أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ماجد المذحجي - حيث لا ننتبه •• مكايدات لعزله ماهرة















المزيد.....


حيث لا ننتبه •• مكايدات لعزله ماهرة


ماجد المذحجي

الحوار المتمدن-العدد: 812 - 2004 / 4 / 22 - 07:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إليك صادق.. تمضي فائراً في الحكايات والبرد والذاكرة....

ها(علي)......
افتحْ هاهنا نافذةً_ في هذا البياض _لولهك بالحكايات التي ربيتَها طويلاً في دماغك وفي جيوب الوقت المسروق، واثقب هذه الحرارة التي تحيط بروحك بقهقهات تُطلقُها بلا تروٍ في أمكنةٍ لا تصلح حتى للتذمر.....
ها(علي).......
كيف لك أن تفض بكارة هذا الصمت الباهت وتفضي بالمكائد إلى كلمات مجروحة بالعشق.. كيف لك أن تفتعل الشجارات مع البعوض والهوام والليلِ الذي لا ينام إذا لم يكن قلبك مفتوحاً على الهذيان والولع العاري ومليئاً بأشواق طازجة ومعروقة ومصابة باللهاث.
هذه الأمكنة لاتسع يا(علي).. هذه الرمال لا تكفي لتطلقك باتجاه جنون تحتاجه أو لتمرغَك بالاكتشافات التي تركض نحوها ملهوفاً وفاتحاً عينيك وفاغراً فاهك. لاشيء يكفيك أيها الفتى الأسمر النحيل ذو الصوت المكهرب وذو الأسمال التي خاطتها نساء القرية وهن يتبادلن الغمزات الضاحكة وحكايات عشقك الفائرة مع الجنيات ومراودتَك للنساء العابرات في مواسم الحصاد والأسواق الأسبوعية.......
أنت ذلك الوحيد يا(علي)كقبلة أخيرة بين عاشقين، من تمضي سريعاً في نميمة توقد ليلاً للسمر والتسلية.. ترقص متشفياً بالأساطير الهزيلة التي لا يصدقها سوى رجال قلوبهم تشبه مقابر السفن وغابات الشوك. لاشيء يسعك حتماً يا(علي)، ورغم ذلك مازالت عيناك تلمعان وقلبك تلسعه دهشة حارة -كفرح طفل بالسكر-كلما أوقدت امرأة تنورها بالخشب والخوف ورسائل الحب السري.. تحب الأغاني الموبوءة بالشجن حين تُطلقها شفاهُ (راعية) شابة تهش أغنامها بالعصا وقلبَها بالحنين. ليس سواك يا(علي).. أنت وحدك، من تحتفظ بأحجار النبوءة نظيفة ولامعة في قلبك الصغير والمتعب.. وفي عينيك تتقافز لهفة فتية كماعز صغير. وحدك من يخبئ أولياء الفقراء في جروح روحك الطرية أسرار السهر وماء الانبهار الساخن بالآلهة الكثيرين.. يزرعون مساحة للبهجة والشغف تنبت الأشواق فيها كما ينبت العشق المجروح في قلوب نساء الصيادين.

