أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تركي علي الربيعو - عقلية تآمرية واتهامات؟















المزيد.....



عقلية تآمرية واتهامات؟


تركي علي الربيعو

الحوار المتمدن-العدد: 165 - 2002 / 6 / 19 - 07:05
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

(كاتب من سوريا)


يمكن القول إن "العقلية التآمرية " هذا المصطلح الذي جاء به خلدون حسن النقيب مع مطلع عقد الثمانينات,(1) هي طريقة في التفكيرا لانف لى, تغزو الحقل الثقافي لجماعة بشرية ( أمة, طائفة, قبيلة, حزب...الخ) وتسيطر عليه, وتدفع الى حالة من الشلل تلقي بظلالها على مجمل نتاجات هذا الحقل وابداعاته إن وجدت, وهي طريقة فعالة في "اغتيال العقل "(2). وذلك عندما تتمفصل مع ضرب من العقلية السجالية, التي تتميز بدورها بنمط من التفكير الانفعالى, من سماته تغليب الجزء على الكل, وغياب النقد الذاتي، وحجب الواقع, وغياب أية أرضية للحوار وسيادة حوار الطرشان والذي يظل شاهدا على تغلغل هذه العقلية في خطابنا النقدي المعاصر وتمفصلها مع كل أشكال الانغلاق ( تعصب, تمركز، عنف, ارادة نفي تكشف عن ميل الى اتهام الآخر بهدف طرده وابعاده... الخ). فالمختلف منفي ومطرود ومطارد، والآخر هو الجحيم كما قال جان بول سارتر ذات مرة, وهو العدو حتى يعلن الشهادة بلسانه ويقلبه, ودارا لدنيا لا يرثها الا عباد الله الصالحون أو عباد الايديولوجيا الحديثة, انها دار حرب بين عباد الله وعباد الشيطان, تكتب فيها الغلبة مرة لهؤلاء ومرة لأولئك.

في هذه الدراسة, سوف أتابع تغلغل العقلية التآمرية في ثنايا خطاب اليسار العربي وعقله، بصورته أدق, سوف أتناول جملة خطابات ليساريين عرب كبار،. كي لا أقول متياسرين عرب كما يؤثر محمد عابد الجابري(3), عرفوا على الساحة الفكرية العربية بيساريتهم واشتهروا بموضوعيتهم وقدرتهم على التفكير الاستراتيجي في القضايا الحيوية والمستقبلية للأمة العربية, وذلك بغية الحكم على طبيعة العقل الذي ينتج هذه الخطابات, واذا ما كان يؤول الى ساحة العقلية التآمرية أم انه يمثل حالة من التجاوز لهذه العقلية, وبالتال يمثل انفتاحا على الآخر وتقبلا له

قبل القيام بقراءة وتحليل هذه الخطابات,سوف أحدد ما اعنيه بالعقلية التآمرية في صفوف اليساريين العرب.

تقوم هذه العقلية, على الاعتقاد  بوجود:

أولا: مؤامرة كبيرة تستهدف اليسار العربي ورسالته الخالدة, وهذه المؤامرة تحاك بشكل واع ومقصود؟

ثانيا: إن أطراف المؤامرة هي جهة معينة ومجهولة في آن, ويجري تحديدها تحديدا مترجرجا، فهي تضم قوى اليمين العربي الرجعي والامبريالية والصهيونية, والتي تجد تعبيرها أحيانا في خطابات بعض المثقفين العرب.

ثالثا: إن هذه المؤامرة تحاك في الخفاء، ويستدل عليها كون الفعاليات التآمرية تأخذ شكل الرموز والشواهد والمعميات والتي يجب فضحها حيثما تكشف ؟

رابعا: ان هذه المؤامرة تهدف في النهاية الى القضاء المبرح على اليسار العربي

ورسالته التاريخية الخالدة (4), والذي يضم (البعثيين والناصريين والقوميين العرب والشيوعيين بكل فرقهم وتشكيلاتهم) كما جرى تحديده في ندوة سويسرا التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية (5).

أعود للقول - والعود أحمد كما كانت تقول العرب - إنني في قراءتي للخطاب النقدي المعاصر, سوف أقف عند ثلاثة نماذج, عند اداورد سعيد وتهمة العمالة لقوى أجنبية ؟ وعند أنور عبدا لملك والمتهم بنفس التهمة ؟ وعند محمد عابد الجابري باعتباره الممثل الجديد للاستغراب الشرقي كما يرى خطابنا النقدي؟

النموذج الاول: ادوارد سعيد بين الاصولية وتهمة العمالة لقوة اجنبية؟

كان كتاب ادوارد سعيد الموسوم بـ" الاستشراق " الصادر بالانجليزية اواخر عقد السبعينات وبالعربية اوائل عقد الثمانينات, أشبه بفزاعة ؤ عالم الاستشراق, على حد تعبير المستشرق مكسيم ردونسون في كتيبه الذي أصدره بمناسبة صدور كتاب الاستشراق (6). كان هدف سعيد من خلال حفرياته في تاريخ وتاريخية الاستشراق, هو الكشف عن نظام الاستشراق, الذي ساهم في شرقنة الشرق. هذا النظام من وجهة نظر سعيد، كان قد شكل مكتبة صلدة, شكلت إطارا مرجعيا لجميع الذين فكروا بالشرق أو كتبوا عنه, ليس هذا فحسب, بل فرضت على الجميع أن يقعوا أسرى شرنقة الاستشراق ليساهموا في. شرقنة الشرق. فالاستشراق  كما يعرفه سعيد هو "معرفة بالشرق, تضع الشرقي في قاعة التدريس, في محكمة, في سجن, أو في دليل موجز لأغراض التحليل المدقق, والدراسة والمحاكمة, والتأديب, او الحكم ". ومن وجهة نظر سعيد، ان ورثة هذه المعرفة, الذين يمثلون الشرق الحديث, سواء كانوا من النخبة المثقفة, التي استوردت افكارها عن التحديث والتقدم من !لولايات المتحدة بصورة رئيسية, او من المفكرين الراديكاليين, الذين أخذوا ماركسيتهم بالجملة من نظرة ماركس التسلطية الى العالم الثالث, يساهمون ويشاركون في شرقنة الشرق؟ (7).

كانت نظرة ماركس التسلطية الى الشرق مأخوذة بالجملة من نظام الاستشراق كما يرى ادوادد سعيد، وقد خص المن لف هذه النظرة بأرهم صفحات من كتابه. فهذا النظرة الماركسية, مي احالة الى المعنى العميق للاستشراق,لنصل الى جوهره، الذي يقوم على التمييز بين الفوقية الغربية ونزعتها التدميرية والدونية الشرقية, وقد استشهد سعيد على ذلك برؤية ماركس للرسالة التبشيرية لانجلترا في الهند.

يقول ماركس: ان على انجلترا ان تحقق في الهند رسالة مزدوجة: الاولى تدميرية, والثانية احيائية تجديدية. افناء المجتمع الآسيوي، وارساء الاسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا»..

بربطه بين نظام الاستشراق والماركسية في جوهرها التسلطي، يكون سعيد قد تجاسر على انتهاك حرمة التابو (الحرام)، وذهب بجسارته مذهبا بعيدا، فقد حرم الآخرين من متعة تطبيق الماركسية على الواقع العربي, والتي تدعو علنا الى احراق البجعة المحتضرة (المجتمع التقليدي العربي) كما دشنها الخطاب العربي التقدمي في اواسط السبعينات (9). وجاء ما هو منتظر وعلى جناح السرعة محمولا على أكتاف العقلية التآمرية التي تتحكم في رقاب هذا الخطاب. من هنا فاني سأتناول أربعة خطابات, ثلاثة منها صدرت عن ماركسيين عرب صريحين في نهايات وأوائل عقد الثمانينات, تستنكر بشدة وعبر بيان وقائي من أجل الماركسية ؟ أية محاولة للربط بين نظام الاستشراق والماركسية, أما الرابعة فقد صدرت متأخرة (في أواسط عقد التسعينات) وهي تندد بدورها، وعبر بيان وقائي من أجل السياحة بتلك الصلة الوثيقة بين الخمينية والسعيدية (نسبة الى ادوارد سعيد) والتي من شأنها أن تهدد مستقبل السياحة في المنطقة العربية. وسنفصل ذلك لاحقا.

