أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - محمد فاضل - موعد واحد وموت مؤجل وبينهما طفلتان















المزيد.....

موعد واحد وموت مؤجل وبينهما طفلتان


محمد فاضل

الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 04:50
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


في الثاني من يوليو عام 1973، كنت أشاهد التلفاز في أمسية حارة. نام أبى كعادته في الثامنة وكانت أختاي ما تزالان مع أمي تساعدانها في بعض الشئون.
ثلاثون عاما، تغيب بعض التفاصيل مثل من كان مع من ومن ذهب والى أين وماذا كان يفعل عدا أن أخواي احمد ويوسف كانا خارج المنزل. لكن مع أبي فان الأمر لا يستعصي على ذاكرة لان جدوله لا يتغير كأنه قدر لا راد له.
بغتة...دوي أشبه بالانفجار، بل هو انفجار. لم يكن الدوي معتادا ولا طبيعيا، لم يكن رعدا لأننا لم نكن في مواسم الرعد. هرعت إلى الشارع بشكل تلقائي في ثوان وكأنني مسير، الناس يتراكضون بوجوه جفت فيها الدماء، فزعة مثل وجهي. مذعورة تعلوها كل ما يمكن لمخيلة خصبة أن تتخيله وان تبدعه ذات يوم عن الدهشة.
"شمال".."شمال"...."هناك".."هناك"..
كانوا يصيحون ويشيرون بأياديهم جهة الشمال باتجاه "الحردبانه"، مدخل شبكة أزقة متفرع من شارع الشيخ عبدا لله بن حمد حيث منزلنا في حي يسمونه أحيانا "فريج المعاودة" وأحيانا "فريج الصنقل". يرفعون أطراف أثوابهم ويسوون من وضع الغتر على الأكتاف والرأس خشية سقوطها جراء الركض واللهفة، الكل يركض تحركه الدهشة والتساؤلات والقلق وكثير من الرعب.
ثلاثون عاما مرت، لكنني مازلت اذكر ما جرى كأنه جرى أمس. كم كان عمري وقتذاك..؟ أربعة عشر..؟ خمسة عشر..؟. ثلاثون عاما مرت فيما اجلس الآن في أغسطس 2003 مستجمعا شتات ذاكرتي التي رن فيها جرس بحجم بابل.
قلبك خفق بقوة وأنت تركض مع الناس في تلك الليلة عندما رأيت أوائل الواصلين يتجمهرون في ذلك الزقاق الصغير وكأن مغناطيسا خرافيا يجذبهم دون وعي منهم. "هنا".."هنا" بل "هنا". كان الناس يملكون بعض الوقت للجدل أيضا، لكن في ثوان استقرت الأنظار والأيادي والألسن على بيت واحد لأن رائحة ثمار النار لا تخفى.
كان بيتا صغيرا متواريا في زقاق غير نافذ مثل آلاف من بيوت المحرق. ملاصقا لبيت جمعة البوبشيت. قلبك يخفق لان الدنيا والخلق اصبحوا في حيك وقرب منزل تعرفه وتعرف أهله، أحد أبناء جمعة كان أخا بالرضاع لأخيك الأصغر. لكن حريقا اجتاح صدرك بغتة كما لو أن قلبك كان يشوي على الجمر.. كان صدرك يحترق لحظة أن قفز إلى ذهنك اسمها: أمي سلامة.
ثلاثون عاما مرت قبل أن اجلس وأدون هذا كله، اكتب بهدوء محاولا استعادة اللحظات لكن ليس غرضي هو أن اكتب سجلا للوقائع. الآن عندما أتذكر، بإمكاني أن أعيد ترتيب المشهد جزءا بعد الآخر. بإمكاني أن اعدد الوجوه والأسماء والجمل والكلمات والإشارات وحركة الأجساد وتوترها والوجوه الطافحة بالعرق بفعل الحر أو الخوف أو العيون التي كانت تتلصص والآذان التي كانت تسترق السمع استراقا، عدا أن هذا ليس هو شاغلي. لا اكتب تاريخا، بل يستحوذ علي الآن وبعد ثلاثين عاما اسمان فقط: "محمد" و"سلامة".
