أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم العريس - «القسيس الأسود» لتشيكوف: صراع الروح والجسد















المزيد.....

«القسيس الأسود» لتشيكوف: صراع الروح والجسد


ابراهيم العريس

الحوار المتمدن-العدد: 2714 - 2009 / 7 / 21 - 10:25
المحور: الادب والفن
    



قبل موته بعشر سنوات، وفي وقت كان السل بدأ ينخر جسده نخراً، بالتزامن مع تصاعد شهرته كواحد من كبار المجددين في المسرح الاجتماعي، كتب انطون تشيكوف ونشر نصاً عنوانه «القسيس الأسود» نُظر اليه أول الأمر على انه رواية قصيرة من النوع الذي اعتاده صاحب «الخال فانيا» و»الشقيقات الثلاث» في ذلك الحين. ولكن بعد ذلك وفي شكل تدريجي، راح النقاد والباحثون ينظرون الى «القسيس الأسود» نظرة مختلفة، لينتهي بهم الأمر، عند وفاة تشيكوف في العام 1904، الى اعتبار هذا النص أشبه بوصية فكرية – انسانية، صاغها الكاتب محملاً اياها افكاره الحقيقية وهواجسه، وبخاصة نظرته الى العلاقة بين الروح والجسد، وبين الايمان والواقعية... ثم بين الحقيقة والخيال، وصولاً الى العلاقة بين العقل والجنون. ومنذ ذلك الحين، لم تتبدل النظرة الى أدب تشيكوف على ضوء ذلك النص، فقط، بل تبدلت كذلك النظرة الى سيرة حياته. وكأن «القسيس الأسود» عرّاه فجأة تماماً ونزع عنه كل أقنعته.

أنطون تشيكوف (1860-1904).

> ومع هذا ظل يُنظر الى «القسيس الاسود» على انها رواية، ذلك ان هذا النص يحمل – خارج اطار ارتباطه الوثيق والذاتي بكاتبه – كل عناصر العمل الروائي. والعمل الروائي الفكري على وجه التحديد، ما يقربه – من ناحية الأسلوب، لا من ناحية الفكر والمضمون – من أدب كبار الروائيين الروس، من غوغول الى دوستويفسكي فتولستوي، معطياً هذا النص مكانة فريدة في أدب تشيكوف، الذي هو - أساساً - أدب مسرحي وأدب قصة قصيرة. ومن اللافت هنا ان نذكر ان كثراً من النقاد باتوا، إثر موت تشيكوف ينظرون الى «القسيس الاسود» على انها، هنا، من اكثر نصوص تشيكوف نمطية وتعبيراً عن فكره وتوجهاته التأملية.

