسحب كخنزير صغير، ويخلّف طرطقة أو وشيش حينما يتوقف، مثل تمزيق ورقة. ستائر يصعب تحديد لونها، لا لشفافيتها، ولا للغبار المتراكم فوقها، ولا بسبب ضبابية زجاجها الذي كان شفافا يوما ما؛ يوم تذكرته يد ما فأمسكت الماء وقطعة القماش ثم مسحوق التنظيف؛ وهي عادات ما عادت اليد تستخدمها منذ زمن. ستائر يصعب تحديد لونها! إطار الشباك خشب معتق متماه مع الحائط. كان الخشب في زمن ما بنيّا. وبعد "الزمن الما" مرت فصول جليدية وأخرى مطرية، وثالثة رعدية ورابعة برقية، بتطرّف شديد وتقلّب سريع، ففقد الخشب علاقته بالألوان المرئية وحصل على علاقة بالألوان الصوتية. شخير أم صرير؟ خشب ذو لون صريري ملطّخ بأنفاس "العفونة والرطوبة". من أحد الشبابيك تمتد خشبة تنتمي إلى نفس العائلة اللونية الصوتية، الصريرية، تخفق في نهايتها المرتفعة "فانيلة" رمادية مبللة تعطي انطباعا بأن الغرفة/الفنار ترفع راية الاستسلام، قبل أن يستبيحها عدو ما. الفانيلة الرمادية، تبدو متهرئة الأحشاء ممزقة الأطراف، مخردقة البدن بثقوب بدائية متباينة الأحجام. في ذلك الغسق المشرشب بالغيوم الرمادية والصرير بدت الفانيلة؛ راية الاستسلام وكأنها تريد أن تنفض عن نفسها بعض المزق القماشية لولا تشبث الأخيرة بدم متيبس. دم قماشي تضرب عليه السماء شعاعها الداكن فيسودّ عند الشراشيب. يقرع البرق جلد السماء فتستجيب الرياح بعد هنيهة لتغزو الفانيلة. يشوش سكون الراية مظهر صوتي ينتمي إلى أجنحة الحمام. تطير الحمامات في خرادق الفانيلة وتصطفق الشبابيك. سيهطل المطر بعد قليل. ريح. الراية التي عادت إلى حركتها تصغي. برق. الغيوم الرصاصية الداكنة تلوّح بعزمها على الزيارة. رعد. خطاف صغير يلج بدن الفانيلة فيخدشها؛ دلّللوووووول طويلة تمتد على مرمى الراية، لكنها لا تبتعد كثيرا. خطاف آخر يخدش قماش الفانيلة الرمادية اللون؛ دلّللوووووول يا الولد يا ابني دلّللوووووول، أطول هذه المرة وأشد لوعة، لكن لونه يتجمد في ذات الزاوية التي انطلق منها. ثم خطاف حاذق يمزق حياكة الفانيلة. ثمة شيء داخل المزق. ثمة شيء في الغرفة/الفنار المتآكل عند سكة حديد قروية. ثمة تمثال من الشمع. بشر آدمي، أم كائن شجري؟ الكائن في وضعية من يكاد أن يتهاوى لكنه لا يفعل. شبح يملأ الغرفة. الفضاء المحيط بالكائن، أمواج بحرية ثارت وتوقفت عن الانقضاض، وهي في أوج ارتفاعها. أمواج تكاثفت وغدت تدريجيا طينا ثم صارت صخورا. ترى إليها فتشعر أنها مستعدة للتخلي عن مظهرها الصخري لتستحيل شلالا سيهبط إلا أنها لا تفعل. لا تظهر الشمس من خلف الأمواج الصخرية، بل تخفي ملامح ضياءها بين ارتجافات الغيوم، وكأن الرب يقف خلف الأمواج العاتية والغيوم المرسومة بأسلوب عصر النهضة بطريقة رعوية دقيقة بيده لجام الجياد الكونية ممتشقا أنياب السلاحف الديناصورية ناثرا غذاء الطيور النفاثة شاهرا زواغير الأفاعي التي بطول الأنهار وعرضها الجبال. إنها الغرفة/الفنار المسوّرة بالأمواج الرابضة في فوهة بركان فتيله في الجذور، وحطبه ذلك الكائن الشجري نفسه، والمسافة الرابضة بينهما هي صفير القطارات وأبواق الحافلات الذاهبة إلى الكنيسة. الكائن الشجري المشرئب لعوالي الأمواج يصدمك حال النظر إليه. فموقعه غريب، وطريقة وقوفه نشاز. بمجرد النظر إليه تحس أنه انفصل عن غابة ما، أو ربما تركته