● ● ●
كان نهاراً حافلاً جداً......
رغم تزاحم الكثير من الأعمال إلا أنني اختلست وقتاً كافياً لاصطياد الكثير من الحكايات والأشواق التي يدسها (علي المبهوت) في علبة صدري وفي الفضاء الفارغ. كنت واقفاً يومها أتابع اللمسات الأخيرة لنصب أحد الأعمدة الخشبية الخاصة بمشروع كهرباء هذا الريف الخالي إلا من (عشش) القش والكثيرِ من البعوض والرمل والريح الساخنة. قدم (علي) نحوي راكضاً يصرخ ويلوح بيديه من بعيد، عيناه متقدتان دوماً بحكاية جديدة أو أخبار طرية يحرص على ألا تفقد اشتعالها:
*أجا صاحب التغذية يا أستاذ......
*شكراً (علي)..تعال واجلس هنا....
استند بجسده الهزيل والمتعرق على جدار قريب، الظل المائل عليه لا يستطيع حجبَ لهفتِه، أشياء كثيرة قائضة في صدره.. ولاشيء ينتعله. تحمله دوماً رغبة حارة بمسابقةِ غيمةٍ تمر سريعاً فوقه. يحكي لي كثيراً عن رغبته بتثبيتِ ظلِها على الأرض و رغبتِه بإقامة احتفالاتِ رقصٍ لنساء لا يعرفهن أبداً.. احتفالاتٍ لا يوجد فيها رجلٌ واحد سواه. هو وحده سيكون سيدَ الأغنيات التي تتصاعد من الأرض ومن نسوغ الشجر ومن الشقوق الصغيرة في جسد البهجة لتلتصق بأجساد النساء المتعرقات والمصابات بشهوة خرافية على هذه الأرض الحارة. حكى لي كثيراً عن الجنيات التي يتخبأن له في عروق الورود وفي روح الضوء ويتساقطن عليه كالثمار الناضجة والمطر، قال.. إنهن أحياناً يصعدن من ثقوب الأرض كالدود.. يمسكْن بأقدامه الحافية ويجعلنه يدور ويدور على نفسه وهن يضحكن حتى يقع. قال.. إنهن يحببن دعك أجسادِهن بقسوة على جسده العاري حتى يتصاعد البخور من مكان ما في الجلد والروح.. يهمسن بصوت خافت في أذنه ويملأن دمه بعطرٍ مسروق من الشغف، وفجأة يدسسْن فمهن في فمه وهن مغمضاتِ العين إلى أن يتحولْن إلى بخارٍ ساخن يلتف عليه وينهض به بعيداً إلى ظلٍ لا يعرفه. يبتسمن له ويقلن: هذا الظل لم تسرقه أنت من غيمة عابرة.. هو من هبط ثقيلاً على الرمل والأشواق لِنصنع منه وسائد للخرافة وشِباكاً لاصطياد الحب. قال أيضا.. إنهن بعد أن يفرغن من دعك أجسادهن بحرارة على جسده يتكاثفن بسرعة كالبخار الذي يتجمع على سطح بارد.. يتحولن إلى امرأة واحدة تمتلك سيقاناً من الصدف ونهوداً من التمر وقبعةً من النخيل والغيم. وفجأة، تُطلق تلك المرأة شهقة حادة تفض لحم السماء كالسكين.. إنها كشهقة تلك المرأة في القرية.. في ليلة دخلتها، تلك الشهقة التي غرسته عميقاً في الارتجاف والعرق حين كان أسفل النافذة الوحيدة( للعشة )التي أفردوها لها هي وذلك الرجلِ في تلك الليلة.
كان ( علي ) يسن الحكايات ويشعل الكلمات بقوة.. الشغفُ بالرؤى التي يربيها ركضُه في الامتدادات المريبةِ للرمل يطلقُه بجنونٍ في ماءِ الهذيان وعجينِ الدهشة. كنتُ أستمع.. وكان هو يطوح بيديه في الهواء وهو يتحدث بانفعال. إنه ساخن تماماً، والحكايات الكثيرة لا تكف عن التسرب من أسنان فمه المكسورة التي قال إن أحد الجنيات كسرَتها حين رفض لمرةٍ تقبيلَها. إن (علي) لا يُلقي بالاً للسخرية التي تطاله من أفواه الجميع ..كان يُنعت من الجميع بالهبل والجنون.. وكان يدعي أنه الوحيد الذي يستطيع الإصغاء لأحاديث الأولياء وأنه يستطيع معرفة ما يخبئونه من أسرارٍ في الأضاحي التي تُذبح لهم وتصعد أرواحُها حاملةً هذه الأسرار إلى الله. كان يقول أيضاً.. إنه يعرف أسرار الريح التي ترفع فساتين الفتيات وتطوح بقبعات القش والأحلام بعيداً، ويعرف لماذا اختبأت( فاطمة المجنونة )في الجبل البعيد ولم تظهر مرةً أخرى.........
كان( علي )وطناً للهذيان وطيناً ملائماً للأسرار التي تختبئ من الاكتشافات السهلة للقرويين الذين لا يجيدون سوى تربية المواشي والقسوة ومداعبة الزوجات بغباء.