> تدور احداث هذه الرواية - الوصية، حول استاذ يدعى كوفرين، يقرر اذ يصاب بمرض عصبي - بسيط أول الأمر -، ان يمضي بضعة شهور في الريف، ضيفاً على صديق قديم له يعيش الآن في أحضان الطبيعة مع ابنته الصبية الحسناء ويمارس الزراعة بعيداً من صخب المدينة وتعقد حياتها. وهكذا يصل كوفرين الى منزل صديقه ليرتاح لديه. بيد ان البروفسور كوفرين، الذي كان طوال الفترة الماضية من وجوده دأب على التحدث عن قسيس أسود، هو في مخيال عام بطل الكثير من الأساطير والحكايات الخرافية، ها هو الآن يعود الى الحديث عن ذلك القسيس الخرافي بإعجاب وبإلحاح في الوقت عينه. وينتهي هذا الامر ذات يوم بظهور القسيس الاسود أمام كوفرين... وسرعان ما يدور بين الاثنين حديث يقول خلاله القسيس لصاحبه، رداً على سؤال يطرحه عليه هذا الاخير» سواء أكنت شبحاً أو سراباً... أو كنت أنا نفسي، فانني في حقيقة الأمر لست سوى نتاج مخيلتك... مخيلتك المتحمسة المضطربة هي التي خلقتني. بيد ان هذا لا يعني انني غير موجود. فاذا كنت موجوداً في مخيلتك، وليس الا في مخيلتك، فيعني هذا انني موجود في الطبيعة، طالما ان مخيلتك نفسها هي جزء من الطبيعة». واذ يستريح كوفرين لهذا الكلام، يمعن في خوض السجالات مع القسيس الاسود الذي سرعان ما يعرف البروفسور على رفاقه، من تلك الكائنات المتأملة المفكرة التي «توجد» لكي تقود الانسان نحو الحقيقة الخالدة المطلقة... أي نحو مستقبل مشع تهيمن عليه نزعة انسانية عميقة. ويرضى كوفرين بخوض اللعبة حتى نهايتها، اذ ان هذا الخطاب الطيب يفتنه بتشكيل تفاصيل حياته من حوله، حتى وإن كان بات الآن واثقاً من ان كل شيء انما هو من صنع خياله. ولم لا؟ يتساءل ويقول: أوليس الخيال جزءاً من الطبيعة... وأليست الطبيعة حيز وجودنا. وهكذا تنفتح في وجه الاستاذ آفاق حياة جديدة تهدئ من ثورته الدائمة وتدفعه الى التأمل، بل توصله ذات لحظة الى الاعتقاد بأن السماء قد اختارته من اجل رسالة انسانية عميقة. واذ تستريح نفسه على ذلك النحو، يلتفت الى حياته الشخصية ليكتشف انه بات الآن مغرماً بابنة صديقه، ويتقدم اليها ويتزوجها. ولكن سرعان ما ستكتشف هذه الاخيرة ان زوجها فاقد عقله، وانه بات مجنوناً بالفعل... واذ تقبض عليه ذات مرة بـ»الجرم المشهود» وهو في خلوة مع «صاحبه» القسيس الأسود يتبادل معه اطراف الحديث تصارحه بما آلت اليه حاله وتجبره على ان يقصد طبيباً لكي يتعالج... ويذعن كوفرين لارادة زوجته، فيخضع فترة من الزمن الى العلاج... غير ان الذي يحدث هنا هو ان تعافيه يحرمه من الكسب الوحيد الذي كان حققه في حياته: السعادة. ذلك ان «مناقشاته» مع القسيس الاسود وتأملاته وخيالاته كانت منحته خلال تلك الفترة سعادة لا توصف ولا تضاهى، سعادة ارتبطت لديه بما راح يساوره من احلام العظمة. أما الآن فلقد انهارت تلك السعادة كلها. وعاد اليه العقل وخبت احلام عظمته وافكاره حول الرسالة السماوية التي كلف بها. لم يعد الآن سوى انسان سوي... عادي، كئيب يشكو كل الوقت. بل ها هو الآن وقد بات راغباً في الانتقام مما حصل له. وتكون النتيجة ان كوفرين اذ يعتبر زوجته مسؤولة عن هذا الذي يحصل له الآن... يتركها ليذهب ويعيش مع امرأة اخرى. ولكن ما إن تمضي عليه فترة قصيرة من الزمن في صحبة هذه المرأة الجديدة، حتى يتفاقم عليه داء السل الذي كانت بوادره بدأت تظهر عليه منذ زمن... وفي نهاية الأمر كان لا بد له من ان يموت... فمات. وهنا، خلال موته يعود صديقه القسيس الاسود الى الظهور امامه من جديد، وهو في هذه المرة إنما يأتيه مبعوثاً من فوق ومن لدن اصدقائه الآخرين، ليعزيه على حياته التي عاشها كما على الموت الذي انتهى اليه، قائلاً له انه يرى فيه عبقرياً حقيقياً، خصوصاً انه خلال حياته، فهم كما يبدو ان ثمة اختلالاً في التوازن كبيراً بين الجسد والروح... فالروح باقية أبدية خالدة، اما الجسد فإنه كائن شديد الضعف فانٍ. «والحق ان ما فعلته يا صديقي هو انك الآن انما أعدت التوازن بين الروح والجسد».
> والحال ان كل الذين درسوا حياة انطون تشيكوف (1860-1904) يلاحظون انه خلال تلك الفترة من حياته، كان شديد الاهتمام بدور الروح في حياة الانسان، وبكون الجسد أضعف ما لدى الكائن البشري... وعلى رغم ان معظم المسرحيات، والقصص، التي كتبها تشيكوف خلال تلك الفترة من حياته، كان ينتمي الى الأدب الواقعي، بل الطبيعي، فإن قراءة معمقة بين سطور تلك الاعمال قد تكون كافية لتلمس الآثار العميقة والحقيقية لتأملات تشيكوف تلك، ولانشغالاته، علماً أن منطق الرجل، ومنطق تفكيره، حديا به دائماً الى ان يكون، في النصوص غير المسرحية التي كتبها خلال تلك الحقبة، اكثر تصريحاً حول مسألة العلاقة بين الخيال والواقع، وبين الروح والجسد، كما بين العقل والجنون، منه في اعماله المسرحية... وواضح هنا ان تشيكوف ما كان يريد لهواجسه الذاتية ان تطغى على اعمال كان يعرف حقاً ان له شركاء في ايصالها الى الجمهور (من فنيين وممثلين وتقنيين)، في مقابل اعمال كان يغامر بأن يكتبها لذاته. اما الملاحظة الاخيرة هنا فهي ان صاحب «طائر النورس» و»بستان الكرز» و»السهوب» خلق في «القسيس الاسود» شخصية، هي شخصية البروفسور كوفرين، تكاد تكون انعكاساً في مرآة – غريبة بعض الشيء على اية حال - لشخصيته نفسها... وعلى الأقل خلال تلك المرحلة من حياته.



#ابراهيم_العريس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -بلاتونوف- لتشيكوف: حين يخون المثقف نفسه
- «الشاحنة» لنادين غورديمير: عاشق أميركا وعاشقة الصحراء
- «بادلاند» لتيرنس مالك: اجرام على طريقة السينما
- «عن الحب وشياطين أخرى» لماركيز: القبر والشيخوخة والشعر الطوي ...
- «رقابة صارمة» لجان جينيه: أسئلة السجن الكبير
- -عرس الدم- للوركا: الفولكلور ويد القدر


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم العريس - «القسيس الأسود» لتشيكوف: صراع الروح والجسد