أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - تيسير العفيشات - القرآن معجز في لغته ..















المزيد.....


القرآن معجز في لغته ..


تيسير العفيشات

الحوار المتمدن-العدد: 2917 - 2010 / 2 / 14 - 08:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قالت العرب القرآن نظم فريد لا هو بالكلام المشعور أو المنظوم ولا هو باكلام المنثور ولا هو باكلام المسجوع.
وأنا أقول أنه كان من كل ذلك جميعا ومن هنا تشكلت فرادته أو هكذا بدا . ولم يتناول اشهر قدامى المفسرون اعجاز القرآن الا من الوجهة الأدبية و السياق اللغوي . ذلك أن اللغة تشكل فضاء الفكر أو تشكل التصورات اللاحقة التي يصوغها فلا يستطيع الانسان أن يفكر دون وساطة اللغة التي تشكل حاملا للفكر ذاته . ومنها عندما اهتم المسلمون الأوائل بقضية الاعجاز اللغوي كان يدركون هذه الحقيقة أيما ادراك .

لا تشكل المقاربة اللفظية المعجمية إلا اللحظة الأولى للتحليل اللغوي والألسني الذي ينبغي أن يؤدي بدوره الى التحليل الأدبي . والملحوظات المتعلقة بالألفاظ تبقى مصطنعة ودون أية أهمية ايضاحية إن لم تندمج في نظام العمل ككل ـ أي القرآن ـ . إن تعريف العمل الأدبي بصفته ـ شكلاـ معنى ـ لا ينفصم عن اعتباره تشكيلا لعناصر دالة يعتمد على قوانينه الداخلية أو نسقه العام، ويتميز بصفته كلا متحركا مرتبطا بقصدية معينة أي برسالة وابداع ما الذي يظهر للقارئ على هيئة تشكيل مستمر لا ينتهي.
لكننا لانستطيع أن نشرع بالدراسة الأدبية للقرآن دون أن نصطدم بذلك الإنتاج الضخم للمنظرين المسلمين والمتعلق بمسألة الاعجاز ، نحن نعلم أن العقيدة التي تنص على الصفة المحظ عجائبية والرائعة للقرآن والتي تقول بعدم إمكانية تقليد الخطاب القرآني يرجع أصلها الى التحدي الموجه مرات عديدة للعرب في أن ينتجوا عبارة واحدة واضحة بليغة متماسكة وممتلئة بالمعنى ... كالرسالة المنقولة الى محمد ومنه الى كل البشر ، جاء في القرآن ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
كان قد نظر لمفهوم الاعجاز هذا بشكل كثيف من قبل العديد من المؤلفين العرب الذين يسيطر عليهم منطق ارسطو وبلاغته ، ولكننا نعلم جيدا أن الجهود المبذولة حاليا لتشكيل نظرية للأدب تستهدف على وجه الخصوص البرهنة على عدم صحة البلاغة الأرسطية ، لهذا السبب نرى أن أية مقاربة أدبية للقرآن ينبغي أن تبتدئ باستعادة نقدية للأدبيات التي دارت حول الإعجاز .
ينبه الباقلاني في رسالته حول الإعجاز القارئ الى أنه يلزم من أجل فهم كلامه ( أن يمتلك قبل كل شيء مجموعة من المفاهييم المتعلقة بالصفات الجميلة وأنواع الكلام المختلفة وأن يعرف عددا معينا من الأساليب الخاصة بعلماء الكلام وأن يدرس الى حد ما أسس الدين أو أصول الدين.
هكذا نرى أن البحوث المتركزة حول موضوع الإعجاز قد استعانت بعلوم متعددة ، نتج عن ذلك تنوع خصب في وجهات النظر وملحوظات صحيحة ولكن نتج أيضا ضعف في النظرية المنجزة بسبب الخلط المستمر بين المستوى اللغوي والمستوى التيولوجي والمستوى التاريخي . لكي نستثمر هذه المادة المتعلقة بالإعجاز ونحللها جيدا فإنه من المناسب أن نستذكر تلك المقولة ( إننا نعرف أو نفهم ضد معرفة سابقة وذلك بتدميرنا للمعرفة المصنوعة بشكل رديء ) ، فيما يخص موضوعنا هذا نرى أن الأدبيات المتعلقة بالإعجاز تماما كتلك التي تتناول عجائب يمكن أن تدرس من خلال المنظورين التاليين:
*يمكن أن ندرس القرآن كفضاء تسقط فيه العقائد والهلوسات التي حلم ولا يزال الوعي الإسلامي بها، هذا الوعي الذي ظل أيضا خاضعا للضغوط الثقافية المختلفة، إن الخطاب القرآني يكشف أو يبرهن من خلال هذا الإنتاج على قدرته على التوسع والإثارة ضمن نظام الخيال، هذا ما نجده مثلا في المنحنى الرمزي الغني جدا بالصور التي تأسر الوجود الطبيعي ضمن سياق محدد.
* لكن الأكثر إثارة وأهمية هو ما يتعلق بالإعحاز ـ في الواقع أنه وعلى الرغم من أن الوعي اللغوي العربي كان خاضعا للحاجة الدينية من أجل البرهنة على الصفة الإعجازية للكتاب المقدس ، فإنه كان قد لاحظ جيدا إما عن طريق الحدس وإما بواسطة التحليلات البلاغية نقضا للعادة في التركيب اللغوي للخطاب القرآني، أي النظم باللغة الدينية ـ
ولنأخذ السياقين الفني والأدبي كيف نظر الهما وكيف تمت معالجتهما ادبيا من قبل التنظير الكلاسيكي العتيد ولتلاحظ كم الاسقاطات الكثيرة التي راحت تزيف الوعي الاسلامي برمته مع مرور الزمن .

