محمد قادري
الحوار المتمدن-العدد: 2583 - 2009 / 3 / 12 - 10:37
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما ارتقى الحقوقي الالماني ذو الاصول اليهودية هانس كلسن بالقاعدة القانونية الى مرتبة المعيار la norme كان همه البحث عن ضمانات لحقوق الافرادبشكل عام واليهود يشكل خاص من امكانية اخضاع الماسك بالسلطة للقانون وتوظيفه حسب ارادته .هذا التفكير الحقوقي اوصل كلسن الى الابتداع الطريف لدولة الحق او ما بات يعرف اليوم بدولة القانون .
القانون عند كلسن يجسد المعايير : الحرية ،العدالة ،المساواة ،الانصاف...وهو يجعل من تلك المعايير الضمانة الاساسية للحق لذلك لا يتوانى في اعلاء القاعدة القانونية عن كل الارادات فردية كانت ام جماعية (حزبية) .
اذا ما اخذنا في الاعتبار ان اغلب دول العالم ومنها العربية تتبنى اليوم نموذج دولة القانون والمؤسسات فان العقاب يكون جزائيا اي على قدر الانحراف عن القاعدة القانونية والمساس بمعياريتها .وعليه فالسلطة بوسائلها المادية وغير المادية هي في الاصل ذات دور عقلاني وحيادي : احترام سيادة القانون والتذكير بضرورة الخضوع له وحماية المجتمع من تلك الانحرافات ، كما على السلطة ان تجند كل مؤسساتها وبرامجها لخدمة هذه الغاية .لكن ماذا لو فكرنا في التجاوزات التي تقوم بها الارادات الفردية والجماعية للقانون على مرأى ومسمع من السلطة ، يحصل هذا عندنا وفي كل الاقطار العربية وبشكل يومي بل حتى الذي رفع من هذه التجاوزات الى القضاء وخاصة في حالات التضييق والاعتداء التي تتعرض لها قوى المعارضة يقابل بسكوت وكان الامر لا يتعلق بالقانون ولا بمعاييره. ان مثل هكذا سكوت يحيل الى الاستنتاجات التالية وينبّه الى الانعكاسات الخطيرة التي يمكن ان تنجرّ عنه :
ان السكوت عن هذه التجاوزات يحيل الى:
1- تجاوز بعض الارادات للقانون واخضاعها له وفق ما يتناسب مع مصالحها ( ارادة توظيف السلطة).
2- انحياز السلطة لجهة دون اخرى وانحرافها عن مبدا السيادة الشعبية .
3- تجاوز العقاب لمستواه الجزائي (ربطه بالقاعدة القانونية) الى مستواه السياسي ( ربطه بقوة النفوذ السياسي )وهنا يرد العقاب الى نوع من التكتيك السياسي.
4- تحول دور السلطة عن دورها الاصلي العقلاني المحايد الى دور سياسي يحول النظرة الى السلطة من سلطة تسهر على احترام الشرعية الى سلطة تنصهر مع دور الحكومة المركزية وما تصدره من تشريعات مما قد ينتج عنه حساسية جماعية ضد العقاب .
هذه الاستنتاجات قد تنعكس خطيرا على المجتمع بانحرافه عن مبدا الارادة العامة الذي يمثل الاساس الشرعي للسلطة بتهييئ الارادات الى الخضوع الارادي لها...انحراف جماعي لا يهيئ الا الى الصراع..وهو رب تهيئ يقسم المجتمع الواحد اليوم الى قوتين متصارعتين تنقسم كل واحدة منهما الى شعب وفرق ولكل فريق تكتيكه الخاص في الفعل او رد الفعل :
*قوة اولى ذات منزع ينحرف عن مبدا الشرعية وينحو نحو ارادة توظيف السلطة واستقطاب اكثر عدد ممكن من الانتهازيين خدمة للتوظيف.
*قوة ثانية ذات منزع مضاد للمنزع الاول وهو الاخر ينحرف في كثير من الاحيان عن مبدا الشرعية ليرد الفعل عن ارادة توظيف السلطة وقد نسميه المنزع المقاوم .
