أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نورة العداوي - قسوة الظروف على رجل















المزيد.....

قسوة الظروف على رجل


نورة العداوي

الحوار المتمدن-العدد: 2966 - 2010 / 4 / 5 - 12:12
المحور: الادب والفن
    


على جانب الطريق جلس رجل طاعن في السن. غطت التجاعيد ملامح وجهه الاسمر ذو لحية بيضاء و كثيفة. عيناه ضيقتان و تتدلى عليها جفون منتفخة. أصلع الرأس‘ قصير القامة‘ نحيف الجسم. يداه كانتا كعمودي شجرة يابسة فقدت نظارنتها‘ و عروقها البارزة كانتا كجذور هذه الشجرة. يرتدي جلبابا أبيضا رثا و مهترئا. و خفان ممزقان لا يستران قدميه المتورمتين المشقوقتين. يحمل في يده اليسرى عصا يستعملها كعكاز. و يمد يده اليمنى للتسول. يتمتم بكلمات لم أستوعب معانيها‘ و انا أراقبه من شرفة منزلي المكون من دورين.

ظل المسكين واقفا‘ مسمرا‘ لم يحرك ساكنا. و مرت ساعات و ساعات و هو على نفس الحال.
اقتربت منه امرأة‘ ممتلئة الجسم‘ قصيرة القامة‘ مرتدية منامة سوداء‘ و تضع على وجهها المكور مساحيق الزينة بشكل عشوائي يبعث على الضحك لمنظرها البهلواني.

أمسكت المرأة الرجل و سحبت وجهه قائلة: " أنت لا تصلح لشيء‘ حتى التوسل لا تقدر عليه كغيرك. إنك حقا رجل غبي." ثم دفعت المسكين بقوة‘ فسقط جسده النحيف أرضا. فأسرعت في حمله خفية من أن يراها أحدا. ثم انهالت عليه ضربا و هي تردد: " عجوز أخرق.. عجوز أخرق.." و واصلت صراخها المزعج والمسكين يطأطئ برأسه و لا يتفوه بكلمة و لا حتى بإشارة قد يعبر بها عن تذمره من هذه الوضعية البائسة. و فجأة رفعت هذه المرأة رأسها نحوي‘ ونظرت إلي نظرة قاسية وقالت بنوع من الاستهزاء: " هل أشفقت على هذا الرجل؟" لم أجب. و أضافت: "لا تكترثي له يا عزيزتي‘ إنه مجرد كومة من الشيب.. لا يحس بشيء.. و ها هو الآن يدفع ثمن أفعاله.."
ثم قهقهت بشكل هستيري قهقهة تردد صداها في أرجاء الحي. و راحت لحالها و هي تجر الرجل المسكين كبهيمة أو كما هو أسوأ من بهيمة. أغلقت النافدة على هذا المشهد الفضيع. و جلست أفكر في حال هذا الرجل العجوز‘ متسائلة عن سبب معاناته و قسوة هذه المرأة عليه. و كان آخر ما قالته إنه يدفع ثمن أفعاله. تسائلت كذلك كيف أستطيع مساعدته؟

دق جرس الباب. كان أبي و قد عاد من عمله. و لم يلبث يسلم علي ويسأل عن أحوالي حتى سردت عليه واقعة الرجل والمرأة بالتفصيل الممل دون تريث و لا توقف. تنهد أبي بعدها و تحسر لما وقع. و بدى لي أنه تعرف على شخصية الرجل. قال أبي في نوع من التأسف الممزوج باليأس:" أنه محمد.. كان من أطيب خلق الله.. كان يعيش مع زوجته و اولاده الثلاث.. و بعد وفاة الزوجة‘ قرر الزواج من حليمة لتساعده في تربية الأولاد و تكون بجانه في حلو الحياة و مرها كما عبرت حينها.. لكنه تعبير خداع يابنيتي.. فبعدما نخر المرض محمد و قضي عليه أبانت حليمة عن شر كان أقله ما شاهدت من النافذة.. و ها هو الآن يتخبط بين الدروب من طلوع الشمس إلى مغيبها.." صمت أبي قليلا ثم ختم كلامه: " الله يرحم ضعفنا و يتطلع لحال عباده.."

اطمأن قلبي حين أخبرني أبي بأنه اتفق مع الجيران للتكفل بمحمد. و رفعوا دعوة ضد حليمة. و هم الآن في انتظار قبول الدعوة و انتظار رجوع الحق لصاحبه مهما قست الظروف. ابتسمت في وجه أبي وعانقته و الدموع تسيل من عيني و تنهمر على كتفه كالأمطار. استأذنت أبي و ذهبت إلى غرفتي و أغلقت الباب. الأفكار تضارب في رأسي و لازال ذلك المشهد الفضيع يتكرر في ذاكرتي بنبرة القسوة لتلك المرأة الحقود‘ بمنظر الرجل المسكين و هو يتعذب في صمت رهيب. تمددت على فراشي و أغمضت عيناي وتمنيت لو كان ما شاهدته اليوم مجرد فيلم درامي أو حلم. و أعود لاستحضار الاحداث مجددا . و أخيرا اقتنعت بأنه بإمكاني مساعدته. بدأت أشعر بنوع من الراحة و الطمأنينة‘ و استسلمت للنوم.