يقول سيد قطب في التصوير الفني في القرآن إن القران قد بلغ مبلغا عظيما
في ايصال المعنى المراد إيصاله بأسلوب فني رائع يخلب الألباب ويستولي على القلوب ويرتقي بالنفوس الى مدارج الملأ الأعلى الذي يزكى من رحيق الروح .ويقول التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. فهو يعبر بالصورة المُحسَّة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية؛ وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور؛ وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة. فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة؛ وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد؛ وإذا النموذج الإنساني شاخص حي؛ وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة؛ فيها الحياة، وفيها الحركة فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأُوَل، الذي وقعت فيه أو ستقع؛ حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات؛ وينسى المستمع أن هذا كلام يُتلى، ومثل يُضْرب، ويتخيل أنه منظر يُعْرَض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة.
تعمدت هنا تأكيد بعض الكلمات باللون الأسود وبوضع خط أسفلها، وهي بترتيب مغاير لورودها في النص: التخييل، التصوير، العرض، المسرح، اللوحة، الصورة المحسة المتخيلة. تلك مفردات تحيل كلها إلى عالم الفن الواسع الفسيح، عالم يصف به سيد قطب القرآن، الذي هو بناء لغوي، أي بناء استطاعت لغته أن تخترق كل الآفاق الفنية وتوظف كل أدواتها. بل إن سيد قطب يتجاوز كل التحفظات التراثية التي ترفض استخدام مصطلح “التخييل” مثلا في وصف الأسلوب القرآني. لقد استخدم “الزمخشري” هذا المصطلح في وصف بعض الصور القرآنية فتعقبه المعلقون بالذم واصفين إياه بإساءة الأدب في وصف القرآن. سيد قطب ينطلق هنا من موقع “الناقد الأدبي”، الذي يدرك العلاقة العضوية بين الأدب والفنون البصرية والسمعية والدرامية، فيؤكد مر أخرى أن “القرآن”:

تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل..

ويظيف في لقطة أخرى:

قرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة. ولكني لم أجد فيما أقرأ أوأسمع ذلك القرآن اللذيد الجميل الذي كنت أجده في الطفولة والصبا. واأسفاه! لقد طُمِست كل معالم الجمال فيه؛ وخلا من اللذة والتشويق. وعدت إلى القرآن أقرؤه. في المصحف لا في كتب التفسير. وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب؛ وأجد صوري المشوقة اللذيدة.