● ● ●
أعود للعمل حتى انقضاء النهار، الحرارة تملأني برائحة تعرقٍ سيئة وبانزعاج يمتلك أطرافاً كافية لجعلي أشعر بالسخافة والقرف. الرملُ الذي تبعثره الريح الساخنة في الهواء لا يكف عن الارتطام بعينيّ وإجباري على دعكهما بقوة حتى تُصابان بالاحمرار: أنا بحاجة لصخب هائل يتصاعد في دمي ويسرقني الآن من مصيدة الضيق.. بحاجة لنساءٍ كثيرات يذبن في روحي كالشمع ويملأْنها بالطراوة قبل أن تُصاب باليباس والتقصف.

● ● ●
الليل جاف وبارد على القلب.. موحش كموتٍ يتعرى، وأنا وحدي.. أزحف فيه غريباً كدودة.( الهنجر ) الخاص بي مُضاء بمصباحٍ يتيمٍ وشاحبٍ كوجهِ ميت. لاشيء سوى الملل الذي يتسلق الروحَ بسرعة، وكتابٌ ملقى بإهمال في الزاوية، وكلماتٌ غير مفهومة تنطلق من جهاز الراديو الذي لا أستطيع الإصغاء إليه أو جعله يجد شيئاً مناسباً. أشياء كثيرة أهملتُها وتركتها سائغة لفم النسيان تبدأ بالاستيقاظ وتزحف نحوي في هذا الليل. لاشيء محدداً ينبت في الذاكرة ويجبرني على تذكره.. ولكن هناك الكثير الذي يتداخل في أعصابي الآن: الحنين.. الكآبة.. الرغبة بتناول نبيذ وتقبيل امرأة........
لا أستطيع أن أفهم شيئاً، أو أن لاشيء يرغب بالانتظام في هذا الليل الذي يحتدم في كل شيء، أُشعل سيجارة وأبدأ بمشاغلةِ حوافِ المنفضة بجمرتها الملتهبة كقلب امرأة تنتظر. الريحُ تصطدم بالجدران المعدنية( للهنجر )مصدرةً صريراً مزعجاً من حين إلى أخر. أقبع بائساً تماماً في هذا المكان الغبي وهنالك شيء لا يريد الانطفاء فيّ أبداً.. شيء يحرّض في صدري رغبةً هائلة بالسباب وباتخاذِ قرارٍ بترك هذا المكان الذي لا يشبه شيئاً سوى انتحارٍ باردٍ يقف عارياً في مدخل روحك ليبصق عليك ويبتسم بسخرية حادة: قال( علي )مرةً.. إن الليل هنا هو قلب ملاكٍ مضغتْه امرأةٌ تشبه الدخان. قال أيضاً.. إنه كان ضفةً لحنينٍ لا يهرم.. تزاحمَ العشاق عليه فلم يعد يكفي، وتُرك بعدها فارغاً ومصاباً بالوحشة.

● ● ●
الانشغال بقضايا هامشية تنبت فجأة على هامش العمل اليومي تستهلك معظم الوقت الذي أقضيه هنا، وتقضم أطرافَ أعصابي بقسوة. مُصابٌ أنا هنا بتوتر وانزعاج دائم.. يتمدد في جمجمتي ترقبٌ مفزعٌ لمفاجآت أخشى ظهورَها فجأة وإجبارَها لي على البقاء لوقت أطول في هذا المكان الذي يحاصرني بأحكام ويبتر اتصالي تماماً بحياةٍ تركض وتصطخب وتتدافع في المدن البعيدة: وحده( علي ) يجبرني على الانتباه حين يبدأ ركضَه كوعل، وحين يبحث عن كائنات مكشوفة على العراء والرمل ليبادلها المتعة وما يجمعه من عشق ملتبس. وحده (علي) يندس في كسلي كالحمى ويبدأ بالانقسام والتكاثر في دمي كالجراثيم.. يُعيد وصلي بمتعٍ تخصُه يجيد وحده اكتشافَها وإطلاقها في روح المكان. لاشيء يشبهه هو العاري الصدر والمعروق ذو الجلد اللامع والأقدام الحافية، يبدو منزوعاً من غواية السواد وروح الجبال الوحيدة.. يشبه خيانات الظل وارتباك التعاويذ.

● ● ●
قيل أن( علي )وُلِد على حافة الوحدة.. كانت أمه ترعى قطيعاً من الماعز في البرية حين فاجأها الطلق.. لم يكن بجوارها أحد.. كان لديها القليل من الماء و العشب البري والرمل.. صرخَت كثيراً وهي تطلقه لهذا العالم. لم تتلقفه سوى الريح.. دعكتْه بالرمل والأعشاب البرية، وغسلتْه بالقليل من الماء، ثم غطته بجلد ماعز كانت تحمله دوماً معها. وحين عادت للقرية آخر النهار قالت للجميع أنه ابن اللحظات اليتيمة وأنه لا يشبه سوى هذه الريح التي تسربت في دمه منذ اللحظة الأولى.

