أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - صقر ابو فخر - حوار مع المفكر والمناضل اللبناني كريم مروة















المزيد.....



حوار مع المفكر والمناضل اللبناني كريم مروة


صقر ابو فخر

الحوار المتمدن-العدد: 156 - 2002 / 6 / 10 - 13:03
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    



 
من الدين الي القومية العربية فالشيوعية، ثم الي التصالح بين الاشتراكية والدين، لا بين الماركسية والدين، والفرق كبير بين الفكرتين. انها رحلة مضنية اجتازها كريم مروة في شعاب السياسة وفي مسالك النضال الاجتماعي وفي حقول الفكر والثقافة. خمس وخمسون سنة صاخبة اقتطعها كريم مروة من مسيرة عمره، ومنحها للأحلام الجميلة وللأمل البهي وللمستقبل الباهر. كان يحلم بالعدالة للجميع، وبالحرية للافراد وبالديمقراطية للمجتمعات وبالتحرر للأوطان كلها.
شيوعي، رغم انه سليل عائلة دينية عريقة في جبل عامل بجنوب لبنان. فجده لوالده كان رجل دين. وشقيق جده كان مرجعا دينيا في جبل عامل. وجده لوالدته كان رجل دين ايضا. وشقيق جده كان مرجعا دينيا في قم في ايران. لكن ارتباط جنوب لبنان بالمدن الفلسطينية ادخل الافكار القومية الي وعيه في وقت مبكر.
بدأ قوميا عربيا من غير ان ينخرط في اي حزب قومي عربي، وشغلته القضية الفلسطينية حتي تطوع، وهو فتي، لمطاردة المهاجرين اليهود. لكن والده، لتفاقم وضعه المالي، اضطر الي ارساله الي العراق لمتابعة دراسته. وفي العراق تابع شغفه بالسياسة والادب برعاية قريبه حسين مروة. وكان حسين مروة خلع للتو عمامة رجل الدين وتحول استاذا للأدب والفلسفة في مدارس بغداد. وفي العراق تفتح وعي كريم مروة علي الفكر الشيوعي.
ساءه كثيرا، كقومي عربي ان تفشل الحركة القومية العربية في انقاذ فلسطين. وكصديق للشيوعيين رفض موقف الاحزاب الشيوعية العربية التي قبلت قرار تقسيم فلسطين في 92/11/7491. ووقف الي جانب الكاتب التقدمي اللبناني رئيف خوري ضد الحملة التي شنها عليه الحزب الشيوعي اللبناني بسبب رفضه قرار التقسيم الذي قبله الحزب. وعلي الرغم من استمرار خلافه مع الحزب في قضيتي رئيف خوري وفلسطين، الا انه التحق بالحزب الشيوعي اللبناني في اواخر العام 1952 وتسلم مسؤوليات قيادية في منظمة الحزب الطلابية، حتي صار نائبا للأمين العام للحزب في سنة 1984 واشتهر، مع جورج حاوي وعدد من القياديين الشباب، بأنهم قادوا عملية التغيير الداخلي في الحزب في المجالين الفكري والسياسي. وتميزت مواقفه، في الحزب ومن موقعه في قيادته، بالاستقلال عن مواقف الحزب الشيوعي السوفياتي، استنادا الي قرارات المؤتمر الثاني للحزب (1968)، ولا سيما في ما يتصل بصياغة برنامج الحزب وخطه السياسي، وفي موضوع التعددية في الاشتراكية وفي الموقف من الشيوعية الاوروبية ومن ربيع براغ ومن الكفاح المسلح الفلسطيني. واسهم في تأسيس قوات الأنصار التي لم تعش طويلا. وقاد بتكليف من قيادة الحزب عملية اطلاق الحرس الشعبي كتنظيم شيوعي مستقل لمقاومة العدوان الاسرائيلي بالسلاح. ومنذ اواخر الستينات اصبح احدي الشخصيات السياسية والفكرية المعروفة في لبنان والعالم العربي، وكتب ونشر في عدد كبير من الصحف والمجلات العربية والاجنبية. كما شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والعالمية.
يجمع في تكوينه ثلاثة وجوه: المناضل والسياسي والمفكر. ومع افول الحياة النضالية في لبنان وانحسار دور الحزب الشيوعي في المقاومة الوطنية، ومع خروجه من موقع نائب الامين العام للحزب في سنة 1992 ثم مغادرته طوعا عضوية المكتب السياسي في سنة 1999 لم يبق له من وجوهه الثلاثة، الا الوجه الفكري. وكمفكر سياسي ومناضل التقينا في مكتبه في المقر العام للحزب الشيوعي اللبناني في منطقة الوتوات في بيروت وتحاورنا علي امتداد ستة ايام متواصلة، فكان هذا الحوار الشائق والشائك معا، هنا الحلقة الاولي:

عالم الطفولة

كريم مروة من أنت؟ من أين أتيت إلي هذا الوجود؟ من أي بيئة اجتماعية جئت؟ ما هو عالم طفولتك؟
لا ادري ان كان مثل هذا الأمر يهم القراء. ولكن ما دام السؤال قد وجه إليَّ فسأقدم لك، ولمن تهمه معرفة بعض خصائص تلك الحقبة، صورة مكثفة عن طفولتي وعن البيئة التي نشأت فيها وترعرعت.
ولدت في الثامن من آذار 1930. وبذلك أكون تجاوزت الثانية والسبعين من عمري.
والدي هو الشيخ أحمد مروة. وهو من مواليد 1877. وكان الإبن الأكبر لجدي الشيخ جواد. وكان جدي وشقيقه، والد الشهيد حسين مروة، قد جاءا من بلدة الزرارية، الواقعة في منطقة الزهراني في محافظة الجنوب، في أواسط القرن التاسع عشر في الأغلب، إلي بلدة حاريص (مسقط رأسي) الواقعة علي تخوم أرض فلسطين، في ما يسمي القطاع الغربي من الحدود، التابع لقضاء بنت جبيل في محافظة الجنوب. وفور وصولهما، جدي وشقيقه، واستقرارهما في البلدة أرسل الشقيق الأكبر، أي جدي، شقيقه الأصغر إلي مدينة النجف ليعود بعد بضع سنوات شيخاً فقيهاً، وينتقل إلي بلدة حداثا المجاورة لبلدتنا، بناء لطلب أهلها، ليكون شيخ البلدة ومرجعها في الأمور الدينية.
وفي حين كان اهتمام جدي الشيخ جواد منصباً علي العمل في الأرض، زراعة واستثماراً، كان شقيقه الشيخ علي يتحول إلي مرجع ديني في الجوار كله. وبحكم ذلك اكتسبت عائلتا جدي وشقيقه منزلة خاصة في كل من البلدتين وفي المنطقة. واذ توفي الشقيقان في مطلع القرن العشرين صار والدي الشيخ أحمد وريث الشيخين في شؤون العائلة، والوصي عليها. وكان قد تزوج إحدي بنات عمه، التي أنجبت له ابنه البكر أخي محمد علي (أبو جعفر).
ولكنها توفيت بعد ذلك بقليل، فتزوج والدتي، الحاجة خديجة ابنة الشيخ عبد الله مروة، الذي كان يقيم في بلدة الغازية، الواقعة علي هضبة في الساحل بالقرب من مدينة صيدا. وكان جدي هذا رجل دين ودنيا، صديقاً لعائلات البلدة، ولا سيما آل خليفة، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبناء عمومة مع آل مروة. وكانت الابنة البكر للشيخ علي، شقيق جدي، تزوجت من الشيخ يوسف الفقيه، الذي كان أول رجل دين شيعي يتبوأ، منذ مطلع الأربعينات من القرن الماضي، مركزاً أساسياً في الإدارة الدينية الرسمية في بيروت (المفتي الجعفري الممتاز).
وكان أول ما قام به والدي، من موقع الأبوة للجميع، أن أرسل ابن عمه الفتي حسين إلي النجف لتحصيل العلم الديني، بمساعدة صديقه المرجع الديني السيد عبد الحسين شرف الدين، الذي أسهم في تأمين النفقات المالية لهذه المهمة. وكان لحسين من العمر اثنا عشر عاماً.
ثم أرسل والدي ابن عمه الثاني حسن، شقيق حسين، إلي الأرجنتين للعمل، وأرسل شقيقيه هو، زين العابدين وعبد الله مع ابن عمه الثالث محمد، إلي سيراليون في افريقيا الغربية للغرض ذاته. ثم زوج بنات عمه، الأولي من شقيقه زين العابدين، الذي اصبح يعرف بالشيخ زين، بعد عودته من افريقيا.
وزوج الثانية من ابن عمته الساعاتي عبد الحسن، الذي أصبح يعرف بالشيخ عبدو، وزوج الثالثة من صديقه الحاج علي ناصر، المغترب الذي كان عاد حديثاً من سيراليون، والذي كان يتميز بقيم اخلاقية تركت بصماتها في البلدة وفي أبنائه الذين ورثوا نشاطه. وزوج الرابعة من قريبه، شقيق جدتي لوالدتي، الشيخ محمد علي مروة، كبير العائلة في بلدة الزرارية، ومرجع اهل البلدة في شؤونهم الدينية والدنيوية، ومستودع أماناتهم.
انتسب والدي إلي المدرسة الحيدرية، في بلدة عيتا المجاورة لبلدتنا، هرباً من الخدمة العسكرية التركية، ثم لبس عمامة الشيخ (اللفة علي الطربوش). واجتهد في تكوين نفسه دينياً وادبياً. وهكذا، فحين ولدت في مطلع العقد الرابع من القرن الماضي كان والدي قد اصبح وجيهاً مميزاً من وجهاء المنطقة. وتحولت دارته إلي ملتقي لرجال الدين والأدب والسياسة، الذين كانوا يأتون لزيارته، ويقيمون ضيوفاً عليه. وقد خصص غرفة من غرف الدار للضيوف، حملت اسم غرفة الضيوف، سواء في بلدة حاريص أم في مدينة صور أم في العاصمة بيروت.
ولا يسعني، وأنا أدخل في هذا التفصيل من حياة العائلة، إلا أن أشير إلي أسماء عدد من رجال الدين والأدب والسياسة الذين اتيح لي ان اتعرف عليهم خلال تلك الحقبة التي امتدت إلي ربع قرن، هي الحقبة التي كان فيها والدي لا يزال يعيش معنا بكل حيويته، قبل ان يغادرنا في خريف عام 1956، عندما كان يزور مقام الامام الرضا في مدينة مشهد في مقاطعة خراسان في ايران، حيث دفن بجوار الإمام، الذي كان يحب أن يزور مقامه في كل عام تقريباً.
إن أصدقاء والدي من رجال الدين والأدب والسياسة كثيرون، وسأكتفي بذكر أبرزهم، من حيث الدور والشهرة في هذه العوالم، ومن حيث قربهم من وجدان والدي ومن وجداني. أذكر من رجال الدين السيد محسن الأمين (صهر عائلة مروة)، كبير المجتهدين الشيعة، الذي ترتبط باسمه، إلي جانب سفره الكبير اعيان الشيعة ، مواقف دينية وسياسة شجاعة، أهمها أنه حرم طقوس عاشوراء، وأعتبرها بدعة ادخلت إلي الاحتفال بذكري الامام الشهيد الحسين، مسيئة اليه والي المعني الكبير لاستشهاده، وهو أول من انشأ مدرسة للذكور والاناث في دمشق في العشرينات من القرن العشرين، هي المدرسة المحسنية(1)، وهو الذي دعا، منذ مطلع ذلك القرن، إلي تحويل جامعة النجف الفقهية جامعة حديثة، تضيف إلي تدريس الفقه مجموع العلوم التي ينبغي ان يحصل عليها المتخرجون في هذه الجامعة، والتي من شأنها ان تساعدهم في اختيار طرائق تعاملهم مع قضايا الناس مع كل ما يتصل من هذه العلوم بشؤون الحياة العامة.
وكانت دارته في دمشق، في الثلاثينات من القرن الماضي، مركزاً أساسياً من مراكز الحركة الوطنية، ونقطة من نقاط الانطلاق في الاضراب الخمسيني التاريخي ضد الانتداب الفرنسي؛ وهو الموقف الذي دفع حكومة الاستقلال، برئاسة شكري القوتلي، إلي زيارته في دارته كأول عمل تقوم به تكريماً لهذا الرجل الكبير واعترافاً بفضله. إلا أن المجتهد السيد عبد الحسين شرف الدين، مؤسس الصرح العلمي الكبير الجعفرية ، كان الصديق اليومي الحميم للوالد. وأذكر من أصدقائه الآخرين السيد عبد الرؤوف فضل الله، والد المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين فضل الله. وقد ذكرني السيد محمد حسين بتلك العلاقة بين والده ووالدي، التي كانت بمستوي الأخوة.
وأذكر من أصدقائه الشيخ محسن شرارة، كبير مشايخ آل شرارة، والشيخ محمد حسين الزين، صاحب الكتاب المشهور الشيعة في التاريخ ، والشيخ احمد عارف الزين، منشئ مجلة العرفان، التي لها الفضل الكبير علي العدد الأكبر من أدباء جبل عامل خلال ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن، والشيخ علي الزين، الأديب والشاعر والمؤرخ، والعالمان في الأدب والتاريخ، الشيخ احمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، والسيد محمد ابراهيم، جد الصديق محسن ابراهيم لوالده، والذي كان يحمل عصا في قلبها رمح مسنن جاهز للاستخدام، والشاعر والقاضي الظريف الشيخ علي مهدي شمس الدين، والشاعر الفكاهي الشيخ محمد نجيب مروة، والأديب والمؤرخ الشيخ علي مروة، رئيس بلدية جباع، الذي تحولت البلدة في فترة رئاسته إلي بلدة سياحية نموذجية.
وكان من بين الشعراء أصدقاء الوالد موسي الزين شرارة وعبد الحسين عبد الله واحمد حجازي (ابن البادية)، الذي كان من أكبر أدباء تلك المرحلة، وزكي بيضون، والد الشاعر الصديق عباس بيضون، والشاعر محمد علي الحوماني. وكان من بين الشخصيات السياسية علي بزي، الذي أصبح فيما بعد نائباً ووزيراً، وسرحان سرحان، الذي كان مربياً وصار قاضياً ثم مديراً عاماً في الدولة، ثم مسؤولا في مؤسسات اجتماعية عديدة اهلته لها كفاءته ومناقبيته.
