أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بتول قاسم ناصر - الأدب والسياسة















المزيد.....


الأدب والسياسة


بتول قاسم ناصر

الحوار المتمدن-العدد: 2581 - 2009 / 3 / 10 - 09:07
المحور: الادب والفن
    


الأدب والسياسة
في (حكايات من بلاد ما بين النارين) لحسب الله يحيى
د. بتول قاسم ناصر
وضعت نظريات وأفكار كثيرة تحدد علاقة الأدب بالسياسة ، ومنها ما يؤكد العلاقة بينهما ويجعلها لازمة ومنها ما ينكر هذه العلاقة التي تسيء الى طبيعة الأدب والفن كما تذهب. ولقد تم الترويج في العقود الأخيرة للأفكار التي تنكر أن يكون الأدب مصدراً للدعوات الايديولوجية. وقد تحدثت هذه الأفكار عن (درجة الصفر في الكتابة) أو الكتابة البيضاء التي لا تشي بأية علاقة بالمجتمع والتاريخ وحتى بذات الأديب فتقدمت بمفهوم (موت المؤلف) ثم موت المثقف. إن الترويج لهذه الافكار في مجتمعاتنا الآن لا يخدم هذه المجتمعات وان هناك دوافع آيديولوجية وراء هذا التوجيه. واذا كانت هذه الأفكار شائعة في الغرب وتلقى قبولاً فإن هذا له ما يبرره لأن المجتمعات الغربية وصلت الى درجة من التقدم والرفاهية وانتفاء التناقضات الاجتماعة مما يجعل الحاجة الى النظريات التي تدعو الى الالتزام بقضية المجتمع والدفاع عن الجماهير وقضايا الشعوب لا حاجة لها. أما في مجتمعاتنا فما زالت ترزح تحت الاضطهاد والتخلف والفقر ، وما زالت بحاجة الى دور الأدب الملتزم الذي يسهم في انهاضها ومحاربة الفساد وتقويم السياسة الفاعلة فيها. ونحن نعرف كيف أسهم الأدب السياسي في العراق في الأحداث الوطنية وتطور التاريخ الحديث. الا إن الذي نفتقده في وضعنا الحالي تراجع دور الأديب والمثقف عموماً عن المشاركة في توجيه الأحداث وتوجيه الوعي بما يؤثر في خلاص البلد مما هو فيه ، حتى عاد الخراب الذي نحن فيه جزء منه خرابنا الثقافي.
عانى بلدنا ما لم يعان منه بلد آخر منذ أكثر من أربعة عقود بعد الإطاحة بثورة تموز (1958) الوطنية التقدمية علىأيدي أعدائها وبمساعدة وتخطيط قوى الاستعمار العالمي التي أزاحتها ثورة تموز عن مواقعها وحرمتها من مصالحها في العراق. وبذلك استطاعت القضاء على الثورة ومنجزاتها وأعادت العراق الى عهود الظلام والخراب والدمار. واستطاعت العصابة التي حكمت منذ الثمانينيات بقيادة صدام حسين أن تعصف بكل شيء وتقضي على طاقات العراق المادية والمعنوية وتهدر ثرواته وتهدد وجود الانسان العراقي وأمنه في هذه الحروب المدمرة التي كان ينفذها تلبية لأوامر أسياده المستعمرين. فعمد الناس الى الهرب من العراق ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً هرباً من القتل والإضطهاد والجوع ، فهجر العراق الملايين من أبنائه ضمتهم المنافي في كل بقاع الأرض. وكان من هؤلاء صفوة أبناء العراق من المفكرين والعلماء والمثقفين والأدباء الذين أبوا ان يبيعوا أقلامهم وشرفهم بثمن يدفعه الجلاد مهما كان. وانزوى من لم تسعفه الظروف بالخروج في بيته معزولاً مهمشاً مفضلاً ذلك على السقوط في وحل خيانة الشرف والكلمة والحقيقة ومنهم من لجأ الى التقية وعدم المجابهة