ابراهيم العريس
الحوار المتمدن-العدد: 2712 - 2009 / 7 / 19 - 10:18
المحور:
الادب والفن
عندما كتب انطون تشيكوف مسرحيته المكتملة الاولى "بلاتونوف" كان لا يزال دون العشرين من عمره. وهذه المسرحية رفضت على الفور ولم تقدم مسرحياً. بل ان تشيكوف ايضاً لم ينشرها في طبعة طوال حياتها, لذا لم تنشر للمرة الاولى إلا في العام 1923 . ولنضف الى هذا ان عدم اهتمام تشيكوف بمسرحيته الاولى هذه جعله غير حريص على مخطوطتها, لذلك تمزق غلافها وضاع, الى الابد, عنوانها الحقيقي, الى درجة ان الاسم الذي عرفت به طوال القرن العشرين, وهو "بلاتونوف" انما كان اسماً اصطلاحياً, واكبه دائماً اسم مفترض آخر هو "فضيحة ريفية". المهم ان تشيكوف تجاهل هذا العمل دائماً معتبراً اياه "مجرد محاولة اولى, غير ناضجة, في الكتابة للمسرح" او بالأحرى, مجرد "تجميع اصيل لبعض الافكار سيستخرج منه, في ما بعد, اشخاصاً ووضعيات تفيد تفاصيل مسرحياته المقبلة". ولقد حدث هذا بالفعل, اذ اننا سنجد الكثير من اجواء "بلاتونوف" وأشخاصاً, وأزمات هؤلاء الاشخاص, في الكثير من مسرحيات تشيكوف التالية ربما في ذلك "ايفانوف" و"بستان الكرز" و"الخال فانيا" وغيرها.
> كتب انطون تشيكوف هذه المسرحية, اذاً, بين العامين 1878 و1881 ... ولقد شاء في ذلك الوقت المبكر من انتاجه الكتابي ان يجعل مناخاً ميلودرامياً يسيطر عليها وعلى احداثها, لكن الاساس في هذه المسرحية هو قدرة الشاب تشيكوف فيها, على التعبير عن فقدان المثل العليا, بالنسبة الى شخصيته الرئيسة: المدعو بلاتونوف. اذ, من هذه الناحية, لا من ناحية الصياغة الاسلوبية وتفاصيل رسم العلاقات بين الشخصيات, يمكن النظر الى "بلاتونوف" بصفتها عملاً مميزاً وكبيراً. ولعل هذا هو ما رآه فيها, بعد كتابتها بقرن, المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف وجعله يحولها فيلماً سينمائياً يعتبر اليوم من كلاسيكيات السينما السوفياتية وهو "مقطوعة غير مكتملة لبيانو ميكانيكي". والواقع ان مخالكوف رأى في هذا العمل جوهراً معاصراً, فاتت رؤيته مسؤولي المسرح الذين رفضوه حين قدمه تشيكوف على شكل مسرحية اولى له.
وفي تعبير لناقد سوفياتي معاصر لزمن تحقيق الفيلم (1967) "عثر ميخالكوف في مسرحية تشيكوف هذه على افكار يمكنها ان تحرك مشاعر الجيل الذي تجاوز الثلاثين من عمره, اي الجيل الذي ينتمي اليه المخرج نفسه". طبعاً ليس الحديث عن فيلم ميخالكوف ما يهمنا هنا, بل المهم هو تلك المسرحية التي سيبدو لنا, في الاحوال كافة, انه قد اسيء فهمها في ذلك الزمن المبكر, الذي كانت ثورة الفرد على نفسه فيه, لا تزال من الامور المبكرة.
> والحال ان جوهر "بلاتونوف" هو تلك الثورة التي يندفع فيها بطل المسرحية بلاتونوف, بعد ان يكتشف خواء حياته ومجانية التنازلات التي قدمها خلال مسار تلك الحياة. ومن هنا حين يصرخ بلاتونوف في واحد من المشاهد الاخيرة للفيلم قائلاً: "كل شيء ضاع!خمسة وثلاثون عاماً ضاعت!" فإنه لا يتوصل الى ادراك هذا الواقع الذي عاشه وأخفق فيه, الا بعد تلك الهزة الروحية التي اجربته في نهاية الامر على ان ينظر الى نفسه والى المحيطين به والى الحياة اجمالاً, نظرة واعية, لم تكن قبلاً غائبة عنه, لكنه كان يتعمد تنحيتها جانباً.
> احداث المسرحية بسيطة للغاية, وسريعة لأنها تكاد تدور في يوم واحد وأمسية واحدة, وفي مكان واحد, هو حديقة ومنزل سيد اقطاعي تجمعت فيه خلال ذلك اليوم نخبة من رجال الفكر والثقافة والجيران, لتمضية وقت ظريف. في البداية يكون كل شيء هادئاً رتيباً: عبارات مجاملة متبادلة, مزاح بين الحاضرين, لعب مرح, اقبال على الصداقة وعلى الحياة. ولكن شيئاً فشيئاً, وكما في لوحة لبروغل يتأملها المرء ليدرك بسرعة كل تلك الامور الاكثر جدية الكامنة خلفية هدوء الشخصيات, يبرز لنا من بين الحضور, بلاتونوف, وهو في الاصل مالك اراضٍ بذر ثروته في شكل جنوني, ثم ها هو الآن وعد زوجته ساشا بأن يبدأ حياة جديدة استاذاً في مدرسة قريبة.
