أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - شمس الدين الكيلاني - ملاحظات حول برنامج -التجمع الوطني الديموقراطي- في سوريا















المزيد.....



ملاحظات حول برنامج -التجمع الوطني الديموقراطي- في سوريا


شمس الدين الكيلاني

الحوار المتمدن-العدد: 159 - 2002 / 6 / 13 - 20:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


"النهار"

الخميس 13 حزيران 2002
 

بعد عبد الرزاق عيد ومحمد سيد رصاص ورضوان جودت زيادة وياسين الحاج صالح، اليوم مساهمتا شمس الدين الكيلاني واحمد الطيار ضمن سلسلة كتابات مثقفين سوريين في اعادة القراءة النقدية لتجربة المعارضة السورية منذ وفاة الرئيس حافظ الأسد.

 

شكل إعلان "التجمع الوطني الديموقراطي" عن "برنامجه السياسي" في صورة علنية، وبحضور اعلامي ملحوظ، وذلك بتاريخ 20/12/،2001 في مكتب الاستاذ حسن عبد العظيم الناطق باسم "التجمع"، محطة مهمة في الطريق الطويل المعقد للتحول الديموقراطي في سوريا، واشارة الى ما يمكن ان تؤول اليه العلاقة بين المعارضة والديموقراطية، التي يشكل التجمع منبرها الاساسي، والسلطة، وذلك بالانتقال من مرحلة الصراع وسياسة الاقصاء المتبادل، والاحتكام الى المنطق "الامني" وما يستتبعه من حياة سرية، وحذر ومرارة، الى علاقة يحكمها المنطق التكاملي، تأخذ فيه المعارضة السلطة مأخذ الجد كلاعب رئيسي في العملية الوطنية، لا ان تقفز فوقها، وذلك بأن تركز نقدها على سياساتها وبرامجها في محاولة منها لتغيير اتجاهات تلك السياسات والبرامج، معتمدة على اساليب العمل السلمية والعلنية معاً. وتنظر فيه السلطة في المقابل الى المعارضة كمكوّن اساسي وضروري للاجتماع السياسي وللمجال السياسي، الذي لا يمكن ان ينشأ فعلياً إلا بوجودها، وكعنصر ضروري مكمل للحياة الوطنية ذاتها، كشرط لازم للاستقرار السياسي وللتحول الاجتماعي - السياسي السلمي الذي يجنب البلد الهزات التي يمكن ان تحدث في ظل انعدام الشفافية، وغياب الرأي العام الفعلي المعبر عن الاتجاهات الحقيقية للمجتمع، ويساعد السلطة والمعارضة والمجتمع المدني على التجديد والتبصر.

ولقد أعقب هذا الاعلان اشارات عدة من السلطة توحي بأن الميل الغالب عندها ينحو في هذا الاتجاه، وان ببطء، فقد تعاطت مع هذه العلنية بمرونة، وهو ما تجلى في المقابلات التي اجرتها بعض رموزها مع شخصيات ممثلة "للتجمع"، وفي تعاطيها الايجابي مع الظهور العلني لبعض المطلوبين أمنياً لديها، وأيضاً مع استمرار نشاط منبر "جمال الأتاسي" ومنابر أخرى بما فيه الاعلان عن منبر "الكواكبي".

وانني هنا أهنئ "التجمع" بهذه الخطوة المهمة، ان في سلوكه اسلوب العلنية والطريق التدرجي السلمي، او في صوغه وثيقته البرنامجية التي قدمت، رغم بعض ملاحظاتنا عليها، تصوراً استراتيجياً لعملية انتقال سوريا الى الديموقراطية في أفقها العربي، ستزداد أهميته مع استمرار النهج الاصلاحي في السلطة وتعميقه، وما يصاحبه من توسع "المجال السياسي" واستقطابات الرأي العام.

ويمكن القول: ان البرنامج جيد، يعالج المسائل الرئيسية في شكل مكثف ومفهوم، وباختصار يقتضيه العمل البرنامجي. ومن المفيد للتجمع اذا اصدر مجلة فصلية ان يخصص عددها الاول لمناقشة القضايا النظرية المتعلقة بموضوعاته لاغناء تلك الموضوعات وتعميق فهمها.