هذا عن الرجال. ماذا عن الأماكن؟
المكان هو بلدتنا حاريص التي تقع علي تلتين، جنوبية وشمالية، يفصل بينهما الطريق العام الذي يصل قري المنطقة بعضها ببعض، من الساحل غرباً إلي الجبل شرقاً. في التلة الجنوبية تقع البلدة القديمة، وأكثر سكانها من الفقراء ومتوسطي الحال. وكانت فيها بركة مياه تتجمع مياهها من الأمطار، وتتوسط ساحتها الواسعة، التي كان يتحلق حولها أهل البلدة، حيث يتبادلون الأحاديث في القضايا العامة والخاصة. وكانت بعض الخصومات بين شباب العائلات تنتهي إلي قتال، سرعان ما كان يتحول إلي قتال بين العائلات ذاتها، يشترك فيه الكبار والصغار. وكان ميدان القتال هو تلك الساحة بالذات. وكان السلاح المتاح في قتال تلك الأيام محصوراً بأنواع ثلاثة: العصيّ والحجارة والأيدي. وكان القتال لا يتوقف إلا بعد أن يتدخل كبار السن من وجهاء البلدة، من العائلات المتقاتلة ومن العائلات الأخري. إذ كان هؤلاء الكبار يفرضون علي المتقاتلين تبادل السلام بالأيدي ثم العناق وتبويس الشوارب، من دون أن يعني ذلك كله أن الخصام انتهي. إذ كثيراً ما كان يستعيد المتخاصمون ذكري خصوماتهم، فيعودون إلي القتال مجدداً. وهكذا دواليك! أما نحن الصغار فقد كنا نتفرج علي تلك المعارك من شرفة منزلنا، كما لو كنا نشاهد مسرحية. وربما شكّل ذلك أول علاقة لي بالمشهد المسرحي، الذي كان في بلدتنا مشهداً حياً بطبيعة الحال.
أما التلة الثانية، فكانت البيوت فيها قليلة. وكانت دار الوالد وشقيقه الشيخ زين من البيوت الأولي فيها. وقد تحول هذا الجزء من البلدة، فيما بعد، ولا سيما في فترة الحرب الأهلية وفي السنوات التي أعقبت توقفها، إلي مجمع للقصور الفخمة، التي بناها المغتربون، في نوع من التنافس الخفي علي من سيكون صاحب القصر الأكثر فخامة وأناقة وحداثة!
أول ما كان علي الفتي عبد الكريم ان يقوم به، في الثامنة من عمره، الدخول إلي مدرسة شيخ القرية، الشيخ خليل العتريسي (نصور حالياً)، لقراءة القرآن وتجويده وحفظ عدد من سوره. وقد كان التخرج في هذه المدرسة (الكتّاب) يتخذ شكل طقس من طقوس تلك الحقبة. إذ يعتبر مَن ختم القرآن متخرجاً، أي أنه قد أصبح يمتلك المعارف الأساسية الأولية ، التي تؤهله للدخول في الحياة من الباب الصحيح. وكدت أصبح، يومذاك، مشروع رجل دين لولا ان افتتحت في البلدة مدرسة حديثة، من جملة مدارس كانت الجمعية الخيرية العاملية قد بدأت تنشئها في منطقة جبل عامل. وهي الجمعية الخيرية العاملية التي كان يرئسها رشيد بيضون، نائب بيروت قبل الاستقلال ونائبها في أول مجلس نيابي منتخب بعد الاستقلال. وكان كامل مروة، الذي أصبح صاحب جريدة الحياة فيما بعد، أحد مؤسسيها. كما كان صهر العائلة الشيخ سليم البرجي من مؤسسيها. فانتسبت مع أشقائي وأبناء أعمامي، ومع عدد كبير من فتيان البلدة، إلي تلك المدرسة. وتراجعت بذلك فكرة إرسالي إلي النجف، حيث كان ابن عم والدي، حسين مروة، قد أصبح شيخاً من مشايخها المعروفين بثقافتهم الفقهية والأدبية. وكان افتتاح تلك المدرسة حدثاً ثقافياً واجتماعياً، ظلت بلدتنا حاريص تعتز به علي امتداد سنوات طويلة. وقد حولها جعفر الأمين (أبو عصام)، أول استاذ فيها وأول مدير لها، إلي مدرسة نموذجية. وقد أقيمت حفلة خطابية وفنية احتفالاً بتأسيس المدرسة، حضرها وفد من الجمعية العاملية ضم رئيس الجمعية رشيد بيضون وعضوين من أعضائها هما كامل مروة والشيخ سليم البرجي.
ولكي تكتمل الصورة عن تلك الحقبة أري من المفيد أن أروي بعض الطرائف وبعض التقاليد. وأذكر، في هذا السياق، اننا نحن فتيان العائلة، أسوة بالكثير من فتيان البلدة، كنا نكلف بمهمات كان الغرض منها التسريع في انضاجنا لتحمل المسؤوليات. منها اننا كنا نكلف بتربية صغار الأغنام والماعز خلال الشهر الذي يسبق عيد الأضحي ويسبق عيد الفطر، لكي تذبح ويصنع من بعض لحمها ودهنها القاورما . وكنا نكلف بالاهتمام بالخيول التي كان يتاجر بها والدي وعمي الشيخ زين، والتدرب علي ركوبها، والسهر علي أوضاع الماعز والأبقار والأغنام في الحظائر، وحراسة مشاتل التبغ، والمشاركة في الإعداد لتحويل الأوراق بعد قطافها وتجفيفها إلي تبغ صالح للبيع إلي شركة الريجي(2). ومما يثير شجوني، بعد ان ابتعدت لعقود طويلة عن حياة القرية، إضافة إلي ما أشير إليه من أحداث الطفولة، بقايا صور من حياة القرية. اذكر منها مظاهرة الاحتجاج علي خسوف القمر، التي كان ينظمها أهل بلدتنا، مثل سائر البلدات في المنطقة، وهم يضربون بعزم علي الأواني النحاسية ويصرخون بأعلي أصواتهم: دشِّر قمرنا يا حوت ! واذكر منها حفلات الأعراس التي كانت مهرجانات حقيقية للفرح تستمر عدة أيام، تقدم فيها الدبكة بأنواعها، بمشاركة صبايا البلدة وشبانها، في حلقات موحدة. يومها لم يكن يعبأ شباب القري الجنوبية بالأصوات الخجولة، التي كانت تعترض علي اختلاط الجنسين في النشاط الاجتماعي والترفيهي. واذكر من تقاليد تلك الأيام حملات التفتيش عن أشخاص يقال إن الضبع قد سبعهم ، وجرهم إلي أماكن بعيدة لكي يتمكن من افتراسهم، بعد أن يتحولوا إلي جثث هامدة. إذ كان يخرج الأهالي مع الشموع والقناديل في مواكب تجتاز الحقول والبراري لاستعادة أولئك الأشخاص من براثن الضباع الجبانة الجائعة.
وكانت عجائز النساء تقرأ بعض الآيات القرآنية فوق سكين من النوع الذي كان يقفل، ثم يقفل السكين بعد تلك القراءة، ويربط بشريط، كرمز لعقد لسان الوحش وفمه لمنعه من افتراس ضحيته. وأذكر من تلك التقاليد أيضاً تلك اللحظات التي كنا نذهب فيها إلي الحظائر للاتيان بالحليب الطازج من البقر والغنم والماعز، بعد ان تكون الماشية عادت من مراعيها في الأمسيات علي وقع أجراس هنا وثغاء هناك وخوار هنالك... وتختلط تلك الموسيقي الجميلة برائحة تنبعث من الماشية وهي عائدة من مراعيها حاملة كل ما في الطبيعة من جمال...
واذكر الكثير من نشاطات كنا نقوم بها، ومن العاب طفولة كنا نمارسها في حديقة منزلنا الغناء الملأي بكل أنواع الفاكهة. وكانت شجيرات التين المتنوعة تحمل أسماء شباب العائلة ومنها اسمي. وعلي الرغم من حداثة أعمارنا، كنا ندعي من قبل الأهل للمشاركة في حملة التفتيش في الأفق عن بداية شهر رمضان ونهايته، من خلال رؤية الهلال. وكثيراً ما كان نظر الفتيان يصل إلي تلك الرؤية قبل الكبار، فيبعث ذلك علي الارتياح، إذ يوحي بالاطمئنان إلي أن الهلال موجود فعلاً. لكن الأهل لم يكونوا يركنون إلي ما كان يعلنه هؤلاء الفتيان. إلا أن ذلك كان يحفزهم للقيام بجهد إضافي في عملية تفتيش قوية محكومة بالأمل، إلي أن يعلن أحد التُقاة أنه رأي الهلال، أو ادعي رؤيته. عندئذ يعلن بدء الصيام في اليوم التالي، عندما يكون التفتيش يستهدف تحديد اليوم الأول من شهر رمضان، أو يعلن انتهاء شهر الصيام، ويحدد اليوم التالي يوم عيد... وكنا، في ليالي الأعياد، نكاد لا نعرف النوم، بانتظار ان يأتي الصباح علي عجل وقد تحولت اكفنا وأرجلنا من لون البشرة الطبيعي إلي اللون الذي يضفيه عليها الحناء. كما كنا نحتفل بما يسمي خميس البيض . إذ يخرج أهل القرية كباراً وصغاراً، في صباح ذلك اليوم، ليتنافسوا فيما بينهم بوسائط البيض علي من يستطيع كسر البيضة التي بيد صديقه بالبيضة التي بيده، أو كسر بيضة من خلال ضربها برفق علي مقدمة أسنانه. ولا أدري ما هو جذر هذا الاحتفال، الذي كان يصادف حصوله مع بدء فصل الربيع