اما القوة الاولى فتتفرع الى فريقين يلتقيان في ارادة توظيف السلطة من الفريق الاول والتعلق الانتهازي بهذا التوظيف من الفريق الثاني لان هذا الاخير لا يعلم اهداف وحدود التوظيف التي يرسمها الفريق الاول .لذلك فهما كثيرا ما لا يلتقيان في تقنيات ممارسة التوظيف، فان كان مطلوب الفريق الاول من الفريق الثاني العمل على ابراز قوة وهيبة الماسك بالسلطة بما في ذلك تهميش قوى التهديد الداخلي لهذا التوظيف ومنها قوى المعارضة الوطنية في المقام الاول فان الفريق الثاني كثيرا ما يسقط بارتجاله وجهله لحدود التوظيف في فوضى ممارسة السلطة مما ينعكس سلبا فبدلا من ان يبرز قوة الماسك بالسلطة يبرهن بسلوكاته العمياء والعرجاء على ضعفها فيتعرض عندئذ الى العقاب : ايقاف الدعم ، التجميد، العزل،والسجن حتى..
اما القوة الثانية "قوة رد الفعل" فهي الاخرى تنقسم الى فريقين غير منسجمين :فريق استسلم الى الاقصاء السياسي فانعزل وراح يمارس التشويش الاجتماعي والسياسي بطريقة او باخرى كجلد الذات او صنع "الاشاعة السياسية"وترويجها..وهو لا يتوانى في التشكيك في كل الفاعلين السياسيين من هنا او هناك ،وان لم يكن هذا السلوك محمودا من القوة الاولى بفريقيها فانه كثيرا ما لا يعاقب عليه سياسيا لان رد الفعل هذا لا يرتقي ليتشكل في قوة منظمة وحقيقية . اما الفريق الثاني من القوة الثانية الذي اختار اسلوب الحراك او المقاومة السياسية الفعلية والمنظمة لرد الاعتبار الى الشرعية والى القانون ومعاييره ، هذا الفريق هو الذي يتحمل سداد القسط الاكبر من فاتورة العقاب السياسي ( القذف ،التشهير،الحصار السياسي والاقتصادي،التضييق الاجتماعي،التهديد والاعتداء بالعنف ،والسجن والتكفير ...)ان كل ما سيق يقود الى الاستنتاجات التالية :
- دولة الحق والقانون مازالت بعيدة عنا كعقيدة لا كممارسة فقط فنحن في تونس كما في البلدان العربية عموما لم نعتقد بعد في في الحرية /المساواة ،الانصاف ولا في عدالة الجزاء.
- حضور عناصر من البنية القبلية والعشائرية ( الغلبة ،القذف ، التكفير..)هو اليو الخطر الاكبر على الامن والسلم الاجتماعيين ( واقع هشاشة السلم والامن في كل الدول العربية) لذلك فالفريق الثاني من القوة الاولى والفريق الاول من القوة الثانية هما اللذان يمثلان الخطر ومنتجه الاكبر .
- العقد الاجتماعي الذي يربط بين كل الارادات سياسيا واخلاقيا في ارادة جماعية la volante generale ضامنة لحدود الفعل الاجتماعي والسياسي لم تتوضح معالمه بعد رغم مرور ثلاثة قرون على ظهور فكرة التعاقد.
كل هذا يلوح بالاستفهام التالي والذي يتمركز حول ضرورة مراجعة ثوابت التفكير الاجتماعي والسياسي الذي يخصنا : ماهي اسباب وما الذي يبرر الرهان على التفكير السلطاني والقبلي والعشائري في نمط احتمالنا للدولة ؟ او بطريقة اخرى: اي مستقبل لدولة تكون قبلتها سلطانية ، قبلية وعشائرية ؟
ان التوضا من هكذا تفكير ورهان بات اليوم الضرورة المدنية والسياسية الملحة التي بها نشارك الامم في الانجاز الحضاري ونفارق التهافت السياسي الذي بات يسيطر على تفكيرنا في شروط الدولة .عندئذ يكف العقاب على ان يكون سياسيا .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