أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وائل غالي - تصدع اليقين تحت زازال الشعر- قراءة في ديوان مهدي بندق















المزيد.....



تصدع اليقين تحت زازال الشعر- قراءة في ديوان مهدي بندق


وائل غالي

الحوار المتمدن-العدد: 2609 - 2009 / 4 / 7 - 07:33
المحور: الادب والفن
    


الأسهل عليَّ أن ابدأ بإشارة شخصية. كنت قد كتبت من قبل عن تجربة مهدي بندق النقدية تحت العنوان "دلالة البَلطة والسُّنبلة في الإطلالة على اللسانيات المصرية"، تعليقاً على كتابه "البلطة والسنبلة/إطلالة على تحولات المصريين/دراسة نقدية" (الإسكندرية – دار تحديات ثقافية، ط1 – 2008). ودار نقاشنا على مسألة اللغة وهي وثيقة الصلة بكلامي في هذا الموضع على ديوانه الأخير "فأنزل على سدول التجاهل". فاللغة تقوم على الفروق، لأنَّ كل لفظة تتكون من هذه الفروق، وليس العكس، أيّ ليست الفروق هي التي تكوّن اللفظة. ومن المعروف في اللغة العربية أنَّ أبا هلال العسكري قد ألّف كتاباً على "معرفة الفروق في اللغة، أو الفروق اللغوية".
لعبت التلقائية دوراً مهماً في إبداع مهدي بندق، التحاما ً ثقافيا ًذاتيا ً حادا ً بالواقع ، وتفاعلا ً مع البنى الفكرية بغرض امتصاصها ثم نقدها ، ومع الحياة بقصد تمثلها ثم تغييرها. وهو تقليد مصري معروف أسس له سلامة موسى وعباس محمود العقاد وغيرهما من الكتاب المصريين المحدثين. وقد افتتح سلامة موسى كتابه عن "التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا" (1946) بقوله: "موضوع هذا الكتاب هو تخريج الرجل المثقف. فهو يبحث الثقافة : ماهية، وغاية، وقيمة، كما يبحث لتحقيقها."
والمعرفة التلقائية هي معرفة "القلب" لا معرفة "العقل"؛ حيث لا تسير معرفة القلب في طريق التجزئة والتحليل، إنما هي معرفة كلية ومفاجئة وحدسية، يلي فيها فعل "عرف" في الأهمية فعل "أحسّ". فعلى هذا النحو "المباشر" نطالع الفن بالمعنى الحقيقي. إنَّ النظرة "المباشرة" هي التي يقترب بها الشيء منّا عن طريق مظهره (o).
ثمة أشكال معينة من الفن تستهدف إعطاءنا أشد توكيد ممكن على عملية الخلق وهي في سيرها. فمثلاً، كثيراً ما يُعتبر التخطيط الأولي (الإسكتش) أثمن من الصورة المنتهية لأنَّ فيه إحساساً أكبر بسير العملية. أمثلة أكمل على ذلك: "التاشيزم" والرسم في الحركة، والارتجال التلقائي في موسيقى "الجاز"، ، وذلك النوع من الشعر – في الحركة - الذي غالبا ما يُتلى مع "الجاز"، مثيراً أشباح القدامى من أصحاب الموسيقى التلقائية التي دعا إليها نقاد "البالاد" (القصيدة الغنائية).
إنَّ أشكال الفن كلها التي تعلق أهمية كبرى على "التلقائية المستمرة" تبدو شديدة المقاومة للنقد، بل حتى للثقافة التي هي محيط النقد الطبيعي. ويروي "لورد" في كتابه عن "مُغني الحكايات" أنَّ أشد أنواع الشعر استمرارية عرفه الإنسان، وهي "الملحمة الشكلية"، يقتضي التعليم الذاتي من الشاعر لنجاحه. ويبدو أنَّ هناك صلة لا محيد عنها بين المتصل، من جهة، واللامفكر فيه من جهة أخرى.
هذه الاستمرارية هي، على التخصيص، ما يدعوه أرسطو "بمحاكاة الفعل". انتباه المرء كله متجه نحوها: لا عمل فنياً آخر يسترعي انتباهه في الوقت نفسه، فيشعر المرء بأنّه يمر بتجربة فذة، غير مألوفة، على الأقل كأمر مثالي. ولكن كما في عالم الفعل نفسه، لا يقدر المرء أن يشارك وأن يكون متفرجاً في آن واحد. باستطاعته في أيسر الحالات أن يكون، بعبارة وندهام لويس، "متفرجاً جائشاً". وعدم الرضا عند "وندهام لويس" من "المتفرج الجائش" يشير إلى توكيد مقابل على التأمل المنفصل في ديوان الشعر بأكمله، وهو من التقدم الشديد بحيث يتحدث عن حذف الحس بحركة المشاركة الأفقية في الفنون حذفاً نهائياً. ونحن لن نزيد حجتناً إيضاحاً بتفحص ديوان مهدي بندق "فأنزلْ عليّ سدولَ التجاهل" العنيف والمزعزع لليقينيات هنا، غير أنَّ فيه ما يثير اهتمام كاتب هذه السطور بتضمنه التأكيد، بقوة، على مقترب للشعر بصري وتأملي معاً.
وكما أنَّ حس المشاركة في حركة الشعر العربي الحديث قوي، فذ، وطريف ومعزول عن كل شيء آخر، فإنَّ الحس التأملي لكليته الآنية يميل إلى وضع ديوان الشعر ضمن سياق أو إطار من ضربٍ معين من سياقات عدة. هناك السياق الآليجوري ( الاستعاري / الرمزي ) حيث يرى المعنى أو المغزى الكلي لديوان الشعر بالنسبة إلى أشكال أخرى من المغزى، كالأفكار الخُلقية، أو الأحداث التاريخية. البعض القليل من المقاطع في قصائد الديوان – مثل "موسم الحج الثوري" :
"يبدأ موسم الحج الثوري ّ من مدينة سياتل
حيث تطوف الجموع ملبية ً بميادين جنوا وديربان
وبورت إلليجري
وفي قاموسنا المحيط يزداد الدولار ُ زخـْما ً وزخـَما
فانتبهي يا عشيرتي لهذه الإشكالية الكتابية
فالزخـْم – بتسكين الخاء – يعني الدفع الشديد
والزخـَم – بفتحها اللعين ِ – معناه: الرائحة ُ النتنة
فلـُتسكنوا وُتزخموا شعوبكم ُتيسروا
أو فانظروا إلى اليسار ُتعسروا
فتشعروا وُتشعروا وُتقشعروا"


قد يبدو هذا وكأنه نوع من الآليجورة تقنياً، وهذا يعني أنَّ هذه الصلة الصريحة بالمعنى الخارجي هي أيضا جزء من الاستمرارية. على أنَّ معظم قصائد الديوان ليست آليجورية بهذا المعنى التقني، مع أن لها صلة بالأحداث التاريخية والأفكار الخُلقية.
إنَّ ديوان "فأنزلْ عليّ سدولَ التجاهل" هو آليجورية ولكن موجهة للقوى الذهنية، و هذا هو أسمى أنواع الشعر. بيد أنّ "يوم الدينونة" فيه ليس أسطورة ولا آليجورة، بل هو رؤيا . فالأسطورة والليجورة – بدون الرؤيا - نوعان مختلفان من الشعرأقل شأناً كلياً.
وهكذا يمكن القول إنَّ صور ديوان "فأنزل علي سدول التجاهل" وقصائده ليست آليجورية بالمعنى الإستمراري، ولا هي آليجورية على نحو آخر ظاهر ومركزي. لأنّها لا تخضع خصائصها الأدبية لما فيها من أفكار. كلمة أسطورة هنا Fable مستعملة بمعناها النقدي في القرن الثامن عشر الميلادي: رواية أو بناء أدبي. وكلمة أرسطو للمحتوى الذهني، "ديونيا"، أيّ الفكر، يمكن فهمها على وجهين، كمغزى متعلق بقصة (أسطورة)، أو كبناء الأسطورة نفسها. والثاني، في رأي وليم بليك، يحتوي على معانيه الأخلاقية ضمناً، ويفسد خصيصته الخيالية بافتراض أنَّ مغزىً خارجياً ما، متعلقاً به، يمكن أن يكون مترجماً حقيقياً لما فيه من "فكر".
وهنا يأتي كاتب هذه السطور إلى إحدى المعضلات الأساسية المحيرة في ديوان "فأنزلْ عليّ سدولَ التجاهل". فإذا كان الديوان تعليميا (أو حكميا)، فهو قد يسيء إلى أمانته، وإذا كف عن كونه تعليميا بالمرة، فهو قد يسيء إلى جديته. "الشعر التعليمي هو ما أمقت"، قال شللي، ولكن من البيّن أنَّ شللي، لو لم يكن معظم ما كتب معنياً مباشرة بقضايا اجتماعية، وأخلاقية، ودينية، وفلسفية، وسياسية، لفقد الكثير من احترامه لنفسه كشاعر. ما من أحد يريد أن يكون "ملاكا غير مجدٍ". وبرنارد شو، أحد خلفاء شللي المباشرين في الأدب الإنجليزي، كان يصر على أنَّ الفن يجب ألا يكون إلاّ تعليمياً. هذه المعضلة ُيعالج بعضها بتقديم حل فيه مفارقة. والحل الذي يتميز بالمفارقة هو القطب السالب للحل الآليجوري. فالمفارقة تقدم صراعا إنسانياً نجده، خلافاً للكوميدية، أو الرومانس، أو حتى المأساة، ناقصاً وغير شاف إلاّ إذا رأينا فيه مغزى يتجاوزه، أمراً يتصف به الوضع الإنساني ككل. وأمّا ما هو هذا المغزى، فالمفارقة لن تفصح عن ذلك ، إنّها تترك الإجابة عن هذا السؤال للقارئ ، إن المشاهدة المفارقة هي التي تحفظ للأدب جديته بمطالبتها بمنظور فسيح للفعل الذي تقدمه، ولكنها تحفظ للأدب أمانته بأنّها لا تحدد أو تقلص ذلك المنظور.
وواضحٌ أنَّ مهدي بندق ليس بكاتب مفارقة، ولا هو بالكاتب الآليجوري، وعلينا أن نبحث عن عنصر آخر ، أو سياق آخر لكي نراه على حقيقته فيه.
هذا السياق الآخر الذي قد يوضع فيه ديوان الشعر هو سياق الديوان نفسه، أو ما قد يسمى إطاره النمطي الأعلى. فكما أنَّ التقمص Empathy المستمر ساذج ومستغرق في تجربة فذة وطريفة، فإنَّ التأمل في عمل متكامل أمر واعٍ، ومثقف، وميال إلى تصنيف موضوع التأمل. نحن في الواقع لا نستطيع أن ندرس ديواناً من دون أن نتذكر أننا جابهنا أعمالاً كثيرة مماثلة من قبل. ولذا فإنّنا بعد أن نتتبع ديواناً إلى نهايته، نجد أنَّ استجابتنا النقدية تشمل تعيين قصائده، وأهمها الشكل التقليدي الذي ينتمي إليه وصنفه. وفي هذا المنظور نرى هذا الديوان كإسقاط للموضوع، كطريقة واحدة من طرق كثيرة ممكنة لبلوغ الموضوع. فالذي قرأناه الآن ندرك إنّه كوميدية، أو مأساة، أو شكوى غنائية غزلية، أو معالجة أخرى من معالجات لا تحصى لقصة "تريستان"، أو "انديميون"، أو "فاوست". و"فاوست" بالذات حاضر في ديوان "فأنزل علي سدول التجاهل" منذ السطر الثاني من المفتتح:



"يا أنت يا بوابة الفناء يا فتاة
تعاقدي معي
بالأحرف الأولى"

صدرت أزمة الانتماء لدينا عن صدام بين الحضارة القديمة المتوارثة وبين الحضارة "الفاوستية" الجديدة. وهو الصدام الذي يرجع إلى فترة الحملة الفرنسية على مصر. رواها الجبرتي في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ورواها أخيرا صنع الله ابراهيم في "العمامة والقبعة". وهي استعادة من هذه الجهة لرواية "موسم الهجرة إلي الشمال" للطيب صالح ، ورواية أمين معلوف على "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، والتي سبقت صدور رواية صنع الله ابراهيم بعشرين سنة تقريبا وقد انطلقت رواية "الحروب الصليبية كما رآها العرب" من فكرة بسيطة هي سرد قصة الحروب الصليبية كما نظر إليها وعاشها وروى تفاصيلها في الجانب العربي. واعتمد محتواه بشكل حصري تقريبا على شهادات المؤرخين والإخباريين العرب في تلك الحقبة الدقيقة من تاريخ الصراع العربي – الغربي.
فتحت مصر أبوابها للحضارة الغربية، كما هو معروف، من بعد غزو الفرنسيين لها في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، ومن بعد تقلد محمد على باشويتها في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. فتنبه المصريون إلى أشكال حضارة غريبة عنهم، رأوها أثناء إقامة رجال الحملة الفرنسية بالقاهرة. ومن قبيل هذا إعجاب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي بنظم الفرنسيين في حياتهم، وطريقة فرض ضرائبهم، وأسلوبهم في المحاكمات وفي حركاتهم العسكرية. وتنبه الجبرتي إلى عنايتهم بدارسة الطبيعة المصرية، وشاهد بعينيه وسائلهم لتدوينها وتسجيلها، وحفظ نماذج من نباتها وحيوانها وتربتها وصخورها. ثم هو يلاحظ اتجاههم نحو استخدام الظواهر الطبيعية، على أساس من العلم بها، فيما يوفر على الإنسان مشقة، ويختصر جهداً. ومن أدق ملاحظاته تلك أبداها بعد أن راقب الجنود الفرنسيين – وهم يزيلون متاريس الثائرين المصريين – يستخدمون عربات يد صغيرة ذات عجلة واحدة في نقل الدبش والأتربة بدل نقلها بالغلق. فكأنّ الجبرتي فهم القيمة العملية للعلم، واستخدامه للسيطرة على قوى الطبيعة.
وكما أنَّ بعض أعمال الأدب آليجوري تكتب بصراحة أو باستمرار، فإنَّ بعض الأعمال إشاري باستمرار، أو على الأقل بصراحة، مسترع انتباه القارئ إلى علاقته بأعمال سابقة. فإذا حاولنا أن ندرس قصيدة "نملة حذفتها يد الله" بمعزل عن "تقاليد النمل" التي أسستها "سورة النمل" القرآنية، أو قصيدة "القادمون للهلاك" بمعزل عن علاقتها بـ "جحيم" دانتي، فنحن إنّما نقرؤها خارجة عن سياقها، وهذه طريقة لا تقل رداءة عن اقتباس عبارة خارجة عن السياق. وإذا قرأنا متوالية قصائد "فأنزل علي سدول التجاهل"، من دون اعتبار الطبيعة التقليدية لكل ميزة فيها، بما فيها إلحاح الشاعر على أنه ليس جارياً على التقليد العرفي بل إنه يعشق فتاة هي جنية الشعر التي تغويه في هذه القصائد، فإنّنا نستبدل بالسياق الصحيح السياق الخاطيء. أي أنَّ المتوالية الشعرية تصبح آليجورية بيوغرافية، كما يحدث لسونتات شكسبير.
إنَّ نبوءات مهدي بندق غزيرة العلامات، ولو أنَّ تسعة أعشار العلامات هي إلى التاريخ العربي. التاريخ القديم والعصر الحديث هما شريعة الفن العظيم ، ويعتبر هيكل التاريخ العربي، ممتدا من الخليقة إلى يوم الدينونة وشاملاً تاريخ الإنسان برمته فيما بينهما، مشيرا إلى هيكل التجربة الشعرية برمتها، وأساساً للسياق النهائي للشعر كله مهما يكن. ولو لم يوجد التاريخ العربي، كشكل على الأقل، لوجب على الشاعر أن يبتدع بنياناً متكاملاً ونهائياً مثله، وذلك من أجزاء الأساطير والأقاصيص والحكايات الشعبية التي لدينا.

قرار بفصل أبي سعيد السيرافيّ
ويونس بن متـّى
من وظيفتيهما بجامعة الدول العربية
وقرار بإلغاء المواد: الأولى والثانية والثالثة
وسائر المواد ( بالمرة ) من ميثاق حقوق الإنسان

بنيان كهذا هو أول الفكر النقدية وأشدها ضرورة: انه تجسيد للشعر بكليته كنظام كلمات، وكتجربة تخيلية موحدة إمكانياً. ولكن رغم أنَّ علاقة شعر مهدي بندق المصور بالتاريخ العربي تدنو بنا من تفسير توكيده الموضوعي، فإنّها بحدها لا تعطي تفسيراً كاملاً لهذا التوكيد. ولو فعلت، لما كانت النبوءات، في التحليل الأخير، أكثر من مجرد شروح وهوامش على التاريخ العربي – وهي طبعا أبعد ما تكون عن ذلك.
وإنما أريد للعظام ِ أن تهب من رميمها حية
أريدها .. بشرط أن تخاصم الرشيد
مسخـّر َ السحابة َ التي تجئ ُ بالخراج
أريد هذه العظام َ أن تخاصم المعتزلة
موظفي حكومة ِ الحوار ِ بالكرباج
أريد للعظام ِ أن تحاكم المأمون َ سيد َ الخلافة ِ العقلية
لأن دار َ الحكمة ِ الفعلية
بخلطة " البشمور ِ" والدما
جدرانـُها مطلية
إنَّ ما هو فذ في شعر مهدي بندق يتبدى في قدرته على الإحساس بالمغزى التاريخي لعصره وزمانه، كما أنّه يتبدى في قدرته على الإحساس بالمغزى العصري للتاريخ. فحتى هذا الوقت، كان للأدب والفنون القيمة التربوية والثقافية نفسها التي لها اليوم. غير أنّها تنافس الدين، والفلسفة، والقانون، منافسة غير متكافئة. وبالتالي، إذا أراد النقاد– مثلا- أن يتحدثوا عن عمق الشعر، مالوا إلى جعل ذلك العمق في معناه الآليجوري، وفي العلاقات التي يمكن تعيينها بين الشعر والفكر، وبخاصة الأفكار الخُلقية والأفكار الدينية. وأمّا في الفترة الرومانسية، فقد جعل الكثير من الشعراء والنقاد ينسبون إلى الشعر والفنون التخيلية خطورة وشأناً أكبر مما في ضروب النشاط الذهني الأخرى. وإذا ما اقتبس شللي عبارة عن الشاعر الإيطالي "توركواتو تاسو" حول الشبه بين العمل الخلاق عند الشاعر والعمل الخلاق عند الله، تجاوز بالفكرة حتى ما كان يفكر به تاسو. وقد اقتبس مهدي بندق عبارة ً عن نص الوحي الأول حول الشبه بين العمل الخلاق عند الشاعر والعمل الخلاق عند الله، تجاوز بالفكرة حتى ما كان يفكر به تاسو كذلك:
"الحمد للشعر
وليبق دائما
رواقه مأهولا
لولاه لاستردني الطغاة
وما عرفت أنني
ناج من الأشباه والأغيار
ناج من التكرار"
نحن نعرف حقيقة هذا التغير الذي أحدثته الفترة الرومانسية. إنَّ التغيير يقترن بإحساس متنام بأنَّ أصل الحضارة الإنسانية، كان هو، أيضاً أصلاً إنسانياً. وتقول تقاليد الإسلام إنّه لم يكن كذلك: فالله زرع جنة عدن وأوحى بالنماذج الأصلية للشرائع، والطقوس، وحتى هندسة الحضارة الإنسانية. ولذا فإنَّ الفهم العقلاني "للطبيعة"، الذي كان يشمل فهم الأصل الإلهي والفيزيائي للطبيعة الإنسانية، كانت مرتبته أعلى من مرتبة الخيال الشعري، وهيأ له معياراً يُقاس به. وكانت الأفكار الخُلقية الأساسية جزءاً من نص إلهي، وفهمنا لهذا النص يتم عقلانياً، أمّا الشعر فيشكل سلسلة من الأمثال والرموز اللامباشرة لها. وهكذا كان للشعر أن يكون رفيق معسكرات القتال، كما يقول سيدني: فبوسعه أن يلهب حماسة للفضيلة بتقديمه القدوة والمثل. فالشعور بالإثارة من جراء المشاركة في فعل القصة البطولية، كما في الالياذة مثلا، يشتد عمقا باعتبار موضوع الالياذة أو معناها الشامل آليجورة من آليجورات البطولة. وهكذا فإنَّ إصرار الشعر الكلاسي على الطبيعة الآليجورية في الشعر العظيم حافظ على سذاجة الاستجابة المشاركة، رغم ما قد يبدو في ذلك من تناقض. وإننا لنرى هذا المبدأ فاعلا كلما كان الشاعر والجمهور على اتفاق تام حول ما في الموضوع الشعري من منطويات أخلاقية، كما هما – على الأقل نظريا – في الميلودرامة، حيث يشتم الجمهور النذل لنذالته.
إنَّ شعر مهدي بندق الجديد هو امتداد لتقليد الرومانسيين، وأكثرهم تقدماً، فى تنبيه خيال الشاعر الخلاّق بقدرة الشعر الخلاّق. مع ذلك، فالشعر، بالنسبة إلى مهدي بندق، ليس ذلك الشرع الخارق لقوى الإنسان، أو هندسة النجوم الرياضية، بل إنّه إنسانية الإنسان المعذب الملهم . وكل ما نسميه نحن "طبيعة"، العالم الفيزيائي المحيط بنا، إنّما هو الخُلقي، والإنساني، والتخيلي: وكل عمل جدير بالفعل إنّما يستهدف اقتداء هذه الطبيعة لتكتسب شكلا إنسانيته صادقة، وبالتالي فتنة إلهية. ولذلك، فإنَّ شعر مهدي بندق ليس آليجورياُ ولا ميثوبياً Mythopoeia ( خالقا للأساطير ) بل هو يقترن مباشرة بفهم وجداني للوضع الإنساني، الذي لا يمكن للإنسان الفصل فيه، بل إنّه نتاج العزيمة الخلاقة التي وحدها تستطيع الخلاص من هذا الوضع. ومهدي بندق يجبر القارئ على التركيز في معنى ما يكتب، ولكن لا على النحو التعليمي المألوف، لأنَّ معناه هو موضوعه، هو الشكل الآني الكلي لقصيدته. والسياق الذي ينسجم فيه موضوع القصيدة الواحدة أو معناها ليس أفكار تقاليدنا الثقافية المتوارثة، التي يجب أن يكون حينئذ رامزاً لها آليجورياً. وليس هو بنيان الشعر بأكمله كنظام كلمات، كما يمثله الشعر السابق. إنه بالأحرى تلك الرؤيا المتسعة أبداً التي يسميها هو بالرؤيا الأخيرة أو يوم الدينونة:
"يا أخوتي المسلسلين في النوارج الجريحة
الغائصين في مزارب المدائن المفتوحة
إليكمو استراحة قصيرة بمهجتي
هنا تقام للثوى المآتم ُ
فما لكم لا تحتسون قهوة الخذلان بالملوحة
والميتون أنتمو
والقادمون للعزاء أنتمو
أما أنا فمنشد أمامكم قصيدتي
وبحرُها جهنم ُ ".
رؤيا وهدف وغاية الحضارة الإنسانية كالكون بتمامه على الغرار الذي يشتهي الإنسان أن يراه، كسماءٍ مقرونةً، أزلياً، بالجحيم. إنَّ ما فعله مهدي يندق وشيج الصلة بالحركة الرومانسية.
قبل الحركة الرومانسية وبعدها ظل الاتجاه المحافظ يدعو إلى العودة إلى الهرمية الأقدم. والمنافحون معروفون ومنطقيون في هذا الاتجاه، وقد تبعهم شعراء كثر بإمداداتهم المسبوقة. أمّا الشاعر الرجعي فيرى أنَّ وظيفة الفن ( بفرضه نظاماً على الحياة ) هي أن يهبنا إحساساً بنظام في الحياة، فيؤدي بنا إلى حالة من الدعة والمصالحة تهيئان لنوع آخر أسمي من التجربة، حيث يعجز "ذلك الدليل" عن اقتيادنا أبعد مما فعل. ومنطوى ذلك أنَّ ثمة عالماً روحيَ الوجود فوق عالم الفن، عالماً من الفعل والسلوك، انعكاسه المباشر في هذا العالم ليس هو الفن بل فعل القربان. وفعل القربان ضرب من المشاركة الدينية القبل نقدية، التي تؤدي إلى تأمل ديني أصيل، وهذا هو حالة من الوعي الشديد المتصل بالتصوف بوشائج قوية. والتصوف كلمة أُطلقت على أغلب الشعراء بنحو أو آخر: أي أنها أُطلقت دونما دقة، ومن الواضح أنَّ صلات مهدي بندق بالصوفية هي من نوع خاص جداً. فوظيفة الفن هي أيضا من النوع الثانوي أو الآليجوري. ونظامه يمثل نظاماً وجودياً أعلى. ولذا فإنَّ طموحه الأعظم هو تجاوز نفسه، مشيراً إلى حقيقته الأسمى بلهفة ووضوح كبيرين إلى أن يتلاشى في تلك الحقيقة.