يتضمن "البرنامج السياسي" مقدمة تصوغ الاتجاهات المركزية للتجمع، واهدافها ومطالب عامة، تتفرع بدورها الى تصور عن بناء الدولة الحديثة الديموقراطية في سوريا، ويتضمن أيضاً الشروط اللازمة لاصلاح البناء الاقتصادي والاجتماعي والموضوعات المتعلقة بالسياسة العربية والدولية بما فيها تصوراته عن الوحدة والمسألة الفلسطينية.

 

امتزاج الانتقال الديموقراطي بالنهج السلمي والتوافقي

يحدد البرنامج بطريقة مناسبة المرحلة الانتقالية الديموقراطية في سوريا، معتمداً نهجاً سلمياً توافقياً يفتح الباب على مصراعيه لحوار مع كل الاطراف بما فيها السلطة كلاعب رئيسي في عملية الاصلاح، فيذكر: "تمر البلاد اليوم في مرحلة انتقالية جديدة تتيح امكان الحوار والتواصل بين القوى الاجتماعية والتيارات الفكرية والسياسية، وترسي المقدمات الضرورية لمصالحه وطنية هي الشرط الرئيسي لتجاوز رواسب الماضي، وحل مشكلات الحاضر التي بات حلها يستدعي مشاركة جميع قوى المجتمع".

وبعد ان يشير الى ان الازمة التي تراكمت عناصرها لمدة عقود، وأصبحت شاملة، يقتضي الخروج منها "مخرجاً سياسياً، يعيد بناء الحياة السياسية على اساس المواطنة... وعلى مبدأ سيادة القانون" يظهر تفهمه للتدرج في عملية الاصلاح، مؤكداً ان الاصلاح هذا "لا يمكن ان يتم بين يوم وليلة، ولا يمكن ان يتم دفعة واحدة... ولا بد ان يكون متدرجاً وعقلانياً، وان تشارك فيه جميع قوى المجتمع والدولة". مؤكداً بعدها على ان التجمع "حركة سياسية معارضة، تنتهج اسلوب المعارضة الديموقراطية العلنية". ويرى في العلنية اختياراً سياسياً مبدئياً لا عودة عنه... وفي الحوار مع جميع القوى والاحزاب والتنظيمات السياسية بلا استثناء، "مدخلاً مناسباً لانتاج السياسة في المجتمع، ولاعادة توحيد الحقل السياسي".

ثم يطرح البرنامج مطالب عامة للاصلاح السياسي يمكن ان تشكل قاعدة للاجماع، كوقف العمل بحالة الطوارئ والاحكام العرفية. والتأكيد على حرية الفرد وحقوقه الانسانية والمساواة، وفصل السلطات، والتأكيد على مبدأ الانتخاب الحر والسري في جميع مستويات الحياة الديموقراطية، واطلاق الحريات العامة، وتعزيز الحكم المحلي على قاعدة الانتخاب.

إلا ان البرنامج، وخارج سياق ما يتسم به من مرونة وانفتاح، يقيد نفسه واصحابه في شأن تعديل الدستور على قاعدة الاسس الديموقراطية، بصيغة وحيدة، وذلك بطرح فكرة الدعوة "لجمعية تأسيسية وطنية تضم مختلف القوى والفاعليات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لوضع دستور ديموقراطي". ونحن نعتقد ان هذه الصيغة تشكل قيداً على البرنامج، وتغلق الطرق الاخرى الممكنة.

 

