إن أهمّ مؤسسة للدفاع عن حقوق الانسان خلال الاعوام الخمسين الماضية هي في صدد الولادة اليوم، إلاّ ان مستقبلها غير مضمون على الاطلاق. اذ ان الولايات المتحدة تبذل كل ما في وسعها بغية تقويض أسس محكمة الجنايات الدولية الجديدة، واذا لم تعمد اوروبا الى اتخاذ موقف حاسم، فإن قضية العدالة الدولية معرّضة للخطر.
اما ساحة القتال الراهنة، فهي الامم المتحدة. اذ ان ادارة بوش تمارس ضغوطاً بغية استثناء قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من نطاق سلطة المحكمة. وذلك قد يلحق ضرراً كبيراً بصدقية الاخيرة اذ سوف يهدّد شموليتها.
وهذه الخطوة هي أحدث تعبير عن رأي واشنطن في أنّ العدالة الدولية تعني الآخرين فحسب، لا الاميركيين. لكن وراء هذه العجرفة المذهلة، تحاول الادارة الاميركية فعلياً ان تكتشف الى أي حدّ في وسعها دفع حلفائها. فهي تعلم ان الاتحاد الاوروبي قد تبنى موقفاً مشتركاً ينصّ على حماية مضمون معاهدة المحكمة وروحها. الا انها تأمل في ان يجبر التهديد والوعيد الحكومات الاوروبية على التراجع عن موقفها هذا.
لقد حان الوقت لوضع حدّ لكل هذا. لأنه اذا ما تخلّت اوروبا عن هذه المسألة المتعلقة بالمبادئ، فانها سوف تشجع اليمين الرديكالي الاميركي على التمسك باعتقاده ان الولايات المتحدة هي فوق القانون الدولي. ولن يؤدي ذلك سوى الى تكثيف مطالبه.
ومحكمة الجنايات الدولية، وهي محكمة دائمة ذات نطاق سلطة شمولي مبدئياً، بغية محاكمة كلّ من يرتكب إبادة جماعية او جرائم حرب او جرائم ضدّ الانسانية. وقد قامت 74 حكومة، بما فيها جميع حكومات الاتحاد الاوروبي، بالتصديق على معاهدتها.
لطالما كانت الولايات المتحدة تتخوّف من ان يواجه الاميركيون دعاوى تافهة او ذات دوافع سياسية. ورداً على ذلك تضمنت معاهدة المحكمة عدداً كبيراً من البنود الوقائية. بالاضافة الى ذلك، يمكن اي حكومة منع المحكمة من تولي قضية ما عبر التحقيق بنفسها مع مجرمي الحرب المزعومين لديها ومقاضاتهم عند الضرورة.
أي في اختصار، كل الشروط والقوانين اللازمة لاجراء محاكمة عادلة متوافرة في محكمة الجنايات الدولية. الا ان المطلوب الآن هو ضمان تطبيق تلك الشروط والقوانين بضمير حيّ. وتتمتع اوروبا بموقع اساسي على هذا الصعيد، اذ يجب ان تؤدي دوراً مهماً في التأكد من التزام المحكمة أعلى معايير العدالة.
كذلك كان من المفترض ان تؤدي الولايات المتحدة الدور نفسه. فحتى من دون التصديق على معاهدة المحكمة، كان يمكن واشنطن تقديم نصائح في ما يتعلق بالقوانين وفريق العمل والاجراءات واقامة الدعاوى. الا ان ادارة بوش ارتأت ألا تفعل ذلك، لا بل صعّدت موقفها الآن مع بدء نشاط المحكمة. إذ هدّدت بالانسحاب من قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة اذا لم يستثنِ مجلس الامن هذه من نطاق سلطة المحكمة. والتهديد أقلّ أهمية مما يبدو عليه للوهلة الاولى لأن المشاركة الاميركية في قوات حفظ السلام التابعة للامم المتحدة محدودة للغاية.
