أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - محمد حسني - ماذا عن -اليسار الراديكالي- في إسرائيل؟















المزيد.....


ماذا عن -اليسار الراديكالي- في إسرائيل؟


محمد حسني

الحوار المتمدن-العدد: 2650 - 2009 / 5 / 18 - 08:48
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
    


لعدم إضاعة الوقت في البحث عن نقطة بداية، أو في تعريف المصطلحات وشرحها، سأعتمد في هذه الدراسة على التقسيم الشائع للقوى السياسية في "إسرائيل"، إلى يمين يتشعب إلى يمين قومي ويمين ديني، ويسار يتشعب إلى يسار صهيوني ويسار راديكالي. لكن أحب أن أنوه أني هنا استخدم تعبير "يسار راديكالي" تسهيلا ونقلا للمصطلحات الشائعة في الأدبيات، وليس تعبيرا عن قناعتي بكون هذا الفصيل السياسي داخل إسرائيل يعتبر فعلا يسار راديكالي.



في السطور التالية سأحاول تتبع مسار ما اصطُلح على تسميته "اليسار الراديكالي" في إسرائيل. وهدفي الأول هو تلمُس مدى تأثيره أو تأثُره بالأحداث المفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، بحثا عن إجابة على سؤال رئيسي: هل فعلا هناك إمكانية لأن يتبلور تيار جذري داخل الكيان الصهيوني يكون قادرا على تغييره وإسقاطه من الداخل؟ فكما هو مفهوم، هذا سؤال مركزي لتحديد الاستراتيجية الصحيحة لتحرير فلسطين وتصفية الصهيونية من جذورها.



التسلسل التاريخي للأحداث


البداية


عدا بعض المنظمات الصغيرة المناهضة للصهيونية، مثل "بريت شالوم - تحالف السلام"، وعدد من نشطاء في "هاشومير هاتساعير - الحارس الفتى"، وحركات صهيونية أخرى كانت تنادي بدولة ثنائية القومية، كان الحزب الشيوعي الفلسطيني هو الخطوة الأولى في طريق اليسار الراديكالي في فلسطين (الذي تفرع عقب إعلان دولة "إسرائيل" إلى يسار فلسطيني ويسار إسرائيلي).



في عام 1919، أي بعد حوالي عامين من الثورة الروسية، انشق الفصيل الراديكالي عن معسكر "الصهيونية الاشتراكية" وقام بتأسيس "حزب العمال الاشتراكي"، وشارك بهذا الاسم في المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام لنقابات العمال (الهستدروت) عام 1920. وفي 1922 أصبح اسم الحزب هو: "الحزب الشيوعي الفلسطيني" (PCP)، وهي الحروف الأولى لاسم الحزب بلغة الييديش. جاء اختيار هذه اللغة عن عمد تجنبا للغة العبرية التي كان إحياؤها أحد مباديء الصهيونية، بينما كانت الييديش هي اللغة الخاصة باليهود المهاجرين. وقد اعتبر الحزب "الصهيونية" حركة رجعية، وتبنى مؤتمره في 1923 مشروعا لإدانة الصهيونية باعتبارها "حركة انتهازية يهودية تخدم الإمبريالية البريطانية". وفي الوقت نفسه أعرب عن تأييده للحركة الوطنية العربية التي تناضل ضدها. وبناءً على ذلك تم قبوله في الكومنترن، ولكن في الوقت نفسه تم عزله من "الهستدروت". وظل الحزب حتى نهاية العشرينات يضم بين صفوفه عضوية عربية قليلة.



هبة البراق وثورة 1936


عقب هبة البراق 1929، وبالرغم من شجب أعضاء الحزب لأعمال العنف، اضطهدت المؤسسة الاستيطانية الصهيونية أعضاء الحزب، وأصدرت سلطات الانتداب عقوبات على أعضائه بين السجن والنفي خارج البلاد.



ثم اندلعت الثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936-1939)، وكانت الاختبار الحقيقي لجذرية أعضاء الحزب. حيث أعلن إدانة "العنف الذي تعرض له اليهود" وصرّح أن النضال العربي شرعي. لكن هذا أدى إلى استقالة عدد كبير من اليهود. أما من بقي من اليهود، فقد شكلوا معارضة ضد القيادة تحت اسم "مجموعة إيمِت"، وطالبوا بالاعتراف بالمصالح اليهودية، وبالتعاون مع ما اعتبروه "الأجنحة الصهيونية التقدمية"، وأعلنوا عن تأييدهم لفتح باب الهجرة لليهود "بدوافع إنسانية".



وهكذا بدلا من أن يقوم الحزب بالانخراط في الثورة والعمل على تجذيرها، بدأت مسيرة التصدع والاتجاه يمينا، وهي المسيرة التي تصاعدت خلال الحرب العالمية الثانية. ففي 1939 أصدر ستالين، في إطار توازناته الانتهازية، تعليماته إلى الأحزاب الشيوعية بالتزام الحيادية خلال الحرب العالمية الثانية. لكن "مجموعة إيمِت" وجدت صعوبة في قبول ذلك. وفي 1940، وعقب الجدال الذي أُثير داخل الحزب حول "الصراع الصهيوني-العربي"، وقع انقسام بين الجناح اليهودي في الحزب وبين قيادته. وفي تلك الأثناء، تزعمت شابة يهودية من أصل يمني تدعى "سِمحاه صباري"، من قيادات الحزب وزوجة الأمين العام رضوان الحلو، عمليات مسلحة ضد أهداف بريطانية وصهيونية، وهو ما لم يؤيده حتى الفلسطينيون في قيادة الحزب.



بعد الثورة وحتى إعلان الدولة


وفي 1941 أعيد الحزب مرة أخرى إلى صفوف الهستدروت الصهيوني. وكان هذا مؤشرا على قطعه أشواط في السير يمينا. ثم عاد الانقسام في 1943 بسبب الموقف من تجنيد اليهود في "الفيلق اليهودي" الذي حارب في صفوف الجيش البريطاني، الأمر الذي أدى إلى عزل الحزب من الكومنترن.



واستمر الجناح اليهودي خلال السنوات 1943-1948 بنفس توجه "مجموعة إيمت" المتعاطفة مع الصهيونية، وشارك في انتخابات مجلس النواب 1944، ثم فيما سُمي بـ"مجلس الشعب". وقام ميئير فلنر، مندوب الحزب، بالتوقيع على وثيقة إعلان الدولة، وانحصر الاحتجاج الذي تقدم به اليسار الراديكالي على استخدام بعض التعبيرات ذات الطابع الديني في نص الوثيقة، وهي تعبيرات لم ينجح حتى في حذفها، وبالرغم من ذلك قام بالتوقيع.



أما الجناح العربي، الذي تزعمه كل من إميل حبيبي وتوفيق طوبي وإميل توما وبولس فرح، فقد أخذ اسم "عصبة التحرر الوطني" منذ عام 1943، ونادي بإقامة "دولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية".



إلا أن الحزبين (اليهودي والفلسطيني) أيدا في النهاية مشروع التقسيم الذي ايده الاتحاد السوفييتي! وعقب اندلاع الحرب، انضم الحزب الشيوعي الفلسطيني (PCP)، إلى من تبقوا من عصبة التحرر داخل حدود الدولة الجديدة، مؤسسا الحزب الشيوعي الإسرائيلي (CPI). وقد تجلى التوجه الصهيوني بين الأعضاء اليهود في تطوع عدد كبير من اليهود من أعضاء الحزب في الحرب ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي!



في دولة إسرائيل


عقب إعلان الدولة، أصبح الحزب الشيوعي الإسرائيلي (CPI) هو ممثل الـ"يسار الراديكالي" في إسرائيل. وقد شارك كحزب، في سبع دورات متتالية للكنيست. لكن أقصى عدد من المقاعد حصل عليه هو سبعة مقاعد في الدورة الثانية. وقد ظل الحزب معزولا ولم يُشارك في أية حكومة.



هاجم الحزب الحُكم العسكري وسياسة مصادرة الأراضي، ونادى بحق العودة للاجئين، كما كشف عضوا الكنيست مئير فلنر وتوفيق طوبي عن مذبحة كفر قاسم 1956، كما اتُهمت عناصر داخل الحزب بتشكيل نواة سرية تتعاون مع الجمهورية العربية المتحدة. لكن ظلت التأثيرات الصهيونية تعمل بقوة داخل الحزب.



وفي الستينات، تبدلت بعض الأمور بظهور اليسار الجديد في الغرب، الذي رفض الربط بين الأيديولوجية اليسارية وبين الاتحاد السوفيتي، بل ووجه الانتقادات للأحزاب الشيوعية التي تتبنى الأيديولوجية الستالينية. وفي 1965، وصل الانقسام داخل الحزب الشيوعي الإسرائيلي (CPI) إلى درجة عقد مؤتمرين للحزب في نفس التوقيت. إذ انسحب الفصيل الذي يقوده موشيه سنيه، الذي احتفظ بنفس اسم الحزب، في اتجاه معسكر اليسار الصهيوني، بينما حمل الفصيل الثاني اسم "رَكَح - القائمة الشيوعية الجديدة".



تجلى الاتجاه الصهيوني للحزب الشيوعي الإسرائيلي بشدة عقب حرب يونيو1967، حينما أعلن تأييده للحرب، كما لم يطالب بالانسحاب من الأراضي المحتلة عقب الحرب. وقد عانى الحزب من التشرذم، وتوزع أعضاءه على عدد من منظمات أخرى تضم بين صفوفها صهيونيين ولا صهيونيين، وهي "هموكيد - البؤرة"، و"شيلي - السلام من أجل إسرائيل".



أما الفصيل الثاني من الحزب، رَكَح - القائمة الشيوعية الجديدة، فقد ضم يهودا وفلسطينيين بزعامة عضوي الكنيست طوبي وفيلنر. وقد اعتبر "ركح" الصهيونية حركة قومية انتهازية تخدم الإمبريالية، واعتبر حرب يونيو اعتداءً إسرائيليا. وظل الحزب مستقلا لثلاثة دورات برلمانية، ثم انضم إلى كتلة "حداش - الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة". وفي 1989، تغيّر اسم رَكَح إلى"الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، وهو الاسم الأقدم للحزب قبل انقسامه 1965.



وفي سياق مواز ، خرج في عام 1962عدد من اليهود من صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي (CPI)، وأسسوا منظمة "متسبين - البوصلة"، المنظمة الاشتراكية في إسرائيل. استنكرت متسبين التبعية للاتحاد السوفيتي، كما أعلنت أن النظام القائم ليس اشتراكيا، وأن الهستدروت لا تُمثل العمال لأنها تمتلك جزءا كبيرا من المؤسسات الاقتصادية، وبالتالي فإن وجود الهستدروت ينطوي على تناقض شديد بين دورها المفترض كاتحاد لنقابات العمال، وبين كونها "صاحب العمل".



أصبح لمتسبين نشاطا ملحوظا عقب حرب 1967، وأخذت دفعة بتأثير الحركة الطلابية في أوروبا 1968. وفي 1972، اتهمت عناصر يسارية منشقة عن متسبين، يتزعمها أودي أديب، بالتجسس لصالح سوريا. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها نشطاء اليسار لهذا الاتهام.



هنا لابد من القول أن متسبين تعد أكثر المنظمات اليسارية في إسرائيل راديكالية. حيث أنها الوحيدة التي لم تأخذ موقفا فقط من ممارسات الصهيونية ودولة إسرائيل، بل كذلك من الطبيعة الصهيونية للدولة في الجوهر. لكن هذا كان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. فقد كانت عضوية متسبين محدودة، ثم انحسرت نهائيا، وصدر آخر عدد لمجلتها في 1983. وانتهى الأمر ببعض زعاماتها بالانخراط في أحزاب صهيونية!



وفي السبعينات وصل "الحزب الشيوعي" و"حداش - الجبهة" إلى ذروة نفوذهما في الوسط العربي في إسرائيل. ومن بين زعامات اليسار الراديكالي في الوسط العربي، كان الأديب إميل حبيبي، كما ظهر جيل جديد يضم محمد بركة، ودوف حنين، وعصام مخول، وعزمي بشارة، وجمال زحالقة، وغيرهم ممن أصبحوا فيما بعد قيادات اليسار الراديكالي في الوسط العربي.



من كامب ديفيد إلى الانتفاضة الأولى


رفض ما يطلق عليه "اليسار الراديكالي" بكافة فصائله، بشكل قاطع، تأييد معاهدة السلام بين بيجن والسادات، من منطلق أن هذه المعاهدة هي تكريس وإقرار للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.



وفي مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، اندلعت حركة احتجاج شديدة وسط اليسار الراديكالي. فللمرة الأولى، يعلن جنود الاحتياط، الذين تم استدعاؤهم على الجبهة اللبنانية، رفضهم للخدمة العسكرية. وذلك في الوقت الذي أدان اليسار الصهيوني، بل وحركة "شالوم عخشاف - السلام الآن"، وقيادات يسارية مثل يوسي ساريد، هذه الظاهرة، وهو مادفع العناصر الرافضة للخدمة يسارا، فظهرت حركات مثل "ييش جفول - هناك حدود". وعقب مذبحة صبرا وشاتيلا، واندلاع المظاهرة الحاشدة التي ضمت 400 ألف شخص، قوي التوجه الراديكالي بين صفوف اليسار.



ومن جانب آخر، اخترق القيادي اليساري أوري أفنيري الحصار المضروب على بيروت والتقى بياسر عرفات. وكان لهذه الزيارة أثرها بين صفوف اليسار الراديكالي الذي اعتبر عرفات زعيم التحرر الفلسطيني وشريك من أجل السلام، كما اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. وقد ظلت الاتصالات مستمرة بين عناصر اليسار الراديكالي وبين عرفات حتى بعد خروجه من لبنان.



وفي الانتفاضة الأولى، التي اندلعت في 1987، شاهد الجمهور الإسرائيلي الواسع مقاومة شعبية للاحتلال. وإلى جانب حركات قائمة مثل "اللجنة الإسرائيلية للتضامن مع بير زيت"، ظهرت حركات مثل "داي لاكيبوش - كفى احتلالا"، "السنة الـ21"، "هلئاه كيبوش - فليسقط الاحتلال"، و"ناشيم بشاحور - نساء متشحات بالسواد". وقد برزت من جديد، ظاهرة رفض الخدمة العسكرية، حيث رفض المئات من جنود الاحتياط الخدمة في الأراضي المحتلة، وإن لم تصل إلى نفس القوة التي شهدتها خلال حرب لبنان. وفي تلك الفترة ظهرت منظمات فوضوية في إسرائيل، مثل "المنظمة الفوضوية الإسرائيلية".



وتعتبر ظاهرة اشتداد عود ما يطلق عليه اليسار الراديكالي في تلك المرحلة، انعكاسا لوحشية الممارسات الإسرائيلية في مواجهة المقاومة الفلسطينية. حيث نذكر أن تلك هي الفترة التي وصل فيها اليمين، الليكود، إلى الحكم لأول مرة في تاريخ دولة إسرائيل. وهنا لم يكن هناك مفر من صعود أصوات "يسارية" معارضة للغزو والقتل وتكريس الاحتلال. ولكن السؤال هو: هل وصلت تلك الأصوات إلى حد القطع الكامل مع الصهيونية؟ وهل أصبح لها درجة من النفوذ في الشارع الإسرائيلي؟ سنعود إلى هذه النقاط لاحقا.



أوسلو


مثَّلت اتفاقية اوسلو، التي وقع عليها كل من إسحق رابين وياسر عرفات في1993، إشكالية بالنسبة لـ"اليسار الراديكالي" الذي كان يعترف بالفعل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني. مفكرون يساريون فلسطينيون، مثل إدوارد سعيد وغيره، أدانوا الاتفاقية واعتبروها خيانة من جانب الزعامة الانتهازية لمنظمة التحرير للجماهير الفلسطينية مقابل الحصول على رضا الإمبريالية الغربية. هذا التوجه لقى تأييدا وسط قطاعات من اليسار الراديكالي، من بينهم بعض العناصر التي كانت في السابق تنتمي إلى "متسبين - البوصلة". في مقابل ذلك، صوتت كتلة "حداش - الجبهة" لصالح الاتفاقية في الكنيست، ومالت أغلبية اليسار الراديكالي إليها.



كانت سنوات أوسلو فترة عصيبة بالنسبة لما يطلق عليه اليسار الراديكالي. حيث أدى الإحساس بأن "السلام في الطريق" إلى تشجيع الكثيرين على تأييد اليسار الصهيوني. فقد أيدت"حداش - الجبهة" كل من شمعون بيرتس وإيهود باراك في الانتخابات البرلمانية. وأدى الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته سنوات التسعينات، إلى جانب انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى إضعاف الانتقاد الراديكالي الموجه ضد الرأسمالية. فظهر بين صفوف اليسار، للمرة الأولى، الاهتمام بشئون البيئة، والرفق بالحيوان، ومقاومة ثقافة الاستهلاك. كما كانت سنوات التسعينات فترة عصيبة بالنسبة لليسار في الوسط العربي، فاللمرة الأولى تفقد"حداش - الجبهة" نفوذها لصالح "بلد - التجمع الوطني الديمقراطي"، بزعامة عزمي بشارة، الذي انشق عن "حداش - الجبهة"، ولصالح الحركة الإسلامية.