القضية الفلسطينية

من النقاط الايجابية في البرنامج، في ما يخص القضية الفلسطينية، هذا الجمع بين الرؤية التاريخية الطويلة المدى للصراع العربي - الاسرائيلي بجذوره ومآلاته النهائية، مع التمسك بالحقوق العربية التاريخية والسياسية بفلسطين، وسياسة عقلانية تراعي "التمرحل" في التاريخ، ومحطات ميزان القوى لطرفي الصراع. فقد ربط البرنامج بين وجود الكيان الاسرائيلي، وتالياً المشكلة الفلسطينية، بتوسع الهيمنة الغربية، وبالتخلف العربي، والتجزئة، وصار هذا الصراع تالياً بمثابة "صراع وجود مرتبط بميزان القوى الدولي والاقليمي والعربي" وبمآلات "مشروع النهضة القومية الديموقراطية"، ليخلص بعد هذا الى نتيجة تجمع، كما قلنا، بين الاستشراف التاريخي "الما بعد استراتيجي" للصراع، وسياسة عقلانية تتعامل بجد مع ميزان القوى الذي يمكن ان يستلزم اجراء تسويات مرحلية لهذا الصراع، اذ يشير الى ان "التجمع لا يرى في اي من التسويات التي حصلت والتي يمكن ان تحصل، او فيها جميعاً، نهاية الصراع مع العدو الصهيوني، بل مرحلة من مراحله ولحظة من لحظات سيرورته التاريخية... فلا بد ان تقاوم الامة العربية ولا بأس ان تفاوض، ولكن من دون ان تنسى لحظة واحدة ان هذا الصراع لا بد ان يحسم في النهاية لمصلحة احد الطرفين". ولكن كان الاحرى به ان يقول "لا بد ان يحسم لمصلحة العرب".

 

ملاحظات نقدية

واذا كنا قد ركزنا في البداية على النقاط الايجابية في البرنامج، فانه لا يفوتنا التنويه بالموضوعات الاخرى التي يجب التوقف عندها، لما يعتريها - في نظرنا - من قصور وضعف، ويمكن اجمالها بخمسة مسائل رئيسية: أولها يتعلق بمفهوم البرنامج عن الديموقراطية، وثانيها بالاصلاح الاقتصادي - الاجتماعي، وثالثها بمسألة الوحدة العربية، ورابعها يتعلق بما يلزم للتعاطي مع العولمة والنظام العالمي الجديد، وخامسها بطريقة فهم البرنامج لماهية العلاقة التي تربط احزاب التجمع ببعضها.

 

الديموقراطية

توحي القراءة الاولية للبرنامج، بسيطرة مفهوم ايديولوجي للديموقراطية يجعلها مفتاحاً للخلاص من الازمة العامة الداخلية ومن الفساد، وللخروج من الازمة الاقتصادية الاجتماعية، وللوحدة العربية، وكأن اطراف التجمع قد استبدلوا الديموقراطية بمفهومها القديم الايديولوجي الصنمي عن الاشتراكية الحاملة للمفتاح السحري للجنة الارضية. وفي كلا الحالين تجري التضحية بالبعد التاريخي النسبي والواقعي، فالتلهف الضروري واللازم للديموقراطية في بلادنا، يجب ألا يقودنا الى اخطاء نخلط فيها بين المفاهيم والمهمات والسياقات والتوسطات بين المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، فلكل من هذه المجالات قوانينه الخاصة التي تتبادل التأثير بطريقة معقدة مركبة، عبر توسطات متشابكة شديدة التعقيد، وليست بسيطة او ذات تأثير سببي احادي الجانب.

صحيح ان الديموقراطية بما توفره من حضور سياسي للمجتمع، توفر مناخاً أكثر ملاءمة لتظهر المشكلات اكثر شفافية ووضوحاً امام الجميع، وتفسح المجال للتدخل الاجتماعي وللرأي العام، إلا انها وحدها لا تحل اية مشكلة لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوى القومي، فطريقة الحل هنا تتوقف على التوازنات الكبرى في المجتمع وعلى القوى الاجتماعية، وعلى من يمسك بالنهاية بالقرار في اطار اللعبة الديموقراطية. لقد تمت التضحية سابقاً بالديموقراطية على مذبح الاشتراكية او التقدم او الخلاص القومي او لنجاة امة المؤمنين، عندما وضعنا تلك المسميات شروطاً، او الاصح قيوداً عليها، فقبرنا الديموقراطية، ولم نشيّد الاشتراكية او التقدم او نوحّد الامة او نبعث امة المؤمنين. فعلينا الآن ألاّ نقلب الاتجاه ونجعل من الديموقراطية "خاتم سليمان"، والاّ نحمّلها ما لا طاقة لها به.