أما محمد، فهو أول اسم تردد في تلك الدقائق التي هزت ليل المحرق وكسرت صمته الرتيب.
"محمد".. "محمد"..تردد الاسم اكثر من مرة فشعرت بحرارة في جسمي فوق الحجاب الحاجز وبتوتر في عضلة البلعوم. هل يبحثون عني أم أن أحدهم يريدني في مهمة عاجلة؟. لكنني كنت ابحث عن "سلامة" التي اعتادت السهر مع أطفال جمعة البوبشيت وامهم. كانت بالكاد تسمع وبالكاد تمشي، تحمل ثقل سنين عمرها فوق رجل أضعفتها الآلام..
أين سلامة؟ أين أطفال جمعة؟ أين عائشة؟. خرجوا.. متى؟ الروح العزيزة دفعتهم للخروج فور الانفجار. لثوان شكرت الروح العزيزة التي ألهمتهم طريق الخروج من جحيم. أكانت الروح العزيزة أم الروح القدس، لقد خرجوا سالمين. ارتج السطح وارتجت الجداران وارتج التلفزيون.. ارتج البيت وصم الدوي آذانهم ولربما حتى اليوم عندما يتذكرونه. الحمد لله، قلتها بعد أن تأكدت من خروجهم وشاهدت سليم يعود للاطمئنان على البيت ويطمئنني على أمي سلامة.
لم يمضي الوقت طويلا قبل أن تتضح بعض تفاصيل ما جرى.
محمد بونفور، هو الذي قتل في ذلك الانفجار. تردد الاسم فتذكرت الرجل. لاعبا بقميص برتقالي في نادي الجزيرة. أشاهده أحيانا في طريقي إلى سوق القيصرية أو سوق المحرق. وجه تكلله الجدية وهيئة محارب في صورة بالأبيض والأسود مكبرة لفريق الجزيرة تطل من واجهة استديو "أسيوط" في "فريج الزياينه". بدأت الصور تتداعى، المرات التي شاهدته كانت نادرة لكن في عينيه مالا يمكن أن ينسى حتى لو لمح المرء وجهه لثوان. رأيته في ملعب الجزيرة قرب القاعدة البريطانية القديمة، مرات قليلة في أزقة المحرق وقرب البيت الذي قضى فيه أيضا.
بعد عامين، كنت مثل مئات لا اذكر اسمه إلا مسبوقا بالوصف الأجل "الشهيد". وكنت استعيد معهم وقائع تلك الليلة، أتحدث يدفعني فيض من الحماسة وكأنني شاهد العيان الوحيد، لكن عيونهم كانت منكسرة على الدوام وتبدو القصة مثل إبحار في ذاكرة أشبه ببحيرة مالحة.
من صور قديمة لوجه لقيته في بعض أزقة المحرق أو سوقها أو ملاعبها، سيصبح لمحمد بونفور خيط متصل بحياتي. لقد استوطن ذاكرتي بعينه. لا يبقى من الموتى سوى نظراتهم عالقة بذاكرتنا، لكن لهذا الرجل عين تبدو مثل مثقاب خرافي.
كان يقترب من عالمي ويصبح جزأ منه بانيا صورته بأقل التفاصيل المتاحة لكن بدأب ومثابرة. اقترب أنا من عالمه اكثر فاكثر، لكن موته الملغز سيبقى يحيط بكل ما يتعلق به. ثمة حراس أوفياء للسر. بعد سنوات، أخذت أحد رفاقه الخلص لأدله على البيت الذي قضى فيه. تظاهر بالدهشة واستعارت ملامحه اكثر قسمات المواربة براعة، لم لا، تقاليد عقود من العمل السري والحياة بسلاح وحيد هو الشك. كنا نتبارى في لعبة، لعبة يشعرني فيها بأنه يرى البيت لأول مرة، أشعره أنا بأنني صدقت دهشته واكتشافه الأول.
