حراسة الأخلاق

علي العمري

الحوار المتمدن-العدد: 2609 - 2009 / 4 / 7 - 09:24
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

من جملة القضايا التي يصعّدها الإعلام الرسمي في السعودية هذه الأيام قضية تجاوزات جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكما هو معروف فقد ظلت هذه الهيئة في منطقة التابو لسنوات طويلة لا يطالها النقد ولا يُسمح بمناقشة أخطائها في وسائل الإعلام، لذا فربما يكون تصعيد أخطاء رجال الهيئة ومناقشة أشكال تجاوزاتهم القمعية هذه الأيام مؤشراً إلى توتر العلاقة بين السياسي والديني ولو مؤقتاً، مما يجعل من المشروع طرح أسئلة تتعلق بكيفية فهم الحراك الاجتماعي والديني والسياسي اليوم في السعودية.
وفي البدء أتصور أن الإعلام الموجّه دائماً لا يأخذ المتابع إلى منطقة الأزمات الحقيقية، فما نشهده اليوم إعلامياً في السعودية من دعاوي تتعلق بحقوق المرأة والإصلاح الاقتصادي والثقافي وحتى الديني، أظنه للاستهلاك الإعلامي ولتغييب مشاكل وأزمات أشد حساسية داخل النسيج الاجتماعي.
من السهل طرح قضايا تتعلق بالعنف الأسري أو تجاوزات رجال الهيئة أو الضخ الإعلامي الذي يحث على التسامح ونبذ الإرهاب ... الخ، لكن من الصعب طرح قضايا تتعلق بجذور العنف في الفكر الديني السائد، أو إعادة النظر بجدية في مناهج التعليم وأنظمة القضاء، والرقابة على المال العام، والتحرك العملي لسن قوانين واضحة تؤسس لبنى أولية لمجتمع حديث.
إن المسألة أعقد من اختصار الصراع في تيار ليبرالي صغير يساند الحكومة من أجل إصلاحات آنية وسطحية وتيار ديني متشدد يسعى للحفاظ على مكتسباته التاريخية، فثمة تصاعد للحس القبلي والطائفي داخل المجتمع، وهناك مشاكل اقتصادية ملموسة تتعلق بالبطالة والبيروقراطية وتزايد الفقر ونقص المياه.
لقد عانى الإنسان في السعودية من طفرات اقتصادية مادية لم يواكبها تحديث على مستوى البنية الاجتماعية في ظل حالة من الضغط الإديولوجي الديني والسياسي حاولت فرض التبعية وخلق نوع من الهوية الهشة، وهي التي تجعل الإنسان إلى اليوم مرتبطاً شعورياً ونفسياً بالقبيلة والمنطقة والطائفة والعائلة لأنه لا يشعر بالانتماء ولضرورة الاحتماء بنوع من الهوية الخاصة.
وجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا السياق هو أحد أدوات السلطة الثيوقراطية، بوليس في ثوب ديني، يعمل للحفاظ على نقاء المجتمع من أي مختلف وبقائه بالقوة ضمن التصور المسموح به.
وبنظرة تاريخية نرى أن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تُـطبَّق اليوم في السعودية هي في الأصل تقليد ديني سعودي قديم يعود بجذوره إلى ما بعد حركة محمد بن عبد الوهاب وقيام الدولة السعودية الأولى (1744- 1818م)، إذ في جوهر هذه الحركة إصرار على إعادة (هداية) الناس وردهم إلى الطريق المستقيم سلوكياً وأخلاقياً وطقوسياً، وهنا يأتي دور (المطاوعة) من يتطوعون ويحتسبون عند الله هداية الآخرين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
ويروي الرحالة الإنكليزي وليم بلجريف الذي زار الرياض عام 1863م في حقبة الدولة السعودية الثانية أن الاحتلال المصري لمنطقة نجد وما صاحبه من تغيرات ومظاهر اجتماعية إضافة إلى انتشار مرض الكوليرا الذي فسره الناس باعتباره عقاباً من الله لانتشار الفساد والرذيلة، كل ذلك جعل الملك (فيصل بن تركي) يتدخل ويطلب في اجتماع ضم المشايخ وأعيان نجد ضرورة الإصلاح وأن يحاسب الناس أنفسهم، وقد تمخض هذا الاجتماع عن اختيار اثنين وعشرين رجلاً من المشهود لهم بالصلاح والتقوى للقيام بمحاربة الشرك ومظاهر الفساد والانحلال في المجتمع، من هنا بدأ (المطاوعة) وهو الاسم الذي أُطلق على هؤلاء الأشخاص المختارين العمل بصلاحية كاملة من الملك وقد ركزوا على محاربة التدخين، ومحاسبة أي متغيب عن صلاة الجماعة، والحث على عدم الإفراط في السهر، ومنع أي نوع من الموسيقى أو مظاهر اللهو.
ومع الملك عبد العزيز أصبح المطاوعة شبه موظفين برواتب ثابتة بحسب مضاوي الرشيد التي تقدم رؤية تفصيلية للجذور الاجتماعية الحضرية للمطاوعة وتطورهم التاريخي وأدوارهم الهامة في ترسيخ السلطة السياسية وضمان ولاء الناس لها.
وجهاز الهيئة بنظامه الحالي يعود إلى ما بعد حركة جهيمان وحادثة الاعتداء على الحرم المكي، وكما يذكر المحامي عبد العزيز القاسم فقد صدر نظام متعجل في حينه للهيئة ومُـنحت سلطات متعددة، وتقبلها الناس كبديل في ظل عجز الجهاز الأمني الرسمي عن القيام بمهامه خاصة ما يتعلق بالقضايا الأخلاقية.
هكذا يتضح أن ربط فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بجهاز أو أشخاص يرتبطون بالسلطة السياسية ويدينون بالولاء لها تقليد قديم في السياسة السعودية، وأداة قمعية لتنفيذ رؤية الدولة حول كيفية سير الحياة اليومية وضبط سلوك الناس ضمن أفق منخفض دائماً.
وإذا كان ليس من المتوقع فيما أظن أن يتمخض عن الجدل الدائر حالياً إلغاء كلي لهذه الهيئة، فإن الفرصة مواتية لطرح التساؤلات حول شرعية وجود هذه الهيئة اليوم، وأسباب غياب القوانين المدنية التي تنظم الحياة العامة، وما هي حدود الحرية الفردية، ومن يمتلك الحق في مراقبة سلوكيات الآخرين والحكم على نواياهم، يجب أن يطال النقاش البعد الديني لفكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاختلاف في التأويل والتفسير لمعنى النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في القرآن.

* شاعر وكاتب من السعودية

#علي_العمري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات