لمحة عن حياة القائد الشيوعي الأردني فؤاد نصار

عناد أبو وندي

الحوار المتمدن-العدد: 2719 - 2009 / 7 / 26 - 09:13
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    

انخرط القائد الشيوعي فؤاد نصار الأمين الأول للحزب الشيوعي الاردني (من مدينة الناصرة ) منذ صباه الباكر في صفوف النضال وظل وفيا له حتى غيبه الموت عام 1976 حيث كرس كل ذرة من نشاطه لخدمة شعبه والدفاع عنه وكان وجها من وجوه الحركة الشيوعية العالمية وقائدا بارزا في حركة التحرر الوطني العربية .
ان الحديث عن قائد بحجم فؤاد نصار صعب للغاية ولكنة حافزا لكل الشرفاء كما انه مجرى حياة الرفاق الأردنيين الذي يعكس تاريخ الأردن وفلسطين المعقد.
وعاش فؤاد نصار سنوات فقر في وقت كان دخل العائلة يقتصر على الراتب الضئيل لوالده معلم المدرسة.
بعد ان ترك المدرسة تعلم فؤاد نصار مهنة صنع الأحذية. ثم اخذ يعمل ويعيش في وسط استيقظ فيه الحس الوطني، وأخذ يؤثر على التربية الوطنية للأفراد. فلقد أصبحت الأرض الفلسطينية التي كانت كسوريا ولبنان والعراق وشرق الأردن تابعة للدولة العثمانية حتى عام 1918 تحت الانتداب البريطاني. ولم يتحقق أمل العرب بعد خروج العثمانيين فتصبح دولتهم الخاصة. اذ اقتسمت بريطانيا وفرنسا الممتلكات التركية فيما بينهم ونشأ وضع خطير في فلسطين بشكل خاص. فلقد وعدت بريطانيا العظمى الحركة الصهيونية بموجب بيان بلفور عام 1917، انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبذلك بدأت هجرة صهيونية قوية مرتبطة بطرد الفلاحين العرب من أراضيهم. وقد أدى هذا الى أعمال المقاومة.
في عام 1929، الذي يعتبر عام انتفاضة فلسطينية كبرى، يشارك فؤاد نصار صانع الأحذية في المظاهرات وكانت السلطات البريطانية قد حكمت على ثلاثة وطنيين فلسطينيين بالموت، وخرجت المظاهرات تطالب بوقف التنفيذ ولاول مرة في تاريخ حياته يدخل فؤاد نصار السجن لمدة أسبوع ويقول فؤاد نصار: " كان هذا بداية نضالي ومنذ ذلك الحين اشتركت في النضال في كل مناسبة".
في عام 1939 تصل المقاومة العربية في اوجها في فلسطين. غير أنها لم تقتصر هذه المرة على مجرد المظاهرات. فلقد تشكلت بطريقة عفوية مجموعات أنصار مسلحة وانتقلت الى الجبال وأخذت تهاجم المستوطنات الصهيونية، وبشكل اشد مراكز الاستعمار البريطاني. وفي نداء من الحزب الشيوعي الفلسطيني في 10 حزيران 1936 جاء ما يلي:- لا يمكن للشعب العربي المسلح بأسلحة بدائية الا ان يسلك طريق الكفاح المسلح بواسطة الأنصار، ضد جيش مدجج بالطائرات والدبابات المجهزة بأحدث ما وصل اليه التكنيك الحديث.
يعتبر عام 1936 نقطة تحول في حياة فؤاد نصار . يقول" كنت أفكر دائما ما هي افضل الطرق لتحرير بلادنا ". ان اضطرابا عاما لمدة ستة أشهر لم يسفر عن أي تقدم ملموس. وهكذا يقوم فؤاد نصار بتشكيل مجموعة أنصار صغيرة. غير انه يعتقل بعدها مباشرة ويقدم للمحكمة بتهمة القيام بنشاط سياسي ، ودون ان تعلم السلطات البريطانية عن امر المنظمة المسلحة. واما الاتهام فكان كما يلي: " تشكيل منظمة سرية معادية للانتداب والقيام بنشاط شيوعي بالطبع لم أكن شيوعيا في ذلك الحين. ولكن اذا كانت السلطات الاستعمارية تكره هؤلاء الناس الذين تسميهم شيوعيين فلا بد ان يكونوا أناسا طيبين".