من كل عام(3). أما خرجية العيد، مثل كل خرجية في الأيام العادية، فكانت كمية من القروش الفلسطينية المثقوبة في وسطها. فتلك كانت العملة المتداولة في المرحلة السابقة علي الاستقلال، وخلال السنوات الأولي من عمر الاستقلال. إذ كانت علاقة قريتنا والقري المجاورة شرقاً وغرباً، من ساحل صور عند رأس الناقورة حتي جرود مرجعيون في سفح جبل الشيخ، تكاد تكون محصورة بالمدن الفلسطينية القريبة من الحدود والبعيدة عنها في الداخل، وصولاً إلي حيفا ويافا، مروراً بصفد وعكا. وكان الشباب يذهبون للعمل هناك، بما في ذلك معسكرات الجيش البريطاني. وكانت حاجات القري تشتري من هذه المدن بدلاً من صور والنبطية وصيدا في الداخل اللبناني. إلا أن أكثر ما بقي في ذاكرتي من تلك المرحلة، عشية انتقال العائلة إلي مدينة صور، هو مراقبتنا، من علي شرفة منزلنا في حاريص، للأعمال الحربية التي كانت تجري بين جيوش الحلفاء وبقايا جيش فيشي الذي كان يتراجع مدحوراً مهزوماً. وشهدنا وصول كتيبة من الجيش البريطاني (من الاوستراليين) لتعسكر علي أبواب قريتنا، فور إعلان الانتصار العسكري الذي حققه الحلفاء علي جيش فيشي. إلا أن من خفايا تلك الأيام، التي لا يتذكرها إلا الكبار من جيلنا، أنا وأشقائي وأبناء عمي، فهي تلك اللحظات الجميلة من ليالي الشتاء القارسة، التي كنا نجلس فيها بالقرب من الموأدة (4) أو المنقل المعبأ بالجمر، مع والدتي الحاجة خديجة ومع امرأة عمي الحاجة زهرة الرفيقة الحميمة لوالدتي، نستمع إلي أحاديث جدتي لوالدي الحاجة الطاهرة . وكانت جدتي، كبيرة العائلة، تروي للكبار منا وللصغار قصصاً وحكايات، بعضها له أصل، وبعضها من نسج الخيال. وأكثر ما كان يثير فضولنا واهتمامنا من تلك القصص والحكايا، الذي تحتفظ به الذاكرة، تلك التي تتعلق بالجن وبعالم الجن، وهي كانت قصصاً مشوقة.
في أوائل الأربعينات بدأت العائلة تدخل في أزمة اقتصادية حادة، لم اشعر بها إلا في فترة لاحقة. إذ تبين ان الوالد قد باع كل أملاكه، بما في ذلك المنزل العائد له في القرية، وانتقل بنا إلي صور، ثم إلي بيروت فيما بعد. ولكنه ظل يحتفظ بمكتبته الأدبية والدينية، ومن بينها قرآن كبير وقديم كان يدون علي هوامشه تواريخ ولادتنا ، وكتاب كبير آخر اسمه عصر المأمون ، لا أزال أذكر ما جاء فيه من أحداث ووقائع تشير إلي أهمية ذلك العصر الذهبي في فترة الخلافة العباسية. من صور بدأت رحلة المتاعب. إلا أنني كنت مثابراً في المدرسة الجعفرية في صور، بدءاً من عام 1941، علي تفوقي في الدراسة. وما إن نجحت في امتحان الشهادة الابتدائية (السرتفيكا) حتي طرح مصيري علي جدول أعمال العائلة. ففي حين كانت رغبة الوالد هي ان التحق بابن عمه الشيخ حسين في النجف، قبل ان يخلع عمامة رجل الدين، كانت تجري مشاورات في اوساط وجهاء العائلة، ومنهم كامل مروة، لاختيار عدد من المتفوقين، كنت من بينهم، ليرسلوا إلي امريكا من اجل تحصيل العلم ورفع اسم العائلة. ولم اكن اعلم شيئاً لا عن رغبة والدي ولا عن هذه المشاورات التي كانت تجري بين وجهاء العائلة. وتبخر كل من الاقتراحين لأسباب ما أزال أجهلها. وصادف ان المدرسة الجعفرية، التي كنت انتسبت إليها في خريف عام 1941، لم تكن قد افتتحت الدراسة في المرحلة المتوسطة. فأرسلني الوالد إلي بيروت سنة 1943 للالتحاق بشقيقي محمد حسين، الذي كان يعمل في معمل للقبعات. وكانت تقيم معه شقيقتي فاطمة، التي أصبحت تعرف فيما بعد بأم عدنان. انتسبت في بيروت إلي مدرسة حوض الولاية. وفور دخولي إلي المدرسة باشرت مع عدد من زملاء الدراسة في تشكيل نوع من رابطة لتلامذة صفنا. وكان اول عمل قمنا به هو خروجنا من المدرسة للمشاركة في مظاهرات التضامن مع حكومة الاستقلال، حيث واجهنا قناصة الجيش الفرنسي من السنغاليين وفرقونا. وتسبب ذلك لي بالضياع نهاراً كاملاً في التفتيش عن الغرفة التي كنا نسكن فيها في منطقة زقاق البلاط القريبة من المدرسة. إلا أنني لم ابق في بيروت سوي بضعة أشهر. وخلال هذه الأشهر القليلة تعرفت إلي معالم العاصمة بمساعدة ابن عمي منير، الذي كان يتابع دراسته في الجامعة الامريكية. وكان شاباً ذكياً يتمتع بثقافة واسعة وشغوفاً بامتلاك المعرفة، في جميع ما يمكن الحصول عليه من معلومات علمية وجغرافية وأدبية وتاريخية، وسوي ذلك. وكان يصحبني في أوقات العطل إلي السينما والي معالم بيروت المختلفة. وكانت سينما أوبرا قد أصبحت من أهم صروح ساحة البرج. وهي لا تزال حتي اليوم تزين وسط بيروت التجاري، لكنها تحمل اسم مركز فرجين مذكرة أبناء جيلي بساحة البرج وبكل تراثها وبكل معالمها. كما تذكرنا بالساحة المقابلة لها، التي كانت تزدحم بالسيارات والاوتوبيسات، وتنقل القادمين من مناطق لبنان المختلفة إلي العاصمة وتعيدهم إلي مناطقهم. وتذكرنا بتمثال شهداء السادس من أيار(5) الذي كان يقع في الجهة الجنوبية من الساحة. وتذكرنا بالبازار الشرقي البديع سوق سرسق ، الذي كان يقع خلف سينما أوبرا من الجهة الغربية. وهي معالم حولتها الحرب الأهلية إلي حطام. لكن شركة سوليدير العقارية أقامت بديلاً منها معالم حديثة بكل المعاني المدينية والثقافية والسياسية، ولا سيما الاقتصادية، بالمعني المعاصر للاقتصاد الرأسمالي في ظل العولمة. فهي، إذ تمحو آثار حربنا الهمجية، فانها تقدم لنا الجانب الجميل من الحضارة والعمران، الذي يستمتع به اللبنانيون، كل اللبنانيين، وتقدم لنا، بالمقابل، النقيض الذي يتمثل بالرأسمال، الذي يدير ظهره للبنانيين، في سعيه لجني الربح الفاحش بأبشع الأشكال. إلا أن مبني بلدية بيروت الممتازة ، وشارع فوش وشارع اللنبي وساحة النجمة وشارع المعرض، التي استعصت جميعها، كمعالم تاريخية، علي الهدم القديم والجديد، فقد أصبحت، بعد ترميمها، رغم كل شيء، معالم تثير الاعتزاز بمدينتنا الجميلة بيروت، وتذكرنا بأمجادها وبتاريخها الغني. إلا أن كل تلك المعالم العمرانية الحديثة إنما تذكرنا، إلي جانب ما تحمله من جمال وأناقة وحداثة في البنيان، بأن شركة سوليدير ، الشركة الرأسمالية المساهمة، لم تصبح كبيرة وقادرة إلا لأنها منحت من قبل الدولة حقوقاً ليست لها، بما في ذلك حقوق العديد من المالكين القدامي، أبنية ومتاجر، تحولت إلي أسهم في الشركة بخسة الثمن. وكان ابن عمي يصحبني إلي أماكن اللهو، ولا سيما منها ملهي فاروق الذي ما زلت اذكر من برامجه برنامج الرقص الشرقي، الذي كانت تؤديه باتقان الفنانة سامية جمال، تساعدها في ذلك اناقة جسدها وجمال محياها ورشاقة حركتها.
وكنا نشرب الكازوزة والتمر الهندي في مقهي ابو عفيف، الذي كان يقع في اعلي منطقة من ساحة البرج، في الجهة الجنوبية من مدخل شارع بشارة الخوري، قبل ان يتم فتحه.
عدت إلي صور، بعد تلك الفترة القصيرة التي أمضيتها في بيروت، لتعذر الاستمرار في شروط الحياة الصعبة. ولم يجد والدي بداً من إدخالي في مدرسة الكاثوليك، الوحيدة التي كانت تستقبل تلاميذ المرحلة المتوسطة. وكانت تلك مغامرة من قبل الشيخ أحمد لادخال ابنه في مدرسة غير اسلامية. أقول مغامرة وربما كانت تعبيراً عن انفتاح تميز به والدي في علاقاته الواسعة مع الناس من مختلف الأوساط ومن مختلف المشارب ومن مختلف الأديان. وقد نشأت صداقة جميلة بين والدي وبين رئيس المدرسة الخوري الذي كان اسمه عبد الله، إن لم تخني الذاكرة. وصار الخوري يطلب مني في كل صباح، قبل أن أذهب إلي الصلاة في الكنيسة (أبانا الذي في السماوات...) أن أقرأ له، بصوتي الجميل آنذاك وبتجويد قرآني، آيات من سورة مريم.