كما أسلفت, فإن الخطابات الثلاثة. تستنكر بشدة وعب. بيان وقائي من أجل الماركسية, أية محاولة للربط به ن نظام الاستشر اق والماركسية, فالقول بأن نظام الاستشراق فرض على مفكر بمستوى ماركسي ان يمتح منه في سبيل ترضيه نظريته عن الشرق وإثبات صحة وسلامة نظريته الاجتصادية, هو قول يتميز بالجهل بالماركسية والفكر الماركسي بعامة, ولا يمكن أن يصدر الا عن عميل يعمل لخدمة مصالح الولايات المتحدة الامريكية, كما يظن صادق جلال العظم في كتابه "الاستشراق والاستشراق معكوسا"، أو عز ممثل جديد لتيار، بورجوازي كما يرو مهدي عامل, وفي أحسن الاحوال, فهو ممثل لتيار أصولي يدعو الى الرجوع الى الوجود التقليدي والتقوقع فيه، وارجاع مقاليد التعليم, والتثقيف, الى الطبقة التي لا تنتمي الى الجامعة, الى أئمة المساجد والكهنة.. هذا طبعا مع تطهيرها من جميع الذين حصلوا بينهم على درجة جامعية"(10).

وانطلاقا من أن مهمة الخطاب الماركسي العربي، تكمن في  محاربة كل أشكال الفكر الميتافيزيقي، الذي يقف عائقا في طريق تحرير الفكر العربي الثوري وتجنيبه المزالق, التي يضعها عملاء الولايات المتحدة وممثلوها، فقد تصدى ممثلو هذا الخطاب لمحاربة وجهة النظر التي تربط بين نظام الاستشراق والنزعة التسلطية لماركس، وذلك خرفا من ان ينجر القارىء العربي الى حيز كتابات من هذا النوع. ولذلك فقد حارب هذا الخطاب على جبهتين:

الأولى: تسفيه كل كتابة من هذا النوع. واتهامها باللاموضوعية واللاعلمية ورميها الى ساحة العقلية التآمرية.

الثانية: العمل على تبرير موقف ماركس التسلطي من الشرق, وذلك من خلال اتهام الطرف الآخر بأنه يجهل الماركسية. وليس ذلك فحسب, فالجهل سمة تميز الطرف الآخر، الذي ينبري لفهم الماركسية وموضعتها في سياقها التاريخي.

على صعيد الجبهة الاول, واذا سمحنا لأنفسنا بتجاوز الاتهامات المباشرة التي تصف ادوارد سعيد بأنه عميل للولايات المتحدة, ول كونه ادوارد وليس بـ"سعيد" كما يرى صادق جلال العظم, وفي كونه يبحث عن أفضل الاساليب لتمتين الاسس التي يمكن ان تستند اليها التوظيفات الامريكية في الشرق الاوسط, وأفضل الطرق لتحسين شروط علاقة التبعية "(11). فان الاتهامات الفكرية الموجهة اليه, ظلت تدور في اطار من العقلية السجالية المحكومة بإرادة عدم معرفة عل حد تعبير ميشيل فوكو وبارادة نفي للآخر، عقلية تحكم على الكل من خلال الجزء، وتدفع الى الغاء الحوار من خلال إلغاء المحاور نفسه, لنقرأ الاتهامات التي يوجهها نديم البيطار الى ادوارد سعيد.

أولا: "إن الهجوم على الاستشراق من قبل ادوارد سعيد، لا يرقى الى مستوى علمي يبرر الاهتمام بما كتبه ادوارد سعيد، وبالضجة التي أحدثها في الساحة العربية ".

ثانيا: غياب الموضوعية "فقد ركز سعيد على بعض الجوانب وأهمل بعضها الآخر".

ثالثا: "يتميز منهجه برؤية ميتافيزيقية ترى الامور بصورة مطلقة ".

رابعا: "هناك اعتباطية تحريفية تطال الكتاب الذي ألفه سعيد".

في اطار خطاب يعتمد التهكم والاتهام والتخوين, يكتب مهدي عامل (اسمه الحقيقي حسن حمدان بينما اسمه الحركي يحاط بهالة ميثولوجية كونه مهدي لم متضامنا مع ما كتبه صادق جلال العظم. يقول: يسعدني أن ألتقي مع الكاتب صادق جلال العظم في نقاط كثيرة من مقالته " وفي رأيه, أن منهج ادوارد سعيد هو منهج مثالي لا يحتكم الى الماركسية, ولا يؤمن بمبدأ التناقض, وبالتالي فهو عاجز عن فهم النص الماركسي. لهذا السبب وسواه كونه - اي ادوارد سعيد - ينطلق من أرضية تعتمد المنهج البنيوي المعادي للتاريخ وللماركسية كنظرية تاريخية, ظل سعيد يدور في حلقة مفرغة, غير قادرة على استيعاب النص الماركسي. ان اكتشاف مهدي عامل الخلفية الفكرية لادوارد سعيد، التي تحتكم الى البنيوية كمنهج معاد للتاريخ على حد تعبيرا، من شأنه أن يكشف الدور التأمري الذي يلعبا سعيد على الساحة الفكرية الحربية, في اطار المؤامرة الكبرى التي تستهدف فكر اليسار العربي كفكر تاريخي. هكذا تصبح البنيوية والامبريالية وادوارد سعيد في خندق المعادين والمتآمرين على مستقبل الثورة العربية, وحلقة الاتهام تتسع لتطال كل رموز البنيوية من ميشيل فوكو الى كودليفي ستروس الى ادوارد سعيد مع ان احدا من هؤلاء لم يصرح بأنه بنيوي.

أما على صعيد الجبهة الثانية, التي تهدف الى تبرير الماركسية في نظريتها التسلطية الى الشرق وفي صلتها بالاستشراق, فالعظم يكتب:

"اعتقد ان الصورة التي رسمها ادوارد لوجهات نظر ماركس حول الشرق ولمحاولاته تفسير الصيرورات التاريخية المعقدة التي اخذت مجتمعاته وثقافاته تخضع لها، لا تشكل اكثر من رسم كاريكاتوري ليس الا"( 13). وفي اطار من التبريرية يسوق العظم دفاعاته.

أولا: يقول العظم: ما من دارس جاد لماركس, في الشرق والغرب, نسب مصدر هذه الرؤيا الماركسية الى الاستشراق وعلومه باستثناء ادوارد سعيد" لكنه - اي العظم - يعترف بالمقابل بالدور الكبير للتراث السياسي الغربي، في صياغة فكر كاول ماركس. وهنا يقودنا العظم الى اشكالية تنسف المقدمات والنتائج التي يقودنا اليها.

 ثانيا: إن أطروحة كاول ماركس تشهد عل تماسك فكره النظري بصورة عامة من ناحية اول, وعلى واقعيته الحادة في تحليل ظرف تاريخي معين من ناحية ثانية, ومما يثبت ذلك, هو ان ماركس كان يميل دوما، وقبل ان يبدي أدنى اهتمام بالشرق وقبل ان يؤثر فيه أي استشراق, الى تفسير التحركات التاريخية الكبيرة من خلال القوى الصاعدة والصراعات الاجتماعية والتناطرات الطبقية والشخصيات القيادية, التي كان يضفي عليها عموما دورا مزدوجا، وهو دور ادوات التدمير وادوات الاحياء في الوقت نفسه.(15) وعبر هذا، يستنجد العظم بالبيان الشيوعي ليثبت وجهة نظر0بصورة مطلقة, لتساهم في تسفيه وجهة نظر ادوارد سعيد ونفيها وطردها. فالعظم لا يناقش جوهر اطروحة سعيد، ولا الكتاب ككل فهذا لا يأبه له. انه يناقش بضع صفحات من كتاب ادوارد سعيد. من الصفحة 170 - 173, ليحكم على الكل من خلال الجزء، وليقودنا الى النتيجة التالية: اذا كان ادوارد سعيد لم يستطع ان يفهم البنية المتماسكة في فكر كاول ماركس, فكيف يستطيع ان يفهم الاستشراق ؟ واذا كان منهج ادوارد سعيد يقوم على السلخ, ويغيب عنه التماسك المنهجي، فمن يخدم هذا المنهج اذن: والجواب من وجهة نظر صادق جلال العظم, انه يخدم مصالح الولايات المتحدة الامريكية.

من وجهة نظر نديم البيطار، وفي اطار دفاعه عن رؤية ماركس للشرق, ان هناك خطأين ارتكبهما ادوارد سعيد:

الاول: قيامه بسلخ رؤية ماركس عن الدور التدميري والاحيائي للرأسمالية عن المنهج الديالكتيكي، الذي يقول به ماركس.

الثاني: سلخ هذه الملاحظات الماركسية عن القانون العام حول دور الاحتكاك الثقافي بالخارج والتحديات والضغوط الخارجية, التي تشكل حافزا كبيرا لهذا التحول.(16)

ان الميل الى السلخ, والانتقائية, التي تتحكم في خطاب ادوارد سعيد، هما نتاج نزعة أصولية كما يرى البيطار، هكذا نجد أن النزعة الاصولية تمتد الى خارج التيار الاصول في الوطن العربي، لتصل الى فكر استاذ جامعي من أصل مسيحي ويدرس في برنستون, وتبني عشها في خطاب كاهن قبطي لانه ادان سلمان رشدي.( 17)

الاعتراضات التي يسوقها مهدي عامل عديدة, وذلك في اطار تبريره الرؤية الماركسية الى الشرق, منها:

أولا: ان النص السعيدي - تعبير التهكم له - يحكم على ماركس من زاوية اخلاقية, ويحكم على الاستشراق / الاستعمار من الزاوية نفسها.

ثانيا: ان النص السعيدي لا يراعي الاعتبارات الطبقية في انتاج الخطاب الاستشراقي، فالنص السعيدي لا يحدد طابع الثقافة التي انتجت الاستشراق.(18)

ثالثا: ان النص السعيدي لا يفرق بين فكر بورجوازي مسيطر وفكر ثوري بروليتاري.(19)

رابعا: وفي اطار من التبريرية التي يسوقها مهدي عامل لرؤية ماركس التسلطية, يحكم على رؤية سعيد بالنفي لانها محكومة بغير منطق الفكر المادي، بالاضافة الى ان منطقها هو "منطق الفكر القومي الشائع في الادبيات البورجوازية "(20)، و"ان منطق سعيد، هو منطق التأويل الذي يستبدل التناقض المادي في حركة التاريخ الموضوعية بتناقض شكلي في صيغة إما... وإما"(21).

من هنا، فان اعلان التضامن مع ما جاء به العظم, من تكفير وتخوين لادوارد سعيد، يصبح ضرورة تاريخية لنفي سعيد وتشريده كما يذهب الى ذلك مهدي عامل. وبذلك تكون هذه النخبة وورثتها قد اوصدت الابواب في وجه التجديد، وفي وجه الترحيب بفكر ادوارد سعيد، اذ يبدو مفهوما من السياق السابق الا يلقى ادوارد سعيد اي ترحيب من هذه النخب, وهذا مانعاه محمد عابد الجابري وعابه على هذه النخب التي بقيت أسيرة لسلفيتها(22).

أعود لوجهة النظر الرابعة والتي وصفتها بأنها بمثابة بيان وقائي من اجل مستقبل السياحة والصادرة في منتصف عقد التسعينات هذه. ففي كتابه الموسوم بـ" ثقافات الخمينية: موقف من الاستشراق ام حرب على طيف 1999" يلحظ مؤلفه حازم صدغية امورا هامة, سوف اشير الى اربعة منها أراها اساسية وتحكم الكتاب من مقدمته الى نهايته.

أولها: ان نقاد الاستشراق وفي مقدمتهم ادوارد سعيد، يقومون بتضخيم الجانب السلطوي من الاستشراق على حساب الجانب المعرفي, وهذا يعني ان سعيد لم يتفهم اطروحة ميشيل فوكو.(23)

ثانيا: ان نظرية الداخل (نحن)، في مواجهة الخارج (المستشرقون ومن ورائهم الغرب) لا يعقل الا ان تكون عنصرية.(24)

ثالثا: ثمة دلالة سوسيولوجية يصعب القفز من فوقها كما يرى صدغية, تتمثل في ان الناقدين الابرز للاستشراق, انور عبدا لملك وادوارد سعيد، مسيحيان عربيان, الاول قبطي مصري، والثاني بروتستانتي فلسطيني.(25)

رابعا: أغلب الظن ان التزامن بين كتاب سعيد وثورة الخميني كان له مغزى موضوعي هو المشاركة, من موقعين مختلفين, في اطلاق عملية التعرية التي تبلغ حاليا حدود التخلص من كل شيء "طارىء" على الجسد، وغالبا ما تتخذ اشكالا دموية بالغة البشاعة في بلد كالجزائر ومصر والسودان, بعد ايران ولبنان, فالسائح والصحفي والمستشرق, بل الغريب عموما، شخص غير مرغوب فيه (26)´ ويضيف صدغية في مكان آخر بقوله أدان ادوارد سعيد من ضمن حقله الخاص وجهوده الاكاديمية البارزة, يشاطر ثورة الخميني رد كل شي ء الى الغير، من دون اية استجابة ولو صمنية, لدلالات الاحداث الاخري، التي نسجتها  عناصر داخليه بحته "(27). هكذا اصبح الاستشراق خطرا على الاجانب والسياح ومحرضا على قتلهم, وبذلك يضر بحق بمستقبل السياحة ؟

النموذج الثاني: أنور عبدا لملك بين الاصولية وتهمة العمالة لقوى خارجية يابانية ؟

كان أنور عبدا لملك قد مارس نقدا للاستشراق, كاسلوب للسيطرة على الشرق واعادة امتلاكه, وذلك في وقت مبكر يعود الى بدايات عقد الستينات (1963)، وراح يتحدث عن أزمة الاستشراق الغربي، مبشرا في الوقت نفسه بالدور الفعال الذي يمكن للاستشراق السوفييتي آنذاك ان يلعبه على صعيد مجتمعات اسيا وافريقيا.(28)

اذا كان عصب الاستشراق سياسيا، فان النقد الذر مارسه عبدا لملك كان متعديا، بمعنى انه كان يهدف الى التحرر من السيطرة السياسية للغرب والطوق, الذي يفرضه على بلدان آسيا وافريقيا، والتطلع في آن الى الدور السياسي والحضاري الذي يمكن ان تلعبه الدول الاسلامية على الساحة الدولية بعد تحررها من الاستعمار، وهذا ما سماه عبدا لملك بـ"الاسلام السياسي " وقد وجدت هذه الدعوة طريقها مع بداية عقد السبعينات, وتكاملت مع بداية عقد الثمانينات.

إن جوهر أطروحة عبدا لملك, هو الدعوة الى تغيير النظام العالمي المستند آنذاك الى نموذج القطبية الثنائية بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي سابقا، والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية, وعبر هذا راح عبدا لملك يبشر بهبوب "ريح الشرق " وبامكانية انبعاث الحضارة العربية الاسلامية في اطار الفراغ الحضاري، الذي تعيشه دائرة الاسلام السياسي, او ما يسميها عبدا لملك بالدائرة الحضارية - الثقافية الاسلامية, التي لو قدر لها ان تتفاعل مع الدائرة الثانية اليابانية - الصينية وما حولها، والتي تبشر بامكانات واعدة, لفتحت الباب على مصراعيه لامكانية تغيير النظام العالمي، ولو ضعت الحد لعملية النهب التاريخي او ما يسميه عبدا لملك بفائض القيمة التاريخية, الذي يحرص الغرب عبر اساطيله العسكرية كما تشهد على ذلك الاحداث الاخيرة عل اقتطاعه عنوة. وبذلك يكون التخلف التاريخي لبعض الشعوب هو الوجه الآخر البشع والسافر لتقدم الآخر(29).

عبر خطاب مشوب بالهمز واللمز والسخرية والتخوين, راح فؤاد زكريا يناوش اطروحة عبدا لملك المتضمنة في كتابه الموسوم بـ"ريح الشرق ". فنصوص الكتاب, تكشف, كما يرى زكريا، عيوبا اساسية في المنهج الفكري، الذي يؤدي الى كل هذا القدر من النتائج اللامعقولة, هذا اولا وثانيا، فان رؤية عبدا لملك المتضمنة في كتابه السالف الذكر ما هي الا نموذج صارخ للرؤية المشوهة بالآمال الجوفاء التي تنتشر بيننا، خاصة في ازمنة الهزيمة والاحباط.(30)

كان فؤاد زكريا قد نذر نفسه للتصدي بقوة لمكافحة كافة الوان المخدرات الثقافية, على حد تعبيره, خصوصا ان الكتاب (ريح الشرق) واحد منها، بصورة أدق, يمثل اتجاها عريضا في حقل الثقافة العربية المعاصرة يريد ان يحمل الأخر لم الغرب, حقيقة تخلفنا، وهذا ما يرفضه زكريا ويسعى الى تفنيده:

اولا: منذ بداية الحوار، يضعنا فؤد زكريا في اطار العقلية التآمرية,، وهو يرفض العقلية التآمرية عند عبدا لملك, التي تفسر تخلفنا التاريخي على انه نتيجة مؤامرة كبيرة وتاريخية, يقودها الغرب. وتبدأ جذورها منذ الحروب الصليبية وحتى عصرنا الراهن. لكنه بالمقابل يوضح لنا ان اجتهادات عبدا لملك تصب في اطار العمالة لقوى خارجية, هذه المرة للسادة اليابانيين الجدد، الذين جاء وا للسيطرة عل النفط, يقول زكريا: ان التناقض والتحول والتذبذب في تحديد نوع الروابط التي يدعو الكاتب حركة التحرر العربي الى اقامتها، أمر لا يمكن ايجاد تفسير عقلي موضوعي له. وفي غياب مثل هذا التفسير الموضوعي يضطر المرء الى اللجوء ال تفسيرات ذاتية, وبخاصة حين يجد ان ادخال اليابان ضمن اطار تحالفاتنا قد ظهر في الوقت نفسه, الذي بدأ فيه ارتباط مؤلف هذا الكتاب بجامعة الامم المتحدة. ويأسف المرء حين يضطر الى القول بأن هذا الهدف من هذا التحالف الجديد ليس الا طمانة اليابان على امدادات البترول العربية, التي تعتمد عليها الصناعة اليابانية اعتمادا اساسيا، اما المشاركة والتعاون بين التكنولوجيا اليابانية والقوى البشرية الصينية وحركة التحرر العربية في اطار واحد. تحت عظة"روح باندونج "فليس الا غطاء فكريا وهميا يدغدغ آمالنا بوعد مستحيل, في مقابل بترولنا الذي لا غنى عنه للسيد الجديد!"(31)

