|
نمط حضور المدينة : تأملات أولية
عبد الناصر حنفي
الحوار المتمدن-العدد: 859 - 2004 / 6 / 9 - 04:42
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عند التأمل في ذلك الفضاء المعرفي العام والمجرد للمدينة ، بوصفها مدينة ، سنجد أنها تتكون من عنصرين فحسب : المعمار ، والحكايات. والمعمار ، أو التشكيلات المعمارية ، ستوجد دائما عند أطراف عيوننا ، بوصفها تنتمي إلى الطوبوغرافيا البصرية للألوان والخطوط المحيطة بنا ، أما الحكايات فهي فعل سردي متدفق عبر حركة تستجيب لقوانين الزمن واتجاهات نموه ، ولكنها أيضا كثيرا ما تتجاوز تلك القوانين وتعلو عليها ، فالحكاية هنا تأتي بمثابة محل التقاء وتنظيم العلاقات والضغوط والأحداث والبشر والتواريخ وكافة الطبوغرافيات المعرفية ( البصرية وغيرها ) ، بحيث أن ما نطلق عليه " المعنى" ، أو ما نعده كذلك ، ليس في النهاية سوى إمكانيات الحركة فيما بين هذه العناصر والعلاقات ، وهي إمكانيات تتيحها الحكاية وتنظمها في نفس الوقت .
ولا يمكننا تصور أي كيان معماري دون أن نشعر بتطلبه لمدينة ما ، فالمعمار هو عطاء المدينة الخاص للإنسان ، ولو أننا وقعنا على مبنى منفرد بنفسه في الفراغ ، فلن نراه إلا بوصفه نداء لمدينة آخذة في الظهور ، ابتهال لحضورها ، تبشير بقدومها ، أو حتى نعي ونواح على غيابها ، ولكن ألا يعني هذا أننا لا نستطيع رؤية ذلك الكيان إلا بوصفه عنصرا في حكاية حاضرة أو غائبة ، أي حكاية المدينة ، والتي تضع نفسها على قدم المساواة مع ما هو محسوس أو مرئي ، تتوارى خلفه ، أو تبطن نفسها داخله بحيث ندركها بوصفها كيانا محايثا للبناء المعماري ، أو جزء لا يتجزأ من وجوده المطروح أمامنا .
كيف لهذا الترابط أن يتأسس على هذا النحو الخادع بقدر ما هو حقيقي ؟ فما هو معماري لا يمكنه أن يحيل مباشرة ،أومن تلقاء ذاته إلى المدينة ، فانفتاح شعورنا تجاه حضور صرح معماري ما سيحيلنا إلى حدس معرفي بكتلته ، بصلابتها أو مرونتها ، بعلاقات الخط واللون ، وقبل كل شيء ، بالفراغ الداخلي القابل لاحتواء غيره ، أو القابل للامتلاء ،و سيحملنا هذا الحدس المعرفي إذا إلى ما يميز بين الكتلة من جهة والكتلة المعمارية من جهة أخرى ، فالكتلة ( سواء كانت عملا فنيا ، أو تكوينا طبيعيا مثل الصخور وجذوع الأشجار و الجبال والتباب والتلال .. الخ ) ليست سوى وجود مصمت ومنطوي على ذاته ، إنها كيان بلا فراغ داخلي ، ولذلك لا توجد دائما إلا بوصفها في حالة تجاور مع شيء ما ، أو خارج شيء ما ، ولكن ضمن هذه الفئة من الكتل ستوجد مجموعة ضئيلة العدد تعرضت لانتهاك عنيف بقدر ما هو محسوب بحيث تم ثقبها على نحو يتيح لها استيعاب كتلة ما مختلفة و مغايرة داخلها ( لنستحضر في أذهاننا هنا ظاهرة الكهوف مثلا ) ، وهذا الفراغ الناشئ توا ، والمحدود بشدة ، لم يعد يجمعه بالفراغ الهائل للطبيعة الخارجية ، أو للعالم الخارجي ، إلا صلات تتباعد باستمرار بعد أن اكتسب لنفسه حدودا صلبة ، حدودا ليست أقل صلابة من ذلك الوجود الذاتي الداخلي لتلك الكتلة التي باتت مثقوبة . وبالنسبة لأعزائنا الفرويديين ، فإن هذا الثقب ، أو التجويف ، لا يحيل مباشرة إلا إلى "الرحم " ، أي ذلك الفراغ الذي طردنا منه ، أو تلك الجنة الأولى التي نسعى بيأس للعودة إليها ، وما نطلق عليه " المعمار " ليس سوى السجل