في هذه الفقرة نلتقي مصطلحات تتصل بوظيفة الفن، فيما كانت مصطلحات الفقرة السابقة تتصل بطبيعة الفن. هنا نجد مصطلحات اللذة والجمال والتشويق، يتذوقها المؤلف في القرآن ولا يجدها في كتب التفسير ولا عند الأساتذة. لم يقل سيد قطب أن كتب التفسير ومحاضرات الأساتذة كان شاغلها وما يزال وضع القواعد والاهتمام بالمعايير لا تذوق لذة الفن ولا التنعم برحيق الجمال. هذا التذوق للذة والتنعم بالرحيق يوجد عند من انشغلوا بالبحث عن “سر الإعجاز” ومن حاولوا اكتشاف قوانينيه كما سنرى، وسيد قطب يشير باحترام وتوقير للشيخ “عبد القاهر الجرجاني” صاحب كتابي “أسرار البلاغة” و”دلائل إعجاز القرآن الكريم”.



يقول : إن الصور في القرآن ليست جزءا منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل يجب إذن أن نبحث عن ”منبع السحر في القرآن“ قبل التشريع المحكم، وقبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله. فقليل القرآن الذي كان أيام الدعوة الأولى كان مجردا من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، وكان – مع ذلك – محتويا على هذه النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا: إن هذا إلا سحر يؤثر.

القرآن نص أدبي أولا وقبل كل شيء:

خطاب سيد قطب هنا جزء من الخطاب العام في الأربعينات، وهذا يؤكد. ان لم يكن سيد قطب وحده يتعامل مع القرآن من منظور طبيعته الأدبية، الطبيعة التي يرى قطب – مشاركا الشيخ أمين الخولي وتلاميذه – محمد احمد خلف الله وبنت الشاطئ وآخرون – أنها لا تقتصر على جزء بعينه في القرآن، بل هي الطبيعة السارية في بنيته كلها. ويرى قطب أن الدراسة الأدبية يجب أن تسبق أي دراسة؛ إنها الدراسة التي تمكن الباحث من الوصول إلى النبع الأصلي “منبع السحر” الذي بهر العرب قبل التشريع وقبل النبوءات وقبل أي شيئ آخر.
ومثله مثل سيد قطب يرى الخولي أن عقد الإيمان – أي عقد التصديق برسالة محمد– هو في جوهره عقد أدبي بلاغي، إذ كان الحافز المحرك للإيمان هو الأثر البلاغي الأدبي الذي أحدثه القرآن في نفوس العرب:
“وهكذا كانت الدعوة الإسلامية عملا بلاغيا قويا، أو شطرا واضحا من هذا العمل، إذ اعتمدت على حكم نقدي، وقامت على رأي في الفن القولي … وإذا كان الأمر كذلك فالعربي حين دُعِيَ إلى هذا ويواجه به، فيؤمن ويستيقن، لا يكون اعتناقه للإسلام –في جليته- إلا حكما نقديا وتقريرا أدبيا بدين الله