ثانيا: ليس غريبا هذا اللقاء الحميم كما يرى زكريا بين نقاد الاستشراق, بين عبدا لملك وادوارد سعيد، وهذا ما يثير استغراب حازم صدغية ايضا في المصدر الذي سبق ذكره. فالأول انتقد الاستشراق, والثاني دفع بالنقد الى ذروته, وقام كلاهما بتثبيت صورة الشرق والغرب معا وتجميدها، وبذلك ساهما بقلب العبارة المشهورة التي قالها كبلنج "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" بصورة أقوى من لهجة كبلنج ذاته كما يقول زكريا. وهذا ليس غريبا، فتجميد صورة الغرب تلقاء صورة الشرق, هو هدف

العملاء الجدد للسادة الجدد من امريكيين ويابانيين. فهذا على الاقل ما قادنا اليه ناقدو ادوارد سعيد مثلما رأينا، وهو ما يقوله صراحة نقد فؤاد زكريا.

ثالثا: ان العقلية التآمرية في فكر عبدا لملك, التي يسعى زكريا الى تفنيدها، سرعان ما نجدها تقدم اغواء الى زكريا لايقاعه في حبائلها، ففكرة الاسلام السياسي التي تتردد كثيرا في طروحات عبدالملك, تظهر كما يرى زكريا على أنها جزء مهم ومكون اساسي من مكونات مؤامرة كبيرة يقودها قادة البنتاجون, وتهدف الى محاربة الماركسية وتفكيك وحدة الاتحاد السوفييتي؟: يقول زكريا: ان هذه الفكرة لها دور مهم في فكر المخططين الاستراتيجيين الامريكيين, الذين يحكم بعضهم منذ الآن, بأن يستغلوا الاسلام في ايران وفي أفغانستان وفي آسيا السوفييتية من اجل تفكيك وحدة الاتحاد السوفييتي من الداخل ومن الواضح ان الفكر الاستراتيجي للكاتب - يقصد عبدا لملك - يتلاقى بقوة مع هذا الاتجاه "(32) بالاضافة الى ذلك, فثمة اتجاه في حقل الثقافة العربية المعاصرة, يربط كل حديث عن الاسلام والحركات الاسلامية المعاصرة, بحيث يصبح كل تصرف لهذه الحركات على منظري فكرة الاسلام الحضاري يتساءل زكريا عن سر الغشاوة التي تتحكم في رؤية عبدا لملك ومن يماثله في الرؤية, بقوله: لماذا لم يلتفت الكاتب الى العالم الاسلامي المعاصر، ويتأمل سمات الظاهرة المسمدة بـ"لصحوة الاسلامية "، قبل ان يطلق أمثال هذه العبارات "(33). هذه الغشاوة التي لا يفسرها الا الضلوع في مؤامرة كبرى تستهدف قوى اليسار العربي ورموزه.

رابعا 0 إن ما يميز فكر عبدا لملك هو السطحية والسذاجة. ويعد هذا النموذج من الفكر نموذجا صارخا للرؤية المشوهة الجوفاء. إن لم يكن تعبيرا حيا عن عقدة نقص مزمنة مستعصية عل الشفاء. هذا ما يحيلنا اليه زكريا، وهو بهذا الحكم على هذا النموذج, إنما يسعى الى تعميمه على تيار بأكمله, تيار عريض يملأ الساحة الفكرية صخبا وضجيجا وزبدا، وأما الزبد فيذهب جفاء. هكذا يتم الحكم على الآخر المختلف بالنفي والطرد والجفاء دون الوصول الى لحظة اقتناع مشترك ؟

محمد عابد الجابري: الممثل الجديد للاستغراب الشرقي والانعزالية الجديدة ؟

الخطاب العربي المعاصر، هو خطاب محكوم بسلف, والمطلوب تحريره من ربقة السلف, هذا ما قادنا اليه الجابري مع مطلع عقد الثمانينات في كتابه الموسوم بـ"الخطاب العربي المعاصر" في بحثه عن سلفية الخطاب العربي المعاصر آثر

الجابري العودة الى الجذور الأولى, ليبحث عن كيفية تشكل العقل العربي وتكوينه. وقد صدر الجزء الاول من كتابه "تكوين العقل العربي"، وأتبعه بالجزء الثاني "بنية العقل العربي" في أواسط عقد الثمانينات, ثم تبعه الجزء الثالث (العقل السياسي العربي، 1989)(34). كانت أفكإر الجابري ومنهجه, الذي يقوم على طريقة جديدة ويستند الى مفاهيم جديدة. مثارا للجدل الواسع على مستوى الساحة الفكرية العربية, وقد حظيت هذه الافكار بنتائجها المثيرة للاذ هان, وباهتمام واسع عند النخبة المثقفة, فقد نوقشت بايجابية, وتم الاعتراض عل نقاط أخرى واساسية فيها، وتوسع إطار الاشكالية التي طرحتها، وما زالت حتى هذه اللحظة تثير جدلا واسعا في أوساط المثقفين العرب.

في خضم الجدل حول مشروع الجابري، أدل المفكر العربي الطيب تيزيني بدلوه في الحوار، ولكنه سرعان ما انزلق الى ساحة "العقلية التأمرية "، التي أفضت الى اتسام الحوار بطابع شخصي كما لاحظنا في حوار زكريا مع عبدا لملك. ما لبث أن أخذ طابع الاتهامات القاسية, بفعل غياب الحوار الموضوعي. فتحت عنوان من "الاستشراق الغربي الى الاستغراب الشرقي" ناقش طيب تيزيي بعض أفكار محمد عابد الجابري على عجالة, لكنه, وقبل المناقشة, أراد أن يضعنا في السياق الفكري والتاريخي، الذي يتحرك فيه الجابري، فمن وجهة نظر تيزيني، أن هناك مؤامرة كبرى يتعرض لها الشعب العربي وطليقته المثقفة, مؤامرة يقودها الاستعمار والصهيونية وقوى الظلام العربية. وعبر سياق المؤامرة, تظهر بعض الكتابات التي تخدم هذا السياق. يقول تيزيني: إن الشعب العربي بطلائعه المتقدمة يواجه حاليا هجوما فكريا ايديولوجيا مكثفا من التشكيك في جدواه التاريخي عموما وعلى نحو الاجمال. هذا الهجوم تحمل لواءه قوى الاستعمار والصهيونية والظلامية في الوطن العربي. وفي سياق ذلك, تبرز فئات من المثقفين والمفكرين والكتاب العرب لتجد نفسها- بصيغة أخرى- في معمعات الموقف وتعقيداته "(35) إن محمد عابد الجابري هو أحد ممثلي تلك الفئة من المثقفين والمفكرين والكتاب العرب, هذا ما يقودنا اليه تيزيني، فمن وجهة نظره, أن هناك خطين متشابكين متعاضد ين يبرزان في معالم فكر الجابري. الخط الاول يتمثل بالاطاحة بـ«تاريخية " العقل العربي والفكر العربي تاريخا وحافرا، في حين يعلن الثاني عن نفسه في موقع التمييز القطعي بين "لاعقلانية " العقل العربي والفكر العربي، وذلك عبر النظر الى التاريخ الفكري العربي بصفته ذد بعد واحد من طرف, والى التاريخ الفكري الاوروبي بمثابة ذي بعدين أو أكثر، أحدهما البعد العقلاني من طرف اخر "(36).

كانت هذه هي المقدمة, وكان من المنتظر أن ينأى الحوار بعيدا عن ظاهرة الاتهامات, فتزيني من بين عديدين, كان من الممكن أن يثير حوارا بناء حول أطروحة الجابري، وهذا هو المأمول, لكنه, وقيما يخص الجابري، قد ظل مشدودا الى ربقة العقلية التآمرية, والى ربقة ما, ا سميناها ذات مرة ب"الأصنام النظريه في فكرنا المعاصر"(37). ففي ندوة سياسية عقدتها مجلة "الوحدة "، تناولت فيها أزمة الفكر السياسي العربي، فاجأ تيزيني المتحاورين باضافة نزعة اقليمية جديدة ممثلة بشخص محمد عابد الجابري، هي امتداد للنزعات الاقليمية, الفرعونية والفينيقية والتجزيئية, يقول تيزيني: والآن تواجهنا طبقة جديدة من النزعة الاقليمية ممثلة بشخص احد المثقفين العرب البارزين اليوم على الساحة الفكرية, أقصد محمد عابد الجابري، الذي يتحدث بصرامة عن مشرق عربي ومغرب عربي، وينسى أن هناك في سياق هذه الظاهرة التجزيئية اشكاليات عامة توحد بين المشرق والمغرب وهي الاهم "(38).