كلما أوغل الزمن، كلما صفت الذاكرة المثقلة بالأسرار وصار بعض البوح ممكنا. لكن ماذا ترى وماذا تسمع من رفاق اقتسموا الأحلام والرغيف والخوف والجسارة وجذوة الحب. في اكثر الدروب وعورة واكثر المفازات لهيبا، حب ينسج الأسطورة خيطا بخيط. خيوط الحب تتجمع من حوله أينما بحثت وحفرت في الذاكرة. لا شيء سوى الحب ورايات بيضاء يرفعها الذين ناءوا بالأسرار طويلا. لكن مهلا..؟. هل تعرفون ما جرى؟. هل تعرفون الكثير؟ هل تعرفون سر الحب المدفون تحت التراب وفي الصدور؟.
كانت نتف الروايات تتدفق أمامي بعفوية غامرة ذات ليلة. كان ذاك واحدا ممن اقتسموا معه الحب والأحلام والخوف والجسارة..ذات يوم. قصص توالي نسج الأسطورة التي ماتزال تترى.
ليلة تأبينه، شاهدت ذلك الوجه الذي اعرفه جيدا. قالوا انهم أصدقاؤه الخلص. لحظة لمحت الوجه، كنت مسيرا وكأن يدا عملاقة تدفعني إليه. إنها نفس الابتسامة ترتسم على محياه، اشعر به وبحرجه، لم يألف الحشود ولا التجمعات ولا الصخب. ابتسامته ماتزال مرتسمة على وجهه فيما أتقدم إليه مادا يدي لمصافحته وذهني يحاول جاهدا استعادة اسمه. ابتسامة مخاتلة لا تدري إن كانت تحييك أم تسخر منك أم تتحداك، فيها من كل هذا، هل لي أن أنسى..إنها ابتسامة أهل المحرق ووجوههم المنبسطة دوما دونما توتر ودونما تكلف. تفيض ثقة وودا. الود يغلب فيهم وهذا الواقف أمامي الآن هو اكثر من يملك الود ومن يثير دهشتي. وده وابتسامته وطيبته البالغة حد السذاجة تجعلني اشعر بالدهشة وبالانكشاف أمامه. بالأصح أمام جسارته أو بمعنى أدق: قدرته البالغة حد الموت على إخفاء السر. ثلاثون عاما واكثر كنت أشاهده، كان جزأ من جدول مشاهداتي اليومي في الحي. لكنه يقف اليوم أمامي بالابتسامة نفسها. ابتسامة تحييك وتسخر منك وتتحداك في آن واحد... آه يا أهل المحرق.
كنت طفلا عندما كان هذا الوجه يحييني بالابتسامة نفسها، عدت طفلا تلك الليلة أيضا. ثلاثون عاما يسير في الطريق نفسها من المنزل إلى السوق. الابتسامة نفسها. تصفيفة الشعر هي نفسها، القميص ذو الأكمام الطويلة نظيف على الدوام لكن لا يتغير، ثلاثون عاما ولربما اكثر ناء بالسر وأخفاه في ثنايا ابتسامته، ابتسامة أهل المحرق.
أما سلامة بنت علي، أمي، جدتي، عمتي، "بي.بي"، المبجلة، الوقورة، الكريمة التي كانت تدس الدنانير في يدي حتى آخر يوم من حياتها وكأنني طفل، أم الحي كله. هذه التي أصفها بكل هذا، كادت أن تموت مع محمد بونفور في تلك الليلة.
كانت كعادتها تقضي أمسية صيفية على سطح منزل جمعة البوبشيت مع عائلته على ارتفاع أمتار قليلة من ارض الغرفة التي دوى فيها الانفجار. داعبها الموت ليلة أن اخذ محمد وأمهلها، ماتت بعده بوقت طويل. ماتت بعد ستة وعشرين عاما من موت محمد، لكن الخيط الذي جمعهما ليلة الانفجار امتد ولم ينقطع بل جمعهما من جديد عندما غيبها الموت في 2 يوليو أيضا.
خيط قدري أم محض مصادفة أم هي أجرام السماء والأفلاك ودلالات العرافين؟. مازلت أسير التساؤلات وسطوة الغموض، غموض السر والدلالات.