قال فؤاد نصار.
كان قد تشكل الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1919 من عمال مهاجرين يهود، واكتسب في السنوات العشرة الأوائل جماهيرية بين السكان اليهود فقط. وتعرض الحزب لمقاومة شرسة. فقد اتحدت سلطة الانتداب البريطاني مع قيادة الحركة الصهيونية والرجعية والإقطاعية العربية بهدف مقاومته. ونشرت السلطات البريطانية كتيبات باللغة العربية تتضمن المقالات المبتذلة التي كانت شائعة في حينه والمعادية للشيوعية. ويذكر فؤاد نصار بعض عناوين هذه الكتيبات بتوجس وعدم ثقة. كانوا يسائلون أنفسهم: لماذا يكره الاستعماريون هؤلاء الناس بشدة؟
وقد حفزت هذه الكتيبات فؤاد نصار ليفكر بأمر الشيوعيين. في عام 1936 تعرف على شيوعيين مناضلين ضد الاستعمار مثله. وكان فؤاد نصار قد أجاب على اتهام القاضي له بالشيوعية قائلا: " اذا كان الامر هكذا ، علي ان أفتش عن الشيوعيين". وحكمت عليه المحكمة الإدارية البريطانية بالسجن لمدة عام تليه عام أبعاد. ولكن نتيجة لإضراب عام في البلاد أطلق فؤاد نصار مع غيره من المعتقلين، بعد ستة أشهر من اعتقاله وخلال أقامته الجبرية في الخليل اعتقل مرة أخرى وحكم. وفي سجن عكا جاءه ثلاثة من الشيوعيين اليهود سمعوا بان رفيقا احضر للسجن. وهنا تسائل فؤاد نصار: " لماذا يسجن الإنجليز يهودا ايضا " ؟ وبدأ الرفاق الثلاثة يحدثون قصتهم كان الصهاينة وجهوا لهم تهما وحكمت عليهم السلطات البريطانية بالأبعاد خارج البلاد. وضعوا على ظهر سفينة واخرجوا. وفي كل مكان يصلونه كانت السلطات ترفض السماح لهم بالهبوط، ولهذا كانوا يعادون في كل مرة للسجن في فلسطين. "وهنا أدركت "قال فؤاد نصار" ان لنا حلفاء بين العمال اليهود". " وتعرفت عبر نقاش طويل مع هؤلاء الشيوعيين على أسس وقضايا النضال الطبقي والقضية الوطنية."

سنــــوات حافلة بالنضال
ومنذ ذلك الحين بدأ فؤاد نصار يقم اتصالا مع الشيوعيين ويدرس الماركسية اللينينية، ويقرأ صحف الحزب. وبعد ان خرج من السجن فر الى الخليل، حيث التحق بالنضال المسلح. سافر عام 1938 الى سوريا وعاد مع مجموعة أنصار مسلحة في أوائل عام 1939 الى فلسطين. وبقي حتى نهاية 1939 في منطقة القدس وفي هذا الوقت ينتهي العمل المسلح. لم تكن هناك قيادة عسكرية موجودة ولا أهداف نضال محدودة، وكانت القيادة التقليدية تساوم دائما مع السلطات الاستعمارية. كما كانت غير قادرة على تعبئة الجماهير. وقد استعمل الجيش البريطاني المدعوم من الصهاينة، اشد العنف ضد المناضلين الفلسطينيين ولهذا تساقطت المجموعات المسلحة الواحدة تلو الأخرى. واما فؤاد نصار وكان واحدا من آخر الأشخاص الذين القوا السلاح ، فقد غادر بعد ذلك البلاد .
ثلاث سنوات في المهجر حافلة بالنضال. إقامة في العراق وفرار الى إيران التي أعادته الى العراق. سجن لمدة خمسة عشر شهرا في العراق في هذا الوقت أقام اتصال أوثق مع الشيوعيين وتعرف الى شيوعيين عرب بارزين. في عام 1943 عاد الى فلسطين، كانت سلطات البوليس العراقية قد اعتقلته وسلمته لسلطات شرق الأردن التي قامت بدورها بتسليمه لسلطات الانتداب التي وضعته تحت المراقبة في القدس، وسمحت له فيما بعد بالإقامة الجبرية وتحت المراقبة في مدينة الناصرة.
