أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد حربي - ...وضرب العنف الجزائر















المزيد.....


...وضرب العنف الجزائر


محمد حربي

الحوار المتمدن-العدد: 180 - 2002 / 7 / 5 - 09:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


MOHAMMED HARBI

  يبدو العنف الذي تغرق فيه الجزائر لأصحاب النيات الطيبة وكأنه نزعة متأصلة في شخصيتها الوطنية. غير أن هذا المفهوم العائد الى مبدأ الحتمية الثقافية ينم عن بديهية خادعة تتميز بها الأفكار المبسطة. فما يجب التذكير به هو أن العنف ليس محصوراً بأي مجتمع، فهو في صميم البشرية جمعاء والسؤال الذي يطرح نفسه يجب أن يكون حول الظروف التي تؤدي الى تفجره وفرضه على الساحة الاجتماعية، كما حول الأشكال التي يتخذها والتي تبدو من نوع الموروث الثقافي الخاص بكل مجتمع على حدة.

  في القرون الوسطى وجدت المسيحية وسيلتها في المحارق التطهيرية، وكان قتل الملوك يتم بفسخ الاطراف بواسطة أربعة أحصنة. أما في العالم الاسلامي فقد كانت المرأة الزانية تُرجم حتى الموت. وخلال حرب الاستقلال (الجزائرية) كان المسلم "الخائن" جماعته يخصى أحياناً ويجدع أنفه قبل أن يذبح. هذا عدا العنف العسكري حيث كانت تحرق المشاتي دون الاهتمام بمن يحترق داخلها.

  فاذا كانت الأشكال التي يتخذها العنف تندرج في السياقات الثقافية الطويلة الأمد، فإن ما يهم هو الظروف التي جعلتها تفرض نفسها بشكل لافت. فلفهم هذا العنف يجب إدراجه في الاطار التاريخي. فلندرسه، هنا، من زاوية خاصة تتمثل في العلاقة بين الحكام والمحكومين في الجزائر مكتفين بالمرحلة التي أعقبت زوال الاستعمار.

  كان الجزائريون، قبل احتكاكهم بنموذج الدولة الأمة في شكله الفرنسي، قد تأقلموا، في إطار انتمائهم الى العالم الاسلامي، مع دولة من النمط القبلي أو الطوائفي، قائم على لامركزية معقدة تسمح بالتعايش  بين سلطة مركزية وبعض بؤر السلطة (الطوائف والقبائل والجماعات) التي تحكم نفسها بنفسها. وتلك هي المبادئ التي استوحاها النظام العثماني الذي دام حكمه فيها ثلاثة قرون. ويرى ألبرت حوراني، الذي وضع ترسيمة لهذا الوضع [2] ، أن مجال أعمال الدولة كان محدوداً، إذ لم تكن تتجاوز المدن والساحل وبعض الأودية والسهول التي يمكن الوصول اليها. فقد كان في امكان الجماعات التي لا ترغب في الالتزام بدفع الضرائب أن تنكفئ الى بعض المناطق التي تعصى على الدولة متفادية بذلك أي اضطهاد. كما ان الكثير من دوائر الحياة الاجتماعية تفلتت من سلطة الحكام الذين كان اهتمامهم بفرض الأمن في المناطق الخاضعة لهم أكثر منه بإحداث تغيير في المجتمع.

  هكذا يتبين لنا، ما كانت عليه حقوق الرعايا في دولة القوة المطلقة هذه حيث السلطة لا تعترف بالفرد كونه فرداً، ولا يتمتع، هو، بأي استقلالية إزاءها. وحدها الحقوق المكتسبة كانت تفرض نفسها عبر تقاطع مواقف السلطة الاجتماعية. ونظرياً كان الدين يحد من استبدادية مخلتف الممسكين بالسلطة، كما أنه شكّل سلاحاً للمعارضة في زمن أزمات الدفاع عن الوجود أو الاعتراض على القوانين الضرائبية.