***
منذ 30 نيسان الماضي، لم يعد للولايات المتحدة سوى عدد ضئيل جداً من الجنود ورجال الشرطة تحت راية الامم المتحدة، وحتى في حال امتناع واشنطن عن تقديم مساهمتها في موازنة قوات حفظ السلام، وهي مساهمة تبلغ نسبتها 27 في المئة، من الافضل لاوروبا التعويض عن تلك الاموال بدلاً من التضحية بوعد تطبيق العدالة الدولية. فعلى سبيل المثال، لا تتجاوز مساهمة واشنطن في موازنة بعثة الامم المتحدة الى البوسنة 38 مليون أورو. قد تبرهن واشنطن عن قلة تبصّر شديدة اذا ما استمرت في اعاقة عملية حفظ السلام في البوسنة او في اي مكان آخر، في حين انها تعتمد بشدة على مساعدة قوات حفظ السلام هذه في افغانستان. فذلك قد يفضح خداعها.
وتقول واشنطن انها لا يمكن ان تنشر جنوداً اميركيين في منطقة تقع ضمن نطاق سلطة محكمة دولية. لكن الجنود الاميركيين في البوسنة وكوسوفو كانوا طوال الاعوام السبعة الماضية تحت سلطة المحكمة اليوغوسلافية لجرائم الحرب. ومثلهم كان قاذفو القنابل على البوسنة عام 1995 وعلى صربيا وكوسوفو عام .1999 لذلك فمن الواضح ان هذه الازمة حول محكمة الجنايات الدولية هي ازمة "مفبركة".
وتهتم الادارة الاميركية كذلك الحكومات الاوروبية بالخبث لأنها شاركت، في افغانستان، في اتفاق تقليدي لحفظ السلام يشمل جنوداً مهتمين بممارسة اعمال اجرامية. ويفرض هذا الاتفاق على افغانستان ان ترسل هؤلاء الجنود الى وطنهم الام بغية محاكمتهم، لا الى محكمة دولية، الا ان هذا الشرط الذي تستنكره الولايات المتحدة يتناغم مع تفضيل محكمة الجنايات الدولية المحاكمات المحلية. كما انه لا ينفي نفوذ المحكمة في ما يتعلق بالتدقيق في تلك المحاكمات وباستلام الدفّة اذا ما تبين ان هذه زائفة.
إلا ان السبب الحقيقي الكامن وراء لجوء واشنطن الى الابتزاز هو اكثر اثارة للقلق. اذ ان فئة يشتد نفوذها بازدياد ضمن ادارة بوش تؤمن بأن سلطة الولايات المتحدة العسكرية والاقتصادية مطلقة الى حدّ ان القانون الدولي لم يعد يصلح للبلاد. ويقول هؤلاء انه من الافضل ان يتم التفاوض بالمسائل بان تؤخذ كل قضية على حدة من موقع قوة، بدلاً من ان تخضع اميركا لقيود القانون الدولي بطرق قد لا تتناسب مع مصالحها.
ويمكن رصد هذا الموقف في الرفض الاميركي، لا لمحكمة الجنايات الدولية فحسب، بل لمعاهدات كثيرة بدءاً من تلك المتعلقة بارتفاع حرارة الارض وصولاً الى الاسلحة الصغيرة.
لا يمكن ان يرتكز نظام شمولي فاعل على أسلوب الاكراه فحسب. بل ان حسن تسيير النظام العالمي يعتمد على التزام معظم الحكومات به طوعاً عبر معايير مشتركة. واستنثاء اميركا من حكم القانون يقوّض أسس تلك المعايير، مفسحاً المجال امام ولادة عالم أشدّ عنفاً وأقلّ انسانية. لذلك يجب على اوروبا ان تقاوم جنون عظمة تلك القوة العظمى.
عن "الفايننشال تايمس"
ترجمة جمانة حدّاد
"النهار"
الاثنين 15 تموز 2002