كيف استقبل العرب القرآن
يقول سيد قطلب : إن هذه الطبيعة الأدبية البلاغية هي التي أدهشت العرب، فآمن من آمن (عمر بن الخطاب) وكفر من كفر (الوليد بن المغيرة المخزومي) وهما مثالان يستشهد بهما سيد قطب للدلالة على أساسية المدخل الأدبي البلاغي الفني لتذوق القرآن وفهمه. أما قصة الوليد فتحكي المرويات أن قريشا أرسلته ليفاوض محمدا لعله يتخلّى عن دعواه، فتلا عليه محمد بعض القرآن. فلما عاد لقومه متغير الوجه من تأثير ما سمع قالوا: “لقد صبأ الوليد” ، أي اعتنق الإسلام وتخلّى عن دين آبائه وأجداده. ورغم إنكاره أنه صبأ فإن الرواية تذهب إلى أنه قال: “والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، ولا برجزه ولا بقصده مني، ولا بأشعار الجن. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنيرٌ أعلاه مشرقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلَى عليه، وإنه ليحطم ما تحته”. سندع تلك المرويات جانبا على أساس انه يمكن التشكيك في مصداقيتها بالقول إنها مرويات مُتأخرة انتحلها المسلمون بعد انتصار الإسلام ونسبوها إلى بعض مشاهير الجاهلية من العرب. ندعها لأنها لا تضيف جديدا إلى ما نجده مذكورا في القرآن نفسه عن تلك الظاهرة. ففي سورة المدِّثر، رقم 74 في ترتيب المصحف والثانية في ترتيب النزول، (الآيات من 11-26) ورد ذكر تفصيلي لهذه الواقعة المنسوبة إلى “الوليد بن المغيرة”:
ذَرْني ومن خلقت وحيدا
وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا
ومهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيدا
إنه كان لآياتنا عنيدا
سأرهقه صعودا
إنه فكّر وقدّر
فقُتِل كيف قدّر
ثم قُتل كيف قدّر
ثم نظر
ثم عبس وبسر
ثم أدبر واستكبر
فقال إن هذا إلا سحر يؤثر
إن هذا إلا قول البشر
سأُصليه سقر
وهي تعكس حالة من التوتر الذهني والتشتت الانفعالي أصابت الشخص –المبهم في السورة- عند سماعه القرآن. وبعد إطالة التفكير والتقدير والتدبر والنظر، بتقليب الأمر على وجوهه كافة، لم يجد وصفا يفسر ما أصابه من تأثير ما سمع سوى أنه “سحر” من أقوال البشر. وسواء كان هذا الوصف تعبيرا عن مشاعره وأحاسيسه الذاتية، أم كان نوعا من الإرضاء لقومه الذين استهجنوا تأثَّره -على ما تذهب الرواية الإسلامية كما وردت في كتاب “أسباب النزول” للسيوطي- فإن الوصف كاشف عن حقيقة حالة “الغرابة” و”عدم الألفة” التي أصابت العرب بسماع القرآن. ويمكن ملاحظة البنية الإيقاعية الشعرية للأيات اعتمادا على تكرار حرف “الراء” برنينيه الذي يشبه جرس الإنذار. إن قصة أيمان “عمر بن الخطاب” لدى سماع الآيات الأولى من سورة “طه” -رغم أنه كان بصدد تأديب أخته وزوجها لما بلغه من اتباعهما دين محمد- تؤكد أن عقد “الإيمان” بأن القرآن من عند الله، ومن ثم عقد “اعتناق” الإسلام دينا، عقد تأسس مبناه على ذلك البُعد الأدبي اللغوي ؟
إن وصف مشركي مكة للقرآن بأنه فعل قولي يشبه أقوال الكهان، أو أنه قول شعري يشبه أقوال الشعراء، لم يكن إلا تعبيرا عن إدراك لطبيعته كنص أدبي. ولا يخرج عن هذا الإدراك وصفهم له بأنه سحر، ألم يؤثر عن محمد نفسه –- أنه قال: “إن من البيان لسحرا”؟ لم يكن مشركو مكة في الحقيقة مخطئين تماما في هذا الإدراك، ألا تعتمد البنية الأسلوبية للسور المكية القصيرة المبكرة النزول على بنية “السجع”، الخصيصة البارزة في أقاويل الكهان وتعازيم السحرة؟ ثم أليس في اعتماد بنية الشكل الشعري للقصيدة العربية على “القافية” وتنويعاتها داخل “البيت” الشعري ما يؤكد التشابه الأسلوبي بين السور المشار إليها وبين الشعر؟ لكن مشكلة مشركي مكة أنهم لم يكتفوا بإدراكهم لهذا التشابه، ولو اكتفوا به مع ملاحظة “التفاوت” و”الاختلاف” أيضا لهان الأمر. مشكلتهم أنهم تجاوزوا إدراك طبيعة النص، وذهبوا إلى إنكار مصدره الإلهي باتهام محمد أنه “كاهن” وأنه “شاعر” وأنه “ساحر” وأنه افترى هذا القرآن بمساعدة آخرين؛ ومن ثم أضافوا إلى اتهاماتهم السالفة تهمة “الكذب”. تلك الاتهامات تحديدا هي التي تصدى القرآن لتفنيدها، ولا يجب علينا أن نفهم من نفي الاتهامات أن القرآن يعادي الشعر. كيف وهو نفسه شعري البناء فني الأسلوب كما يؤكد سيد قطب اعتمادا على خبرته الأدبية وحسه المرهف كناقد أدبي، هو الذي اكتشف “نجيب محفوظ” وأول من كتب عنه.
تحيلنا عبارت “سيد قطب” عن “التصوير” و”التخييل” و”العرض” و”المسرح” … الخ لكي نفهم محاولات العرب التي لم تتوقف لتحديد “هوية” هذا الذي جاء به محمد زاعما – وفق تصورهم – أنه من عند الله. فذهبوا إلى أن محمدا “كاهن” ، وإلى أنه “شاعر” و”ساحر”. وقد أورد القرآن كل هذا ورد عليه:
“فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين” (سورة الطور رقم 52 الآيات 29-31)
وحين فشلوا في الاقتناع -أو الإقناع- بأنه “شعر”:
“وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين” (يس/69)
لم يجدوا وصفا يستريحون إليه ويرددونه سوى أنه
“أساطير الأولين اكتتبها فهي تُملَى عليه بكرة وأصيلا” (الفرقان رقم 25/5)[7]
والحاصل هنا أن أهل مكة فشلوا فشلا ذريعا في محاولة تصنيف القرآن في إطار النصوص المألوفة لهم كالشعر وسجع الكُهَّان وتعازيم السحرة، ولم يجدوا في النهاية سوى الزعم بأنه ينتمي إلى مجال “قصص الأوائل” (وهذا هو معنى أساطير الأولين)، وأن محمدا “افترى” هذه القصص، أي اختلقها بمعونة آخرين أو أمليت عليه. ومن اللافت للانتباه أن رد القرآن على هذا الزعم الأخير يتركز فقط على نفي “الافتراء” و”الاكتتاب”:
“قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض” (الفرقان/6).
في سياق تلك المحاولات الفاشلة زعم البعض أنهم يمكن أن يختلقوا -أو يفتروا- مثل هذا الذي اختلقه محمد وافتراه، فقالوا:
“لو نشاء لقلنا مثل هذا” (الأنفال/31)،
فكان رد القرآن عليهم قبول التحدي ومطالبتهم -أولا- أن يأتوا
“بحديث مثله إن كانوا صادقين” (الطور/33)،
ثم خصص التحدي بعشر سور مفتريات، وأن يستعينوا بمن يشاءون، وذلك بعد أن أوشكت كل تلك الاتهامات أن تنال من عزيمة محمد كما يستنبط من الله:
ولمزيد من السخرية منهم وإثبات عجزهم تحداهم القرآن أن يجتمعوا ليأتوا بسورة واحدة مستعينين بكل من يستطيعون معاونتهم:
“وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين” (يونس/37).
ثم حسم القرآن القضية حسما نهائيا حين أعلن استحالة وقوع الاستجابة، وأن يأتي العرب بشيء مثل القرآن:
لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا (الإسراء/88).

