أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد حسو - الطيب صالح: هل أقول وداعاً؟















المزيد.....

الطيب صالح: هل أقول وداعاً؟


أحمد حسو

الحوار المتمدن-العدد: 2731 - 2009 / 8 / 7 - 07:02
المحور: الادب والفن
    


قبل عشر سنوات كلفني القسم العربي بإذاعة دويتشه فيله الألمانية بإعداد برنامج إذاعي عن الروائي السوداني الكبير المرحوم الطيب صالح بمناسبة بلوغه السبعين عاما. يومها واجهتني مشكلة تبدو عابرة لكنها أساسية في مثل هذه البرامج، إذ لم أعثر في أي مرجع يتناول حياة هذا الروائي على التاريخ الدقيق الذي ولد فيه. فكل من كتب عنه أرخ لميلاده على الشكل التالي: "ولد الطيب صالح في صيف عام 1929 في قرية الدبة في الشمال الأوسط من السودان"، أي لا شهر ولا يوم. وبعد طول بحث، وبعد أن يئست من وجود مرجع يؤرخ بدقة ليوم ميلاده، حسمت أمري وقررت أن أتصل به، وهذا ما حصل. وبعد تبادل التحيات دخلت في الموضوع مباشرة وقلت له: "أستاذ طيب إذاعتنا أعدت في الأسبوع الماضي برنامجا عن الروائي التشيكي ميلان كونديرا بمناسبة بلوغه السبعين وقررنا إعداد برنامج عنك أيضا وللمناسبة نفسها، لكنّ المشكلة أننا لا نعرف بالضبط اليوم الذي ولدت فيه". ضحك بصوت عال وقال: "أنا لست كونديرا يا أخي؛ هو روائي مشهور وأنا شخص بسيط لا أستحق مثل هذا التكريم". فأجبت بلهجة الواثق: "أنت كونديرانا وتستحق هذا التكريم وأكثر"! فضحك من جديد وقال كلمته المعهودة عندما كان يتساءل بدهشة عن شيء ما: "والله!؟" فأكدت على وجهة نظري. وبعد أخذ ورد اقتنع الرجل وأعطاني التاريخ الدقيق لميلاده. وهكذا كان؛ وقدمنا بالفعل برنامجا ثقافيا شاملا عنه شارك فيه أكثر من زميل وكان أول برنامج إذاعي من إعدادي.

كنت قد تعرفت على الطيب صالح شخصيا قبل ذلك بعام؛ أي حين قام بزيارة لمدينة كولونيا، حيث أسكن، ضمن جولة له في ألمانيا للترويج للترجمة الألمانية لروايته الرائعة "موسم الهجرة إلى الشمال". ذهبنا لاستقباله في محطة القطار الرئيسية، زوجتي وأنا، فقد كان قادما بالقطار من مدينة هامبورغ الألمانية، التي زارها للغرض نفسه، أي تقديم روايته القديمة الجديدة "موسم الهجرة إلى الشمال" للقارئ الألماني. كانت لحظات مؤثرة بالنسبة إلي، الطيب صالح وجها لوجه أمامي! هذا شرف لم أكن أحلم به في أي يوم من الأيام. قضيت برفقته ثلاثة أيام لن تنسى. كنت أعرفه جيدا، قبل ذلك، من خلال كتاباته بالطبع، وخصوصا عندما كنت طالبا في سوريا. فمن منا لم يكن يعرف الطيب صالح في ذلك الوقت؟ ومن منا لم يكن قد قرأ "موسم الهجرة إلى الشمال"!؟ لكن أن تجلس معه وتسمعه متحدثا عن تاريخ السودان، عن دوره السياسي أيام زمان وكيف تغيرت الأحوال مع حكومة الإنقاذ، عن عمله الإعلامي، فهذا شيء آخر.
كان كما تخيلته مستمعا جيدا وطيبا كاسمه؛ كان متواضعا، بسيطا، إلا أنه كان يخفي وراء هذه البساطة ذكاء وقادا؛ وقد بدا ذلك جليا من خلال تعليقاته الساخرة والمكثفة. كان يطرح أسئلة دقيقة عن الأمسية والجهة المنظمة لها وكيفية تلقي القراء الألمان للأدب العربي عموما ولأعماله خصوصا. وحين عرف أني من سوريا أمطرني بوابل من الأسئلة عن السلطة والمعارضة دون أن يخفي "إعجابه بهذا البلد وأهله". كما سألني عن الجالية المسلمة في ألمانيا وكذلك عن الترجمة من العربية إلى الألمانية والمعايير التي على أساسها يتم اختيار هذه النصوص. أذكر أنه أظهر استياء من سيطرة بعض الأسماء العربية على المشهد الثقافي في الغرب، من خلال الترجمة، مع أنها، برأيه، لا تستحق كل هذه "الضجة" فبعضها غير معروف في بلادها. كما سأل عمن سيترجم له في الأمسية. وحين قالت له زوجتي بأنها هي من ستقوم بهذه المهمة، سألها عن علاقتها بالشعر العربي الكلاسيكي وخصوصا بأبي نواس لأنه قد يستشهد ببعض الأبيات له في سياق إجابته عن بعض الأسئلة التي قد تطرح عليه! وحين بدت قلقة من هذه المهمة الإضافية طمأنها بأنه سيتولى شخصيا ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية وبالتأكيد فإن معظم الحضور يفهم لغة شكسبير.