من الدين الي القومية العربية فالشيوعية، ثم الي التصالح بين الاشتراكية والدين، لا بين الماركسية والدين، والفرق كبير بين الفكرتين. انها رحلة مضنية اجتازها كريم مروة في شعاب السياسة وفي مسالك النضال الاجتماعي وفي حقول الفكر والثقافة. خمس وخمسون سنة صاخبة اقتطعها كريم مروة من مسيرة عمره، ومنحها للأحلام الجميلة وللأمل البهي وللمستقبل الباهر. كان يحلم بالعدالة للجميع، وبالحرية للافراد وبالديمقراطية للمجتمعات وبالتحرر للأوطان كلها.
شيوعي، رغم انه سليل عائلة دينية عريقة في جبل عامل بجنوب لبنان. فجده لوالده كان رجل دين. وشقيق جده كان مرجعا دينيا في جبل عامل. وجده لوالدته كان رجل دين ايضا. وشقيق جده كان مرجعا دينيا في قم في ايران. لكن ارتباط جنوب لبنان بالمدن الفلسطينية ادخل الافكار القومية الي وعيه في وقت مبكر.
بدأ قوميا عربيا من غير ان ينخرط في اي حزب قومي عربي، وشغلته القضية الفلسطينية حتي تطوع، وهو فتي، لمطاردة المهاجرين اليهود. لكن والده، لتفاقم وضعه المالي، اضطر الي ارساله الي العراق لمتابعة دراسته. وفي العراق تابع شغفه بالسياسة والادب برعاية قريبه حسين مروة. وكان حسين مروة خلع للتو عمامة رجل الدين وتحول استاذا للأدب والفلسفة في مدارس بغداد. وفي العراق تفتح وعي كريم مروة علي الفكر الشيوعي.
ساءه كثيرا، كقومي عربي ان تفشل الحركة القومية العربية في انقاذ فلسطين. وكصديق للشيوعيين رفض موقف الاحزاب الشيوعية العربية التي قبلت قرار تقسيم فلسطين في 92/11/7491. ووقف الي جانب الكاتب التقدمي اللبناني رئيف خوري ضد الحملة التي شنها عليه الحزب الشيوعي اللبناني بسبب رفضه قرار التقسيم الذي قبله الحزب. وعلي الرغم من استمرار خلافه مع الحزب في قضيتي رئيف خوري وفلسطين، الا انه التحق بالحزب الشيوعي اللبناني في اواخر العام 1952 وتسلم مسؤوليات قيادية في منظمة الحزب الطلابية، حتي صار نائبا للأمين العام للحزب في سنة 1984 واشتهر، مع جورج حاوي وعدد من القياديين الشباب، بأنهم قادوا عملية التغيير الداخلي في الحزب في المجالين الفكري والسياسي. وتميزت مواقفه، في الحزب ومن موقعه في قيادته، بالاستقلال عن مواقف الحزب الشيوعي السوفياتي، استنادا الي قرارات المؤتمر الثاني للحزب (1968)، ولا سيما في ما يتصل بصياغة برنامج الحزب وخطه السياسي، وفي موضوع التعددية في الاشتراكية وفي الموقف من الشيوعية الاوروبية ومن ربيع براغ ومن الكفاح المسلح الفلسطيني. واسهم في تأسيس قوات الأنصار التي لم تعش طويلا. وقاد بتكليف من قيادة الحزب عملية اطلاق الحرس الشعبي كتنظيم شيوعي مستقل لمقاومة العدوان الاسرائيلي بالسلاح. ومنذ اواخر الستينات اصبح احدي الشخصيات السياسية والفكرية المعروفة في لبنان والعالم العربي، وكتب ونشر في عدد كبير من الصحف والمجلات العربية والاجنبية. كما شارك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والعالمية.
يجمع في تكوينه ثلاثة وجوه: المناضل والسياسي والمفكر. ومع افول الحياة النضالية في لبنان وانحسار دور الحزب الشيوعي في المقاومة الوطنية، ومع خروجه من موقع نائب الامين العام للحزب في سنة 1992 ثم مغادرته طوعا عضوية المكتب السياسي في سنة 1999 لم يبق له من وجوهه الثلاثة، الا الوجه الفكري. وكمفكر سياسي ومناضل التقينا في مكتبه في المقر العام للحزب الشيوعي اللبناني في منطقة الوتوات في بيروت وتحاورنا علي امتداد ستة ايام متواصلة، فكان هذا الحوار الشائق والشائك معا، هنا الحلقة الثانية:

بدأت قومياً عربياً، ثم صرت شيوعيا في العراق. ما هي المؤثرات الأولي التي أسهمت في تكوين وعيك السياسي؟ كيف صرت عضوا في الحزب الشيوعي؟
لهذا التحول في حياتي قصة، تحددها شروط نشأتي الأولي. ذلك أنني كنت، منذ وقت مبكر، شديد الحساسية إزاء القضايا الوطنية. ففي الخامسة عشرة من عمري، أي بين عامي 1944 و1945، وهي بداية المراهقة، وجدت نفسي، فجأة، حاملاً مع المراهقة هموماً شتي. وأنا لا أستطيع اليوم أن أفسر كيف حصل عندي هذا التزاوج بين هواجس الشاب المراهق وأحلامه، من جهة، والهموم الحقيقية للرجال الكبار، من جهة أخري.
في تلك الفترة كنت مع عدد من أصدقائي نقرأ جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وايليا أبو ماضي وغيرهم من كبار الأدباء والشعراء العرب. وكان دكان السمكرية لأحد صاحبيه محمد دكروب أحد الأمكنة التي كنا نناقش فيها خلاصات قراءاتنا. لكن جبران كان الأكثر تأثيرا فيَّ وفي أبناء جيلي. قرأت له جميع ما كتب ونشر بالعربية في ذلك الحين. ولا بد من الإشارة إلي الدور المباشر الذي لعبه أستاذنا في الكلية الجعفرية إنعام الجندي(6) في توجيه وعينا وتهذيبه. وإنعام الجندي كان متأثراً بزكي الارسوزي، رغم انه ينفي ذلك، اليوم. وطالما حدثنا عنه وعن فكره وطموحاته وتصوراته لمستقبل الأمة العربية. ولأن إنعام الجندي كان يتميز بصفات إنسانية لافتة كنا نشعر ـ وهو أستاذنا ـ انه واحد منا. كنا نعيش معه ونخرج معه ونلعب معه، ونمضي السهرات الطوال معه في الحديث والنقاش في أمور عديدة، سياسية وثقافية واجتماعية. وقد أسهمت طريقته هذه في التعامل معنا ببث الوعي فينا، قومياً وفكرياً. واذكر انه هو الذي عرفنا إلي شعر فوزي المعلوف، الذي أحببناه، وصارت قصائده وسيرة حياته وموته المبكر محفورة في ذاكرتي وفي وجداني. وكان زملائي في المدرسة وخارجها كثيرين. لكن أصدقائي الأقربين كانوا يتألفون من محمد دكروب، السمكري آنذاك، والأديب ورئيس تحرير مجلة الطريق اليوم، ويوسف رضا، صاحب المعاجم اللغوية، وعدنان شرارة، الفنان التشكيلي، وحسين شرف الدين، حفيد الإمام عبد الحسين شرف الدين، ومدير الكلية الجعفرية، وحسن محي الدين، القومي العربي حتي الصوفية والمغامرة.
في تلك الفترة كان يسود في المنطقة العربية غليان كبير: الحرب العالمية الثانية توشك علي الانتهاء، في ظل انتصارات كبري كان يحققها الاتحاد السوفييتي علي ألمانيا النازية. وكانت الهجرة اليهودية إلي فلسطين تتسع بمساعدة الدول الأوروبية. وكان النضال من اجل استقلال لبنان وسورية يشتد ويأخذ أشكالاً متعددة، ليتحقق في عام 1943، وليعقبه في عام 1946 جلاء القوات الفرنسية والإنكليزية عن هذين البلدين بقرار من مجلس الأمن، وهو القرار الذي أمكن اتخاذه بفضل الفيتو السوفييتي، الذي استُخدم لأول مرة، بعد تأسيس الأمم المتحدة في عام 1945. وكان الصراع والتنافس بين التيارات السياسية في لبنان، الشيوعية والقومية العربية والقومية السورية من جهة، والأحزاب التقليدية من جهة ثانية، يشتد بأشكال مختلفة حول كل القضايا. ولم تكن حركة القوميين العرب قد نشأت بعد كمنظمة حزبية. لكن كان هناك تيار قومي عربي، وكنت واحداً من الشبان المنتمين إليه. أما الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي فكانا تنظيمين كبيرين، وكانت نشاطاتهما واسعة في كل البلاد. وكان لهما بصفتهما حزبين علمانيين ـ علي ما كان بين فكريهما من تناقض أساسي ـ أنصار في مختلف الطوائف والمذاهب، يتجاوزون طوائفهم ومذاهبهم. وأذكر أنني، برغم الصراع الذي كان حاداً بين التيارات الثلاثة، ارتبطت بعلاقة صداقة مع الشيوعيين والقوميين السوريين. وكان ذلك مثار استغراب وتساؤل عند الجميع؛ إذ كيف يمكن لهذا القومي العربي أن يكون صديقا للقوميين السوريين وللشيوعيين في آن واحد! وكان الشيوعيون أكثر الذين واجهوني بالسؤال عن سر هذا الموقف عندي. إذ كانوا يرون في سلوكي ما يشير إلي قرابة ما بين جوهر موقفي وبين أفكارهم. وأذكر، في هذا الصدد، أن أحد أساتذتي، سليمان أبو زيد، الذي أصـــــبح أستاذا للأدب العربي في مدرستنا بعد مغادرة إنعام الجندي، كان ـ وهو الشيوعي ـ يقول لي: إنني أتنبأ لك يا عبد الكريم بأن تصبح قائداً شيوعياً في المستقبل. وستتذكر قولي .
وعندما التقيت به، بعد ذلك في عام 1970، وكنت أصبحت من القادة المعروفين في الحزب الشيوعي، ذكرني بتلك الحادثة وهو يشد علي يدي ويعانقني. وحين اذكر أساتذتي لا يسعني إلا أن اذكر من بينهم أول مدير للمدرسة الجعفرية، في فترة دراستي الأولي فيها، سرحان سرحان، الذي تميز بجديته وحزمه وسطوته ومناقبيته، ومتري حلاج، الذي علمني أصول اللغة الفرنسية وقواعدها، وجعفر شرف الدين، الذي علمني أصول اللغة العربية وقواعدها، وجورج كنعان، الذي حببني بالشعر العربي القديم. ولا يسعني إلا أن اذكر أحمد سويد، الذي درسنا الأدب العربي لفترة قصيرة، ونصري شمس الدين، الذي كان يدرسنا الموســــيقي، ومحمــــد سلمان، الذي كان يدرسنا فنون الخطابة والتمثيل ـ وقد قمت بعدة أدوار متواضعة في مســــرحيات وضعها هو أو اقتبسها ـ ومحمد عيسي، الذي كان ناظــــراً في المدرســــة، ثم تحول بعد ذلك إلي مفــــوض في الأمن العام، وكلف بمرافقة كيريلنكو، القائد الشيوعي السوفييتي الذي جاء في عام 1973 إلي بيروت ليقلد نقولا شاوي وساماً سوفييتياً رفيعاً. وقد جاءني محمد، يومها، معتزاً بمهمته ومذكراً إياي بصداقتنا القديمة. المهم أنني كنت في ذلك الحين منشغلا بقضايا الوطن العربي أيما انشغال. كما كنت مهــــموماً بقضية لبنان ما بعد الاستقلال، من دون أن أحدّد تصوري لمســــــتقبل بلدي. إذ كان ذلك يفوق قدرة فتي مثلي لا ينتمي إلي حزب او مؤسسة. الا ان انتخابات الخامس والعشـــــرين من أيار المزورة (1947)، التي نظمها الرئيس الشيخ بشارة الخوري من اجل تعديل الدستور وتجديد ولايته، أيقظت عندي الشعور بضرورة بذل الجهد لتحديد صورة هذا المستقبل في ذهني، وتحديد دوري وموقعي في صنعه، كمواطن فرد أو كجزء من مؤسسة أو حزب. لكنني لم أكن أعرف كيف أحقق ذلك، ومن أين أبدأ. وفي خريف العام ذاته سافرت إلي العراق وفي قلبي غصة، ونار الغضب تغلي في داخلي.
وفي تلك الفترة بالذات كنت، أسوة بأبناء جيلي، مشغولاً ومهموماً بالقضية الفلسطينية، التي كانت الهجرة اليهودية إلي فلسطين واحتمال قيام وطن قومي يهودي فيها تثير مخاوفنا. وكنت احلم، في ذلك الوقت، بأن تبادر القيادات العربية من امثال الحاج امين الحسيني والملك عبد الله والملك الفتي فيصل الثاني وخاله عبد الإله، الوصي علي العرش العراقي، وشكري القوتلي والزعيم المصري مصطفي النحاس، الوريث الشرعي لزعامة سعد زغلول، إلي تشكيل حاجز منيع أمام ذلك الخطر! يومها لم يكن الفساد قد دب في كل النظم العربية، أو هكذا كنت أتصور.
وفي الفترة التي وصلت فيها إلي العراق، في أواخر عام 1947، أصدرت الأمم المتحدة قرارها رقم 181 القاضي بتقسيم فلسطين. وتبين لي يومها أن دور الحكام العرب في الحيلولة دون اتخاذ هذا القرار لم يكن في مستوي المسؤولية. دلت علي ذلك، بحسب متابعتي للأحداث، مواقفهم المتذبذبة، وفقدانهم الاستقلالية في قراراتهم. وفي حين كانوا شديدي الالتصاق بممثلي الدول الغربية كانوا شديدي العداء لمندوب الاتحاد السوفييتي، الذي لم يكن مضي عام واحد علي استخدامه حق الفيتو لمصلحة استقلال لبنان وسورية، وفرض جلاء القوات الفرنسية والإنكليزية عن أراضيهما. لكن الأمور، في ذلك الحين، كانت أكبر من هموم ومصالح وقدرات تلك القيادات السياسية الضعيفة المتأرجحة، وكانت أكبر من مشاعرنا القومية المتأججة، نحن شباب ذلك الزمن العاصف. وحين قررت الحكومات العربية الدخول في الحرب (15 أيار 1948) لمنع تقسيم فلسطين، كنت شديد الحماس لهذه الحرب. وقد كتبت لمحمد دكروب، صديق العمر الأول الذي كان يقيم في صور، رسالة عبرت له فيها عن هذا الحماس الثوري عندي، وعن الأحلام التي كانت تتحكم بمشاعري.
في تلك الفترة كانت تربطني علاقات صداقة ببعض الطلاب الذين التحقوا بالجيش العراقي كاحتياط. وبعد الحرب، أي بعد وقوع الكارثة التي تمثلت بما نسميه النكبة ، التقيت عدداً منهم، وحدثوني عن مهزلة الحرب،وكيف ان الحكام العرب، عندما ذهبوا إلي الحرب، كانوا يعرفون، بسبب ضعفهم وانقسامهم، وبسبب انصياعهم للقوي الأجنبية، انهم ذاهبون لتنفيذ قرار التقسيم ومنع الفلسطينيين من إقامة دولة عربية لهم في فلسطين. وقد كتبت لإنعام الجندي رسالة عبرت له فيها عن خيبتي وقلقي وحيرتي. وكنت حصلت علي عنوان إنعام بواسطة شقيقه أنور، الذي عرفت من أحد مقالاته انه يقيم في مدينة السلمية في سورية، بعد أن كنت بعثت له برسالة أسأله فيها عن مكان وجود أستاذي إنعام. ولم أكن أعرف أنور، ولا الأشقاء الآخرين لإنعام. أما عاصم فقد تعرفت إليه في مطلع التسعينات.
في هذه الفترة بالذات، لم أجد سوي الكتابة متنفساً. فبعثت مقالين يحملان الحيرة والقلق إلي مجلة العرفان في لبنان، الأول بعنوان رسالة إلي عربي والثاني بعنوان رسالة إلي يهودي ، نشرهما لي الشيخ أحمد عارف الزين في عددين متتاليين في أواخر عام 1948.
إن قرار التقسيم، ومعاهدة بورتسموث، التي وقعها صالح جبر رئيس الحكومة العراقية آنذاك مع الإنكليز في مطلع عام 1948 ـ وكنت شاركت في المظاهرة الاولي التي نظمت ضد هذه المعاهدة ـ والهزيمة العربية الأولي، في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، المعروفة باسم النكبة ، شكلت جميعها عندي عناصر احتجاج وثورة. فكتبت، في كانون الأول 1947، مقالاً بعنوان: لابد من ثورة نشره لي الشاعر محمد مهدي الجواهري في صدر الصفحة الأولي من جريدته اليومية الرأي العام (7)، قبل ان أكون التقيت به. ونشرت، بعد هزيمة العرب في فلسطين (النكبة)، مقالاً في العدد الأول والأخير من جريدة السيار ، التي أصدرها حسين مروة في النصف الأول من عام 1949، وأقفلتها السلطات فوراً، بعنوان: لن تغفر الشعوب!