بيد ان هذا الوعد لم يمنع بلاتونوف من ان يمضي جل وقته في دارة آل فوينتسيف, حيث يجتمع الاصحاب الآن. وهو هناك في هذه الدار يمضي وقته بين رفض لاغواءات آنا, ارملة الجنرال فوينتسيف الراحل, ودفع لماريا غريكوف, العالمة غير الجذابة التي يبدو من الواضح انها مغرمة به. اما المشكلة الحقيقية في هذا كله فهي ان سبرغاي, ابن آنا من زوجها, متزوج من الحسناء صونيا, التي كانت ذات يوم حبيبة بلاتونوف. وكل هذا لن يظهر لنا إلا بالتدريج, ليرسم خطوط المأساة المقبلة التي ستلوح مريرة حادة وسط الهدوء الغامر المكان اول الامر. ولسوف يتبين لنا كذلك ان بلاتونوف بتصرفاته, يتمكن الآن, ومن جديد, من ايقاظ مشاعر صونيا تجاهه, بعد ان كانت هذه المشاعر اختفت طويلاً, وحدث ما حدث في حياة بلاتونوف. هذه المرة يلتقي الحبيبان من جديد, ويكتشفان انهما قد أخطآ في الطريقين المتباعدين اللذين اختاراهما لحياتهما. وبات عليهما ان يصلحا, معاً, أخطاء الماضي. وهكذا يقرران الهرب معاً... بعد ان يقرر بلاتونوف ان عليه, هذه المرة ايضاً, ان يجعل لحياته بداية جديدة. وهنا اذ تدرك ساشا, زوجة بلاتونوف الطيبة والوفية, حقيقة ما يخطط له زوجها تجابهه, ولكن ليس لكي تتهمه بالاساءة اليها, بل لكي تتهمه بأنه انما يسعى الآن ايضاً الى خراب بيت رجل آخر. وازاء هذا الوضع, ولأن بلاتونوف لا يعير اتهامها اي اهتمام, تحاول ساشا ان تسمم نفسها, زهداً في هذه الحياة التي تحياها... لكنها تفشل في ذلك اما بلاتونوف فإنه يعلن توبته ويقرر العودة الى زوجته والى حياته معها. واذ تدرك صونيا ما حدث تغرق في يأس مدمر, يدفع بلاتونوف الى الشعور بأنه السبب في ذلك كله, وانه ابن لعنة لا تكف تنصبّ على الآخرين, لذلك يقرر ذات لحظة ان يضع حداً لحياته بالانتحار. ولكن فيما يكون على وشك قتل نفسه تدخل الغرفة, ماريا العالمة, وتحيطه بحنانها كما بذراعيها ليجد نفسه, في حيرته, مندفعاً نحو مبادلتها العناق بصورة آلية... وفي تلك اللحظة بالذات تدخل صونيا الغرفة لتجد بلاتونوف وماريا متعانقين فيجن جنونها وتطلق النار على حبيبها مردية اياه قتيلاً... منهية تلك المسرحية التي اخذ عليها دائماً انتقالها السريع من التهريج الى الميلودراما.
واضح هنا ان شخصية بلاتونوف شخصية محورية هنا, وتعبر عن أزمة كان تشيكوف نفسه يعيشها خلال تلك المرحلة من حياته: فمنذ زمن بعيد لم يعد بلاتونوف يؤمن بشيء... ولم يعد يؤمن بنفسه حتى. لقد خان افكاره ومبادئه, خان مشاعره وحياته, وانخرط في درب المساومة حتى فقد كل براءته, ولم يعد قادراً على الوقوف ضد الخساسة المحيطة به, بل صار جزءاً منها بزواجه من غير حب وعلاقته الغرامية من غير فرح... هو الذي يصرخ ذات لحظة: "انا ادرك الآن بكل تأكيد انه حسب المرء ان يخون مرة, وان يكذب في ما آمن به, حتى يستحيل عليه الافلات من سلسلة الخيانات والاكاذيب".
كما اشرنا, قد لا تكون "بلاتونوف" عملاً كبيراً من اعمال انطون تشيكوف (1860-1904), لكنها مهدت لرسمه شخصيات مشابهة, وشديدة المعاصرة, في بعض ابرز اعماله المسرحية التي خلدت اسمه لاحقاً وجعلته من كبار مؤسسي الحداثة المسرحية, في بلده روسيا, كما في العالم كله, مثل "ايفانوف" (1887) و"العرس" (1889) و"طائر النورس" (1896) و"الخال فانيا" (1899) و"الشقيقات الثلاث" (1901) و"بستان الكرز" (1904
#ابراهيم_العريس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