الحافظ لهذا السعي المحموم لاستعادة رحم الأم من جهة ، ولاستبداله من جهة أخرى . ويختلف المعمار عن الكتلة في نقطة هامة للغاية ، ففيما قد تظهر الكتلة بوصفها قابلة لاحتواء غيرها عبر تعرضها لانتهاك داخلي ، أو لعملية ثقب وتفريغ ، فإن المعمار يبدأ من انتهاك الفراغ نفسه ، إنه محاولة لإجبار الفراغ على التراجع عبر استبداله بكتلة هي نفسها مفرغة ومجوفة ، وذات علاقات وحدود يتطور شكلها عبر تطور المعمار في التاريخ . المعمار إذا خطوة جدلية طارئة في العلاقة بين الكتلة والفراغ ، وبوصفها طارئة فهي إنسانية بامتياز ، وهي تأتي بمثابة " رفع جدلي " للإمكانيات المتناقضة في تلك العلاقة بين الكمون الآمن الذي يتيحه الفراغ المحدود للكتلة المنتهكة ، وبين الحركة غير المحدودة التي يسمح بها الفراغ الخارجي اللانهائي ، وبالتالي فالمعمار ليس فقط محاولة لشكلنة العلاقة بين الكتلة والفراغ ، بقدر ما هو أساسا محاولة للسيطرة و نزوع لشكلنة حركتنا ،و حياتنا ، و وجودنا ، أجل ، فمنذ لحظة ظهور المعمار أصبحنا أسرى له ، تماما مثلما كنا أسرى أرحام أمهاتنا .
ولكن رحم الأم ليس سوى ذلك الفراغ الذي ستنفيه عملية الميلاد ، وبمعنى آخر ، فالوجود في الرحم هو سعى تجاه الميلاد ، تجاه الحياة ، وصدمة الخروج منه – حسب تعبير أصدقاؤنا الفرويديين – ليست رفضا للحياة ذاتها كما قد يعتقد بعضهم ، بقدر ما هي أساسا رفض للميلاد ، أو رفض للاكتمال المنجز ومحاولة لاستعادة " سيرورة" نقص ما قبل الميلاد ، وذلك ليس بغرض استعادة هذا " النقص " نفسه، أو لذاته ، بقدر ما هي محاولة لاستعادة حركة ذات أفق ونقطة توجه ملموسة ومعروفة ، كبديل عن حركة ما بعد الميلاد التي ستبدو ذات اتجاه حركة غامض ومتذبذب ، وبالتالي فالعلاقة هنا ليست ذات طابع سيكولوجي بحت كما ينادي الفرويديين ومن شابههم ، بقدر ما تعود إلى عمل تقنية ابستمولوحية محددة ، وهي تقنية جذرية للغاية في تكوين المعرفة الإنسانية ، حيث يتم مواجهة ما هو غامض ومجهول عبر استحضار ما هو معروف ، وذلك لإجبار هذا المجهول على الكشف عن اختلافه . إن هذا التعديل المنهجي للنظرة الفرويدية التقليدية قد لا يفضي مباشرة إلى تعديل جذري لنتائج التحليل ، ولكنه سيسمح لنا بالرؤية أكثر ، واكتشاف أن ما قد يبدو وكأنه ارتباط غامض أقرب إلى الطابع الميتافيزيقي الصرف والمصمت ، هو في النهاية ليس سوى نتوء بارز يعاد إنتاجه باستمرار على خلفية عمليات شديدة التعقيد والتراكب والجذرية ، وبالتالي فما هو ميتافيزيقي يتباعد ويضمحل ، أما ما هو غامض ومجهول ومدهش ، فهو يقترب أكثر ، ويفصح عن تكوينه . ما هو معماري إذا يتكشف بوصفه " جاهزية " ( dispositif ) – حسب تعبير فوكو – ، (والجاهزية ببساطة مفهوم ينتمي إلى ميدان الممارسة العسكرية مثل مفهوم الطليعة ، وهي تعني ذلك "المكون" أو التكوين المادي – بل والمعرفي أيضا - والذي يتيح ، أو يستحضر سلسلة من العمليات الإجرائية أو المعرفية المرتبطة بمجال ما ) ، وجاهزية المعمار تسعى ضمن أشياء كثيرة إلى مقاومة الحياة أو مواجهتها عبر استعادة أو استحضار ، أو فلنقل إعادة تأسيس أوضاع ما قبل الميلاد ، أي إعادة تأسيس " رحم" لا يسمح بالكمون الآمن فحسب ، بل يسمح بالحركة أيضا ، ولكن حتى هذه النقطة التي وصلنا إليها في تحليلنا فإن المدينة لم تظهر بعد .