الغابة، ومن فرط ارتباكه ركض فتزحلق إلى حافة الهاوية. ثم من خوفه لمرأى الهاوية تشبثت بعض من جذوره بعواميد خشبية تكاد لا تكفي للقيام بهذه المهمة. انجدل جسده وهو يحدق بالمصير المتوقع في الهاوية المبهرجة بالمباني والشوارع والمحلات الأوتوماتيكية والكنائس والمقاهي وأضواء بيوت الدعارة. وحين تدقق بتفاصيله تكتشف أن ثيابه قد انحسرت كاشفة عن ساقين، جزء من كتف ومنبت حشائش كثيف أسفل البطن. يكشف الكائن الشجري عن جذور مغرورقة بالألوان تحوم حول بعضها، لتغور في نهايات لا نراها. مرة تبدو ككتلة من الأفاعي ومرة كتمديدات أنابيب مطاطية لمباني تركها العمال وراحوا يتناولون غداءهم.. بين جذور الكائن الشجري توجد أخاديد كونكريتية لا تنتهي إلا في بيوت مالت كأنها تريد أن تتسلق صوب الكائن، أو تريد أن تسحبه معها إلى الهاوية. وكلما ازدادت حركة الكائن عنفا إلى الأعلى كلما تكاثرت تحته البيوت كالحشد. ومن تلك الزاوية بالذات، بدت البيوت في حركتها مرتدية مظهر الغاضب المتوعد. وهذا مما زاد رد فعل الكائن حدّة. يتأوه الكائن ويرتجف كلما ناداه ضياء البيوت أو ظلام المساء. تأوهاته لا تتكون في فمه، إنما تبدأ من جذوره وتسري في ساقيه لتكبّل بطنه قبل أن تنفجر. التأوهات والشمس الغائبة والغروب هي الهالة الصافنة أمام الكائن الشجري. السرداب أو حاضنة الجذور تغزوه ظلمة. ظلمة السرداب لا تشبه أي ظلمة، كما إن شكلها لا يشبه أي شكل. تزهر على جوانبها بيوت العنكبوت التي تغطّي أسرار أهل الكهف، والأفعى، والطير. وإذا ما داهمها الصمت بعد التياث تتلبّس هيئة قبر وتحتضن الكائن الشجري. طبعا، فالقبر حالة عدوى أو رغبة لقاء بين جسد وروحه يدعو أحدهما الآخر إلى هجعة فضاؤها الديدان والتراب، وأرضها إنسان يلتقي نفسه ولا يلتقيها. هو ذا يتلفع الظل تاركا الأشياء تختصر نفسها. الأشياء حوله تسير، تدردم، عيونها تحادث الأكف، وأكفها تغضب من حكة الظهر، وحكة الظهر تنمّ مع منخر الأنف. تمرّ به المباني التي اكتظت وتشرذمت كلما اقتربت من الطبيعة البكر. تتجاوزه البيوت التي انحدرت باتجاه الأفق وتباعدت حتى غافل أحدها القطيع وفرّ لابدا في أخدود. وتمر به البيوت التي هربت من رعاتها وموّهت على نفسها بنتف من الحشائش أو أزالت ألوانها القديمة لكي تبدو صخورا أو حصى. هو الذي رأى كل شي! فغني بذكره يا بلاد!
أوغسطس، أكتوبر 2002 بلجيكا
#حازم_كمال_الدين (هاشتاغ)
Hazim_Kamaledin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فنان مصري: -الزعيم- تقاعد واعتزل الفن دون رجعة
-
من إلغاء جولتها الفنية إلى طلاقها.. جنيفر لوبيز تكشف كيف -ان
...
-
غزة.. عزف الموسيقى لمواجهة البتر والألم
-
لعبة التوقعات.. هل يفوز عمل غير غربي بجائزة نوبل للآداب 2024
...
-
اندمج في تصوير مشهد حب ونسي المخرج.. لحظة محرجة لأندرو غارفي
...
-
تردد قناة روتانا سينما 2024 الجديد على نايل سات وعرب سات.. ن
...
-
الممثل الخاص لوزير الخارجية الايراني يبحث مع نبيه بري قضايا
...
-
سيدني سويني وأماندا سيفريد تلعبان دور البطولة في فيلم مقتبس
...
-
فشلت في العثور على والدتها وأختها تزوجت من طليقها.. الممثلة
...
-
-دبلوماسية الأفلام-.. روسيا تطور صناعة الأفلام بالتعاون مع ب
...
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|