لم يكتف تيزيني بهذا، ففي كتيب له تحت عنوان "في السجال الفكري" وهو عنوان بالغ الدلالة, مارس فيه تيزيني سجالا من نوع جديد. ففي بضعة أسطر هي خاتمة الكتاب وخاتمة المطاف, سجل تيزيني بحق الجابري عبارات لاذعة لا صلة لها بالحوار، فالجابري من منظور تيزيني، ضحل فكريا وساذج ولا يملك المقدرة على تملك النص ولا على قراءته...الخ من النعوت " (39). علما بان الجابري لم يرد كعادته على هذا الحوار؟

الجابري وطرابيشي: تظاهرات النقد العربي في عقد التسعينات:

ما بين العام 1994 وعام 1996، تصدر تباعا، ثلاثة كتب ضخمة, تجعل من مشروع المفكر العربي الجابري، موضوعا للنقد والقراءة والمساجلة والتخوين والاتهام والتهافت... الخ والكتب هي "تجديد المنهج في تقويم التراث, 1994" للدكتور طه عبدالرحمن,(40) وقد تمحور حول تبيان أوجه القصور في فقه الآليات, والبناء المتهافت لنموذج الجابري على حد تعبيره. أما الكتابان الثانيان فهما "من الاستشراق الغربي الى الاستغراب المغربي: بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية, 1996" للطيب تيزيني،(41) والذي يعد امتدادا لأطروحة تيزيني السابقة بنفسها السجالي والتخويني والمؤامراتي، والثاني هو "نظرية العقل, 1996" للباحث جورج طرابيشي والتي لاقت أصداء على طول الساحة الفكرية العربية.

في هذه القراءة التي تقتفي اثر المسكوت عنه في خطابنا النقدي، والذي غالبا ما يساهم في شل حركة وحركية الخطاب الفلسفي العربي المعاصر، لصالح عقلية التخوين والمخاصمة وبذلك تحول دون أية امكانية للتراكم الفكري، وامكانية الفائدة منه. سوف نقف عند مستوى قراءة الباحث والناقد جورج طرابيشي الذي يبدي منذ سنوات بعيدة وعلى امتداد عقدين من الزمن وأكثر، نشاطا ملحوظا في الترجمة والنقد في جانبيه الادبي والفكري. والقراءة تطال كتابه الذي جئنا على ذكره والموزع بين عنوانين أساسيين, الاول ويقع في المتن وهو بعنوان "نظرية العقل " والثاني في الهامش ولكنه يبدو أساسيا ويحمل ما يلي: "نقد نقد العقل العربي". كما يلاحظ فان جهود الباحث طرابيشي تتجاوز نقد النقد بهدف التأسيس لاطار نظري حول العقل, يريد له طرابيشي أن يسمو ال مرتبة النظرية "نظرية العقل " والتي تتكامل مع جهود فكرية عديدة تتساءل مجددا عن مفهوم العقل بعد أن أقض مضجعها "مفهوم الايديولوجيا" وأشير هنا الى كتاب المفكر المغاربي عبدالله العروي والموسوم بـ"مفهوم العقل, 1996 "(42).

قبل أن أدلف الى أروقة هذه القراءة في نقد النقد، أود أن أشير الى هاجس سيكولوجي، ظل ملازما لي في كل مرة أنوي فيها قراءة كاب طرابيشي هذا، او اي كتاب له. كانت مخاوفي تراودني منذ أن اقتنيته, فقد خشيت أن يكون كسابقيه وأقصد كتابيه "المثقفون العرب والتراث, دار رياض الريس، 1991" و" مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة, دار الساقي، 01993". وهذا لا يعني أنني أقلل من شأنيهما، إلا أن سأخذي الاساسي عليهما أنهما قد غاصا في اوحال التحليل النفسي حتى الأعناق. فالكتاب الاول "المثقفون العرب والتراث "يحصل عنوانا فرعيا دالا وهو "التحليل النفسي لعصاب جماعي" وقد ظهر من خلال التحليل النفسي, أن المثقفين العرب مصابون بعقدة الخصاء تجاه الأب لم التراث, وكان لابد من ذبح الأب كما يشهد على ذلك كتابه ددمذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة " والذي طبق فيه طرابيشي, فرضية سيجموند فرويد عن "الطوطم والتا بو" أو بحسب كلود ليفي ستروس اسطورته, لان فرويد وكما يرى ستروس يعيد انتاج الاسطورة ويبرهن على الكيفية التي ينتج بها علماء التحليل النفسي أساطيرهم الخاصه (43). والتي مفادها ان الاولاد المهددين بالخصي، سيقومون بذبح أبيهم في نهاية الامر، وسيتودهم الندم الى تبجيله وتقديسه من جديد، في هيئة الاب / الطوطم, وهذا ما يفعله المثقفون العرب من وجهة نظر طرابيشي, الذي يطبق عليهم وبحرفية مدهشة حكاية فرويد، وكان يا ما كان كما يعلق عليها إ.إيفانز برتشارد الانثر بولوجي البريطاني. (44). خاصة وان منهج طرابيشي في هذا المجال, وعلى كثرة مثالبه, هو منهج عريق على صعيد المؤلف, يرافقه كظه, منذ ان كتب كتابه الموسوم ب"عقد أوديب في الرواية العربية " والصادر مع بداية عقد الثمانينات.

أعود للقول أن مخاوفي لم تمنعني من قراءة كتاب "نظرية العقل "وتجشم عناء السفر في اسفاره, والوقوف عند نزعته السجالية المبثوثة في ثناياه، والتي هي بمثابة مرآة عاكسة لتوجه ايديولوجي يرى الجابري على أنه عتبة ابستمولوجية بحضوره الكبير وبقدرته على إثارة اشكالات معرفية يحاصر بها القارىء وهذا واحد من مكامن قوة خطابه كما يرى طرابيشي (45). وفي رأيي ان فضيلة الجابري تكمن هنا، وفي قدرته عل خوض غمار المفاهيم, وفي إثارة اشكالات معرفية هي بمثابة المسكوت عنه في خطابنا العربي المعاصر، وفي تطويعه للمفاهيم في درا سته لـ" بنية العقل العربي" و«العقل السياسي العربي" وأقول تطويعه وليس قياسه, فالجابري يقوم باستئناس المفاهيم وتطويعها كما في قراءته لمفهوم "اللاشعور السياسي " عند ريجيس دوبريه, رافضا منطق القياس بدلا من الاستئناس الذي ساد في أروقة الخطاب العربي المعاصر، وفي فتح الباب على مصراعيه لحوار حقيقي وبناء، ولكن ضعف تتاليا الحوار البناء في خطابنا المعاصر، هو الذي غيب الحوار الحقيقي لصالح حوار الطرشان ولصا لح الاتهام والتخوين والمساجلة, بصورة أدق لصالح العقلية السجالية كما نعتها برهان غليون في "اغتيال العقل " والتي من شأنها اغتيال العقل (46). ولكن هذا لا يعني غياب الحوارات البناءة, واشير الى الحوار بين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري تحت عنوان "حوار المشرق والمغرب "(47). وبين الجابري وآخرين في الندوات العلمية العديدة. أضف الى ذلك الدراسات العديدة التي طالت أعمال الجابري، وقد ساهمت شخصيا، في حوار هادىء حول «نظام العرفان " كما جاء في كتاب الجابري الموسوم بـ" بنية العقل العربي" واعتبرت فيه أن مفهوم الجابري للامعقول الذي يشكل الاسطوري متنه, لا يزال يعتريه بعض القصور، لا بل أنه لما يزل بعد محكوما بالاطر المؤدلجة التي حكمت التيار المتياسر في نظرته اللاتاريخية للاسطورة, دون ان ينتقص هذا من قيمة الحفريات الهامة التي قام بها الجابري في,"الاسطورة الهرمسية "، وتغلغلاتها في ثنايا العقل العربي، عند الشيعة "أول من تهرس في الاسلام " على حد تعبيره, وهي حفريات غير مسبوقة أبدا(48).

من الاعجاب بالجابري، الى رميه بالاتهامات الخطيرة, هذا هو مسار العلاقة بين طرابيشي وبين الجابري، والذي يتكشف عن ارادة نفي تتمفصل مع ارادة ايديولوجيا ترمي الى تسديد الضربة القاضية للجابري، فقد كتب الباحث طرابيشي في مجلة الوحدة وف عددها الاول 1984، يثني على أطروحة الجابري عن "تكوين العقل العربي، 1984" ويبدي اعجابا لافتا للنظر بقدرة الجابري وبارادة المعرفة التي تحكم خطابه, وها هو يعود بعد ثماني سنوات ليبني "نظرية العقل " في نقد نقد العقل العربي، نظرية يصل مداها الى (375) صفحة من القطع الكبير، وتتمحور حول الصفحات الثلاثين الاول من كتاب الجابري الموسوم بـ" تكوين العقل العربي" الى درجة يصح فيها التساؤل وهل يستحق هذا كل هذا الجهد؟ وبالطبع فان جواب طرابيشي ان هذا يستحق كل هذا الجهد الذي يتشرف الى بناء "نظرية العقل ".

يبحث طرابيشي أولا، في أصول نظرية العقل عند الجابري، والتي تعود بمرجعيتها الى التمييز المشهود الذي أجراه الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند، بين العقل المكون وبين العقل المكون, الاول ويقصد به الجابري "النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادىء". أما الثاني أي العقل المكون فهو "منظومة القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما، والتي تعطي لها خلال تلك الفترة قيمة مطلقة "(49).

يسوق طرابيشي ملاحظات خمسا حول التمييز السابق الذي اقامه الجابري، إلا أن أهم هذه الملاحظات التي تظهر بمثابة نتيجة يقرنها طرابيشي بدقة الباحث بالأدلة والقرائن, هي ان الجابري لم يتعرف ال لالاند، ولم يقرأه في مظانه الاصلية, وبخاصة كتابه الذي يعتمد فيه معيار التمييز بين العقل المكون والعقل المكون, وإنما قرأه من خلال المعجم المدرسي الذي عمله بول فوكييه والموسوم بـ"معجم اللغة الفلسفية ". انه اتهام خطير يسوقا طرابيشي ويعززه بكثرة من الأدلة والشواهد، اتهام يطال النزاهة العلمية المفترضة لدى مفكر كبير مثل الجابري (50).

إن غياب المعرفة بنظرية لالاند، في مصدرها الاصلي, هو الذي دفع الجابري كما يرى طرابيشي, الى اهمال قيمة العقل المكون ووظيفته التوحيدية على صعيد المجتمع مما دفع الجابري الى اصدار أحكام قيمة سلبية بحقه - اي بحق هذا العقل - لا بل فقد دفعه الى أحضان الايديولوجيا، فقد تصور الجابري العقل, على انه نوع من حرب آلية دائمة على حد تعبير طرابيشي, بين العقل المكون والعقل المكون انتهت بانتصار الجابري الى جانب الاول على حساب الثاني، ومهدت بالتالي الى سلسلة انتصارات, فقد انتصر الجابري ابستمولوجيا للعقل البرهاني على حساب العقل البياني، وانتصر ايديولوجيا للعقل "السنيدد على حساب العقل الشيعي، وانتصر جغرافيا لمعقول المغرب ممثلا بابن رشد على لا معقول المشرق كما مثله الفكر الصوفي عند ابن عربي(51)

من وجهة نظر طرابيشي ان سلسلة الانتصارات هذه التي تستند الى فهم مجتزأ للعقل, فوتت على الجابري المشغول بشواغل ايديولوجية وهواجس ظرفية جامحة, فرصة تطوير موقف نقدي فعلا من هذا العقل, والسؤال هو اذا سلمنا بصحة هذه الاتهامات وخطورتها فالى أي مدى تساهم هذه الاتهامات في بناء "نظرية العقل " أم انها سوف تساهم في "اغتيال الختل "

أثينا السوداء: في نقد مركزية الجابري

في كتابه الموسوم بـ"نحو نظرية للثقافة, 1989 " ينتقد سمير أمين التمركز الاوروبي، لنقل على حد تعبيره التشوه الاوروبي التمركز وكذلك التمركز الاوروبي المعكوس في منطقتنا العربية, وفي اطار نقده للثقافوية الاوروبية المتمركزة على ذاتها، يستشهد سمير أمين بأطروحة مارتان بر نال الموسوم بـ"أثينا السوداء: اختلاق اليونان القديمة ". فمن وجهة نظر برنال أن قصة "الاسلاف الا غريق " هي قصة خرافية تماما ومثيرة للعواطف ولا تمت للحقيقة التاريخية بصلة, والحقيقة أن قدماء الا غريق كانوا يعتبرون أنفسهم "تلاميذ" الشرق, الذي تعلموا منه مبادىء الحضارة والفكر.

وفعلا فقد أكد قدماء الاغريق أكثر من مرة, أنهم تتلمذوا عند قدماء المصريين والفينيقيين, ولم يروا أنفسهم رمز "التعارض للشرق " كما يصورهم المذهب الاوروبي التمركز، وقد ذهبوا الى أبعد من ذلك عندما راحوا ينسبون لانفسهم أسلافا مصريين ولو على سبيل الاسطورة, على ان هذه النسبة الوهمية تقوم دليلا على احترامهم الجليل "للشرق " وتوقيرهم لقدماء المصريين. وقد اوضح بر نال ان ما سمي بـ"الحماسة اليونانية " انما هي ظاهرة حديثة نشأت في سياق عنصرية حركة الرومانتيكية الاوروبية للقرن التاسع عشر، وقد فرضت هذه الحالة عل الدعاة بها، أن يقوموا بعمليات بهلوانية في مجال علم اللغة, من اجل اثبات أطروحتهم, في حين ان الحقيقة التاريخية تشير الى ان اللغة اليونانية القديمة قد استعارت نصف معجمها للألفاظ من اللفات الحية آنذاك المصرية والفينيقية الامر الذي يدل, بلاشك على عمق تأثير الفكر المصري والفينيقي على تكوين الفكر اليوناني.(52)

لا يعني هذا بتاتا التقليل من دور اليونان وإنما الرد عل دعاة المركزية والعنصرية والذين يتكاثرون كفطر ذري وفي جميع الاتجاهات.

اذا كان سمير أمين قد اكتفى بشاهد واحد ليثبت خطر التمركز الاوروبي فان جورج طرابيشي في "نقد نقد العقل العربي" يأتي بفيض لا متناهي من الامثلة والحقائق التي تدحض كل اشكال التمركز، التمركز الاوروبي والتمركز المعكوس والذي خير من يعبر عنه من وجهة نظره هو محمد عابد الجابري. فمشروع الجابري لنقد العقل العربي ينطوي على مفارقة كبرى تتمثل في أن نظرية العقل بالكيفية التي يوظفها الجابري تتحول الى تعبير من تعابير المركزية الاثنية, فالمقاربة الجابرية وعلى حد تعبير طرابيشي لابستمولوجيا العقل لا تلبث ان تترجم نفسها حالا الى مركزية اثنية شرسة على صعيد انثربولوجيا الحضارات.

في سعيه الى تفكيك اشكالية الجابري التأسيسية يقوم طرابيشي باعادة بناء الاشكالية الجابرية على شكل محاكمة تتكون من مقدمات ونتيجة:

 1- المقدمة الكبرى: التفكير في العقل درجة في المعقولية أسمى من التفكير بالعقل.

2- المقدمة الصغري: العرب واليونانيون والاوروبيون وحدهم مارسوا التفكير في العقل, بينما لم تمارس الحضارات القديمة الاخري سوى التفكير بالعقل, هذا ان لم نقل إنها لم تمارس أصلا سوى "التفكير اللاعقلي ".

3- النتيجة: اذن درجة العرب (واليونانيين والاوروبيين) من المعقولية - او العقلانية بتعبير أدق - أعلى من درجة الهنود والصينيين والبا باليين... الخ (53).

يحارب طرابيشي على جبهات ثلاث وذلك في اطار سعيه الى تفكيك اشكالية الجابري، فمن وجهة نظره أن لا وجود لمعجزة يونانية بدئية مارست التفكير في العقل, فالعقل البشري هو ثمرة تراكم تاريخي ولا بداية مطلقة فيه كما يزعم الباحثون ومنهم محمد عابد الجابري الذي يساهم في اعادة انتاج الرؤية المركزية الاثنية الاوروبية عن اليونانيين "كشعب من العقلانيين " والى تأسيس العملاقية المفترضة لـ"العقل اليوناني" على حساب تقزيم الاسهام التاريخي لشعوب الحضارات القديمة في تطوير العقلانية البشرية "(54).