  وعشية الاحتلال الفرنسي مرت سلطة الاتراك العثمانيين في محنة قاسية. ففي بكوية أوران جرت عمليات عرّضت أمن المسافرين للخطر وقد قُمعت بشدة. وعصفت بعض حركات التمرد، التي أثارتها الجماعات الدينية، بجماعة منطقة القبائل الصغيرة في الشرق، وبمسقرة وشليف في الغرب، حتى أنه في العام 1830 كان هناك 200 قبيلة من أصل 516 على مجمل الأراضي الجزائرية قد انقطعت علاقاتها بالسلطات.

  ولأن الدولة كانت من خارج المجتمع فإنها لم تعد تملك الوسائل التي تسمح لها بمواجهة الاجتياح الفرنسي. ولأن القانون الجزائي كان من صلاحيات الدولة فقد اتخذ طابعاً سياسياً الى أقصى حد، وكان قانون الاعدام من اختصاص "الدايات" أو "البكوات"، ما عدا في الجزائر العاصمة. وفي غياب أي علاقة تبادلية بين الحكام والرعايا، وهي من المواصفات الأساسية للنظام، كتب لهذا المجتمع أن يعيش في ألفة مع العنف والتعسف مما أدى الى تردي قيمة الانسان.

  وقد اتخذ العنف الذي دشنه الاستعمار مظهرين. فمن جانب المستعمر قام على الاجتياح العسكري مع ميزة خاصة انه لم يخضع لمبدأ الشرف العسكري ولقوانين الحرب كما يتبين من الشهادات التي دوّنها ضباط فرنسيون وخصوصاً من مراسلات المارشال سانت-أرنو، وقد شكلت نماذج مختارة من اصناف القتل والمجازر الجماعية والنهب. كما أن العنف كان هنا أيضاً اقتصادياً وسياسياً [3] .

  أما من جانب الجماعات الجزائرية فإن ردة الفعل، وإن كان الاضطهاد يبررها، اتخذت أشكالاً مستقاة من تقاليد مختلفة عن تلك المعهودة في أوروبا. وبطريقة ما فإن هذا النضال أعطي طابعاً ميتولوجياً أحاط بشخصيات مثل الأمير عبد القادر (1808-1883)، الذي قُدّم على أنه رمز للأمة الجزائرية الموحدة والواعية ذاتها في مواجهة فرنسا، في حين ان الواقع يحيل تاريخياً على تعددية الجماعات وتنوع أشكال ردودها. ففي الشرق مثلاً كان أحمد باي يدعي بأن سلطته امتداد شرعي للسلطة العثمانية معبّراً عن احتقاره لعبد القادر، الأمير الذي أعلنته جماعته سلطاناً، فاذا به يحارب في آنٍ واحد من جانب خصومه الفرنسيين ومن أبناء طائفته المتعلقين قبل كل شيء بالدفاع عن خصوصياتهم والمتمردين على كل سلطة خارجية.

ومع استقرار الاستعمار وقيام مؤسساته، تجسد الانقسام بين الحيز المديني من جهة والحيز الريفي وأقاليم الجنوب من جهة أخرى.

  وما استجد في المدن ارتكز على تشكل قطاع اقتصادي حديث وعلى تنوع المجموعات الاجتماعية التي انتجها. ففي أوائل القرن العشرين، وخصوصاً بعد انتهاء أعمال المقاومة المسلحة في الأرياف نشأت فيها حركات متنوعة عبّرت عن مطالبها بلغة سياسية، إما من خلال المطالبة بالمساواة في المواطنية مع الأوروبيين وإما من خلال العمل على بلورة هوية وطنية قومية جزائرية.