في هذا الوقت برزت حركة نقابية قوية في مدينة الناصرة. تميزت بالنضال ضد القيادة اليمنية. وكانت المسألة تدور حول توحيد جميع المنظمات العمالية العربية ،لان اتحاد نقابات العمال اليهودية( الهستدروت) لم يكن يقبل العمال العرب في صفوفه, وتأسس في عام 1945" مؤتمر العمال العرب في فلسطين" باشتراك نشيط من جانب فؤاد نصار. وقد اعترفت به نصف المنظمات العمالية العربية. وانتخبت فؤاد نصار سكرتيرا عاما له.
في نفس الوقت تقريبا كان جميع الشيوعيين الفلسطينيين العرب قد وحدوا أنفسهم في منظمة سميت" عصبة التحرر الوطني" وكان قد جاء الكثيرون منهم من الحزب الشيوعي الفلسطيني. وهذا الحدث عام 1943 يعتبر ايضا تاريخ تأسيس الحزب الشيوعي الاردني . وفي عام 1944 انتخب فؤاد نصار واحدا من أربعة أمناء لعصبة التحرر. ان من السهل ان يسجل المرء هذا، ولكن عليه ان يتصور ماذا يعني كل هذا في الأردن: انه يعني العيش بعيدا عن العائلة، والسجن او الحياة السرية أي الحياة الدائمة في الخفاء او التعرض لاعتقال البوليس في أية لحظة.
كل هذا في سبيل النضال الحزبي. ان فؤاد نصار قاس مع نفسه، فهو يعيش مثلا لرفاقه وكمناضل لا يعرف المساومة او الكلل، فهو يتمتع ايضا بتقدير وثقة غير الشيوعيين. ومع كل هذا فإن هذا الشيوعي الثابت يصمد كل سنين الملاحقة والحرمان من العطف الإنساني، ويحافظ في نفس الوقت على مرحله اللاذع، غالبا ما كان يثير حفيظة أعداء الحزب.
في عام 1948 تم تقسيم فلسطين وتأسيس دولة إسرائيل على جزء كبير من فلسطين، أرض الانتداب . اما الجزء الذي لم تتمكن إسرائيل من احتلاله الواقع غرب نهر الأردن، فقد ضم للأردن. وهنا يجد رفاق عصبة التحرر أنفسهم على جانبي الحدود. ففريق منهم يظل تحت الحكم الإسرائيلي، وينضم للحزب الشيوعي الإسرائيلي، ويتوحد الفريق الباقي في القسم الذي ضم للأردن مع القوى الماركسية في شرق الأردن. وفي عام 1951 تسمى عصبة التحرر نفسها بـ الحزب الشيوعي الاردني. ويختار الرفاق فؤاد نصار كأمين أول للحزب. وبذلك يختارون وطنيا مجربا في النضال، وامينا حازما فهو يرى ان الموقف من الاتحاد السوفيتي هو محك للشيوعيين.



العمل في الخارج بعد اعتقال طويل
في العام الذي سمي به الحزب أصدرت الحكومة الأردنية تعديلا على قانون مكافحة الشيوعية، بحيث يعاقب عضو الحزب بالسجن مع الاشغال الشاقة المؤقتة من 3-15 سنة. وبذلك عمل الحزب بطريقة غير شرعية. في نهاية عام 1951 اعتقل فؤاد نصار وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات. وخفضت العقوبة فيما بعد لست سنوات.