فالديموقراطية قيمة عليا بحد ذاتها. ضرورية دائماً للفرد المواطن والمجتمع، في وجود أزمات او باختفائها. الحرية ضرورة للفرد للتعبير عن نفسه وعن دوره الاجتماعي، وضرورة للمشاركة الفعلية للجماعات المختلفة في الشأن العام، وفي تقرير مصائرها ومصائر بلدها وأمتها. وهي الاطار الملائم للتنظيم السلمي للاختلاف بين الجماعات المختلفة والافراد، وبين هؤلاء والدولة، ويكفيها هذا لتصوغ تبريراتها الخاصة لنفسها.

تنتسب الديموقراطية اساساً الى "المجال السياسي" والى المجالات الاخرى التي يخترقها مفهوم "السلطة"، إن كانت سلطة المدرسة او الاسرة او الجامعة او الحزب او المؤسسة، وفي جوار ذلك فان اندماج الثقافة الديموقراطية في المجتمع وتطورها، بما يعنيه من اعتراف بالآخر وغلبة روح الانفتاح على التعصب ولغة الحوار السلمي على نزعة الاقصاء والنبذ، يشكل مناخاً ضرورياً لنجاح الديموقراطية في "المجال السياسي".

ودور الديموقراطية الاساسي هو في وضعها الاطار والآليات لضبط الاختلاف وتنظيمه بطريقة سلمية، لا سيما بين الجماعات التي يزخر بها المجتمع السياسي، وبين الاخير والدولة، فتوفر تالياً الشروط اللازمة لتداول السلطة بطريقة سلمية تقطع الطريق على الفتنة.

وهي بمعنى من المعاني تقف على الحياد أمام البرامج المختلفة التي تطرح نفسها على الصندوق الانتخابي، وتأخذ موقفاً عدمياً صرفاً، أي حيادياً، طالما هي اطار منظم فحسب لما يزخر به "المجتمع السياسي" من قوى واتجاهات. هو الموقف العدمي نفسه الذي يأخذه صندوق الانتخاب البارد من البطاقات التي تتساقط داخله، اذ لا يكترث إلا برقم الاكثرية والاقلية. اما المضامين فيحددها اصحابها وميزان القوى الاجتماعي والرأي العام. فليس هناك من ضمانة تدعونا لتصور انه سيتولد عن الديموقراطية وبطريقة ميكانيكية اطلاق اقتصادي او اندفاع في اتجاه الوحدة، او موقف ملائم لمواجهة العولمة، او زوال البطالة والفساد، وكل العيوب الأخرى. فالخيارات السياسية والاقتصادية الكبرى تتعلق بميزان القوى الاجتماعي والسياسي التي تتمخض عنه اللعبة  الديموقراطية، وبالرأي العام وبارادة القوى التي تمسك بزمام الأمور. لقد رأينا ما حصل في روسيا وبلدان شرق اوروبا من فساد وانهيار وبروز المافيات والظواهر الفاسدة الاخرى، بما فيها استهانة الحاكمين بسيادة البلد. الا ان هذا الطريق ليس حجة على الديموقراطية التي تظل الاطار الوحيد الذي يفتح الطريق سلمياً لتعديل ميزان القوى، ولتغيير وجهة الرأي العام، ولجعل المجتمع حاضراً دائماً في الدفاع عن خياراته ومصيره.

 

الاصلاح الاقتصادي الاجتماعي

لم يقدم البرنامج صيغاً ملموسة للاصلاح الاقتصادي الاجتماعي، وهي من المهمات الكبرى التي يتوقف مصير البلد برمته على اختيار احد  سيناريواتها المطروحة على الدولة وعلى المجتمع ايضاً. ولقد زخرت الصحافة الرسمية والندوات الاقتصادية التي ادارتها السلطة او الجماعات الاخرى بالكثير من الدراسات والتساؤلات والخيارات: فهناك مسألة المصارف والقوانين والمراسيم المنظمة للاستثمار، واستحقاقات الشركة مع السوق الاوروبية واتفاقات "الغات" والسوق العربية المشتركة، وفساد قطاع الدولة ومسائل كثيرة أخرى كان يجب التبصر بها واتخاذ سيناريو معين حيالها.

ولكن بدل ذلك اكتفى البرنامج برؤوس اقلام تكرر "دور القطاع العام الأساسي في التنمية، وفي قيادة القطاعات الاساسية"، والاهتمام بشؤون اصحاب الدخل المحدود.  وهو واجب، ولكن كيف؟ في النهاية طرح لأزمة خاطئة تعادل بين "الاصلاح الاقتصادي والاصلاح السياسي" بالقول "ان الاصلاح الاقتصادي هو اصلاح سياسي في المقام الأول". والحال ان المجالين مختلفان، اذ حتى عندما يتم الاصلاح السياسي "يظل السؤال مطروحاً على الصعيد الاقتصادي: اي سبيل نسلك؟ اذ يمكن الاصلاح السياسي ان يخفف وتيرة الفساد، ولا ادري ان كان سيزيده! أما الخيارات الاقتصادية فتظل مفتوحة على خيارات مختلفة تحددها اساساً النخبة الحاكمة، وثانياً الاتجاهات الغالبة للرأي العام.

فالبرنامج لا يطرح أي خيار جدي، أما حديثه عن الدور القيادي للقطاع العام فأخشى ان يكون اصحاب البرنامج لا يزالون أسرى مفهوم فقير للاشتراكية يعادل بين القطاع العام والاشتراكية، او بمعنى أوسع بين "الملكية العامة لوسائل الانتاج" والاشتراكية! فاذا كان الأمر كذلك فانني اتمنى ان ينقل الاشتراكيون العرب خياراتهم في اتجاه "دولة  الرعاية الاجتماعية" بمعنى توسيع دائرة الضمانات الفعلية التي تتكفل بها الدولة لتشمل الصحة والبطالة والتعليم، وغير ذلك، بدل الحديث عن القطاع العام او "الملكية العامة لوسائل الانتاج"، والانتباه اكثر الى معايير الانتاج وفاعليته في النظر الى الاقتصاد.

 

مفهوم الوحدة

ما زال البرنامج اسير مفاهيم الخمسينات والستينات عن الوحدة، اي المرحلة الناصرية، او ان شئتم مفاهيم "المرحلة التقدمية" التي كان لها صياغاتها ومرجعياتها المناسبة، وقوة دفعها، ودولها القطرية الهشة.

فمشروع عبد الناصر الوحدوي (التقدمي) استقطب الرأي العام العربي، وهيمنت افكاره على الأكثرية الكاثرة من الجمهور والنخبة العربية، وكانت حينها الدولة القطرية حديثة التكوين، ولم تترسخ بعد روابط نخبها بها. وتبوأت قيادة عبد الناصر ومعه مصر موقع زعامة الوطن العربي، فطرحت في تلك الاثناء فكرة "الوحدة الاندماجية" استناداً الى تصور مفاده ان على "الطلائع الثورية" مهمة الانقلاب او الامساك بالسلطة في بلدها من طريق الثورة، لتتحد بعدها بـ"الأقليم القاعدة": مصر بزعامة عبد الناصر، وهكذا الى ان تقوم "الجمهورية العربية المتحدة" من كل اقطار الأمة. وانفتحت في تلك الظروف، وتحت قيادة ناصر، امكانات فعلية لتحقق هذا الحلم/ المشروع. ولكن لاسباب كثيرة لم يحدث هذا.

اما الآن فنحن امام حقبة جديدة بكل المعايير، فهناك أمة عربية في 22 دولة ترسخت بنياتها وتوطدت، ولم يعد هذا التصور (التقدمي) القديم للوحدة قائماً، فكان من واجب البرنامج ان يطرح صيغة ملموسة وغير ضبابية وعامة عن الوحدة، فلم يختلف مع افكار المرحلة التقدمية الا باستبداله الديموقراطية بالاشتراكية كمقدمة وحافز للوحدة.