"لعلي أنا واقف ٌ والحوادث ُ تجري
وكل الذي مرَّ بي
حذفته يد ُ الله ِ من دفتر ِ الذاكرة".

بيد أنَّ هذا يحدث فقط إمّا في أعظم الفن ، أو في الفن الذي يشدد على أنّه ديني ، في حين أنَّ تسعة أعشار تجربتنا الأدبية هي على المستوى الأخفض حيث نرى نظاما في الحياة من دون أن نقلق كثيرا من مغزى ذلك النظام، وعلى هذا المستوى، مازال بوسعنا أن نبقي على التجربة المباشرة، القبل نقدية، الساذجة للمشاركة. والرومانسيون، بموجب هذه النظرة، يفسدون شكل الشعر ومتعته معا وذلك بإصرارهم على عمق التجربة الخيالية، حتى ليجعلوا منها ضربا من دين بديل .
وهذا يعود بنا إلى القول إنَّ الفنان هو الشاعر. وفي موضع آخر يتحدث مهدي بندق عن الدين، أو الحياة الحضارية. مدركا ً أنَّ الشعر هو القوة في الإنسان التي تمكنه من مخاطبة جهنم – والتي اكتسحها الطوفان:

" يا أخوتي المسلسلين في النوارج الجريحة
الغائصين في مزارب المدائن المفتوحة
إليكمو استراحة ً قصيرة ً بمهجتي
هنا ُتقام للثوى المآتم ُ
فما لكم لا تحتسون قهوة الخذلان بالملوحة
والميتون أنتمو
والقادمون للعزاء أنتمو
أما أنا فمنشد ٌ أمامكم قصيدتي
وبحرُها جهنمُ ".