  أما في الأرياف فقامت العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر بكل بساطة على العنف. فقد كانت النظرة الى المستعمر على أنه مغتصب تواجه الجماهير الريفية بتضامن الجماعة التي لم تعبّر عن ذاتها باللغة السياسية بقدر ما عبّرت بلغة الدين. ولقد فسر الصراع على أنه مواجهة بين المسلمين و"الكفار" الذين اتهموا بأنهم مسؤولون عن التعسف وعن إعدام الوجهاء والموظفين. وفي اي حال لم تقم مقاومة ريفية منظمة كما في المدن قبل أيار/مايو عام 1945، بل مواجهات متفرقة بين الجماعات العائلية والابوية (البطركية) حول المراعي وتوزيع المياه الخ.

  ومن الخطأ الاستنتاج من هذا الفرق بين المدينة والريف، وفي شكل أعم بين الساحل والداخل، بأنه كان هناك نوعان من الجزائريين، حتى وإن بدا أن رفض كل تلاقح ثقافي وكره الأجانب كانا أشد في أوساط الريفيين. فالحركة الوطنية في المدن وحتى في اوساط العناصر التي سلكت طريق العقلانية والعلم والوضعية، لم تقطع أبداً مع التقليديين والطائفيين، كما لو أنهم وجدوا فيهم شرعية أصيلة، فقد كان هناك احساس بأن القطيعة هي من نوع قتل الأمومة، وعاشت النخب حالة من انفصام الشخصية وهذا ما سيكون له دوره في حرب الاستقلال.

  فماذا يمكن أن يقال في عنف تلك الحقبة؟ لقد اختلف العنف قليلاً في المدن عنه في أماكن أخرى مثل جنوب فرنسا مثلاً. كان عبارة عن جرائم تخضع للقانون الجزائي حتى وإن لم يغب عنها أبداً البعد السياسي. لكن الأمر اختلف في الأرياف حيث لم يكن للعنف من سبب سوى موازين القوى بدون أي اعتماد للحق والقانون. فالذي فرض نفسه هو علاقة خضوع أو مواجهة مع قوى بوليسية وعسكرية مدعومة من بعض وجهاء المستعمرين والموظفين (القادة والنواطير وحرس الغابات)، والذين تحولوا في ما بعد هدفاً في حرب الاستقلال. وقد جاءت ردود الفعل على التعسف والمظالم عبر أعمال اللصوصية الاجتماعية على أيدي أناس من أمثال قدور بن زلمات وغرين في منطقة الأوراس، وعمري في منطقة القبائل وكلهم عوملوا كأبطال أهديت اليهم أناشيد عديدة في الغناء الشعبي.

  انفجرت حرب الاستقلال في مرحلة كانت الحركة الوطنية تمر بأزمة مع بروز مجموعة متطرفة همشت النخب السياسية من مختلف النزعات واخضعتها. وقد ولّد هذا الوضع فراغاً وحالة من الفوضى برزت على أثرها رابطة متحدرة من سكان الأرياف تحفزها مثالية طائفية ومتحفظة إن لم تكن عدائية إزاء الفكرة القائلة بأن الأوروبيين غير المسلمين أو السكان المحليين من اليهود يمكن أن يكونوا جزائريين. وتطورت هذه الحركة وفق اثنين من المقتضيات المتناقضة، أحدهما طائفي والآخر قومي بيروقراطي، وتسبب فكرهم هذا بالكثير من المآسي، ونادراً ما انتصرت فكرة المواطنية التي حركت أقلية من الفاعليات، على فرائض الدين.

  ولدى محاولة فهم مميزات أعمال التعبئة خلال حرب الاستقلال وموقف الزعماء الذين قادوها على الأرض يجب ألا تفوتنا المبادئ التي حكمت الطائفة الاسلامية في موضوع الجهاد والتي منها:

- إن الشهادة تعني التضحية بالذات وبالممتلكات.

- المشاركة في الجهاد واجب الزامي.

- يجب ملاحقة المتخاذلين كما يجب جباية الزكاة الشرعية من الناس الميسورين وبالقوة إذا استدعى الأمر ذلك.

- يجب محاربة جميع العصاة ومصادرة أملاكهم.