إن الجابري الذي يحيلنا الى اشكالية ابستمولوجية تتمثل في القول ان اليونانيين والعرب والاوروبيين وحدهم مارسوا التفكير في العقل والتفكير النظري العقلاني الذي سمح بقيام معرفة علمية او فلسفية او تشريعية منفصلة عن الاسطورة والخرافة يحيلنا بالحقيقة الى نص "خطير" وعلى حد تعبير طرابيشي وأول أوجه خطورته انه لا يحيل قارئه الى أي مرجع مما يعني ضمنيا أن جميع المعاني الواردة فيه من عنديات الجابري وبنات افكاره, اي ان الجابري هنا يركن الى الشائع والمألوف بصورة أدق انه يحتمي بالمركزية الغربية ليحمي بها مركزيته وليقوم بتمريرها، فالمركزية الاثنية الموسعة التي يصدر عنها الجابري تبدو اكثر قابلية للتمرير واقدر على انتزاع اقتناع القارىء العربي من المركزية الاثنية الضيقة التي يصدر عنها مادح العقل الغربي. وهنا يفسح طرابيشي مجالا قليلا للتحليل النفسي الذي يلازمه كظله وذلك عندما يقول ان الاستراتيجية الباطنية لخطاب الجابري والمبطنة بغلاف ابستمولوجي تضرب عل الوتر النفسي فهي تفعل في اتجاه تضميد الجرح النرجسي للعرب منذ ان اكتشفوا أنفسهم على دوي مدفعية نابليون, متأخرين في مرآة الغرب المتقدم. فالقارىء العربي، أسير هذا الجرح الفاغر شفتاه بغير اندمال منذ نحو قرنين من الزمن, قد يطيب له أن يجد العقل الحضاري الغربي الذي ينتمي اليه وقد انزاح موقعه في سلم التقييم من سافله الى عاليه (55).

في عودته الى ما سمي بالمعجزة اليونانية العقلانية يستشهد طرابيشي بفيض من الدراسات الحديثة لاعلام الفلسفة والانثربولوجيا والمختصين في تاريخ اليونان القديمة ليثبت ان حظ اليونانيين من السحر والرقى والتعاويذ والدمى السحرية التي كانت تدفن في الارض بعد ان تصور على هيئة الشخص المراد ايذاؤه وقد نبه افلاطون الى انتشارها وطالب بانزال أقصى العقوبة بمعتنقيها والاعتقاد بآلية السحر وطقوس السحر الزراعي والعرافة التي كانت منتشرة بكثرة بين اليونانيين ليس اقل من حظ الشعوب الاخري ان لم يكن اكثر، وهذا يعني ان الوقوع في شراك المركزية الغربية لا يجد ما يسنده فالمعجزة الاغريقية خرافة عن حد تعبير مادتان بر نال.

ان اقصاء الحضارات الاخري (المصرية والهندية والصينية) عن دائرة التفكير في العقل ينطوي هو الآخر على قصدية واضحة من الجابري ولكنها مغلفة برداء ابستمولوجي. وهنا يستنجد طرابيشي بفيض من الدراسات الحديثة ليثبت ان هذه الشعوب على درجة من العقلانية عالية ولكن التراث الفلسفي الممتد من الفيلسوف الالماني فيفل الى اتباع واشياع الاثنية المركزية الاوروبية المعاصرين هم الذين قاموا باقصاء هذه الحضارات تحت وطأة نزعة نرجسية وايديولوجية واضحة ولا اساس علميا لها(56).

وفي رأيي أن فيض الاستشهادات التي يلجأ اليها صاحب نقد نقد العقل العربي تتجاوز الاطار الذي تحوم حوله لتصب في اطار نظرية العقل التي يطمح طرابيشي الى تكوينها والتي تؤكد على وحدة البنية العقلية عند البشر جميعا وبذلك لم يعد مبررا استخدام معيارية العقل في سباق التصفيات الحضاري؟

البعط الفلسفي في فقه الفقد:

ومحاولة مشرقية لرد الاعتبار؟

إذا كنا نتفق مع طرابيشي في سعيه الى اعادة الاعتبار للامعقول, فان السياق النظري الذي يحكم نقد النقد يفصح عن ارادة ايديولوجية تتحكم بالمشروع النظري، وعن ارادة نفي تسعي الى طرد محمد عابد الجابري من جنة الفكر، لكي أكون اكثر تحديدا، أرى ان السياق النظري لطرابيشي يظل مضمرا بأمرين, ومفصحا عن امر ثالث. الامر الاول وفيه يبيت طرابيشي للجابري أمرا يبدو واضحا في السياق العام لنقد النقد، فكثيرا ما أقلق طرابيشي هذا الحضور الكبير للجابري وما ازعجه اكثر هو هذا السكوت, لنقل الصمت الكبير على حد تعبير طرابيشي "فكأن هناك اجماعا محكوما بمعينات لاشعورية على التسليم للجا بري بمقدماته: فمادام موقع الذات في مملكة العقل مضمونا فلا بأس أن يكون المنفي هو النصيب المقدور للآخر" (57) لنقل ان ما يحرك طرابيشي والذي أمضى ثماني سنوات في قراءة الجابري كما يصرح بذلك, هو الخروج وكسر حاجز الصمت وليس هذا فحسب, بل دحض كل مقدمات الجابري دفعة  واحدة, واذا ما تذكرنا ان طرابيشي مشرقي ومن بلاد الشام اصابته سهام الجابري في نقده لعيوب "الخطاب العربي المعاصر" فهل يمكن القول ان نقد النقد يندرج في أفق يهدف الى اعادة الاعتبار للامعقول المشرقي الذي نعته الجابري بأنه نظام اللامعقول, ام انه يندرج في نفق لا يؤسس لنقد ولا لحوار نطمح اليه جميعا.

الامر الثاني: يظهر كنتيجة للأول, وسوف استخدم لفة التحليل النفسي التي يلجأ اليها طرابيشي في تفسير النكسات التي تمر بها الامة والفكر العربي معا، التي لجأ اليها طرابيشي في كتابيه الآنفي الذكر"المثقفون العرب والتراث " و" مذبحة التراث " وذلك لابين كيف ان هذه اللفة الاثيرة عند طرابيشي, تظهر عبئا على لغة النقد ويغدو طرابيشي أولى ضحاياها فبحسب هذه اللفة التي يسرف طرابيشي في استخدامها، فان الحضور الكلي للاب الذي يهدد الابناء بالخص والصمت, حيث الصمت هو التعبير الحي عن هذا الحضور، قد اقض مضجع الابناء الذين تحولوا من الاعجاب بالأب الى الكراهية له - هو نفس التحول الذي مر به الباحث طرابيشي الذي تحول من الاعجاب الكبير بالجابري الى درجة وصفه بالشمس, الى "نقد النقد"- فراحوا يضمرون للأب طريقة معينة للتخلص منه, ومن بين الجميع ينبري احدهم وينذر نفسه للمهمة, فيقتل الأب ثم يشاركه الجميع القتل (الوليمة الطوطمية).

والحقيقة ان طرابيشي يقوم بـ"بعط الجابري» والبعط, لغة, الذبح, يقال بعط الشاة وشحطها اذا ذبحها, والبعط والابعاط كما يقول اللسان, الغلو في الامر، ويقال الدابة تبعط اذا ذبحت وما زالت تتحرك في غير اتجاه. وهذا ما يفعله طرابيشي, اذ ان لغة البعط عنده أثيرة وتتنامى بشكل مذهل تتجاوز فيه لغة النقد وتصل الى ذررتها عندما لا يكتفي طرابيشي باتهام الجابري، بأنه لا يحسن القراءة واعتماد المفاهيم في مضامنها الاصلية, بل يدفع باتجاه القول ان الجابري نموذج معاصر للسرقات الادبية والفكرية, وهنا يقوم طرابيشي باقامة الحد على الجابري، يقول طرابيشي: اداننا مضطرون الى ان نمضي في الاتهام الى ابعد من ذلك نظرا الى ان تكتم الجابري على مصادره او تزييفه لها في حالات محدودة, يرغمنا على ان نعيد فتح باب من أبواب النقد التقليدي القديم الذي بدا وكأن النقد الحديث قد اغلقه نهائيا. باب السرقات الادبية, او الفكرية في الحالة التي نثبتها هنا"(58). وستتوالى الاتهامات للجا بري وآخرها اتهامه بالطائفية وحيث لم تنفع مرافعاته بازالة التهمة عنه.

يكتب باحث عربي تحت عنوان "قراءة ما لم يقرأ» ما يلي: ان القراءة هي في حقيقتها، نشاط فكري لفري مولد للتباين, ومنتج للاختلاف, فهي تتباين, بطبيعتها، عما تريد بيانه, وتختلف, بذاتها، عما تريد قراءته. وشرطها، بل علة وجودها وتحققها ان تكون كذلك, اي مختلفة عما تقرأ فيه, ولكن فاعلة في الوقت نفسه ومنتجة باختلافها، ولاختلافها بالذات "(59). الاختلاف مطلوب, فهو اغناء لواقع نريده هكذا، اما القراءة التي تقود الى الخلاف, وتؤول الى احضان العقلية التأمرية, وتستمد وجودها من ارادة نفي تتحكم فيها، فهي بدورها تدمير لواقع وطموح. انها نظرة احادية وحدية تقطع بسيفها كل اشكال التباين والاختلاف, وتحيلنا الى ساحة من المواجهة بين من أملنا فيهم خيرا.