التوتر بين “الوحي” و”الشعر” (المخالفة:

أليس في كل هذا السجال بين القرآن والعرب، بالإضافة إلى حالة “الدهشة” و “الغرابة” التي سببها نزول القرآن، ما يؤكد أن البُعد الأدبي هو الخصيصة المميزة للقرآن من حيث هو نص مارس فعاليته التأثيرية، الادبية والتي على أساسها آمن به من آمن وكفر به من كفر؟
لكن علينا أيضا أن ندرك علاقة التوتر التي نشأت بحكم هذا السجال بين “الوحي” و”الشعر” رغم استنادهما إلى تصور ثقافي واحد فحواه إمكانية الاتصال بين الإنسان وكائنات فوق إنسانية. وفقا للقرآن كانت الجن تسترق أخبار السماء وتوحي بها إلى الكهان، الذين على أساسها يوجهون البشر في حياتهم التجارية والاجتماعية. وكان الشعراء يتلقون الوحي من “الجن”، سكان “وادي عبقر” ومن هنا الوصف “عبقري” للشاعر. هذا “التوافق” التصوري المفهومي لم يلبث أن دخل في حالة “توتر” تتطلب التمييز بين الشعر والكهانة والسحر من جهة وبين الوحي من جهة أخرى، وهذا ما نجده ماثلا في سورة الشعراء رقم 26. هذا التوتر تم حله بالتمييز بين المسارين، مسار الشعر ومسار النبوة. من أجل تحقيق هذا الحل كان لا بد من تمييز أخر بين نوعين من الجن: الجن الذي استمع إلى القرآن يتلى فآمن به (سورة الجن)، والجن الذي لم يؤمن فأكتسب صفة “الشيطنة”. هكذا صار “الشعر” من وحي الشياطين، بينما القرآن من وحي الملك.
من الضروري أن نتوقع أن يحدث هذا التصور الجديد نوعا من التطور النوعي في فهم ظاهرة الشعر، لكن هذا التطور احتاج إلى انبثاق الدرس الأدبي متمثلا في “نقد الشعر”، ومناقشة الظواهر التعبيرية الأدبية في القرون التالية، حيث تحول مفهوم وحي الشياطين للشعراء إلى مجال للتندر والسخرية.