و بالتأكيد فإن " المعمار" سابق على المدينة ، ولكن المدينة ليست مجرد تكاثر ، أو انتشار ما هو معماري ، بمعنى أن تأملنا لصرح ما ، سواء بصيغة المفرد أم بصيغة الجمع لن يحيلنا إلى تأمل مباشر في المدينة ، أي أنه لن يفضي بنا إلى وعي بما هي عليه المدينة ، فظهور المدينة مرتبط بتحول المعمار من مجرد "جاهزية" تردنا إلى علاقات الكتلة والفراغ والحركة، إلى مؤسسة تسجل انسحابنا الكامل والنهائي من الفراغ الطبيعي أو الأولي ، تجاه فراغ إنساني على نحو تام ، والحكاية فقط هي ما تحمل الآثار المحفوظة لهذه الحركة التاريخية .
يشكل المعمار البدائي ، والقروي ، اعتراضا جزئيا على الفراغ ، فالكثير من الأنشطة الإنسانية اللازمة لمواصلة الحياة تظل مرتبطة بالحركة في هذا الفراغ الطبيعي العام ( الصيد ، الرعي ، الزراعة ، الخ) ، أما مع المدينة فستتم مصادرة كل تلك الحالات لصالح فراغ المعمار ، بل وحتى التنقل من مكان لآخر سيجري بصفة أساسية داخل أشكال معمارية متحركة ، أشكال نقبع في فراغها الداخلي فيما تقوم هي بالحركة بدلا منا ( من منا يستطيع التأمل في هذه الحالة دون أن يتذكر "رحم" الأم ؟). المدينة إذا ، منذ ظهورها آخذة باستمرار في استيعاب كافة أشكال تواجدنا في العالم لصالحها ، وهو ما تم استكماله نهائيا عبر اندفاع ثوري عارم مع حركة الحداثة ، أو بالا حرى حركة التحديث ( modernization ) ، وفي كتابه عن "بودلير " يرصد " فالتر بنيامين" لحظة الاكتمال تلك في باريس القرن التاسع عشر عبر ظهور ميل لحالة " التسكع" ، أو التجوال الحر غير القصدي داخل المدينة ، بوصفه محاولة أخيرة للتعامل مع فراغ المدينة باعتباره مكافئ للفراغ الطبيعي اللامحدود والذي لا يفرض شكلا معينا للحركة داخله ،إنها ليست محاولة رومانسية أخرى لاستبدال المدينة بالطبيعة ، أو لإحلال قصديات محل أخرى ، بل هي رعشة يائسة تسعى لمواجهة القصديات التي تفرضها المدينة وتنظمها عبر رفع مطلب أو مفهوم اللاقصد ، أو نفي القصد ذاته بوصفه شرط حضور المدينة ، إنها محاولة تنطوي على نزوع نوستالجي أكثر من كونها اعتراضا ، تحية وداع لعالم يختفي ، وتأسيس في نفس الوقت لسلوك هامشي بائد يطالب بحقه في الوجود قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فالمدينة ، بوصفها مدينة ، لم تعد تسمح بظهور أي سلوك غير قصدي ( ولنلاحظ مع فوكو أن مفهوم الجنون بوصفه انتهاك ينبغي مواجهته بحسم لاستعادة سواء القصديات وتأكيد شرعيتها السلطوية، لم يظهر سوى مع المدينة ) ، فكل ما هو إنساني يصبح الآن خاضعا لما هو مؤسسي ، ولذلك ستحاول الحداثة العليا فيما بعد ( أي مع العقود الأولى للقرن العشرين ) أن تواجه هذا النزوع المؤسسي لتنظيم المعاني والقصديات بنزوع مؤسسي مضاد يدشن شرعية حضور اللاقصد واللامعنى ، وهو اتجاه استمر تطوره مع تيارات الحداثة المتأخرة ، وما بعد الحداثة ، وذلك ليس بفضل راديكاليته الضدية ، وإنما بفضل نزوعه المؤسسي الذي يبسط سلطة فضاء المدينة في مناطق ظلت دائما عصية على التنظيم ، بمعنى أن ما يجري هنا هو بالمقام الأول استعادة لتلك الظواهر المنفلتة وخفضها من وضعها المقارب أو المشابه لطبيعة لا يمكن التحكم بها ، لتصبح ظاهرة داخلية في فضاء المدينة ، وهذه النقطة تشير بوضوح إلى الاتجاه الأساسي لحركة المدينة التي تسعى دون كلل لاستيعاب كل شيء داخلها ، إنها تلتهم ما هو خارجها لتصير الحد النهائي لوجودنا ، إنها تتحول شيئا فشيئا إلى رحم جديد حده النهائي هو الموت .