فالفن لدى مهدي بندق هو بديل للدين، بينما الدين، كما يراه العامة، هو بديل للفن، من دون استعمال القدرة الميثوبية لخلق فانتازات حول عالم آخر، أو تفسير شرور هذا العالم، عوضاً عن السعي نحو حياة إنسانية حقيقية. فإذا أردنا أن نصف فكرة مهدي بندق عن الفن بمعزل عن الأسطورة التقليدية التى تجسده، أسطورة السقوط والرؤيا الأخيرة، قلنا إنَّ العملية الشعرية في جوهرها هي التوحيد بين الإنسان والعالم . هذا التوحيد، أو الإستشباه، هو ما تعبر عنه الكناية الشعرية، وغاية الرؤيا الشعرية هى أنسنة الحقيقة. يغتصب الشعرُ وظيفة َ الدين لنفسه، وإنْ بقي في سياق الحضارة الإنسانية، ومن دون أن يحد من تنويع ومدى الخيال الشعري، وكلاهما غير محدود. والمعايير التي توحي بها ليست خُلقية، ولا هي مجموعات من المجردات الضخمة "كالوحدة" وما أشبه، بل هي اهتمامات الإنسانية نفسها بأوسع معانيها، أو اهتماماته هو.
في فكرة الفن هذه نجد أن الجهد المنتج أو الخلاق لا ُيفصل عن وعيه لما هو فاعل. هذه الوحدة بين العزيمة والوعي هي "الرؤيا". ففي "فأنزل علىّ سدول التجاهل" ليس ثمة منطق إما/أو، حيث يكون المرء إما مشاهداً منفصلا أو فاعلا مستغرقا. ولذا، ليس ثمة فصل وأن يكن ثمة تمييز، بين القوة الخلاقة في تكوين الشكل وبين القوة النقدية في رؤية العالم الذي ينتمي إليه. وأي فصل بينهما يجعل الفن في الحال بربريا ً ومعرفته تفيهقا ً – أو، برموز بليك : أورك مقيدأ، ويوريزن متحيرا. الرؤيا تلهم الفعل، والفعل يحقق الرؤيا. وهذه من أكمل النظرات المعروفة للمشاركة بين الخلق والنقد في الأدب :

"ولا فعل َ يصدر مني
وكيفُ أرد ُ الفواحش َ عن أهل بيتي
وهذي الشقيقات ُ يصرخن في شبق ِ اللبؤات ِ السجينات ِ ،
بينا رجال ُ العشيرة ِ ُيستأجـَرون َ ،
يدورون في نورج ٍ لا يضخ ُ مهورَ الصبايا
وفي آخر العمر يستسلمون َ، الزرائب ُ تلفظهم، والضباع ُ
تحيط بهم في ظلام الروامس".

إنَّ مهدي بندق هو أحد الشعراء المصريين المعاصرين الذين يتصورون أنَّ موضوع الشعر الأوحد هو الواقع نفسه، وأنَّ كتابة قصيدة ما هي نفسها وجهة نظر إلى الواقع. إنّه يثير اهتمام الناقد لأنّه يرفع الحواجز بين الشعر والنقد وقد قرن مهدي بندق الشعر بالنقد على مدار سيرته الفنية والفكرية كلها. إنَّ أعظم الشعر هو "آليجورة" تخاطب القوى الفكرية، لكن الشاعر يدافع عن رفض الشعر للغموض الزائد لأنّه يعطل الفعل. ولغته فى نبوءاته المتأخرة تكاد تكون عن قصد محكية اللهجة و"غير شعرية"، كأنّه أراد لشعره أن يكون أيضاً عملا نقدياً، كما أنه توقع أن تكون استجابة الناقد استجابة إبداعية. وقد فهم، على غراره الخاص، ذلك المبدأ الذي نص عليه فيما قبل ماثيو آرنولد من أن الشعر نقد للحياة، ولم يتهادن في ذلك قط. فالشاعر، بالنسبة إليه، يدلك على طريقة ما في الحياة، وليس هدفه أن يتذوقه الآخرون أو أن يعجبوا به، بل أن ينقل إلى الآخرين ما في ذهنه من عزيمة ودأب تخيلي. إنَّ عمل النقد الرئيسي هو التعليم، وطريقة التعليم لا يمكن فصلها عن الإبداع الشعري.
إنَّ في ديوان مهدي بندق الأخير "فأنزل علي سدول التجاهل" من الانقلاب على الأوضاع السائدة، ما يبيّن أنه يطالبنا بضربٍ من التكييف الذهني لاستيعابه. فهو يفتتح الديوان بمفتتح:
"يا أنت يا بوابة الفناء يا فتاة
تعاقدي معي
بالأحرف الأولى
أسمعك من تصدع اليقين تحت زلزال الخيار
أنشودة الهيولى.
الحمد للشعر"
إذا استجبنا لهذه السطور معتمدين علي المعاني التي نقرنها عادة بالكلمات الواردة فيها، فإنها ستبدو، كما أراد له مهدي بندق أن تبدو، أشبه بسطور صادرة عن شاعر في آخر مراحل الجنون. ولمهدي بندق مقدرة غير عادية على وضع معتقداته المركزية في هذا الشكل الجنوني المموه، وكانت النتيجة انه تعمد تضليل جميع القراء الذين يؤثرون الاعتقاد بأنه مجنون ، ليجبرهم على الظن بأن استعمالهم للغة غير واف.
إنّ المفهوم المحوري في ديوان مهدي بندق هو أنَّ التخطيط الكلاسيكي الأرسطي على الصورة والهيولي، يصح في وصف بنية العالم ككل، وكأنَّ العالم كالجوهر الكائن الفاسد الصادر عن اجتماع الصورة والهيولي. فالفرق بين المادة والصورة هو مخطط المفهوم بالنسبة إلى النظرية الفنية وعلم الجمال بأكمله، كما أنّه مخطط المفهوم بالنسبة إلى مفهوم الشعر والعالم. تحدد الصورة ُ (o) الشيءَ بصفته هيولياً (). والثابت في الشيء، وهو التماسك، يكمن في أنَّ المادة تتجمع في صورة. الشيء مادة مصورة. ، وعلى النقيض من التخطيط الكلاسيكي الأرسطي على اجتماع الصورة والهيولي، فإنَّ الهيولى، في الشعر، مَبْنى تبنيه الصورة، وكُلّ نوع من أنواع المادة هو هيولي "مصور". لذا، لا يُفلت "الهيولى" من رفض الشراح الأرسطيين "للوجود الشبحي".
وهكذا، ينشد الشاعر أنشودة الانفعال العربي الذي طال، أنشودة الوجود الشبحي للعرب في التاريخ الراهن:

" لا أصل لي ، بل ظلال ٌ يلوط ُ بها الرمل ُ
والريح ُ قوّادة ٌ
ولا فعل يصدر مني".

ومثل ذلك، فإنَّ معادلة مهدي بندق "للحمد" "بالشعر" تعني، أولاً، أنَّ فكرته عن الفن تتضمن أكثر مما نقرن نحن بها، وتعني، ثانياً، أنّها تستثنى معظم ما نقرنه نحن بها. إنَّ مهدي بندق يسمى الشعر ما قد تسميه لغة ٌ تقليدية أبسط ُ : عمل إحسان ومحبة، في حين أنَّ الخـَلـْق، حصرا، ليس خـُلـَقا، بل هو عكس الخـُلـُق. وسواء اتفقنا، أو تعاطفنا، مع موقف مهدي بندق أم لا، فإن ما يقوله يشتمل على شعر رافض كامل، وهذا الشعر المنثور- قصدا ً في بعض مواضعه - لابد لنا من تفحصه.
إنَّ إحدى خصائص نبوءات مهدي بندق التي تلفت نظر كل قارئ هي حذفه – وبخاصة في ديوانه الأخير الذي يمثل ذروة عمله الشعري – لكل ما قد يشبه موسيقى الشعر العربي التقليدي :

"قالت قصيدة ُ النثر
للمتصابية ذات المصراعين:
أنا عملك الرديء أنا بروليتاريا الشعر
وبثورتي عليك لم أخسر سوى أغلالي
فلماذا لم أربح العالم كما قيلا؟"

إنَّ الكتابة الشعرية العربية الملائكية، عن الإنسان، قد تسلي ولكنها لا تخدم ولا تغير مفهوم الشعر نفسه. من المعقول بل من المطلوب أن يكون لكل شاعر أوزانه الخاصة. ربما نسينا أن الصوت هو العامل المكون في العمل الفني اللغوي - الشعري، بينما يقع اللحن في العمل الموسيقي.
يصف الكثيرون اللغة العربية بأنها لغة موسيقية، وأنّها انحدرت إلينا وقد اكتسبت هذه الصفة منذ أقدم عهودها أو أقدم نصوصها، ولكن أحداً لم يربط بين هذه الموسيقية وبين ما شاع لدى العرب القدماء من الأمية أو ندرة القراءة والكتابة. إن ظاهرة الموسيقية في اللغة العربية تعزى في أغلب عناصرها إلى تلك الأمية حين كان الأدب أدب الأذن لا أدب العين، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص اللغوي. إن الأدب الجاهلي قد نما وازدهر في مجتمع لا يصطنع الكتابة والقراءة، وظل هذا المجتمع العربي قبل الإسلام بضعة قرون يرعى تلك النهضة البيانية، ويعمل على ازدهارها. ولم يكن للشعر خلال هذه القرون إلا الصورة الصوتية، تتردد على الأسماع فتكسبها المران وعادة التمييز بين الكلام المشتمل على الإيقاع والنغم .أما القارئ فيعجب عادة بمعاني الكلام المكتوب أكثر من إعجابه بوقعه في الأسماع، في حين أن الأمي المرهف الأذن يستجيب أولا لرنين اللفظ ونغمه، وقد ينفعل له ويتأثر به تأثرا قويا وإن خلا من جمال في مضمونه ومعناه. لهذا عني الشعر العربي القديم بالموسيقى، وشغلته الأوزان والأنغام عن المعاني والتعمق فيها..
من هنا فالشاعر العربي، لرغبته في إطالة القصيدة، وشدة اعتزازه بموسيقاها قد أحلّ نفسه من وحدة المعنى فيها، مكتفياً بوحدة الوزن والقوافي، ولم تسعفه ألفاظ اللغة وكلماتها في الجمع بين هاتين الوحدتين. فاللغة العربية، ممثلةً في نصوص الآداب المروية، تُعد من اللغات التي عنيت باللفظ أكثر من عنايتها بالمعنى، أو بعبارة أخرى، عنيت بموسيقى الكلام أكثر من عنايتها بمضمونه.
فكان ممن تشيعوا "للفظ" و"الصياغة"، الجاحظ، وتبعه في هذا كثيرون من الذين جاءوا بعده من ناقدي الأدب ودارسيه. ذهب الجاحظ إلى أنَّ "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والقروي والبدوي، وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وصحة الطبع، وكثرة الماء، وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضربٌ من التصوير". وأسقط أبو هلال العسكري المعاني من الشعر: "ليس الشأن في إيراد المعاني". وعلّل ابن جِني عناية العرب بالألفاظ بقوله:"لأنّها لمّا كانت عنوان معانيها، وطريقاً إلى إظهار أغراضها ومراميها، أصلحوها ورتبوها وبالغوا في تحبيرها وتحسينها ليكون ذلك أوقع في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أنَّ المثل إذا كان مسموعا لذَّ سامعه فحفظه." وقال القاضي عبدالجبار المعتزلي في كتابه "المُغني" "المعاني لا تتزايد، وإنّما تتزايد الألفاظ". فأطلق المعتزلة كلاما يوهم أنَّ المزية في حاقِّ اللفظ.
إنَّ النمط اللامخطط الحديث من الكتابة الشعرية قد بحث فيه كثير النقاد وأطلقوا عليه تسمية "المشهد الذهني"، وهم يرجعون الفضل باختراعه إلى الرمزيين الفرنسيين. غير أننا في مهدي بندق نجد تفرداً لهذا الأسلوب بغير أدبية الأدباء وبلاغية البلاغيين وتحذلق المتحذلقين:
"فجاء من أقصى المدينة رجل يسعى
بفائض القيمة ِ وتأتأة ِ الشغيلة ِ ومنتوجات أودية ِ
السليكون،
بماء ٍ كالمهل ِ، ومدن ٍ كالعهن ِ
وشجر ٍ كالفروج."