ربما مات كثيرون في الثاني من يوليو دونما انفجار ودوي وحشود وقصة تتناقلها الأجيال والألسن وأسرار تنوء بها الصدور لولا أن ليلة موت سلامة كانت ليلة انفجار بركان أحزاننا التي تناثرت وفاضت لحظة أن رحل شقيقي الأكبر يوسف قبل سلامة بساعات معدودة.. ولولا أن ذلك حدث في 2 يوليو.
كان اسمه محمد واسم أخي يوسف وكلاهما رحل بفجيعة. لحظة تزاحم الناس قبل ثلاثين عاما، لم يكن عقلي الصغير وهو يحاول تركيب مشهد الانفجار سوى أن يكون أمام أحجية مجللة بالسواد. كان الأسود سيد المشهد والتخيلات. لم تسعفني مخيلتي كثيرا في تصور أي مشهد محتمل لمحمد في لحظاته الأخيرة إلا ويكون مجللا بالسواد. ظلمة المخبأ، سمرة وجهه، حياة السر، ظلمة الليل، الدخان يتلو الدوي، دثار صوفي من النوع الرخيص لم نتبين من ألوانه سوى اخضر كالح وخطوط سوداء لف فيها الجسد الخارج من لعنة النيران.
بعد ستة وعشرين عاما، وفي الثاني من يوليو أيضا، وبخيال رجل في العقد الرابع من العمر، لم يكن الداء الخبيث ليرسم من صورة في ذهني وهو يختطف شقيقي الأكبر سوى سواد بقعة كما بقعة زيت أراها تزحف على وجهه، تغطي جسده ولها أعين تستحث بعضها على إنجاز المهمة..خيل لي إن البقعة السوداء لها شفاه واسنان قوراض مدببة لا ترى بالعين تنحل بها جسد الأخ، لها حركة الموج وعيون ألمح فيها ما اعرفه عن شراهة العيون ووقاحتها وعدوانيتها أيضا. عين ليست كالعين، موج اسود يزحف على الوجه مجتاحا الجسم المكابر. لم يكن للداء الخبيث من صورة يجردها ذهني المتعب سوى السواد.
لن يكون لموت محمد ويوسف وبينهما الأم التي نجت من موت كاد يأخذها مع الأول لتموت مع الثاني وكلهم في التاريخ نفسه، أن يثير كل هذا الاندفاع نحو المبهم والغامض ولا هوس الكشف عنه أيضا، لولا أن يوسف له ابنة جميلة تشبهه اسمها "خولة" مثلما أن لمحمد ابنة اسمها "خولة". ولولا أن تاريخ ميلاد خولة ابنة يوسف هو 2 يوليو أيضا.




#محمد_فاضل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسيقى مارسيل خليفة تثير حنين العرب للاندلس


المزيد.....




- عاش الأول من أيار يوم التضامن الطبقي للعمال
- اندلاع اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل أبيب ...
- الولايات المتحدة: اعتقال مئة من المتظاهرين المؤيدين للفلسطين ...
- اعتقال الشرطة الأمريكية متظاهرين في جامعة كولومبيا يؤجج الاح ...
- الحزب الشيوعي العراقي: معا لتمكين الطبقة العاملة من أداء دو ...
- -إكس- تعلّق حساب حفيد مانديلا بعد تصريحات مؤيدة لأسطول الحري ...
- انتشار التعبئة الطلابية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية
- بيلوسي للطلبة المتظاهرين: انتقدوا إسرائيل كما شئتم لكن لا تن ...
- فرنسا: القضاء يوجه اتهامات لسبعة أكراد للاشتباه بتمويلهم حزب ...
- ضغوط أميركية لتغيير نظام جنوب أفريقيا… فما مصير الدعوى في ال ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - محمد فاضل - موعد واحد وموت مؤجل وبينهما طفلتان