ومع هذا التمييز بين “الشعر” و”النبوة” من حيث مصدر الوحي كان النبي في حإجة إلى الشعر في معركته ضد قومه اللذين استخدموا سلاح الشعر في حربهم ضده. هكذا تم التمييز بين نمطين من الشعر: الشعر المؤمن، والشعر الكافر. وعلينا أن ندقق في الأزمة التي أحسها النبي استخدام الشعر ليهاجم قومه. التقاليد الشعرية في الهجاء تتجاوز الأفراد إلى القبيلة، وهكذا كان على “حسان بن ثابت” أن يهجو قريش التي وجهت سهام شعرائها لنقد محمد وأتباعه، على اعتبار أنهم قبيلة منشقة. تساءل محمد قائلا لحسان: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ فكان رد حسان: أسلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين. هكذا استقرت هواجس محمد فقال لحسان: اهجهم وروح القدس يؤيدك. هكذا استقر شعر حسان في فضاء النبوة.
القارئ لسورة الشعراء، التي يستشهد بها دائما على تحريم الشعر، يدرك بسهولة بنيتها الشعرية. إنه الشعر يهون من شأن الشعر. في أحسن الأحوال هذا تعبير عن كراهة لا عن تحريم، وهي ليست كراهة لمطلق الشعر، بل للشعر الذي لا يتواصل مع النبوة. إنها كراهة أخلاقية، أو إن شئنا كراهة أيديولوجية، وما أبعد هذا عن التحريم الديني. تمثل الشعر المقبول في شعر “حسان بن ثابت” و”عبد الله بن رواحة”. ويشهد النقاد الكلاسيكيون جميعا أن شعر حسان أصابه الضعف في الإسلام، ففقد قوته وجزالته، ومن هنا قالوا “الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان”. والمقصود في رأييي ليس الخير والشر بالمعنى الديني؛ فالشعر إذا لم يكن مثيرا ومهيجا للمشاعر والأحاسيس (قارن بمفهوم التطهير عند أرسطو) لا يعيد بناء الوعي. الشعر الذي يقول لك ما تعرف مثل الفكر الذي يعتمد التكرار الشعر متلقيه إلى عوالم أخرى غير مطروقه،”.



#تيسير_العفيشات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القرآن .. قراءة على قراءة


المزيد.....




- إسرائيل تغتال قياديًا في الجماعة الإسلامية وحزب الله ينشر صو ...
- الجماعة الإسلامية في لبنان تزف شهيدين في البقاع
- شاهد: الأقلية المسلمة تنتقد ازدواج معايير الشرطة الأسترالية ...
- أكسيوس: واشنطن تعلق العقوبات على كتيبة -نيتسح يهودا-
- آلام المسيح: كيف حافظ أقباط مصر لقرون على عادات وطقوس أقدس أ ...
- -الجماعة الإسلامية- في لبنان تنعي قياديين في صفوفها قتلا بغا ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن اغتيال قيادي كبير في -الجماعة الإسلامي ...
- صابرين الروح جودة.. وفاة الطفلة المعجزة بعد 4 أيام من ولادته ...
- سفير إيران بأنقرة يلتقي مدير عام مركز أبحاث اقتصاد واجتماع ا ...
- بالفصح اليهودي.. المستوطنون يستبيحون الينابيع والمواقع الأثر ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - تيسير العفيشات - القرآن معجز في لغته ..