في هذا الوقت وتحت مظلة انجلو أمريكية تم التخطيط لحلف إمبريالي في الشرق الأوسط هو حلف بغداد. وانتفض الشعب الاردني ضد هذا الحلف المعادي للشيوعية، ولعب الشيوعيين دورا بارزا في الانتفاضة. وتضطر الحكومة الأردنية للتخلي عن الدخول في الحلف ، كما تقوم بطرد رئيس أركان الجيش العربي كلوب الإنجليزي الجنسية. وسمحت الحكومة الأردنية فيما بعد بانتخابات برلمانية، اول انتخابات ديمقراطية في الأردن. ففي عام 1956 فاز الحزب الوطني الاشتراكي المعادي للإمبريالية، حزب رئيس الوزراء فيما بعد سليمان النابلسي بالأغلبية البرلمانية. اما الحزب الشيوعي الاردني المحظور ، فتقدم الانتخابات ضمن جبهة شعبية ويحصل على مقعدين في البرلمان. وهنا يتم إطلاق سراح فؤاد نصار من السجن. واثناء فترة حكومة النابلسي تحققت بعض نقاط برنامج الحزب الشيوعي الموضوع عام1951– و1948، واطلاق الحريات والحقوق الديمقراطية. ويقوم انقلاب في البلاد في نيسان عام 1957، وتسقط حكومة النابلسي وينتهي بذلك عمل الحزب العلني. وتمنع جميع الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية. ويتعرض الشيوعيين بشكل خاص لملاحقات شرسة ويدخل السجن 70 شيوعي لعدة سنوات. وبناء على قرار من الحزب يغادر فؤاد نصار للخارج للعمل من هناك.استمرت الملاحقات الفظيعة لمدة عشر سنوات. 1967 عام العدوان الإسرائيلي، تصاعدت الحركة المعادية للإمبريالية كما جرى بعض التحول في المنطقة. يتم إطلاق سراح الرفاق من السجن. ويبدأ الحزب بممارسة نشاطه نصف العلني ، على الرغم من انه وان كان يجري اعتقال بعض الرفاق لوقت قصير او طويل. وفي تموز عام 1967 جرى اجتماع موسع للجنة المركزية للحزب واقر البرنامج المرحلي للحزب الذي يحدد الخطوط الرئيسية للنضال في هذه المرحلة. ضد الاحتلال الإسرائيلي، من اجل حقوق العمال، ومن اجل تغييرات ديمقراطية في الأردن. وفي أيار من عام 74 يقر الحزب برنامجه. مهمات الحزب في المرحلة الراهنة. ونظرا لعدم التناسب في تطور الاقتصاد الاردني فإن الجزء الأكبر من الدخل الوطني يأتي عن طريق قطاع الخدمات. صحيح ان حصة الصناعة في الدخل الوطني ارتفعت من 50% الى 10% ما بين أعوام 1955 – 1956 . ولكن الجزء الأكبر من المصانع صغير ، وفقط 1.4% من القوى العاملة تعمل في مصانع بها 25 عاملا واكثر. اما القطاع الأساسي في الاقتصاد الاردني فهو الزراعة. والقرية الأردنية غالبا متخلفة، وهذا يعود ايضا للتركيب العشائري المعقد الذي يحافظ على العلاقات الاجتماعية البالية وأساليب الإنتاج المختلفة .

سياسة الحزب جبهوية بناءة
لقد عرف الحزب الشيوعي كيف يوسع قواعده في الطبقة العاملة برغم الصعوبات الموضوعية، وكذلك بين أوساط البرجوازية الصغيرة في المدن وبشكل خاص بين المثقفين. ويقوم الحزب بنشاط بين مختلف المنظمات الجماهيرية وبرغم كل الصعوبات، فان جريدة الحزب المركزية" الجماهير" تصل أوساط واسعة أن أحد مطالب الحزب هو أن تسلك الأردن سياسة خارجية معادية للإمبريالية وأن تشارك بشكل فعال في النضال ضد العدوان الإسرائيلي. وتتجه سياسة الحزب لتشكيل جبهة وطنية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الشيوعي، وهذا يعود لسبب تاريخي هو حزب الطبقة العاملة للشعبين الفلسطيني والأردني، ومنذ اليوم الأول للاحتلال الإسرائيلي يشترك الشيوعيون في المناطق المحتلة في مقاومة سلطات الاحتلال. وقد لعب الشيوعيون دورا أساسيا في تأسيس الجبهة الفلسطينية في المناطق المحتلة في آ ب 1973 التي هي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية. وليس من قبيل الصدفة أن عددا كبيرا من المعتقلين والمطرودين من قبل سلطات الاحتلال هم شيوعيين، من بينهم عدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب. إن أمل الإسرائيليين بتحطم نضال الحزب والجبهة الوطنية الفلسطينية ،ففي المجلس الوطني الفلسطيني وهو أعلى هيئة لمنظمة التحرير، خمسة من الشيوعيين من بينهم فؤاد نصار، كما أن اثنين من الحزب هم أعضاء في المجلس المركزي الفلسطيني.