في سياق الظروف الجديدة يجب تجديد اساليب العمل لخلق كيان سياسي للعرب، يُترك فيه خيار الوحدة مفتوحاً، ومرغوباً به، بين أي قطرين عربيين. فالشعوب العربية لن تخسر شيئاً من وراء ذلك سوى قيودها القطرية، ومن المشروع الحديث على ان الديموقراطية تشكل مدخلاً مناسباً لأي عمل وحدوي جدّي بين قطرين عربيين أو  أكثر، إلاّ ان الجهود الكبرى للقوى الوحدوية يجب ان تتركز على تنشيط العمل العربي المشترك في اطار الجامعة العربية ومؤسساتها وسوقها وميثاقها للدفاع المشترك.

اذ علينا ان نعاين الشروط العامة الجديدة التي فرضتها الهيمنة الغربية بقيادة اميركا على العالم، مع ما يتضمنه ذلك من ضغوط هذه الهيمنة على الميول الوحدوية التي يمكن ان تظهر عند هذا القطر العربي او ذاك. ومن دعم للنزعة القطرية، وللأطر الديموقراطية والادارية. لهذا يصبح الطريق الوحدوي الأكثر جدوى هو الطريق الذي يعتمد "الجامعة العربية" اطاراً للعمل العربي المشترك، وحاضناً للجهد الموحد للعرب، لتكوين قاعدة مستقرة للتقارب العربي المتدرج والمؤسسي المستقر على كل الصعد: الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، للوصول الى ارساء قواعد "الجماعة العربية"، على غرار صيغة "الجماعة الاوروبية"، والارتقاء بشبكة علاقاتها حتى الوصول الى صيغة اتحادية او وحدوية مناسبة.

 

ملاقاة العولمة

يعاين البرنامج المرحلة الراهنة للهيمنة الاميركية وما رافقها من عولمة، والتي بدأت تفرض قوانينها شيئاً فشيئاً على العالم، الى درجة ما عاد يكفي معها مواجهة هذا الوضع بأخذ موقف دفاعي على طريقة البرنامج، الذي يضع مهمة وحيدة لمواجهة تيار العولمة والهيمنة الاميركية وهي "استعادة الدولة الوطنية المعبرة عن الكلية الاجتماعية، وتحرير المجتمع من براثن العسف".

والحال ان تيار العولمة الجارف يفرض قواعده على الجميع، ويقونن نفسه عبر منظمات عالمية لها سطوتها الكوكبية، مما دفع كل البلدان في العالم لأخذ هذا الأمر مأخذ الجد، فاتجهت الى ترتيب اوضاعها لملاقاة استحقاقاته بأقل الخسائر الممكنة من طريق ترتيب اوضاعها الاقتصادية الداخلية، واقامة تكتلات اقليمية تمكنها من التفاوض من موقع أقوى.

قياساً على هذا، تبدو صيغة البرنامج فقيرة تقتصر على انكفاء وحسب، بدلاً من الدعوة الى تكتل اقتصادي عربي فعال يوفر موقعاً تفاوضياً قوياً في اطار العولمة. فداخل هذا المكون العالمي للعولمة صراع ارادات بين الكتل المختلفة.  ومَن ينكفئ على نفسه يضع نفسه خارج الدائرة الكبرى لتيارات التبادل والانتاج العالمي، ومن ينساق مستسلماً دون استعداد يخسر نفسه.

 

العلاقة بين اطراف التجمع الوطني

العلاقة بين اطراف التجمع لها تاريخ طويل عمره ما يعادل ربع قرن، والأمل يحدو الكثير من الغيورين أن تتمخض هذه العلاقة عن تشكيل سياسي او جماعة سياسية واحدة، ولا سيما ان هناك اتفاقاً بينهم حول القضايا الاستراتيجية الكبرى الداخلية والعربية والدولية. وهذا يكفي لنشوء هذه الجماعة الموحدة التي كان بامكانها بعد توحيدها ان تترك التمايزات تعبر عن نفسها بحرية داخلها، بعد ان تعيد النظر في انظمتها الداخلية القائمة على الترسيمة اللينينية المعنونة "المركزية الديموقراطية" والتي ترجمت في التطبيق الى ديكتاتورية المركز، والأمين العام. وان تستعيض عنها بصيغة أخرى توازن بين الديموقراطية والمركزية لمصلحة الأولى.

يذكر البرنامج ان اطراف التجمع "يجمعها على اختلاف رؤاها الايديولوجية هدف مشترك هو التغيير الديموقراطي"، ويذكر في فقرة أخرى انها خمسة احزاب سياسية ذات تلاوين ايديولوجية مختلفة.