وعدم انتاج أدب وفن يسخط النظام أو يرضيه. ولم يبقَ في الساحة الثقافية الا الدجالون والمهرجون الذين كانوا يسوقون أفكار الطاغية ويروجون لدعواته ويزوقون أباطيله ويبررون جرائمه وحروبه ويمجدون انتصارته المزيفة. وهكذا خلت المؤسسات الثقافية الا من هؤلاء الزبانية الذين انتهت الثقافة على أيديهم فكانت ثقافة الخراب والخواء. لقد عمل هؤلاء وتطبيقاً لتوجيهات سيدهم الساعية الى القضاء على الوعي وتسطيحه على محاربة الثقافة الحقة الأصيلة العميقة فقادوا أكبر عملية للتجهيل عن طريق تسطيح الثقافة وتبسيطها وتزييفها ومحاربة المثقفين الحقيقيين الوطنيين الملتزمين ولاحقوهم وشردوهم في الآفاق وقتلوا المعارضين الممانعين منهم. وحولوا الثقافة الى اعلام للطاغية ونظامه الفاسد ، فكان مثقفو النظام أبواقاً دعائية وزمرة من المهرجين والمطبلين في طاعة سيدهم يفعلون ما يريده منهم ويوجههم أنى أراد. وبمثل هؤلاء الذين نجدهم في كل مرافق الحياة والعمل من كوادر النظام عاد صدام بالعراق الى عهود البربرية حيث كان الظلم والخوف والفقر والحرمان والتخلف يعصف بحياة الناس. ولم يكن يعرف أن جولة الباطل ساعة وان الظلم مرتعه وخيم فأودى به ظلمه وزالت دولته وانتهت جولته ، وها هو العراق قد تحرر منه. ولكنه ابتلي ببلاء جديد فما زال الشر يدبر ومازال أعداء العراق يمعنون فيه طعناً وقتلاً وإرهاباً. وهو يتطلع الى أبنائه لينهوا هذه المحنة الجديدة ويخمدوا نار الفتن التي تحرقه. ومن هؤلاء نخص المثقفين والثقافة. فأزمة العراق أزمة ثقافة ووعي. ولا ينهض العراق مما هو فيه الا بالوعي البناء الوطني الذي يتجه الى البناء لا الهدم واطفاء نيران الشر التي أتت على كل شيء. هنا نتحدث عن دور الثقافة والفن والأدب ونؤكد أهمية دور كل منها في النهوض بالمجتمع. وهذا ما أدركه أدباؤنا ومثقفونا سابقاً وهم يأخذون على عاتقهم مهمة أنقاذ أوطانهم. وكان الأدب العراقي في مطلع النهضة الحديثة ومرحلة التحرر من الاستعمار ملتزماً هادفاً مناضلاً. وقد وصل على أيدي كبار أدبائنا من الرواد الى قمة النضج والتجويد الفني. فلم يلحق الالتزام الفكري والآيديولوجيا الأذى بالجودة الفنية لدى كبار الرواد كفؤاد للتكرلي وعبدالملك نوري وغائب طعمة فرحان وغيرهم ، لأن هؤلاء استوعبوا الشروط الفنية للعمل الابداعي كما استوعبوا أهدافهم السياسية الوطنية. قد تجور هذه الأفكار السياسية على الذين لم تنضج في نفوسهم المبادئ الفنية مثل (ذو النون أيوب) الذي كانت القصة لديه وسيلة سياسية فقط ، ولهذا لم يكن يهتم بأن تتوفر القصة لديه على متطلبات النجاح الفني. وقد اتجه أدباؤنا بسبب هذا الاهتمام الى القصة الواقعية لكي يعبروا عن الواقع ويلتزموا بقضايا المجتمع. وكانوا على وعي بأن العمل الأدبي قد تكون له أهمية تفوق الخطاب السياسي المباشر. وقد يعمل على كشف السياسات القائمة وتقويض أركان الحكم والحاكمين. فكان بعض الشعر حتف الحاكمين يلج بيوتهم عليهم ويغري بهم حجابهم والخادمين كما يقول الجواهري. وهذا ما أهل الأدب لأن يكون وثائق تأريخية يدرس من خلالها تطور وأحداث الحكم والسياسة