هذه التراكمات جعلتني افتش عن حل. وهذا الحل وجدته بنفسي، بفعل الأحداث التي أثرت فيَّ. كنت قومياً عربياً بالمعني العام للمفهوم. وكنت متأثراً، أيضاً، بانتصارات الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية. وكان قسم من أصدقائي في المدرسة في صور، قبيل انتهاء الحرب، يعتقد ان انتصار هتلر سيقضي علي اليهود، وان علينا نحن العرب أن نكون إلي جانبه. بينما كنت أقول، بحسب وعيي في ذلك الحين، ان هذا التفكير خاطيء،لان من كان عدواً للبشرية لا يمكن أن يكون صديقا للعرب.فهتلر قومي آري معاد للسامية، ونحن ساميون. فكيف يمكن أن يكون هتلر مع ساميين وضد ساميين في الوقت نفسه؟ وكنت اكثر ترحيبا بانتصار الاتحاد السوفييتي. واعتبرت انه إذا كان الاتحاد السوفييتي انتصر علي هتلر،وهو يحمل لواء الاشتراكية والحرية والعدالة والمساواة، فهذا هو الذي يجب ان نفتش عنه. ولم يكتمل وعيي بالفكرة الاشتراكية إلا فيما بعد، أي بعد ثلاثة أعوام من انتهاء الحرب، وبعد خيبات متتالية أصبت بها جراء ما كان يحصل في بلداننا من فساد وقمع وتآمر وتواطؤ مع الدول الاستعمارية، إذ اعتبرت ان الفكرة الاشتراكية هي التي يمكن أن تشكل مدخلا إلي حل المعضلات التي تواجهها الأمة العربية في نضالها من أجل التحرر والاستقلال والتقدم، بما في ذلك إيجاد حل عادل لقضية فلسطين. لذلك انتميت إلي الشيوعية كفكرة في بادئ الأمر. ولا بد أن أشير إلي ان الجانب التقدمي في فكر حسين مروة وسلوكه، ووضوح الرؤية في فكر محمد شرارة، صديق حسين مروة وزميله في التدريس ـ وكان في ذلك الحين، كما أعتقد، ينتمي إلي الحزب الشيوعي العراقي ـ قد أثرا، من دون شك، في توجيهي بصورة مباشرة وغير مباشرة. وكان كلاهما يقيمان علاقة صداقة مع قياديين في الحزب الشيوعي العراقي، وبالأخص مع حسين الشبيبي، الذي كان يعتبر الشخص الثاني في الحزب بعد فهد(8). وأدي ذلك في النصف الثاني من عام 1948، إلي انتسابي إلي إحدي منظمات الحزب الشيوعي العراقي لفترة قصيرة جداً. لكن حسين مروة ومحمد شرارة، وبعض أصدقائهما من الشيوعيين، نصحوا بعدم استمراري في العمل المنظم لأسباب أمنية. لذلك لا أعتبر أنني كنت عضواً في الحزب الشيوعي العراقي، بالمعني الدقيق للكلمة. وكان من أقرب أصدقائي إليَّ، في تلك الفترة، بين الطلاب، باسل الجادرجي، ابن الزعيم العراقي كامل الجادرجي، رئيس الحزب الوطني الديمقراطي. وقد عملت لفترة قصيرة مصححاً في جريدة الأهالي التي كانت تنطق باسم هذا الحزب، وذلك بواسطة أحد قادته، وليس عن طريق الجادرجي، الذي لم تكن قد نشأت لي علاقة معه، برغم صداقتي مع ابنه باسل. وأذكر، باعتزاز وامتنان، ان أستاذاً في كلية الهندسة اسمه محمد عبد اللطيف قالوا لي فيما بعد انه كان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي أولاني الكثير من الاهتمام. فكنا نتمشي معا في شارع الوزيرية (شارع السفارات). وكان يطلب مني ألا أتردد بالسؤال عن أي شيء يخطر في بالي. وأحسست أنه ربما كان يعمل علي تثقيفي بمبادئ الشيوعية. غير أنه لم يطلب مني الانتساب إلي الحزب. وفي الحقيقة فإن محمد عبد اللطيف قد ساعدني كثيراً في إجابته عن العديد من استفساراتي وتساؤلاتي. لكن ما أربكني، حينذاك، هو بعض القضايا الداخلية العراقية المتشابكة، وبعض الشعارات التي كان يطرحها الحزب، وطريقة تعامل بعض قيادييه وكوادره مع القوي الأخري، كرد فعل علي المواقف المتشنجة عند هذه القوي من الشيوعية والشيوعيين. وأكثر ما ساءني في موقف الحزب يومذاك، رغم إعجابي بشجاعة مناضليه وثقافتهم، هو طرحه في بعض بياناته شعار التآخي العربي ـ اليهودي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، في وقت لم تكن قد جفت آثار الحرب العربية ـ اليهودية وفجائعها، فلم استسغ هذا الشعار. وهذه هي المرة الأولي التي افصح فيها عن هذا الأمر. أقول ذلك مع أنني كنت صديقاً للعديد من الشيوعيين، وكنت ممتناً لدور محمد عبد اللطيف في تثقيفي، وكنت شديد التقدير للأمين العام للحزب فهد ، الذي كان في ذلك الحين في السجن مع بعض رفاقه، وهذا التقدير اكتسبته من تقدير حسين مروة ومحمد شرارة لهذا القائد الشيوعي الكبير، والذي تعمق فيما بعد لدي إطلاعي علي سيرته، وبعد أن قرأت أعماله الفكرية والسياسية. لم يكن حسين مروة شيوعياً في العراق. لكنه كان علي علاقة وثيقة بعدد من قياديي الحزب الشيوعي العراقي. وكان يحظي باحترامهم وتقديرهم.وقد قادته مواقفه التقدمية وتطورات الأحداث إلي الإقتراب من الفكر الماركسي ومن الشيوعيين، إلي أن أصبح عضواً ممارساً في الحزب الشيوعي اللبناني في أوائل الخمسينات، ثم عضواً في اللجنة المركزية في أواخر عام 1964. كان حسين مروة شخصاً استثنائياً في ثقافته وأخلاقه وفي القيم التي التزم بها. كان، منذ البداية، واضحاً في الانتماء إلي الافـــكار التقـــــدمية من دون ان يكون اشتراكياً بالمعني الدقيق للكلمة. وقد استفدت كثيرا منه ومن علاقاته الواسعة في العراق. وتمكنت، من خلاله وبمساعدة بعض أصدقائه، من إقامة علاقات عديدة في الوسط الثقافي والسياسي. ومن خلاله تعرفت إلي محمد شرارة، الذي كان رجل دين مثل حسين مروة، ونزع العمامة مع صديقه، وأصبح مثله أستاذاً للأدب العربي في مدارس العراق. وعلي الرغم من انه كان حاداً في الدفاع عن أفكاره إلا أنه كان إنساناً رائعاً في التعامل معنا نحن الشباب.ولا أستطيع أن أذكر محمد شرارة من دون أن اشير إلي سيرة هذا الرجل الشجاع في مواجهة الصعاب والمحن وأشكال الإضطهاد التي واجهته وواجهت عائلته. وقد كانت حياة شرارة(9) ابنته من الطينة ذاتها التي ميزت والدها. وكانت تحمل، في سيرتها، وفي مواجهتها للصعاب حتي الاستشهاد، النموذج الحي لوالدها الشهيد. كنا نلتقي في بيت حسين مروة، ثم صرنا نلتقي في بيت محمد شرارة بحضور شقيقه مرتضي وشقيقته سكنة وبناته مريم وبلقيس وحياة. وكان ابراهيم وجهاد لا يزالان طفلين. كما كنا نلتقي في بيوت أخري، منها بيت نازك الملائكة وبيت عزيز أبو التمن، نجل الزعيم العراقي جعفر ابو التمن، وبيت التاجر والأديب العصامي ناجي جواد الساعاتي، وبيت الشاعر أكرم الوتري، وبيت محمد حسن الصوري، صاحب مجلة الحضارة . وفي هذه الأماكن الجميلة تعرفت إلي عدد كبير من المثقفين مثل بدر شاكر السياب وبلند الحيدري، الذي صار صديق العمر علي امتداد عقود طويلة، ونازك الملائـــكة ولميعة عباس عمارة وخالد الرحال ونزار سليم وعبد الملك نوري وذو النون أيوب وحسن الأمين وكاظم السماوي ونوري الراوي وعامر عبد الله الذي توطدت علاقتي معه ابتـــــداءً من الستينات حتي لحظة رحيله المأساوية في المنفــــي في لـــــندن منذ عامين. إذ كان في الفترة الاولي يشكل مع عزيز شريف حــــزب الشـــعب، ولم يصبح في قيادة الحزب الشيوعي الا في مطلع الخمسينات.
ومنذ ذلك التاريخ ربطتني بكليهما، عامر عبد الله وعزيز شريف، علاقة صداقة حميمة استمرت حتي رحيلهما. إلا أن العلاقة مع عامر عبد الله كانت تتميز بالجدل الدائم في الشؤون السياسية والفكرية، ما يتعلق منها بأوضاع بلداننا وما يتعلق منها بالحركة الشيوعية وبالنظرية الإشتراكية. وكانت له اسهامات فكرية كبيرة كان آخرها كتابه الذي صدر قبل وفاته بعنوان مقوضات النظام الإشتراكي العالمي وتوجهات النظام العالمي الجديد . أما عبد القادر البراك، الذي أعتبره أحد أهم الذين ساهموا في تكويني الثقافي والفكري، فكنت ألتقي به في مقهي الحيدر خانة. وكان مقهي الزهاوي في وسط بغداد المكان الآخر الذي تعرفت فيه إلي العديد من المثقفين الآخرين. وتلك اللقاءات بمجملها هي التي بلورت عندي فكرة الانتماء إلي الشيوعية. إلا أن علاقتي بالجواهري كانت قد نشأت أولاً من خلال قراءتي لقصائده، التي كانت تحفظ وتردد في كل الأوساط، وكذلك من خلال جريدته الرأي العام . ثم صارت العلاقة حميمة معه، أولاً من خلال صديقه حسين مروة، ثم من خلال الصداقة التي ربطت بيننا واستمرت حتي وفاته. ولا أزال أذكر بكثير من التأثر يوم المأتم الكبير للشهيد جعفر الجواهري، شقيق الشاعر الذي سقط في الانتفاضة ضد معاهدة بورتسماوث. ففي هذا المأتم الحاشد الذي أقيم في جامع الحيدر خانة، في قلب بغداد، ألقي الجواهري، من جوار قبة المسجد، قصيدته الشهيرة في رثاء شقيقه التي مطلعها:
أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فم
غير ان علاقتي بزعماء الحركة الوطنية، من امثال كامل الجادرجي والشيخ محمد رضا الشبيبي وسعد صالح، كانت عابرة. إذ كنت أرافق حسين مروة في بعض لقاءاته معهم. ومثل ذلك كانت العلاقة بكاظم الصلح، سفير لبنان في العراق، الذي رافقت حسين مروة في بعض زياراته له. وقد تركت هذه اللقاءات العابرة مع هذه الشخصيات انطباعات طيبة لا تزال تحتفظ بها الذاكرة في مكان مميز من مساحاتها الواسعة.
وعندما رجعت إلي لبنان لم ألتحق بالحزب الشيوعي فوراً. وأول مرة انتسبت فيها بشكل رسمي إلي الحزب كانت في أول سنة جامعية.
لنعد إلي العراق. فما تزال لدي بعض الاستفسارات بشأن معاهدة بورتسموث والانتفاضة التي قامت ضدها في سنة 1948 ما الذي حصل آنذاك؟
أدت المظاهرات، التي تحولت إلي انتفاضة شعبية شاركت فيها جميع القوي الوطنية، إلي سقوط المعاهدة ومعها حكومة صالح جبر. وتشكلت حكومة جديدة برئاسة السيد محمد الصدر(10) (وهو رجل دين). ونشأ في البلاد وضع غير مسبوق في تاريخ العراق. إذ ساد نوع من الحرية تميز بصدور صحف عديدة امتلأت بالمقالات الطويلة. وكان كل مقال من مقالات الشيوعيين يتجاوز الصفحة أو الصفحتين. وخرجت الأحزاب السرية إلي العلن، وخرج قادتها من مخابئهم التي كانت تبعدهم عن عيون المخابرات وأجهزتها القمعية. وكان في مقدمة هؤلاء قادة الحزب الشيوعي، الذين أذكر من أسمائهم عزيز الحاج وشريف الشيخ. وعمت الشوارع التظاهرات التي عطلت، بكثرتها وبكثرة المشاكل بين منظميها، الحياة العامة في البلاد. وتشكلت منظمات جديدة من شتي الأنواع. وعقدت الحركة الطلابية الموحدة مؤتمراً لها في نادي السباع تم اختيار المندوبين له بالانتخاب في مختلف المدارس والكليات. وقد انتخبت من قبل زملائي في الكلية الجعفرية مندوباً إلي المؤتمر. غير أن تدخلاً حصل لاستبدالي بالطالب الذي تلاني بعدد الأصوات، وذلك لكوني غير عراقي. ولم يكن من الممكن أن يستمر وضع في البلاد علي هذا النحو، في ظل هذا النوع من الديمقراطية التي لا ضابط لها، وفي ظل حكومة ضعيفة لم تكن مؤهلة، من الناحيتين الذاتية والموضوعية، لوضع خطة سياسية قابلة للحياة، تنظم شؤون البلاد في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكان أركان البلاط الملكي، بزعامة ولي العهد عبد الإله (خال الملك فيصل الثاني الذي كان لا يزال قاصراً) وحليفه وصديقه التاريخي نوري السعيد، ينتظرون الفرصة ليعودوا إلي استلام زمام الأمور. وقد جاءت هذه اللحظة المنتظرة من ثلاثة مصادر: الفوضي التي سادت البلاد والصراعات بين الأحزاب، من جهة، وتعطل الحياة الاقتصادية وتململ أصحاب المصالح البرجوازية، والخوف الذي تولد جراء بروز الشيوعيين كقوة جماهيرية كبيرة، من جهــــة ثانــــية، والهزيمــــة التي منيت بها الجيوش العربية في الحرب لمنع قيام دولة يهودية، تنفيذاً لقرار تقسيم فلســــطين، مــــن جهة ثالثة؛ وهي الهزيمة التي تحمل مسؤوليتها أكبر جيشين عربيين: الجيش العراقي (ماكو أوامر)، والجيش المصري (الأسلحة الفاسدة). وهكذا لم نكد نصل إلي آخر العام 1948 حتي كانت تلك الفترة الذهبية من تاريخ العراق تتلاشي، وتخلي مكانها لفترة إرهاب وقمع، وكان من أبرز عناوينها إعدام قادة الحزب الشيوعي.