إن رفع المعمار من مجرد جاهزية إلى مؤسسة أدى إلى انفتاح مذهل على شبكة من العلاقات المعقدة والمحكمة ، والمنطوية على نفسها ، بحيث يؤدي استحضار جزء منها إلى الانزلاق تجاه الشبكة بأكملها ، وهي شبكة بحجم وجودنا ذاته ، وقد أصبحنا محصورين بالكامل داخل هذا الرحم الجديد ، رحم بلا خارج دائما ، ولكنه لازال يواجه نهايته ويقاومها ، ونهاية رحم الأم هو الميلاد ، أما نهاية " المدينة / الرحم " فهو الموت أو الفناء ، وعند هذه النقطة تتدخل الحكاية بوصفها تمثيلا (representation ) للمدينة .
إن الحكاية بوصفها تنتمي فئة من فئات ألعاب التمثيل تقوم بدور مزدوج تجاه " حضور" المدينة ، فهي أولا تلعب دورا مماثلا لما يقوم به المعمار( بوصفه جاهزية) تجاه الفراغ ، فمنذ أن يبدأ فضاء المدينة في تدشين نفسه بوصفه كلا مصمتا يحيل إلى ذاته ، أي بوصفه كتلة ، يصبح دور الحكاية الأساسي هو حفر أو ثقب الفراغات داخل هذه الكتلة ، فالحكاية ستعمل هنا على خلق مسافات أو مساحات أو تجويفات بين العناصر والعلاقات المشكلة لفضاء المدينة ، وهذا يعني أن الحكاية تسير في اتجاه مختلف لاتجاه المعمار ، ففيما يذهب الأخير إلى إزاحة الفراغ لتحل الكتلة ( المادية) محله ، فإن الحكاية تعمل على خلق الفراغ داخل الكتلة المعرفية ، وهو ما يعطينا بضعة ملاحظات ومقارنات هامة ، فالفراغ هو نقطة البداية لعمل المعمار وهو في نفس الوقت هدفه الذي يعمل على إزاحته ، بينما الكتلة ( المعرفية) هي نقطة البداية لعمل الحكاية ، ولكنها لا تعمل على إزاحتها بقدر ما تعمل على جلب الفراغ داخلها ، هذا من جهة . أما من الجهة الأخرى ، فالمعمار يمارس عمله على المادة في المكان ، فيما الحكاية تمارس عملها على المعرفة في الزمان ، ولكن نقطة إلتقاؤهما الأكيدة بل والوحيدة هي الفراغ ، والذي يكاد يكون هو نفسه في كلتا الحالتين بوصفه ذلك المجال الذي يتيح الحركة بين الكتل وحولها ، ولا يهمنا في هذه النقطة أن يكون الوجود في ذاته ( بالمعنى الكانطي) للفراغ مختلفا في هذه الحالة عن تلك ، فما يهم هو أن الحركة هي نفسها دائما ، وذلك ليس فقط فيما بين ما هو مادي على حدة ، وما هو معرفي على حدة ، بل في الجمع بينهما ، فالفراغ الناشئ هنا سيسمح بحركة ترابط وانتقال دون أن يشترط تجانس طرفيها ، أو أطرافها ، أي أنه سيتيح إنتاج ترابط أو تكوين طرفه الأول أو نقطة بدايته مادية ( مثلا) ، فيما طرفه الثاني أو نقطة نهايته معرفية ( أو العكس ) . عبر هذا الفراغ الذي يزاوج بين الحكاية والمعمار ، ويصهرهما معا ، ستنشأ المدينة ، بوصفها ذلك الاتحاد الذي لا يمكن فصمه بين هذين العنصرين ، وستعمل الحكاية على الكتلة المعرفية التي سيجري دمجها بالكتلة المعمارية لتنتج العديد من التصورات أو التمثيلات على نحو يجعل ما هو معرفي يظهر بوصفه تبطينا داخليا للفراغ المعماري ، وهو تبطين سيتيح لنا أن نبدو وكأننا نتحرك داخل هذا التكوين الجديد وليس حوله ، وليس خارجه ، ومع اكتمال ظهور المدينة ستنتفي كل إمكانية لأي حركة خارج هذا التكوين .