ومرة أخرى أثبتت "الامتحانات الصعبة"، كامتحان أوسلو، تذبذب غالبية عناصر ما يطلق عليه اليسار الراديكالي ورخاوتها إزاء الصهيونية. حيث كان التصويت لصالح الاتفاقية يعني مباشرة قبول حل الدولتين، أي الاعتراف بمشروعية دولة إسرائيل الاستيطانية العنصرية، وهذا قبول مشين بالصهيونية.



انتفاضة الأقصى


مثل اندلاع الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية وقطاع غزة صدمة للجمهور الإسرائيلي ولليسار الصهيوني، كان نتيجتها أن خسر باراك الانتخابات في 2001 أمام شارون. حيث كان هناك توجه واسع أوساط عرب 48، الذي كان مؤيدا لباراك من قبل، للامتناع عن التصويت، مما أنهى ما كان يمكن تسميته المعاهدة غير المكتوبة بين حزب العمل وبين فلسطينيي 48.



على عكس اليسار الصهيوني، لم تتملك الدهشة الكثيرين من اليسار الراديكالي. فحتى قبل اندلاع الانتفاضة، صرح الكثيرون من الراديكاليين أن اتفاقيات أوسلو لم تؤد إلى إنهاء الاحتلال، بل استبدلت الاحتلال المباشر باحتلال غير مباشر، وحذروا من حالة الإحباط الشديدة في الشارع الفلسطيني جراء ذلك، وكذلك بسب انتشار الفساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وتدهور الوضع الاقتصادي نتيجة الحصار الإسرائيلي.



شرع اليسار الراديكالي في إعلان موقفه عمليا من القمع العسكري لانتفاضة الأقصى. فبعد شهر واحد من اندلاع الانتفاضة تشكلت حركة "تعايُش"، وكان نشاطها في البداية يقتصر على إرسال المعونات الغذائية والدوائية للمناطق المحتلة. وفي 2001-2002، ثم في 2005، ظهرت "خطابات طلاب الصف الثامن"، وهم طلاب المدارس الثانوية الذين اقتربوا من سن التجنيد، والذين أعلنوا اعتزامهم رفض تأدية الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، أو الخدمة في الجيش على الإطلاق. وبهذا اتسعت حركة رفض الخدمة العسكرية خلال انتفاضة الأقصى من جنود الاحتياط، لتشمل الفتية الذين شارفوا على سن التجنيد.



وبينما اقتصرت منظمات مثل "أومتس لساريف - شجاعة للرفض" على رفض الخدمة في المناطق المحتلة، ظهرت منظمات أكثر راديكالية مثل "بروفيل حداش - وجه جديد" تدعو إلى الرفض المطلق للتجنيد كوسيلة للاحتجاج. وقد اتسع نطاق النشاطات لتشمل تقديم دعاوى قضائية أمام محاكم إسرائيلية ضد قادة في جيش الاحتلال، وهو ما اعتُبر تخطيا لكل الخطوط الحمراء، لدرجة مطالبة عناصر يمينية بمحاكمة من يتقدمون بهذه الدعاوى، سواء في الداخل أوالخارج، بتهمة الخيانة.



وفي السنوات الأخيرة، شارك اليسار الراديكالي في النضال ضد بناء جدار الفصل العنصري وفضح تبعاته الجسيمة على الفلسطينيين. وقد تركز نشاطه بشكل خاص في قريتي بيلعين وعابود. وكذلك نجح نشطاء من اليسار الراديكالي في القدس في استصدار حكم من المحكمة العليا بشأن تعديل مسار جدار الفصل العنصري في قرية بيت سوريك. لكن تعديل المسار تسبب في اضرار لا تقل جسامة عن سابقه، حتى أصبح النضال ضد بناء الجدار جزءا من أجندة اليسار الراديكالي، مما دفع قطاعات من اليسار الصهيوني، كانت تؤيد الجدار نظريا، إلى الانخراط في الأنشطة المناهضة للجدار.