- المسلمون الذين يحاربون في صفوف الفرنسيين هم مرتدون ويجب تصفيتهم، لكن يعفى عن زوجاتهم وأولادهم.

   والى هذه المبادئ الخمسة يضاف مبدأ آخر ذكّر به المقاتلين في 7 حزيرن/يونيو عام 1955 الشيخ بشير الابرهيمي وفيه أنه يحظَّر التعذيب وقطع الأعضاء وقتل النساء والعجزة والأولاد كما إحراق المحاصيل أو قتل الحيوانات الداجنة.

  وكان من شأن كوادر جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية، وكلتاهما منشقة عن الحركة من أجل الحريات الديموقراطية والتي زادت معارضتهما الدموية من العنف المتولد من الحرب [4] ، أن طبقت هذه المبادئ في شكل عام في علاقاتها مع السكان وذلك بغية تعزيز ولاء الأفراد وتماسك المجتمع، غير أن هذه المبادئ لم تكن تروق لبعض الزعماء.

  وعلى الأرض كان هناك الكثير من حالات التنكر للمبادئ الدينية، لكن المناخ العام وعلم الاناسة وحدهما قادران على تفسير بعض الممارسات مثل الذبح وجدع الأنف والخصي. فلدى رواية جرائم الأوروبيين كانت الصحافة الاستعمارية ترتاح لنقل هذه الطقوس الوحشية المتأصلة في التقاليد العريقة الى الرأي العام الفرنسي متكتمة في الوقت نفسه عن فظائع لا حد لها في حرب إعادة الاجتياح البربرية. فتقويم إرث الثورة الجزائرية ونقده يجب ان يتما باسم السعي الى الحرية وليس فقط باسم الدفاع عن الماضي الاستعماري أو باسم محاربة الاسلاميين.

     فاذا أردنا أن نجعل العنف محور تفكيرنا لا يمكننا النظر في السياسي وتجاهل طبيعة المعتقدات المتحكمة بالعلاقات الاجتماعية، ولأن هذا العمل كان ولا يزال من المحرّمات رأينا أخيراً عودة بعض الأعمال التي تبدو من خيالات الماضي. فالجزائريون في حاجة الى التساؤل حول أنفسهم، فالسياسة الوطنية قادتهم على الأرجح في اتجاه نظام استبدادي وهم لم يعرفوا مع الاستعمار الا ديموقراطية فئوية (حق الاقتراع لدافعي الضرائب) وتزوير الانتخابات.

  وعلى كل حال، يبدو من باب التهور تناسي خيارات الفاعليات الاجتماعية وخصوصاً مؤسسي جبهة التحرير الوطنية الذين كان في إمكانهم، وبالرغم من الظروف الاجتماعية غير الملائمة، أن يتخلصوا من بعض الارتهانات، الا أنهم لم يفعلوا ذلك وفضّلوا وضع حد لمنافسة سياسية مفتوحة لمصلحة تجمع وطني استبدادي (وليس كما يحلو للبعض دائماً أن يسمّيه الحزب الواحد على غرار التجربة السوفياتية). لقد اختاروا استبعاد كل منظمة مدنية عن الثورة وذلك لمصلحة المراكز العسكرية حيث تكاثر قادة غير مهتمين بالأفكار ومستعدون للانتقال من خيار الى آخر ومن موقع الى آخر ولا يعنيهم في النهاية الا ترسيخ سلطاتهم.

  كل ذلك كان من شأنه أن يقضي قضاء تاما على الانجازات التي تحققت قبل العام 1962 وبعده على طريق إقامة مجتمع حديث. فخلال حرب الاستقلال شهد المجتمع خسارة هائلة في مكوّناته الاجتماعية وموارده البشرية وخصوصاً في أوساط أهل الريف. فالعاملون في سياسة الجزائر وجدوا أنفسهم إما في المعسكرات وإما في السجون وإما في المنفى، مضطرين الى إخلاء الساحة لأناس لا تجربة لديهم. وتضاف الى ذلك لائحة الضحايا التي سقطت في الصراعات الأهلية بين جبهة التحرير الوطنية والحركة الوطنية الجزائرية، وضحايا أعمال التطهير كما الاستبعاد في أزمة التحول الى حكم الحزب الواحد في العامين 1962-1963، والتي طاولت زعماء اضطلعوا بقيادة الحرب.