إذا قرأنا "فأنزل عليّ سدول التجاهل"، كما أراد مهدي بندق لنا أن نقرأه، فإنّنا لا نقرأه بالمعنى التقليدي المعروف أبدا: هي قصائد تأملية حيث يتوقع القارئ، حتى بغير عون من مهدي، أن يسترد انتباهه من الديوان بين حين وآخر لكي يحلق، أو يغوص في الأعماق، أيُّ الكنايتين أنسب، ولو أنَّ الأدق هو أنَّ "الانتباه يسرح".
لا شك أنَّ تطور أسلوب مهدي في حفر الصور كان له أثر كبير في حذفه للخطة في القصائد المصورة. ونلاحظ أن قصائد "فأنزل عليّ سدول التجاهل"، التي تمتاز بغيبة الحركة السردية، لم يصورها قط. ونلاحظ أيضا أنَّ الصورة في القصيدة الواحدة لا تصور النص المحفور على تلك القصيدة، وأنَّ ترتيب القصائد يختلف قليلا عما هو في دواوين مهدي الأخرى. من الواضح، إذاً، أنَّ حذف الحركة السردية أمر أساسي بالنسبة إلى تركيب هذه القصائد، وأنَّ وضع متوالية مرقمة للمقاطع الجزئية بداخل كل قصيدة على حدة، أمرٌ ينسجم مع النظام الكلي، وليس مجرد مصادفة.
إنَّ موضوع ديوان "فأنزلَ عليَّ سدول التجاهل" هو لحظة غضب في وجدان الشاعر، وهي لحظة، كلحظات التبيّن في مارسيل بروست، تصل بينه وبين سلسلة من اللحظات السابقة، تمتد، عودةً إلى "خلق" العالم. لقد انتهى الأمر "بمارسيل بروست"، قبل قرن من الزمان، إلى أن يرى الأناس عمالقة في الزمن. وأمّا عند مهدي بندق فليس هناك إلاّ عملاق واحد، آلبيون، حلمه هو الزمن.
إنّ التاريخ لمهدي في "فأنزلَ عليَّ سدول التجاهل"، كما هو لإليوت في "ليل جيدنج"، نسقٌ من لحظات لا يحدها زمن. أيّ أنَّ ما يُقال في أسطر "فأنزلَ عليَّ سدول التجاهل" يُراد به أن يقدم سياق لحظة الإشراق كنسق آني واحد من الإدراك. ولذا فإنّه لا يشكل سرداً قصصيا، بل يتراجع، أشبه بالتراجع المكاني، من تلك اللحظة. فالشاعر ينشد قصيدته كصورة "يوم الدينونة"، وهي تمتد من السماء إلى جهنم:
" أمّا أنا فمنشد أمامكم قصيدتي
وبحرها جهنم ُ "
ويكتظ الديوان بالشخصيات التاريخية والإشارات المعاصرة. كما لو إنَّ كل ما يُقال في الديوان يُراد له أن يجد مكانه في هذا النسق التصويري الآني، لا أن يشكل سرداً يمتد في خط. إنَّ القصيدة، كما فكّر بها مهدي، ترمز إلى حالة الشاعر النفسية التي تبدو وكأنّها تقول: "إنّي أرى الماضي وكأنّه يسود الحاضر والمستقبل، والماضي جاثم على الراهن. فأين المفر ؟"

الجماجم ُ ؟! هاكم رفاقي
فأين القصائد ُ فيها ؟
وأين الدساتير ُ والفلسفات ُ ؟
وأين المقدس ُ والشهوات ُ ؟
وأين المَصيد ُ وصائده ُ .. والشباك ْ ؟
لم يعد في الموانئ ِ غير ُ رياح ِ الغياب ِ ومهراسِه
والمسامير ُ عاوية ٌ والمناشيرُ قاطعة ٌ في جبين الفضا
تحتها صلصلات ُ جيوش ٍ من الميتين القدامى
يصيحون بي :
الجليد ُ هنا و اللهيب ُ هناك
ترى اخترتَ ماذا ؟
أيا قادما ً مثلنا للهلاك ؟
قلت ُ : هذا
وذاك



#وائل_غالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وائل غالي - تصدع اليقين تحت زازال الشعر- قراءة في ديوان مهدي بندق