من ناحية أخرى عارض اليسار الراديكالي خطة فك الارتباط، على العكس تماما من اليسار الصهيوني الذي أيد الخطة التي كانت ضمن البرنامج الانتخابي لحزب العمل في انتخابات الدورة السادسة عشر للكنيست. رأى اليسار الراديكالي خطة فك الارتباط كجزء مكمل لبناء الجدار، تتسبب في معاناة شديدة للفلسطينيين ولا تقدم أي حل للصراع. وقد اعتبر اليسار الراديكالي مصطلح "فك الارتباط" مصطلحا عنصريا مقابل لمصطلح "الأبرتهايد - الفصل العنصري" في جنوب أفريقيا.



المشكلة والحل: الإطار الإيديولوجي


بعد تتبع المسيرة التاريخية لما يطلق عليه اليسار الراديكالي داخل إسرائيل، نحتاج إلى النظر سريعا إلى المنظور الأيديولوجي لقوى هذا اليسار.



يقدم الكثيرون داخل اليسار الراديكالي نقدا لدولة إسرائيل وطبيعتها وتاريخها. لكن الملاحظ أن أغلبية هؤلاء يرون أن الموقف العملي الصحيح هو السعي من أجل "تحرير الشعب الفلسطيني من الاحتلال"، والمقصود بهذا هو السعي لإنشاء دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 67، وهو ما يمثل اعترافا ضمنيا، وأحيانا صريح، بحل الدولتين، وبالتالي بحق إسرائيل، على الأقل عمليا، في الوجود.



المجموعة الجذرية الأكثر أهمية التي تجاوزت هذا المنظور هي متسبين (التي اندثرت حاليا). وقد طرحت أن طبيعة الصهيونية ودولتها تستدعيان ضرورة الثورة الشاملة لتغييرهما. إلا أن هذه الرؤية لا تجد أصداءً واسعة في الوقت الحالي.



يمكننا على هذا الأساس تفهم الجدال داخل اليسار الإسرائيلي حول حل الدولة وحل الدولتين. فإحدى نقاط الخلاف وسط اليسار الراديكالي، تدور حول التعريف الذاتي للـ"شعب اليهودي" الذي لا يراه معظم اليسار "قومية" بالمعنى المعروف لهذا المصطلح. لكن مع ذلك فأغلبية هذا اليسار تقبل بوجود "شعب إسرائيلي" له حقوق (مثلا "الحزب الشيوعي الإسرائيلي")، بينما هناك أقلية تراه طائفة استعمارية ليس لها حقوق قومية، وإنما حقوق الإنسان والمواطنة فحسب. أصحاب وجهة النظر هذه، وهم قلة قليلة من اليسار الراديكالي، ينادون بإقامة دولة واحدة فلسطينية ديمقراطية علمانية، لكنهم طبعا لا ينكرون حق اليهود في الحياة على تلك الأرض كمواطنين أفراد يتمتعون بنفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.



ومن القضايا الأخرى التي تضع اليسار الراديكالي على المحك وتكشف ميل أغلبه إلى مهادنة الصهيونية، مسألة العمليات الاستشهادية. فقد ظل هناك السؤال دائما، خاصة في سنوات الانتفاضة الثانية، حول مدى تأييد النضال الفلسطيني. قلة قليلة من اليسار الراديكالي تؤمن بمبدأ "لا نملي على شعب كيف يناضل من أجل حريته". إلا أن الأغلبية ترى ضرورة إقناع الفلسطينيين باتخاذ وسائل نضال يسمونها "أخلاقية" و"فعّالة"، خاصة "النضال غير المسلح"!



ليس هناك خلاف بين الأغلبية الساحقة من عناصر اليسار الراديكالي حول الرفض القاطع لتوجيه عمليات ضد النساء والأطفال، إلا أن توجيه العمليات ضد المجندين وضد المستوطنين أمر موضع خلاف. القليل من اليسار الراديكالي يعتقد أن الفلسطينيين لهم الحق الأخلاقي والقانوني، وفقا لـ"القانون الدولي"، في توجيه ضرباتهم لـ"جيش الاحتلال"، وإن كان لديهم شك في مدى فعالية هذا الحل في ضوء الخلل الرهيب في ميزان القوى. وهناك نسبة أقل توسع من نطاق الأهداف الشرعية للنضال المسلح لتشمل المستوطنين البالغين باعتبارهم قد اختاروا، بإرادتهم الحرة وعن قصد، أن يقيموا في مناطق محتلة، وبذلك فهم يساهمون مساهمة فعالة في عملية الاحتلال. ومع ذلك فإن الأغلبية العظمى من نشطاء اليسار، ترفض رفضا مبدئيا أي عمل عنيف ضد الإنسان أيا كان!