ويقول فؤاد نصار، "لسنا دائما بالطبع مع وجهة نظر واحدة مع القوى الأخرى في منظمة التحرير ولكن بالرغم من ذلك فنحن نرى في منظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني . إننا نتفق مع منظمة التحرير في النضال ضد العدوان الإسرائيلي وفي قيام دولة وطنية فلسطينية وقد نشأت بيننا وبين القوى الأخرى في منظمة التحرير علاقات ثقة متبادلة وعمل رفاقي مشترك.


أبو خالد وثورة36
تحتل الثورة الشعبية التي انطلقت ضد الانتداب البريطاني والغزوة الصهيونية عام1936، مكانة مرموقة في تاريخ الشعب الفلسطيني ووجدانه، ومن بين القادة الذين تولوا مناصب مسؤولة في هذه الثورة واكتسبوا عن حق محبة الجماهير، يبرز اسم فؤاد نصار (أبو خالد)، كمثال ساطع للثوري الحقيقي والمناضل الصلب.
التحق بالثورة في مدينة الخليل التي كان منفيا فيها بعد حبسه لمده لنشاطه الثوري في مدينة الناصرة . وتولى مهامه القيادية مساعدا لقائد منطقة الخليل عبد الحليم الجولاني المعروف بـ(الشلف).
كان أبو خالد بنظرته الثورية الثاقبة يدرك ان الثورة فعل جماهيري تشارك فيه أوسع الأوساط الشعبية صاحبة المصلحة الحقيقية فيها. وعلى هذا فقد بادر منذ توليه مسؤولياته، الى تمتين الروابط بين الثورة وجماهير الفلاحين، باعتبارهم عماد الثورة وأداتها الرئيسية في ذلك الحين.
كانت سماته الديمقراطية تحكم طريقة تعامله مع الجماهير ومع من هم تحت أمرته ، فيعقد الاجتماعات الشعبية في القرى لتثقيف الفلاحين ثوريا والتعلم منهم في الوقت نفسه . وكان يبشر ان الثورة تنمو وتتطور من خلال هذا الارتباط العضوي بينها وبين قاعدتها الجماهيرية.
كان يحث الفلاحين على انتقاد التصرفات الخاطئة التي قد يرتكبها هذا الثائر او ذاك ، ويطالبهم بعدم التساهل تجاه أي خطأ قد ترتكبه الثورة او بعض عناصرها فالثورة ثورتهم وتنطلق باسمهم، وعليهم ان يصونوها من كل عبث وانحراف .
وكان يتشدد تجاه مظاهر التراخي وخرق الانضباطية ،ولا يتساهل حيال السلوك المتعالي او استغلال اسم الثورة فإنه كان يرعى رعاية شخصية كل فرد من الذين يعملون معه، ويتعامل معهم بروح ديمقراطية وعلى قدم المساواة.
وطبق المثل القائل" أول من يعمل وآخر من يرتاح "وكان لتواضعه ونكران الذات اللذان تحلى بهما ، موضع إعجاب كل الذين عرفوه وعملوا معه. ولا زال الكثيرون حتى اليوم ممن بقوا على قيد الحياة، يذكرون بالاحترام والتقدير ذلك القائد الثوري الذي عاش بين ظهرانيهم، فكان القدوة والمثال ورمز التفاني والشجاعة.
خاض أبو خالد الكثير من المعارك ضد الجيش البريطاني واظهر الى جانب الشجاعة الفائقة، مواهب عسكرية تجلت في الطريقة التي كان يخطط ويقود المعارك. كان دائما على رأس كل معركة بعد ان اصبح قائدا عاما لمنطقة القدس. وكان يرى بأن القائد الحقيقي هو ذاك الذي يخوض غمار كل معركة، وتتواجد في الموقع الساخن على وجه التحديد.
كانت منطقة القدس من أوسع مناطق الثورة في فلسطين، إذ تمتد رقعتها من حدود منطقة رام الله شمالا حتى مدينة الخليل جنوبا، ومن أريحا شرقا حتى مطار عاقر والنعناعه غربا ، ولهذا كانت معاركها تتسم بالتنوع والابتكار انسجاما مع طبيعة الموقع وظروف ميدان القتال .