ومنذ البداية ، كان بعضنا ، ولا شك ، يستريب في أن العنصرين اللذين جرى تحديدهما ( أي المعمار والحكاية ) كافيين لتحليل ظاهرة المدينة ، وها نحن نصل إلى ذلك التكوين المعماري / الحكائي ، والذي مع ظهوره يبدأ المعمار في التحول من مجرد جاهزية ، إلى مؤسسة ، أي من مجرد إمكانية متاحة لأنماط معينة من الحركة ، إلى إمكانية محددة لأنواع بعينها من الحركة ونافية لما سواها ، أي أنه يتحول إلى محفز للحركة من جهة ، وقامع لها من جهة أخرى ، مثله في ذلك مثل أي سلطة ، وعبر هذا التدفق سيتوالى جلب كل ما هو معرفي ، وجمالي ، وأخلاقي ، كل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي ، كل ما هو ذاتي خاص بالفرد ، أو عام يخص الجماعة ، وباختصار : كل ما هو إنساني ، كل ذلك سيتم جلبه واستحضاره في فضاء المدينة الذي سيوالي اتساعه ليبدو وكأنه بحجم العالم ، وبحجم الوجود .
ولكن ، لنقل أن المدينة تعي أنها ليست بحجم العالم ،( و إلا فلماذا هذا السعي المحموم لاستكمال هذا النقص المشين الذي يقلقها ؟) ، ولكنها تعي أيضا أننا قد لا نعرف بفضيحتها ونقصها هذا قط . وربما كان هناك ما يرجح هذا الاطمئنان الذي تشعر به المدينة تجاه استقرار وجودها الأبدي ، فطوال التاريخ كان البشر يواجهون ظهور أي كيان مسيطر بمحاولات تنزع إلى الخلاص منه عبر نفيه ، أو إزاحته ، أو استبداله ، أو حتى تدميره ، ولكنهم إزاء الحضور القاسي للمدينة لم يقوموا سوى بتأرجحات متململة نهضت بها بعض تيارت الرعوية والرومانسية ، ثم سرعان ما تلاشت ، أما الآن فلا يوجد خطاب أو توجه يوتوبي أو مستقبلي لا يتضمن القبول بوجود المدينة ( وهو ما يسري حتى على خطاب الخضر ، والذي يسعى لإصلاح شكل وجود المدينة في علاقته مع الطبيعة أكثر مما يسعى لإزاحتها ) ، هل يعني هذا أن المدينة هي الخيار النهائي الذي لا رجعة فيه للإنسان ؟ ربما . وربما كان هذا يرجع أيضا إلى ما تردده بعض الخطابات الرؤيوية ، حول أن المدينة هي وجود سيدمر نفسه بنفسه في النهاية ، ولكن من المؤكد كذلك أن انشغالنا بالتأمل في ظواهر أنتجتها المدينة ( مثل ظاهرة الدولة ) يجعلنا غير قادرين على التأمل في المدينة نفسها ، هذا بالإضافة إلى أننا نكاد نبدأ في الوعي بدور الحكاية في معرفتنا وحياتنا ، وبدور ألعاب التمثيل ، وألعاب الحقيقة ، وهذا يعني أننا لم نكد نعرف المدينة بعد ، ولم نعي بالتالي أن نفيها أو تدميرها لا يعني بالضرورة التعامل مع جاهزية المعمار على هذا النحو أو ذاك ، بقدر ما يستلزم أن نفك الترابط بينها وبين الحكاية ، وان نفكك علاقة الحكاية بالزمان والحقيقة والتاريخ ، تلك العلاقة التي تقدم نفسها لنا بوصفها معطى مباشر وصلد لا يمكن مقاومته ، فعند هذه اللحظة ستذوب المدينة وتنحل إلى بضعة جاهزيات يمكن إعادة تشكيلها .
كلا ، التاريخ لا يعرف خيارا نهائيا ، وكذلك البشر بوصفهم كائنات تاريخية ، وأغلب الظن أن المدينة لن تكون استثناءا .
#عبد_الناصر_حنفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال
...
-
مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا
...
-
إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح
...
-
في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض
...
-
لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
-
3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
-
الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
-
مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال
...
-
كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
-
واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|