  وقد ادى ذلك الى حالة إفقار رهيبة في الثقافة السياسية، ومع ذلك أمكن التخلص من الاستعمار. وكان هناك أجماع على الرغبة في إتمام الاستقلال بتأمين الأسس الاقتصادية والاجتماعية له. لكن كيف يمكن التوصل الى ذلك من دون المس بالبنى المولدة للاستبداد؟ كان هناك مشروعان كبيران داخل جبهة التحرير الوطنية. فالطرف اليساري فيها دعا الى بناء الحداثة من أسفل بواسطة الادارة الذاتية وحتى عبر تشكيل نموذج عمالي تلعب فيه النقابات دوراً أساسياً. أما خيار العسكريين الذي مثّله هواري بومدين فقال بتحديث سلطوي من فوق، تنفذه النخب الحاكمة، وكلا الطرفين كان يؤيد العلمنة والمساواة بين الجنسين.

  والمشروع الثاني، مشروع بومدين هو الذي انتصر في العام 1965. فرجحت في الدولة كفة الجيش الذي، عبر شرطته السياسية، بسط أجهزته في الادارة والاقتصاد لتصبح هذه المخابرات بامتياز أداة اختيار النخب. وإذا بالاصوليين، الذين تحفظوا من قبل عن الرئيس الأول للبلاد، أحمد بن بللا، مع أنه سمح بتعليم القرآن في المدارس، يحتلون موقعاً مهماً في مجالي التعليم والثقافة، وفي ما خص العلمنة راهن بومدين على تطور الذهنيات عبر التطور الاقتصادي.

  لكن خصخصة الدولة أفسدت تأميم الاقتصاد، وإذا بالزبانية وتوظيف الأقارب يعرضان مشاريع "التصنيعيين" للفشل. ففي المجتمعات الوطنية، بحسب ما يؤكد جان لوكا، من شأن وجود "عائلات تراقب أجهزة الدولة وتزرع فيها زبانيتها أن ينمّي شبكات أرباب عمل عمودية هدفها تأمين المكاسب المادية" [5] .

  وبعد وفاة هواري بومدين(1978) ضعفت القدرات على إعادة توزيع الثروة مما أجبر الطغمة الحاكمة من جبهة التحرير الوطني على إعادة النظر في النموذج. وبالتأكيد كان بومدين قد استفاد من عشر سنين هادئة بعد إجهاضه محاولة الانقلاب التي قام بها طاهر الزبيري(1967). وهذا الاستقرار لم ينعم به النظام بالاكراه وحسب، حتى وإن تكاثرت خلاله أعمال القمع والاغتيالات السياسية، لقد نتج قبل كل شيء من التفاهم القائم على تلبية المطالب الاجتماعية (الأجور والتعليم والعناية الصحية المجانية الخ) التي أراد الغاءها الرئيس الشاذلي بن جديد (1979-1992).

  وجاء الانخفاض الشديد في أسعار النفط ليفضح هشاشة النظام الاقتصادي، فولّى زمن المواطن الخاضع والمحمي على أنه من "زبانية" الدولة. وبات العنف هو الأفق المفتوح للاحتجاج سواء في الشوارع أو في الأدغال. فقامت الاضرابات والاضطرابات في المدن والعصابات الاسلامية مع مصطفى بوعيالي ليليها انفجار الوضع في منطقة القبائل في تشرين الأول/أكتوبر عام 1988. وسواء أكانت هذه الأحداث عفوية أم من تنظيم بعض السحرة الصغار الذين أرادوا التخلص من معارضة جبهة التحرير الوطنية للاصلاحات، فإنها زعزعت أسس الدولة وأعادت مجدداً الجيش الى الساحة السياسية ليصبح، منذ العام 1988 والى أيامنا هذه، أحد الفاعلين الوحيدين في اللعبة السياسية مع الاسلاميين وحركة القبائل القومية.

  وكيف يمكن تفسير عودة العنف مذاك، حيث بعض "المقاومين" يستعيدون الأساليب الوحشية وحيث القمع العسكري يحيي أعمال التعذيب والمجازر على طريقة الجيش الاستعماري السابق؟ هنا تكمن مشكلة نظام يتميز بفقدان الديموقراطية ويتميز اكثر بفقدان أي إعداد للانسان المواطن. ففي نظر الجزائريين أن السلطة لم تعد تتمتع بأي شرعية وليس عندها أي مشروع سوى الاحتفاظ بالثروة والامتيازات القائمة. أما الحياة اليومية للشعب القلق فإنها تتأرجح بين الانصياع وتفجر حالات العنف المجاني.

  ولهذا أسبابه، فالنظام الاجتماعي يتميز بغياب أعمال الوساطة المتجذرة والمستقرة وذلك بالرغم من تعدد الأحزاب. فالبطالة الكثيفة وتفاقم الفرز الاجتماعي وتعمق المظالم وتراجع الطبقات الوسطى كلها لا تشكل بالطبع عامل استقرار. أما الأوساط العمالية والحركات النسائية فتعبّر عن نفسها أكثر فأكثر من خلال الحركات الطائفية.

  لكن "تحرير" النظام السياسي والانتخابات الديموقراطية الشكلية لا يمكنها والحالة هذه الا أن تغذي استراتيجيا التمسك بالسلطة أو بأشكال جديدة من حماية المصالح. فالجزائر تحتاج للعودة الى النظام والأمن كي تواجه التحدي السياسي والاجتماعي المستقبلي. والطريق الفضلى لتحقيق السلام هي في وضع ميثاق يؤسس لديموقراطية تعددية، ويدعى للمشاركة في إعداد هذا الميثاق العسكريون، الى جانب الاسلاميين وإن كانوا على نقيض الحداثة المرتجاة.

  وهناك الكثير من الآراء التي ترى في هذا الرهان مجازفة، لكن ذلك سيكون في مصلحة علمنة المجتمع. وأياً يكن فإنه الثمن المطلوب لارساء الديموقراطية، لأن هذه الديموقراطية لا يمكن أن تفرض نفسها وتنشر قيمها في أوساط الشعب الجزائري ما دامت تحت رحمة جيش يلجأ الى العنف دفاعاً عن ديموقراطية هو نفسه يرفضها في الواقع.

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مؤرخ، صدر له أخيراً كتاب بعنوان:

Une vie debout. Mémoires politiques Tome I : 1945-1962, La Découverte, Paris, 2002

[2] ألبرت حوراني، Minorities in the Arab World, London, 1947

[3] راجع:Quand Tocqueville justifiait les massacres î (vérifier le titre), Le Monde diplomatique

[4] تأسست الحركة من اجل الحريات الديموقراطية  في المؤتمر الول لحزب الشعب الجزائري في العام 1974. واول ما ظهرت جبهة التحرير الوطني كان في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر مع موجة الاعتداءات الأولى ضد الفرنسيين. وقد حلت الحركة في 5/11/1954 على يد فرنسوا ميتران حين كان يشغل منصب وزير الداخلية في حكومة بيار مانديس فرانس. وقد أعلن عن قيام جبهة التحرير الوطني في 1/12/1954، بعدما تبنت برنامج الحركة من اجل الحريات الديموقراطية.. 

[5] . “Etat et societe en Algerie”, in Maghreb, les annees de transition, Masson, Paris, 1990

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
 



#محمد_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد حربي - ...وضرب العنف الجزائر