لم يكن أبو خالد يركن الى أسلوب واحد في القتال. وكان يخطط سلفا للمعركة ويبادر بها، او يتصدى لمعركة مفروضة عليه، فقد ظل يمسك بزمام الموقف حتى في اللحظات الحرجة بهدؤ ورباطة جأش.
كان حريصا كل الحرص على مشاركة الجماهير من القرى المجاورة في كل معركة صغيرة أو كبيرة، وكان ينظر الى هذا الأمر باهتمام زائد، أيمانا منه بأن المشاركة الشعبية ليست فقط ذات أهمية بالنسبة للقتال، بل لأنها في الأساس تربط الثورة برباط عاطفي مع أوسع قاعدة جماهيرية ، ولان المعارك في حد ذاتها مدرسة تصقل النفوس وتربي الرجال.
قاد أبو خالد عشرات المعارك الناجحة، وكان أهمها معارك كسلا وعر طوف وأم الروس ومار اليأس ووادي فوكين وعلار، ففيها تجلت براعته القيادية في إدارة المعارك وإحراز النصر بأقل الخسائر، وفيها ذاع صيته في سائر أنحاء فلسطين.
وكانتا معركتي كسلا وأم الروس مفروضتين فرضا على أبو خالد بعكس بقية المعارك التي كان هو الذي يحدد أوقاتها، وأماكنها، إذ حاصره ومن معه الجيش البريطاني الذي تتبعه من قرية الطيبة حتى مشارف قرية كسلا.
وجد أبو خالد أن الظرف بات حرجا بعد طول الحصار والمطاردة ، وبدلا من ان يواصل اتخذ موقف الدفاع او اللجوء الى فك الحصار والانسحاب للجبل ، آثر ان يبادر بالهجوم بعد ان وزع قواته على نحو حكيم.
نشر رجاله على شكل مجموعات صغيرة ، وأوعز للقرى المجاورة ان تسد المنافذ التي يمكن ان تصل منها النجدات البريطانية، ثم أبقى معه مائة مسلح فقط، شن معهم هجوما مباغتا على القوات البريطانية التي باغتتها المفاجئة فسارعت تطلب النجدة ، وخلال أقل من ساعة اتسع نطاق الجبهة لتمتد من مشارف عجور غربا الى قرية حوسان شرقا ومن بيت جبرين جنوبا حتى أقصى شمال المنطقة .
لجأ أبو خالد الى أسلوب التمويه في نشر قواته، اذ تعمد ان يكشفها لطائرات العدو كي تبلغ بدورها عن أماكن تواجد الثوار فترسل الجيش الى هناك ، وقد رمى أبو خالد من وراء ذلك الى استدراج اكبر عدد من القوات البريطانية وبعثرتها هنا وهناك، ليسهل الانفراد بها وتكبيدها اشد الخسائر.
بعد هذه المعركة، أصدرت سلطات الانتداب حكمها بالإعدام على فؤاد نصار، ورصدت جائزة قدرها خمسة آلاف جنيه فلسطيني لقاء القبض عليه حيا او ميتا .
أثارت معركة الروس الحماس في النفوس، ورفعت معنويات سكان المنطقة الذين كانوا يعانون على يد السلطات البريطانية شتى صنوف القهر والإذلال. ومن جهة أخرى شكلت هذه المعركة نقطة تحول وأصبحت فاتحة لمعارك كبيرة أخذت تتوالى في المنطقة ، اذ بعدها مباشرة وقعت معركة مار اليأس على الطريق العام بين القدس وبيت لحم حيث كان الجيش البريطاني يسير على هذه الطريق دوريات مسلحة لضمان بقائه سالكا أمام النجدة التي قد يضطر لإرسالها في أوقات المعارك ، وكانت كل دورية مؤلفة من أربع مصفحات وست حاملات جنود، صمم أبو خالد على تدميرها وقتل من فيها، دون إفساح المجال لواحدة منها بالإفلات.
كانت الخطة تقضي بسد الطريق بالحجارة الكبيرة من الناحيتين، على ان تنتهي المهمة في اقصر وقت قبل ان تصل النجدة البريطانية. ولهذا كانت السرعة ووفرة عدد المهاجمين عاملين هامين في هذه المعركة ، على عكس الاسلوب الذي اتبع في معركة ام الروس والسبب هو في كون المعركة الحالية تنشب على طريق عام وعلى مقربة من مقري القيادتين البريطانيتين في كل من بيت لحم والقدس.