و مرت الليلة الكابوسية. فأنا لم أعتد في حياتي قط أن أصادف مثل هذه المواقف. أعيش حياة وردية لا تعرف طعم الالم و الانكسار و غير ملمة بأسرار الدنيا. تجاربي على هذا الكوكب الازرق قليلة‘ بل شبه منعدمة. وعمري لم يتعدى العشرين. فكان لما وقع أثر عميق‘ أخل بالتوازن الذي اعتدته. و بين عشية وضحاها تطلعت للعالم بنظرة مغايرة . نظرة قاسية. و أحببت لو أكشف عن خبايا الشر في هذا العالم المظلم. كرهت الظلم و أشكاله. و تمنيت لو كان بمقدرتي تغيير هذه الحقيقة. و لكن ليس باليد حيلة.

أشرقت الشمس كعادتها في أفق السماء. و لكن بداخلي فهي مازالت خامدة. تناولت طعام فطوري الاعتيادي و جلست قرب النافذة اراقب الحي و كأنني أنتظر سماع خبر ما أو قدوم شخص معين. و حين تربعت الشمس و سط السماء وزادت الحرارة لمحت أمي و هي في الطريق عائدة من السوق. كانت تحمل في يدها قفة مليئة بأنواع شتى من الخضار والفواكه‘ و من بين هذا الخليط كانت أكياس سوداء تطل من القفة. عرفت أن بداخل هذه الاكياس كانت هناك كتب وقصص مصورة. فأنا أعشق المطالعة‘ و أمي تعرف ذلك. نزلت الادراج و فتحت الباب. ساعدت أمي في حمل الاغراض. و اطلعتني على مجموعة الكتب التي اقتنتها‘ فهي دائما تشجعني على المطالعة. و من يدريقد أصبح كاتبة مرموقة في المستقبل. ثم سألتها عن سبب تأخرها حتى منتصف النهار؟ فوجهت إلي نظرات حزينة وقالت: " لا أعلم إن كنت قد سمعت برجل اسمه محمد.." فتحت فاهي مندهشة. أتممت أمي: ".. المسكين كان يتسول في الأحياء المجاورة.. وقع بين يدي امرأة حاقدة. ابتاعته الغاليو النفيس. نهبت أمواله. و سلبته سعادته.. حتى أبناؤه لم يكترثوا لحالهخوفا من بطش تلك السيدة.."
سرعان ما بدى لي أن أمي لم تكن على دراية بما حدث البارحة امام عيني. كانت منهكة بعد قضاء ليلة ساهرة على جدتي المريصة. واصلت أمي حديثها: ".. اليوم.. .. انتقل المسكين إلى الرفيق الأعلى.. قد يرتاح أخيرا.."
- كيف حصل هذا؟
- أخبرني الجيران.. ليلة أمس جاءت زوجته و بانت عليها علامات الغضب الشديد.. انهالت عليه ضربا حتى خر المسكين جثة هامدة.
- كيف حدث هذا..؟ أنا لم ألاحظ وقوعه..؟ أوقع حين..؟
- لا. جزء من هذا فقط. لقد داهمته الموت في الحي الخلفي الذي تقطن فيه صديقتك هدى.
- و الزوجة اللعينة..؟
- سيقت إلى السجن.. أو لا تعلمين أن أباك قد رفع دعوة ضدها بمساعدة الجيران؟ لقد ضبطت متلبسة. و لن تفلت من عدالة سجن مؤبد أو إعدام.
و بكل يأس و استنكار كان آخر ما قلته لأمي: " و لكن بعد ماذا أو ماذا؟ بعد فوات الأوان.. آه‘ كفى من الظلم.. إلى متى سيظل الناس يستترون على أمثال هؤلاءالمجرمين..؟"

عقدت امي حاجبيها‘ و هو ما يظهر غضبها الشديد‘ و صرخت هي الأخرى:" ما بالك يا فتاة.. و كأنني أنا من قرر مصير الرجل و الحقت به الضرر.. أستغفر الله العظيم.." تأسفت لأمي و غادرت الحجرة. جلست أبكي و أبكي في صمت وعزلة. أردت الصراخ والعويل‘ و أردت في نفس الوقت السكون و الهدوء. تراكمت الاحداث في عقلي الصغير‘ و استغرقت وقتا في تأويلها و جمع شتات أفكاري المبعثرة.

لكن غبطتي كانت عارمة بانتصار الخير على الشر. لقد ظهرت الحقيقة. ظهرت في حكم بالمؤبد على الزوجة و الحكم بسنة نافدة على أبنائه. عاد الاستقرار من جديد و سكن الحي و أهله بعد الهزة التي لا زال تأثيرها على خاطري مستمرا لحد الساعة.

علمتني هذه التجربة العديد الاشياء. الصبر. حب الخير. علمتني عدم السكوت عن الظلم. عدم الوثوق بالغير. علمتني الصمود أمام عواصف الحياةالمدمرة. علمتني احترام الغير.

علمتني البر بالوالدين.

نورة العداوي
14 سنة تلميذة في الثانوي
سلا. المغرب



#نورة_العداوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نورة العداوي - قسوة الظروف على رجل