 

 

هوامش:

(1) ما زال الحي الذي أقام فيه في دمشق يُعرف، حتي اليوم، باسم حي الأمين .
(2) هي اسم الشركة التي تحتكر شراء موسم التبغ في لبنان.
(3) يرتبط طقس البيض في الديانات القديمة بفكرة الولادة أو الخصب أو الانبعاث أو مقدم الربيع. وقد تبنت المسيحية هذه الرموز، وصارت الناس تفاقس البيض في عيد الفصح الذي هو عيد القيامة.
(4) المقصود الموقدة حيث يجري إيقاد الحطب.
(5) السادس من أيار 1915 هو تاريخ إعدام بعض اللبنانيين والسوريين في دمشق وبيروت الذين ناضلوا ضد الحكم التركي. وصار هذا اليوم عيداً للشهداء في سورية ولبنان.
(6) أديب ومترجم سوري من بلدة السلمية في سورية. وهو شقيق السياسي سامي الجندي والقاص عاصم الجندي والشاعر علي الجندي.
(7)أصدر محمد مهدي الجواهري (1989 ـ 1997) جريدة الرأي العام في كانون الثاني 1948.
(8) هو يوسف سلمان يوسف. ولد في بغداد سنة 1901، وهو المؤسس الحقيقي للحزب الشيوعي العراقي. أعدمته حكومة نوري السعيد في 1949/2/14 مع رفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي ويهودا صدّيق.
(9) ماتت مع ابنتها مها في حادثة غامضة في بغداد في 1997/8/1
(10) ولد في الكاظمية في سنة 1883، وتوفي في بغداد في 1956/3/4

 


 
نقلا عن جريدة "القدس العربي" اللندنية



#صقر_ابو_فخر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الأرض أم المريخ؟ شاهد سماء هذه المدينة الأمريكية وهي تتحول ل ...
- وصف طلوع محمد بن سلمان -بشيء إلهي-.. تداول نبأ وفاة الأمير ا ...
- استطلاع رأي: غالبية الإسرائيليين يفضلون صفقة رهائن على اجتيا ...
- وصول إسرائيل في الوقت الحالي إلى أماكن اختباء الضيف والسنوار ...
- شاهد: شوارع إندونيسيا تتحوّل إلى أنهار.. فيضانات وانهيارات أ ...
- محتجون يفترشون الأرض لمنع حافلة تقل مهاجرين من العبور في لند ...
- وفاة أحد أهم شعراء السعودية (صورة)
- -من الأزمة إلى الازدهار-.. الكشف عن رؤية نتنياهو لغزة 2035
- نواب ديمقراطيون يحضون بايدن على تشديد الضغط على إسرائيل بشأن ...
- فولودين: يجب استدعاء بايدن وزيلينسكي للخدمة في الجيش الأوكرا ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - صقر ابو فخر - حوار مع المفكر والمناضل اللبناني كريم مروة