الهوامش والمواجع

1)- خلدون حسن النقيب, العقلية التامرية عند العرب.، ضمن كتابه (في البدء كان

الصراع, دار الساقي بيروت, 1997) ص 177_ 198.

2)- برهان غليون, اغتيال العقل (بيروت, دار التنوير، 1987) ص 43_66

وبالاخص الفصل المعنون بـ «الحقل السجالي ».

3)- مصطلح «المتياسرين العرب » للجابري في وصفه لموقف اليسار المغربي من الدين والذي ينم عن نزعة طفولية واعتباطية في تناول الظاهرة الدينية.

4)- خلدون حسن النقيب, في. البدء كان الصراع, ص 177.

5)- لطفي الخولي وابوسيف يوسف, اليسار العربي الراديكالي, ضمن كتاب دراسات في الحركة التقدمية العربية (بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية, 1987)ص17-35.

6)- مكسيم رودنسون, جاذبية الاسلام, ترجمة الياس مرقص (بيروت, دار التنوير، 1982) ص 10- 11.

7) - ادوارد سعيد، الاستشراق, نقله كمال أبو ديب (بيروت, مؤسسة الابحاث العربية, 1981) ص 314.

8)- المصدر السابق, ص 171-172.

9)- احسان مراشي, مدخل الى تطبيق الماركسية في الواقع العربي (بيروت, دار

الحقيقة, 5 197).

10)- نديم البيطار، من الاستشراق الغربي الى استشراق عربي، ص 51 1-196. ضمن كتابه حدود الهوية القومية (بيروت, دار الوحدة, 1962).

11)- صادق جلال العظم, الاستشراق والاستشراق معكوسا (بيروت, دار الحداثة, 1981) ص 27.

12)- نديم البيطار، المصدر السابق, الصفحات 153, 5 19، 188، 182.

3 1)- صادق جلال العظم, المصدر السابق, ص 22.

14)- المصدر نفسه, ص 23. 

15)- المصدر نفسه, ص 23.

16)- نديم البيطار، المصدر السابق, ص 184.

17)- غالي شكري، بيانان من اجل الاسلام السياسي، الناقد، العدد(2ا)، حزيران / يونيو 1989.

18)- مهدي عامل, ماركس في استشراق ادوارد سعيد، مجلة الكرمل, العدد (6)، ربيع 1982، ص 5 3-68 وقد صدرت هذه مؤخرا في كتيب.

19)- المصدر السابق, ص 47.

20)- المصدر نفسه, ص 35.

21)-  المصدر نفسه, ص 39.

2 2)- محمد عابد الجابري، مسألة الهوية (بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية, 1995) ص 134.

23)- حازم صدغية, ثقافات الخمينية: موقف من الاستشراق ام حرب على طيف (بيروت, دار الجديد، 5 199) ص 16.

24)- المصدر نفسه, ص 91.

5 2)- المصدر نفسه ص 68.

26)- المصدر نفسه, ص 160.

27)- المصدر نفسه, ص 67-68.

28)- أنور عبدا لملك, الاستشراق في ازمة, ترجمة حسن قبيس, مجلة الفكر العربي، العدد ( 31)، ص 70-105، آذار/ مارس 1983.

 29)- أنور عبدا لملك, ريح الشرق (القاهرة, دار المستقبل العربي، 3 198)، راجع

ايضا كتابه الموسوم بـ «تغيير العالم » سلسلة عالم المعرفة, 1986.

 30)- فؤاد زكريا، «العلاقة بين الشرق والغرب: اوهام الرؤية الاستراتيجية »، مجلة العلوم الاجتماعية, المجلد 15, العدد 4، ص 301-  303شتاء 1987.

 31)- المصدر نفسه, ص 309.

32)- المصدر نفسه، ص 10 3.

33)- المصدر نفسه, ص 323.

34)- محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر (بيروت, دار الطليعة, 1985) وقد صدر مؤخرا عن مركز دراسات الوحدة العربية.

35)- الطيب تيزيني، "من الاستشراق الغربي الى الاستغراب الشرقي»، مجلة العربي، العدد ( 350)، كانون الثاني/ يناير 1988, ص 147- 1 5 1.

36)- الطيب تيزيني، المصدر نفسه, ص 150.

37)- تركي علي الربيعو، الاصنام النظرية في خطابنا المعاصر، ضمن كتابنا

الموسوم بـ «في خيارات المثقف» (بيروت, دار الكنوز الادبية, 1998).

 38)- الطيب تيزيني، «ندوة ازمة الفكر السياسي العربي»، ص 188، مجلة الوحدة, العدد 46/747 تموز/ آب 1988.

39)- الطيب تيزيني، في السجال الفكري (بيروت, دار الفكر الجديد، 1990).

40)- طه عبدالرحمن, تجديد المنهج في تقويم التراث (بيروت, المركز الثقافي العربي، 1994).

41)- الطيب تيزيني، من الاستشراق الغربي الى الاستغراب المغربي (دار المجد ودار الذاكرة, سوريا، 1996).

42)- عبدالله العروي، مفهوم العقل (بيروت, المركز الثقافي العربي، 1996).

 43)- كلود ليفي ستروس, الاناسة البنيا نية, ترجمة حسن قبيسي (بيروت, المركز الثقافي العربي، 5 199) ص 238.

44)- إ.ايفانز برتشارد، الاناسة المجتمعية, ترجمة حسن قبيسي (بيروت, دار الحداثة, 1986) ص 202.

45)- جورج طرابيشي, نظرية العقل: نقد نقد الحقل العربي (بيروت, دار الساقي، 1996) ص8.

46)- برهان غليون, اغتيال العقل, ص 43.

47)- محمد عابد الجابري وحسن حنفي، حوار المشرق والمغرب, وهي سلسلة حوارات أجرتها مجلة اليوم السابع في باريس وقد صدرت في كتاب يحمل هذا الاسم.

48)- انظر محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي (بيروت, مركز دراسات الوحدة العربية, 1986). وانظر كتابنا الموسوم بـ «الاسلام وملحمة الخلق والاسطورة "، (بيروت, المركز الثقافي العربي، 1992).

49)- طرابيشي, المصدر السابق, ص 15.

50)- المصدر نفسه ء ص 15.

51)- سمير امين, نحو نظرية للثقافة (بيروت, معهد الانماء العربي، 1989).

 52)- طرابيشي, المصدر السابق, ص 70.

53)- المصدر نفسه, ص 33.

54)- المصدر نفسه, ص 25-117.

55)- المصدر نفسه, ص 5 2-117.

56)- يؤكد طرابيشي مرارا على ان الجابري قد بات بمثابة عقبة ابستمولوجية في الفكر العربي المعاصر لانه اغلق باب التأويل والاجتهاد، ص 8.

57)- طرابيشي, المصدر نفسه, ص 27.

58)- انظر دفاع الجابري عن نفسه, في جريدة المستقلة 28 ابريل / نيسان 1997، والذي يؤكد فيه بأنه لم يعر احدا بطائفيته, وانه ابعد ما يكون عن المركزية التي أتهم فيها.

59)- علي حرب قراءة ما لم يقرأ. ضمن كتابه نقد الحقيقة (بيروت, المركز الثقافى العربي، 1993) ص 5-28. ومن وجهة نظر علي حرب في كتابه الصادر حديثا والموسوم بـ «الماهية والعلاقة ". المركز الثقافي العربي بيروت, 1998) وفي اطار تعليقه على مجريات الامور بين طرابيشي والجابري ان طرابيش والجابري يصدران عن نفس السلوك الفكري، وهو سلوك يقوم على ارادة الالغاء من جهة. وممار سنة الامبريالية المعنى من جهة أخرى » ص 184.

 


Nizwa 17


#تركي_علي_الربيعو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخطاب النسوي المعاصر قراءة في خطاب نوال السعداوي وفاطمة الم ...


المزيد.....




- وزير إسرائيلي لنتنياهو: يجب استبعاد أردوغان من أي دور في مفا ...
- عدوى احتجاجات الطلاب تصل إلى جامعات أستراليا.. والمطالب واحد ...
- -حزب الله- ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي عند الحدود ...
- كينيدي جونيور يعارض ضم أوكرانيا للناتو
- لم يبق سوى قطع العلاقات.. تركيا توقف التجارة مع إسرائيل
- اشتباكات مع القوات الإسرائيلية شمال طولكرم وقصف منزل في دير ...
- الاتحاد الأوروبي يعتزم اتخاذ إجراءات ضد روسيا بسبب هجمات سيب ...
- شهداء ودمار هائل جراء قصف إسرائيلي لمنازل بمخيم جباليا
- اشتباكات بين مقاومين والاحتلال عقب محاصرة منزل في طولكرم
- وقفة أمام كلية لندن تضامنا مع الطلاب المعتصمين داخل الحرم ال ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تركي علي الربيعو - عقلية تآمرية واتهامات؟