● ● ●
الصباح مبلول بضوء خفيف.. الصمتُ المدهونُ بالكسل عالقٌ على أطراف الهواء البارد، والارتخاءُ الممتد برسوخ في أعصاب المكان يبدأ بالانسحاب حين يبدأ الاستيقاظ النشط للكائنات بلدغه من أطرافه. الوقت باكر. الجميع يستيقظون. يتدافعون في المساحات المشرعة أمام (العشش): إنهم يعاندون الكسل الثخين باستيقاظٍ حار..ينهضون حاملين إعياء السهر والليل الثقيل، يدعكون العيون المحمرة.. يتشاغلون عن الخوف بالأعمال المتعِبة والجيدة للحفاظ على الرمق الأخير من الكفاية.
المشهد ذاته أمامي كل صباح. لاشيء يقفز في ذهني ليبتر هذا الإصرار الملحَّ لدي على استعادة هذه التفاصيل بشكل يومي. أشعر بإدمانٍ حقيقي للتفاصيل المستهلَكة والمصابةِ بالملل. أصبحتُ غبياً ومتأقلماً مع هذا التشابه الذي يساوي بين كل شيء ويترك إحساساً عالياً بالتسطح.

● ● ●
كانت( فاطمة المجنونة )وردةَ العراء والأماكنِ المفتوحة.. وحاملةَ الأسرار المضيئة والأشواق التي لا تُخذل......
فجأة بدأ( علي )الحديث عنها ونحن نمشي مبتعدين عن القرية. كان يتطلع إلى الجبل البعيد الذي اختفت فيه( فاطمة ).. يبتعد عني باتجاهها. كان يغزلها بدفءٍ في روحه ويبدأ بسردها على الأرواح الهائمة في الهواء، وعلى الأعشاب والحشرات والخطى التي تركها العابرون ومازالت ساخنة:
ليست( فاطمة )امرأةً تتشابه مع غيرها.. كانت مسلولةً من الفضة والطلع والشهوة. حين تحزن تندس الغصة عميقاً في عظام الأمكنة المصابة بالبرد.. ينشرخ شيء في قلب الغزلان التي تركض بعيداً حاملةً بشاراتها للثلج والغابات.. ويفسد العطر المكدسُ في جسد الورود. وحين تبتسم يُضاء كل شيء عَلقتْ عليه الروائحَ والجنون والبهجة.. تكتظ عروق الأرض بالاحتفال والنبيذ.. ويمسُّ البللُ قلوبَ الفتيات الزاهيات. ينتشر العشق الباذخ في الهواء وتُجن السحب. ( فاطمة )كانت تملك عينين نافذتين تماماً في الروح.. وعظاماً هزيلةً، يداها معروقتان وجلدها جاف ولأصابعها لمسٌ مثيرٌ في الأعصاب كما التعاويذ والقبلة. ملابسها ممزقة وشعرها مجعد ومتسخ، لكنّ روحها مضاءةٌ بأسرار العشقِ المتلفِ وحنينِ الغائبين وشهقةِ المطر الأخيرة. ( فاطمة )كانت تصرخ بالجميع.. تقول أن هنالك ثقوباً فادحةً في القلوب ورملاً كثيراً في الأرواح وعتمة سميكة في الصدر. كانت تقول أن الخراب قادم أنيقاً، بملابس زاهيةٍ وعينين مفتوحتين. أن النميمة ستمد مائدتها في الليل الفارغ وأن الانطفاء سيأكل روح الأشجار وولعَ الجميعِ بالغناء والرقص. قالت أيضاً أن القحط سيشعل شمعة للخيبة في كل نافذة وسيمضغ ما تبقى من رائحة في الوردة. كانت (فاطمة) تشير بروحها وقلبها.. ولا أحد ينتبه. الكل يمر هازئاً بها ويتهمها بالجنون ومعاشرة الموتى والسحر والغواية السوداء. كانت( فاطمة )تعرف ماذا سيحل بالجميع هنا.. وكان صوتها يخفت كلَّ نهار.. الضوء ينسحب وتعبها يزداد، وهي المكابرة والفادحة العشقِ مازالت تكابر أيضاً، تغني وتفضح وتسخر. كان الوقت يمر، وهي العالية تذوي في خيبتها.كان كل شيء يصر على إطفائها وجعلها تخرس. في الأخير.. لم يعرف أحد ماذا حدث.. نهضوا جميعاً في إحدى الصباحات الخاسرة ولم يجدوها أمامهم كعادتها تُشيع الشجن في الهواء والفراغات الكثيرة. الجميع انتبه وتساءل وأطلق الإشاعات المنزوعة من طين القسوة سامةً في روح كل الأشياء التي تعلقت بـ(فاطمة) وأحبت مكايداتها وحنينها الذي لا يقاوم. لم يبحثوا عنها.. تجاهلوها.كانت العتمة حينها عاليةً والانطفاء سريعاً.............
بعدها بفترة كنتُ وحيداً أركض.. أحاطت الجنيات بي وأخبْرنني أن( فاطمة )اختبأت في ذاكرة الجبل البعيد.. دست حنينها في الأساطير الكثيرة.. ووزعت دمها على غرباء نهضوا من النسيان، حملوه معهم ومضوا في الجهات التي لاتحد.

● ● ●
هنا فقط.. حيث الأشياء مصابة بفزعٍ ليلي مزمن.. والنوارس أَُجهدت أجنحَتَُها قبل الوصول إلى هذه الأقاصي المعزولة، سيتمكن( علي )من استثمار هذه الهشاشة المفرطة التي تملأ كل شيء هنا. سيعيد تأثيث روحه وتشكيلَ هذا المكان بطينٍ جديد كما رتبه في دماغه:
سأعيد وضع هذا الجبل في موقع أخر.. هناك لن يكون عبئاً على المكان. سأجعل الرمل هنا كثيرا وسيكون هنالك القليل من الحصى فيه لأنه لاتوجد بحيرات لأشاغل نفسي برميها بالحصى. سأجعل الغيم يتوقف كثيراً على هضبة ستكون جيده إذا وضعتُها هناك بالقرب من الشجر الذي يحد من امتداد الرمل، والطيورُ سأجعلها تحلق خفيفةً وتمر فوق رؤوسِ الأشجار حاملةً في مناقيرها الكثيرَ من حبوب الهشاشة والفرح والأغنيات.....
هل سيكون جيداً هذا المكان...؟؟
● ● ●
استيقظت في إحدى الصباحات التي تتشابه كثيراً هنا.. كان الجميع قد استيقظ.خرجت من ( الهنجر ) للتجول صباحاً كعادتي قبل الذهاب إلى موقع العمل. كان الجو ملبداً وهنالك صمت ثقيل ينشب أنيابه في أعصاب المكان على عكس العادة حيث يكون الجميع فائرين بالحركة ويتجهون إلى أعمالهم.لم يلقِ احد من سكان القرية أية تحية عليّ.كان يمرون مبتعدين عني ويحرصون على عدم النظر إلي أو الاقتراب مني، شيء ما عطن في الهواء.. شيء ما يثقل على قلوب الجميع ويملأها بالغيظ الكثير.. لا أدري ما هو. المناخ مسموم تماماً. بيننا ينهض الكثير من السؤال والبارود:
ما الذي حدث؟؟.
تلدغني الأسئلة بحرارة في دماغي. حتى (علي) لا أثر له!!. يا ترى أين ذهب..؟؟. لم أستطع احتمال هذا الصمت الغبي.. اقتربتُ من احدهم: ماذا حدث..؟؟. لم يجبني، تجاهلني تماماً. شعرت أن الأمر متعلق بـ(علي). ازددت إصراراً وسألته بإلحاح وبصوت مرتفع فيه الكثير من الحدة هذه المرة:
*ماذا حدث.. هل وقع شيء لـ(علي)..؟؟
*لا.. هو الذي أوقع المشاكل بنا
* ماذا حدث...؟؟
* ألا تعلم؟
*لا..هيا تحدث..
*أتت إحدى الراعيات وقالت إن( علي )حاول اغتصابها حين كانت في البرية مع الماشية ولولا أن احدهم رآه لكان فعل فعلته الشنعاء...
* مستحيل( علي ).. لا يفعل ذلك....
* لقد فعل ذلك وهنالك شاهد.. لا تحاول الدفاع عنه وابقَ بعيداً عن الموضوع يا أستاذ فالجميع هنا مشحونون ويقولون انك من أفسده.....!!
ياه يا(علي).. ماذا فعلت. الم تعد تكفيك الجنيات؟؟. ما الذي أشعل فيك كل هذا السعار. وهل هذا الذي يتحدث عنه الجميع صحيح؟؟. لا أدري. هناك شيء غير منسجم في هذا الهذر البائس، وهذه القريةُ المصنوعة من عظام جهنم تنبت في دمها الإشاعاتُ كالفطر، ما الذي أصدقه وكل هذا الجنون يحفر أخاديده في هشاشتي ويريد سرقتك يا( علي ).قل لي أين اختبأت فالعتمة كثيفة والهواجس تلعق دمي وأنا مبلول ببرد الخوف.قل لي أين أجدك يا( علي المبهوت )....؟؟؟
مر النهار ثقيلاً جداً ولاشيء جديد، الحكاية ذاتها تلوكها الأفواه كالعلكة ولا أحد يخبرني أين ذهب أو أين اختبأ خائفاً من أنيابهم التي تريد مضغ لحمه وتقديمه ذبيحاً لتبرير كل تاريخ الخطيئة في هذه القرية التي توقد الأحقاد في الليل وتربي النميمة والخوف في الروح.
أين ( علي )؟؟. يدق السؤالُ بعنفٍ وإلحاح في جمجمتي. كل الأمكنة تصلح للاختباء، وهو وحده من بين الجميع من تَصالَح مع كل شيء: الأحجار والرمل والريح والأساطير. ستخبئه الأحجارُ وسطَ كل الحكايات التي اقترضَتها من العابرين، ستدثّره الأشجار بظلها أو ستسربه في نسغها الضئيل، الرملُ سينصب له خيمة في قلبه الشاسع والأساطيرُ ستطلقه بحرارة في طقوس الكلام والرواية الممسوسة بالسحر بعيداً عن الجميع.
التعبُ يسحبني بقوه نحو( الهنجر ).. والليل يبدأ بملء كل شيء بالكسل والعتمة والمخاوف الصغيرة. أسحب أطرافي بتثاقل.. أمشي على الحصى الصغيرة المبعثرة على الرمل. الريح هادئة على عكس عادتها اليوم ولاشيء يتجرأ على ثقب فقاعة السكون الضخمة. أشعلُ مصباح( الهنجر ).. أستلقي على الفراش وأشعل جهاز الراديو، لا أمتلك رغبةً بالاستماع إليه، لكنه يشعرني بقليل من الازدحام ويسرقني من موتٍ يداهمني بقوة إذا عم الهدوء. الكتاب ملقى في الزاوية ذاتها ولا رغبة لي أيضاً بقراءته. الضوء ينوس والهواءُ ثقيل وحار..
أخلع ملابسي وأحاول تهيئة طقوسٍ مناسبة للنوم الذي يبدو بعيداً كنجمة. أشعلُ( المروحة )الصغيرة بجانبي.. أطفئُ المصباح وأحاول الاسترخاء، لكن هناك صوتُ خطىً تقتربُ من( الهنجر ).. إنها ليست خطى حيوان شارد فلقد تعودت على وقعها جيداً في هذا المكان. إنها خطى إنسان ما. أنصتُ جيداً.. فجأة.. أسمع صوت طرق خفيف على الباب الخشبي للـ( هنجر ):
*يا أستاذ.. أنا(علي). أيش رقدت..؟؟
ياه.. ينتابني فرح مرتبك وإحساس طاغ بالمفاجأة. أنهض سريعاً وأفتح له الباب كي يدخل:
*أنا آسف يا أستاذ.. كنت راقد وأنا صحيتك...
*لا. لا. يا( علي ).. ادخل الآن، أنا اراعيلك من الصبح...
أشعلُ المصباح.. أنظر إليه وهو يشرب الماء، يبدو عطشاً وملامحه مغبرة. إنه كما هو بكل هذا السمار الداكن والعينين اللامعتين، يبدو متعباً ومتحفزاً أيضاً.....
*سمعت يا أستاذ أيش يقولوا بالقرية....
*ايوه..سمعت....
أطرق رأسه وصمت قليلاً، شاغَلَ أطراف الفِراش بعصا صغيرة يحملها في يده، وفجأة رفع رأسه وبدأ الحديث بحرارة وحرقه. كان حانقاً من كل شيء..الكلمات تتقافز مسرعةً من شفتيه وتلدغني في قلبي. عيناه تلمعان بقوة وهناك رغبة هائلة بالبكاء تُطل منهما وهو يقمعها بقوة. كان يريد أن يبدو متماسكاً ولكنّ هذا الفوران الذي يتصاعد من كل أطرافه بدأ يُشعره بالوهن ويملأ روحه بكآبةٍ أجبرته على البكاء:
لم يكن هناك شيء..كنتُ أقف بعيداً عنها وهي تمشي مع الماشية. كنت أركض كعادتي.. وفجأة اقتربت مني وطلبَت أن أغني لأنها تُحب صوتي، فرحْتُ لأنها طلبت ذلك فأنا أحب الغناء حين تكون هناك امرأة بجانبي. كنت أغني حين التصقَتْ بي_ كما تفعل الجنيات معي يا أستاذ_ وبدأت بتقبيلي. وفجأة بدأتْ بالصراخ، فزعْت.. لم أكن أدري ماذا جرى، ولكني رأيت أحدهم من بعيد يمر وينظر إلينا، كانت تبدو فزعة تصرخ وكنت خائفاً لا أدري ماذا فعل. ركضَت بعيداً عني واتجهَت نحو الرجل وهي تبكي، لا أدري ماذا قالت له لكنه بدأ بالركض نحوي غاضباً كما يبدو.. فزعْت منه وركضْت مسرعاً دون اتجاه...................

● ● ●
لم أدر ماذا حدث بعدها لـ( علي ).. في اليوم التالي لزيارته لي أتاني استدعاء عاجل من المركز يطالبني بالعودة للعمل كمشرف إداري فيه.. لم أعرف السبب.. لكني علمت لاحقاً أن بعض أفراد القرية قابلوا المدير العام للمشروع الذي أعمل فيه وطلبوا منه أن يتم نقلي من القرية لأني أقوم بممارسات لا أخلاقية وأحرّض شبابها على العصيان. لم يُسمح لي بالعودة بعد ذلك إلى تلك القرية المطمئنة إلى عزلتها و تقرحها. أخبروني أيضاً أن( علي )اختفى. وأن أحدهم شاهده مرة يمشي هو و( فاطمة المجنونة ) بالقرب من الجبل البعيد.. كانا متلفعَين بالخضرة والضوء والأغنيات وكان حولهما حشدٌ هائل من الجنيات والأرواح الهائمة يلتقط ما يسرّبونه من كلام وحكايات في الخطى التي تبتعد بقسوة عن القرية..............


دمشق/2004



#ماجد_المذحجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تذييل لخسارات قديمة .. ومتوقعة...
- يمن خارج سياق المدنية.. وخارج سياق الفعل
- تأملات سريعه في الحزب الاشتراكي اليمني .. والمؤتمر الخامس
- هل بدأت الدولة اليمنية تتخلى عن وظيفتها؟؟....


المزيد.....




- وزير خارجية الإمارات يعلق على فيديو سابق له حذر فيه من الإره ...
- سموتريتش لنتيناهو: إذا قررتم رفع الراية البيضاء والتراجع عن ...
- DW تتحقق - هل خفّف بايدن العقوبات المفروضة على إيران؟
- دعوة الجامعات الألمانية للتدقيق في المشاريع مع الصين بعد مز ...
- الدفاع الروسية تعلن ضرب 3 مطارات عسكرية أوكرانية والقضاء على ...
- -700 متر قماش-.. العراق يدخل موسوعة -غينيس- بأكبر دشداشة في ...
- رئيس الأركان الإسرائيلي يصادق على خطط المراحل القادمة من حرب ...
- زاخاروفا: روسيا لن تساوم على أراضيها الجديدة
- اكتشاف ظاهرة -ثورية- يمكن أن تحل لغزا عمره 80 عاما
- بري عقب لقائه سيجورنيه: متمسكون بتطبيق القرار 1701 وبانتظار ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ماجد المذحجي - حيث لا ننتبه •• مكايدات لعزله ماهرة