وقد نشر عدد من المفكرين – وهم يشكلون أقلية ضئيلة من اليسار – عدة مقالات تعبر عن تفهمهم، بل وتبريرهم أيضا، "للعمليات الانتحارية". من بين هؤلاء، الأديبة داليا رابيكوفيتش.



الخاتمة


هناك عناصر محدودة من بين صفوف اليسار الراديكالي ترى أن المجتمع الإسرائيلي متعفن حتى النخاع ولا أمل في إصلاحه من الداخل. كثير من هؤلاء انتقل إلى المعسكر الآخر وانضم إلى منظمات عسكرية من اليسار الفلسطيني. وبعضهم اتهمته أجهزة الأمن، كما أسلفنا، بتسريب معلومات لدول عربية. واختار آخرون، ممن يأسوا من إمكانية الإصلاح من الداخل، أن يهاجروا من إسرائيل. وبذلك، أصبح من بقوا هم فقط من يؤمنون بإمكانية الإصلاح من الداخل. فكما لو أن طبيعة وتداعيات الصراع في إسرائيل يفرضان، جسديا قبل فكريا، على اليسار الراديكالي الحقيقي أن يخرج من دائرة الدولة ليستطيع أن يعارضها جذريا.



والحقيقة أن لهذه الظاهرة، نعني تآكل اليسار الراديكالي الحقيقي داخل إسرائيل، جذور بنيوية داخل المجتمع الإسرائيلي بطبيعته الصهيونية. فإسرائيل، بالدعم الإمبريالي غير المحدود، وبسياسة الفصل العنصري المؤسِسة لوجودها، مجتمع متماسك داخليا إلى أقصى مدى يتغذى على معاداته للآخر الفلسطيني ولا تظهر بداخله تشققات طبقية-سياسية كبرى ذات مغزى. مجتمع كهذا لا يمكن إسقاط أسسه من الداخل، بل لابد أن تأتيه الضربة من خارجه، من ثورة الطبقات العاملة العربية. وهذا بالتحديد هو ما يجعل من وجود يسار راديكالي حقيقي، كتيار له تأثير، أمرا بعيد المنال في تلك الدولة. وهو كذلك ما يدفع من يرفضون الصهيونية جذريا، أي يرفضون وجود الدولة الإسرائيلية، إلى مغادرة إسرائيل جسديا أو إلى الانتقال الشامل إلى معسكر الثورة الفلسطينية.


1 أبريل 2008



#محمد_حسني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام وازدواجية الشخصية العربية


المزيد.....




- طبيب فلسطيني: وفاة -الطفلة المعجزة- بعد 4 أيام من ولادتها وأ ...
- تعرض لحادث سير.. نقل الوزير الإسرائيلي إيتمار بن غفير إلى ال ...
- رئيسي: علاقاتنا مع إفريقيا هدفها التنمية
- زيلينسكي يقيل قائد قوات الدعم الأوكرانية
- جو بايدن.. غضب في بابوا غينيا الجديدة بعد تصريحات الرئيس الأ ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة الجعف ...
- طفل شبرا الخيمة.. جريمة قتل وانتزاع أحشاء طفل تهز مصر، هل كا ...
- وفد مصري في إسرائيل لمناقشة -طرح جديد- للهدنة في غزة
- هل ينجح الوفد المصري بالتوصل إلى هدنة لوقف النار في غزة؟
- في مؤشر على اجتياح رفح.. إسرائيل تحشد دباباتها ومدرعاتها على ...


المزيد.....

- الديمقراطية الغربية من الداخل / دلير زنكنة
- يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال ... / رشيد غويلب
- من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت ... / دلير زنكنة
- عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار * / رشيد غويلب
- سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية / دلير زنكنة
- أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره / سمير الأمير
- فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة / دلير زنكنة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم - محمد حسني - ماذا عن -اليسار الراديكالي- في إسرائيل؟