كان هذا اللقاء فاتحة علاقة إنسانية طويلة مع الطيب صالح استمرت إلى أن جاءت لحظة الوداع الحزينة في الثامن عشر من شهر شباط/ فبراير الماضي حين سمعنا بخبر رحيله عن هذه الدنيا. ومنذ هذه الزيارة إلى كولونيا اعتدنا أن نلتقي به من عام إلى آخر، خصوصا وأنه أصبح ضيفا مألوفا في ألمانيا يدعى إليها كلما تعلق الأمر بالثقافة العربية. وأذكر أني كنت أشعر بمزيج من الفخر والخجل حين كان الطيب صالح يبدأ أمسياته الأدبية في كولونيا بشكر أصدقائه ويذكرني من بين من يصفهم بـ"أصدقائه" ويشكرني ويشكر زوجتي لأننا كنا السباقين إلى دعوته واستقباله في هذه المدينة.
وبالرغم من أن إحدى بناته كانت تدرس في ألمانيا فإني أجزم بأن علاقته بهذا البلد بدأت فعليا بعد ترجمة روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" إلى الألمانية. فالطيب صالح لم يكن معروفا، بشكل كاف، في ألمانيا قبل صدور الترجمة الجميلة لريجينا قرشولي لهذه الرواية، كما هي حاله في إنكلترا أو حتى في فرنسا. فقد تأخر الألمان أكثر من ثلاثين عاما في ترجمة رائعته السالفة الذكر، إلا أنهم كانوا قد ترجموا قبل ذلك رواية "عرس الزين" ومجموعة "دومة ود حامد" القصصية. وبالرغم من أنه كان يكابر ويحاول أن يقلل من قيمة هذه الرواية مقابل أعماله الأخرى، كأن يقول إن "عرس الزين" أقرب أعماله الروائية إلى نفسه وأن ملحمة "بندر شاه" بالجزئين اللذين صدرا عنها "ضو البيت و مريود" (إذ لم يكمل كتابتها) "أفضل ما كتبَ" إلا أنّ هناك إجماعا كونيا بأن موسم الهجرة هي الطيب صالح والطيب صالح هو موسم الهجرة. كان هذا التقويم يرعبه رغم معرفته الدقيقة بأن "لعنة" الموسم لن تغادره أبدا ومهما حاول التهرب منها أو حتى لو كتب روايات أخرى يعتقد أنها أفضل، إلا أنه، مع الأسف لم يفعل. وحتى مقالاته الأسبوعية في الدوريات العربية وسلسلة "مختارات" التي صدرت عن دار الريس في عدة مجلدات، لم تساهم في تحريره من شبح رائعته "موسم الهجرة" الذي ظل يلاحقه إلى آخر يوم في حياته. أذكر كيف جمح الخيال بقارئة ألمانية في مدينة كولونيا إلى حد أنها حاججته طويلا لتنتزع منه اعترافا بأنه هو نفسه مصطفى سعيد بطل الرواية، المتهم بارتكاب جرائم قتل أثناء إقامته في إنكلترا. ولم تتراجع السيدة أمام إصراره بأنه شخص مسالم وأنه خلق هذه الشخصية من محض الخيال. لقد بدت السيدة مقتنعة، بعد قراءتها لهذا العمل الروائي العظيم الذي شكل يومها ثورة في السرد العربي، بأن هذا السوداني الذي يجلس أمامها ويلقي قصائد لأبي نواس بالإنكليزية ليس إلا مصطفى سعيد نفسه "قاتل النساء" الذي كان يلقي محاضرات في أوكسفورد عن أبي نواس. وإذا كان منطق هذه السيدة متهافتا، إذ لا يمكن اتهام كل كاتب بما تقوم به شخصياته الروائية من أفعال، فإن الطيب صالح كان حقا ضحية للعنة اسمها: مصطفى سعيد. إلا أنه سيبقى بيننا الطيب الذي عرفناه، فهل أقول وداعا؟
* عن مجلة "فكر وفن" العدد 91



#أحمد_حسو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شرطة الأخلاق العربية وشجاعة لبنى
- لماذا قاطع الغيطاني ألمانيا؟
- ماذا يجري في السعودية؟
- النظام السوري يزيل المساحيق عن وجهه حول تداعيات اعتقال أكثم ...
- من المسؤول عن أحداث القامشلي وسواها


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد حسو - الطيب صالح: هل أقول وداعاً؟