حشد أبو خالد للمعركة أربعمائة مسلح، وتقدم الى محاذاة الشارع العام وعلى بعد عشرة أمتار من الحاجز المفروض ان تتوقف عنده الدورية اضطرارا. وعند وصولها أعطي أبو خالد إشارة بالبدء بقنبلة يدوية ألقاها على الدورية.
عززت القوات البريطانية بعد ذلك قيادتها في مدينة بيت لحم تحسبا لهجوم مرتقب، بعد ان لاحظت ان المعارك أخذت تتصاعد وتأخذ طابع الجرأة والتخطيط المتقن. ولم يكن حدس السلطة في محله، اذ ما ان انقضى شهر ونصف الشهر على المعركة مار اليأس التي أبيدت فيها الدورية عن بكرة أبيها ، حتى قاد أبو خالد هجوما مركزا على بيت لحم، استهدف قيادة الجيش في دار جاسر، ومركزي الشرطة في دار عمارة" ديكارت" وساحة المهد، بالإضافة الى دائرة البريد ومقسم الهاتف الآلي.
وتوالت الهجمات الناجحة في علار وبتير ووادي فوكين، ويذكر ان القوات البريطانية التي تكبدت خسائر كبيرة في هذه المعارك، أرادت الانتقام من اهالي القرية الأخيرة فنسفت أربعة بيوت كان من ضمنها بيت المختار الذي أصر على إقامة وليمة لابو خالد ورجاله ، في نفس المكان الذي كان فيه بيته المهدوم.
في احد المواقع بالقرب من بيت نتيف، واثناء توجه أبو خالد مع عشرة من رجاله الى قرية زكريا لعقد اجتماع مع الفلاحين، كما هي عادته وقع ومن معه في كمين للجيش البريطاني في بيادر بيوس قرب خربة علين، فأمر رجاله بالانتشار والإفلات وبقي مع اثنين منهم شاغل الكمين لتغطية انسحاب أبو خالد ورفاقة.
أصيب أبو خالد في هذه المعركة بجرح بليغ ولكنه استطاع ان يفلت من الطوق ويختبئ في كهف مجاور حيث قام اهل القرية بمده بالماء والطعام الى ان اصبح ممكنا نقله الى عين كارم حيث تلقى العلاج.
في أواسك عام1939، وبعد ان أخذت نذر الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق، أصدرت حكومة الانتداب البريطاني كتابا ابيض تقترح فيه تمديد فترة الانتداب عشر سنين، وتقييد الهجرة اليهودية بخمسة وسبعين الف مهاجر، قبل توقيفها نهائيا . وقد رأت الهيئة العربية العليا بالاتفاق مع الدول العربية ان الثورة بهذا قد حققت أهدافها وبات عليها انتظار تنفيذ وعد بريطانيا العظمى فأوعزت لقيادة الثورة أمرا بالكف عن القتال وتسريح الثوار.
رفض أبو خالد الانصياع للأمر واعتبره مقتلا للثورة ، وتمرد على الهيئة العليا التي ردت بدورها بأن قطعت عنه إمدادات الذخيرة والسلاح. وأخذت تثير ضده الفتن وتسعى لخلق حالات تمرد بين رجاله، فسارع يدعو قادة المناطق الى اجتماع عام لتدارس وضع الثورة وطرق استمرأريتها، فحضر الى البرج كل من الشيخ حسن سلامة وسليمان المرداوي وعارف عبد الرازق، وأبو شعبان الا ان نتائج الاجتماع لم تكن كما رغب فيها أبو خالد، اذ استعرض المجتمعون الصعوبات التي باتت تواجه استمرار الثورة بعد قرار الهيئة العربية العليا وموقف الدول العربية، وقرروا بالأغلبية إنهاء الثورة والرحيل الى بغداد، ومع ذلك ظل أبو خالد على رأس مجموعة حتى أواخر عام 1939 بعد اندلاع نار الحرب العالمية الثانية بشهرين،وحينها لم يجد بدا من تسريح رجاله والرحيل الى بغداد، ليلحق بزملائه قادة الثورة الذين سبقوه الى هناك.
..........................................يتبع

#عناد_أبو_وندي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات