رجب أبو سرية
الحوار المتمدن-العدد: 2740 - 2009 / 8 / 16 - 09:35
المحور:
الادب والفن
في الذكرى الأولى لرحيله
على مدى نصف قرن تقريبا , ملأ محمود درويش الدنيا شعرا وشاغل الناس فعلا وإمتاعا , لهذا سماه البعض متنبي العصر الحديث , وللتأكيد على مكانته الشعرية , استنادا إلى أن المتنبي الذي يضع البعض درويش إلى جواره في المكانة يعتبر أعظم شعراء العربية على مر العصور
مما لا شك فيه أن لدرويش مكانة بين شعراء العربية قي مرحلة ربما تعد الثانية أو الثالثة التي أنجبت شعراء عظام , بعد حقبة شعراء الجاهلية , وشعراء العصر العباسي , نقصد من ظهروا خلال وبعد منتصف القرن الماضي , مكانة مرموقة , في الصف الأول مع الشعراء : ادونيس , البياتي , السياب , عبد الصبور , ونزار قباني . وهو _ أي درويش _ حققت له موهبته الاستثنائية حضورا سريعا ومتميزا منذ كان في التاسعة عشرة من عمره بعد أن نشر أول مجموعاته الشعرية " عصافير بلا أجنحة " , بل ربما منذ قصيدته الأولى الأهم والتي ظل يعاني من وقع تأثيرها على القراء سنينا طويلة _ سجل أنا عربي _ , وهكذا يمكن القول بأن الضرورة التاريخية اختارت درويش شاعرا , معبرا عن شعب بأكمله , حيث تحددت له مهمة شاقة , فالحديث يدور عن شعب فلسطين الذي بات بقضيته مدار اهتمام العالم بأسره طوال نصف القرن الذي عاشه درويش كشاعر , تحددت مهمته كشاعر للمقاومة الفلسطينية , مع انطلاقة ثورة هذا الشعب التحررية التي أثارت اهتمام العالم بأسره
بذلك يمكن القول بأنه بقدر ما كانت تجربة درويش الشعرية تجربة خاصة , بقدر ما كانت تعبر عن تحولات القضية الفلسطينية وتطور مراحل الثورة ذاتها , التي واكبها منذ مرحلة الخروج من الأردن إلى لبنان بداية السبعينيات , حيث مرت الثورة بمرحلة تراجيدية , أنضجت تجربة الشاعر , الذي سجل تلك المرحلة بقصائد خالدة _ احمد الزعتر , مديح الظل العالي _
تميز درويش عن مجايليه من الشعراء الفلسطينيين بأنه حقق مكانة فاعلة للمثقف بين حشد السياسيين , فهو الوحيد الذي منح عضوية اللجنة التنفيذية كمثقف مستقل , ومنح كذلك باعتباره جامعا , ولا خلاف على مكانته رئاسة اتحاد الكتاب , ثم حققت مكانته وفاعليته مكانة لمجلة الكرمل , فقط لأنه رئس تحريرها مع ذلك فانه ورغم انه ولد _ كشاعر _ مشهور ومتميز , إلا انه لم يتوقف عن المثابرة والاجتهاد , فهو الشاعر الفلسطيني الأبرز الذي ظل يسعى إلى الإحاطة بالتجارب الشعرية العالمية , وربما أظهرت " الكرمل " بحجم ما أفردته من ترجمة ومن مساهمات لكتاب عرب متنورين ومحدثين , مدى هذه النزعة لدى الشاعر درويش
يمكن بكل بساطة وبصراحة أيضا مقارنة ما حققه درويش من تطور في تجربته الشعرية مع مجايليه من الشعراء الفلسطينيين , الذين تمتعوا مثله , بالتعاطف الشعبي _ العربي والدولي كشعراء مقاومة _ لكنه كان الوحيد الذي ضاق ذرعا بهذا الحب _ حين هتف قائلا " ارحمونا من هذا الحب " , ثم تميز بعد ذلك بالحرص على الخروج من عباءة الشعار والايدولوجيا _ دون الخروج من دائرة الانحياز للقضية العادلة , بما أنتجه من شعر بعد الخروج من بيروت و منذ " أرى ما أريد " وهكذا واصل تحولاته الشعرية الدائمة وصولا للجدارية , التي قدمت كشفا عميقا لغيب عبر عنه كثيرا قي مدونات دينية أو أسطورية , كما يشير احمد عبد الحسين , بذلك يمكن القول بان تجربة درويش الشعرية كانت تجربة غنية , كثيرة التجاوز والتحول والتطور , منذ أن بدأ غنائيا بامتياز , ثم تسجيليا في مديح الظل العالي , إلى أن جرب الشعرية الكاملة , في ما كتبه في باريس , حيث اقترب من قصيدة النثر : كزهر اللوز أو ابعد , إلى سعيه لكتابة القصيدة الملحمية ,
منذ أواخر الستينيات , كان حضور درويش طاغيا , لدرجة انه يمكن القول بان كل الشعراء الفلسطينيين الذين ظهروا بعده تأثروا بهذه الدرجة أو تلك به , وظل عنوانا للشعر الفلسطيني المقاوم _ بالمناسبة لم يظهر شعر فلسطيني على مدار ثلاثة عقود , لم يكن مقاوما _ ولم يجتازه في حياته أي شاعر فلسطيني , باستثنائه هو , الذي ظل يسعى إلى تجاوز ذاته والتفوق على ما حققه بفتوحات شعرية متواصلة
وكان وعيه الشعري كافيا ومنذ فترة مبكرة لحماية تجربته من الوقوع في النمط , _ فهو رغم انه واجه الوعي الاستعماري الذي رأى في سرحان بشارة سرحان مجرد قاتل , كتب عنه رائعته " سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا " حيث قدمه وقدم من خلاله الفلسطيني المقاوم / الفدائي على الهيئة الإنسانية الاعتيادية للبشر .
ودافع عن الحياة ما استطاع إليها سبيلا , وكافح ضد الغزاة والمحتلين كأفضل محام عن قضية عادلة " بين ريتا وعيوني بندقية " وهكذا اسقط في يد الجلادين الذين لم يرتاحوا حتى بعد أن غادر الوطن , حيث كان مكبلا بالإقامة الجبرية . مع ذلك كان جريئا , وقاد الوعي العام , ولم يسلم قياده له , بدعوى البحث عن شهره متحققة أو الحفاظ على شهرة مقيمة " اكتب باسم الفدائي الذي خلقا .. من جزمة أفقا "
درويش الذي حلق بالقضية الفلسطينية وكان عنوانها الثقافي واحد أهم عناوينها الوطنية , تميز إذا بأن تجربته حملت القضية الفلسطينية , ولا يمكن القول بان فلسطين هي التي حملت شعريته . بذلك قدم شعرا أضاف للشعر العربي , يظهر ذلك من خلال الاهتمام العالمي بشعره عبر ترجمته , حيث يعد مع غسان كنفاني أكثر كاتبين فلسطينيين مترجمين للغات العالمية , وربما كان واحدا من أكثر الشعراء العرب الذين أعدت عن شعرهم الأبحاث والدراسات , وحيث كرمته الجامعات , وقد عبر أكثر من مرة عن اعتزازه بأنه دخل الجامعة كمحاضر ولم يدخلها كتلميذ
لابد من الإشارة أيضا إلى أن تجربة درويش , على رغم ثرائها إلا أن إنتاجه الشعري ظل مقروءا , حيث حقق معادلة الشعر الجيد , والمنتشر , فشعره ليس جماهيريا فقط كما هو شعر نزار قباني مثلا , ولا جيدا _ في نظر النقاد فقط _ كشعر ادونيس , وهو رغم متابعته الدائمة لما ينتج من شعر عربي وعالمي , ورغم قراءاته الدائمة , لم يهتم بالتنظير , مثل ادونيس مثلا , لكنه كان على وعي ودراية بما يفعل
المهم انه جند حياته من اجل مشروعه الشعري , الذي لم يكن يشغله عنه شيء , لا المناصب _ استقال من اللجنة التنفيذية عند أول مناسبة _ توقيع أوسلو _ ولم يهتم برئاسة اتحاد الكتاب , وحتى انه لم يكن " يغطس " في أتون الكرمل , ولم يهتم بتكوين أسرة خاصة _ تزوج مرتين _ نسي حتى اسم إحدى زوجتيه , لذا ولأنه أعطى كل ما لديه للشعر فقد منحه الشعر أعلى مكانة يمكن أن تمنح لشاعر عربي في العصر الحديث
لقد تفوق درويش على كل زملائه من الشعراء العرب , بفاعليته , وذلك عبر مستويين : الأول سعيه الدائم والحثيث إلى تجاوز محطات تجربته الشعرية المتتالية _ كما أشرنا _ , والثاني من خلال حضوره الدائم بين القراء , حيث لم يضاهيه شاعر عربي آخر في كم المشاركات والأمسيات التي تعد خصيصا له , ومن مراكش إلى أبو ظبي , مرورا بعمان ودمشق والقاهرة , بيروت وتونس , وعلى مدار العام , وطوال الأعوام التي مضت , أي على مدى أربعين عاما تقريبا , حتى ملأ الدنيا وشغل الناس , كما لو كان فنانا موسيقيا ( مطربا ) أي انه يمكن القول بأنه كان شاعرا نجما , وهذا ما وفر إمكانية إحياء ذكراه دائما _ في عصر الصورة _ من خلال بث أمسياته الشعرية , حيث كان يتمتع بطريقة إلقاء ساحرة , عززتها تجربة مارسيل خليفة التي استندت إلى شعره بالذات في تعزيز وصول شعره للعرب مجتمعين
يمكن القول إذا بان درويش مضى بعد أن أكمل تجربته الشعرية التي جاءت غنية ومتفردة , ضمت عشرات المجموعات الشعرية وعددا من الكتب النثرية , التي يمكن قراءة المرحلة بكاملها من خلالها , وكما هائلا من المقابلات والدراسات والأبحاث التي سعى من خلالها أصحابها إلى تحقيق المجد والشهرة , فقط لان ما كتبوه ارتبط باسم شاعر خالد , لم تنجب الشعرية العربية على غناها وعلى مدار العقود التاريخية الكثيرين من أمثاله
#رجب_أبو_سرية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