لكننا نستطيع القول: ان ما يباعد بين هذه الاحزاب ليس الالوان الايديولوجية المختلفة، بل حنينها الى مرجعياتها التاريخية، وتصلب اطرها الحزبية والتعصب لها: فالبعث الديموقراطي له مرجعيته وحنينه الى مرحلة 23 شباط، وحزب العمال الثوري الى افكار ياسين الحافظ وهي مزيج من الناصرية والماركسية المتجددة باهاب علماني راديكالي، وجماعة المكتب السياسي لا يزال يشدّ بعض قادته الحلم بوراثة التركة الشيوعية، والاشتراكيون العرب مشدودون الى المرجعية الرمزية لأكرم الحوراني، اما الاتحاد الاشتراكي الذي شكلت افكاره وتوجهاته قاسماً مشتركاً لاحزاب التجمع، فقد شدته دائماً مرجعية الخطاب الناصري وحقبة نضاله ضد الانفصال.

إلا أن هذا التباعد على صعيد المرجعيات المؤسسية لم يقف عائقاً أمام تجديد برامجها، لتلتقي علي مواقف سياسية استراتيجية واحدة، تغطي مهمات مرحلة تاريخية كاملة، وتتضمن في جملة ما تتضمن ايديولوجيا واحدة مضمرة في هذا البرنامج، وهي تبني تصور خاص للحداثة يجعل من الامة ووحدتها وبناء الدولة القومية والديموقراطية سياجاً للعمل السياسي قاعدة لهذه الحداثة، مع تبني العقلانية والتاريخية كسياج فكري لها. فتبدو التلوينات الايديولوجية، والحالة هذه، على قدر لا يمكن ادراكه الا لعتاة الايديولوجيين العقائديين عند هذه الاحزاب!

بل يمكنني القول: ان على الحزب السياسي الحديث تجاوز فكرة الايديولوجيا الشمولية كأساس لعمله السياسي، وان يتمركز نشاطه على القضايا الملموسة للمجتمع، بأن يكون له تصور محدد لحلها، وإلاّ حولته عقائده طائفة جديدة او اقلية منغلقة على نفسها تنتظر قيادة المجتمع الى الجنة الموعودة، علماً ان اصحاب هذه الايديولوجيات الشمولية كانوا الاكثر عرضة للانقسام والاختلاف، الى درجة التحارب والاقصاء، وفضلاً عن انه لا يحق لنا ان نطالب الحداثيين هؤلاء ان يعزلوا الايديولوجيا، باعتبارها شأناً فردياً، عن السياسة، كما يطالبون هم أنفسهم عزل الدين عن السياسة متناسين ان ايديولوجيتهم ذاتها ليست سوى دين جديد بإهاب علماني حداثي!

لقد تجاوز اطراف التجمع المواقع المختلفة لمرجعياتهم التاريخية، عندما توصلوا الى تصور مشترك حول الحقبة الناصرية، بمن فيهم الشباطيون والحورانيون على اختلافهم القديم مع عبد الناصر والحقبة الناصرية، وهو ما عبر عنه البيان بالقول بإن العرب قد "سنحت لهم فرصة تعديل ميزان القوى (بين العرب واسرائيل) بمحاولة النهضة الثانية التي قادها عبد الناصر، ولكن الامة العربية فوتت تلك الفرصة".

***

ألا يشكل هذا التقويم المشترك للحقبة الناصرية مرجعية تاريخية، يمكّن هذه الاحزاب جميعها ان تجعل من نفسها وريثة، واستمراراً نقدياً لها، بعدما تضع هذه الحقبة في صلب تاريخها الخاص، وان تترك ما سمّته التلاوين الايديولوجية خياراً فردياً يعبر عنه داخل التجمع ذاته، بكل حرية، بعد تحويل الاطراف جماعة سياسية واحدة وديموقراطية فعلاً وقولاً.



#شمس_الدين_الكيلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - شمس الدين الكيلاني - ملاحظات حول برنامج -التجمع الوطني الديموقراطي- في سوريا