والمجتمع. فالأدب لايمكن أن ينعزل عن المجتمع ولايمكن أن ينقطع عن تأريخه وليس بعيداً عن أحداث عصره والأفكار والمشاكل السياسية التي تمر عليه. وان النظريات التي تقول إن أحداث التاريخ والمجتمع تنعكس على ذات الأديب أفكارها صحيحة ولكن ذلك يخضع لحساسية الانسان ورهافة نفسه وقدرته الذهنية على صياغة موقف من الاحداث ثم رغبته في تبني قضايا المجتمع بما يسهم في تطور التاريخ. وهنا تأتي خصوصية الأديب القاص حسب الله يحيى في أن له موقفاً من أحداث تأريخ العراق. وهو صاحب فكر وطني مناضل منحاز الى الوطن ومصلحته وفقرائه والخيرين فيه ، مدافع عن قضاياه العادلة ضد أعدائه ومستغليه والساعين الى خرابه ، وهذا هو سر جمالية أعماله. فأبطاله نماذج ايجابية ثورية منتمية تمثل النقيض الفكري لرموز الفساد والظلم والتردي التي تطرحها أعماله لتدينها وتحاربها. وهو يتناول دائما مشكلات بلده وما تعرض له من محن من خلال تفاصيل الأحداث وحياة شخصياته. ويفرز من هذه الشخصيات نماذج ايجابية ترسم لنا أملاً بالمستقبل ، فقتامة الأحداث لا تسد علينا منافذ الأمل ، والنار التي تشتعل في بلاد ما بين النهرين لابد أن تنهض من رمادها من جديد. وهذا ما تؤكده القصص والمسرحيات في مجموعته الجديدة (حكايات من بلاد ما بين النارين) وهي تلبي الحاجة الى الأدب السياسي الذي يوثق واقع الحياة في العراق في عهد النظام السابق إذ حورب الانسان والفكر والابداع وحرم النقد وانعدمت الثقافة النقدية. ولم يتمكن أحد من التعرض لما كان يجري بالكشف والنقد من خلال التوثيق التاريخي ومن خلال الأدب وغيره. وكان الأدباء الذين يمثلون الثقافة الأصيلة منكفئين على أنفسهم يلوذون بالصمت لكي يضمنوا السلامة أو قد يلجأون الى التعبير بالرمز وهذا طريق غير مأمون قد يعرض أصحابه الى العواقب الوخيمة. وكنا نتوقع أن تكون هنالك أعمال مؤجلة كتبها أصحابها منتظرين نهاية حكم النظام لكي يظهروها الى العلن ولكننا لم نرَ شيئاً من هذا بعد سقوط النظام. وذهبت بنا الظنون الى أن النظام أفلح في إبعاد الأدباء عن مقاربة السياسة. وعندما قرأت هذه المجموعة من القصص والمسرحيات فرحت كثيراً واعتبرتها مؤشراً على وجود ما كنا نتوقعه من أدبائنا الذين كانوا يقبضون على جمرة إيمانهم في عهد النظام الزائل. وجاءت تؤدي بعض الواجب الذي كنا ننتظره من أدبائنا وفنانينا. وهي دعوة الى المزيد والى التقدم في هذا السبيل فلقد سكت مثقفونا طويلاً وكأن شيئاً لم يكن ولم يتحدث أحد منهم ، سكتوا وتحدث الأعداء حتى كدنا نخسر قضيتنا أمام الرأي العام العربي والعالمي. ولولا محاولات قليلة – منها هذه المجمـوعة التي نتحدث عنها – لقلنا إن موهبـة الابداع والأدب والفكر في العراق قد قضي عليها ..
أول قصة في هذه المجموعة (البراعة في احتمال الأذى – ص5) تروي لنا ملحمة عراقية تسري على لسان الناس كما تسري الملاحم اسمها (قطار الموت) كانوا يتناقلونها ويصفون بانبهار أحداثها وبطولات أبطالها. ولم ننسَ اسم الدكتور (رافد) الطبيب البطل المنقذ ، وكيف تلاحم الشعب مع هؤلاء الأبطال ، رموزه الوطنيين ليساهم في إنقاذهم من موت محقق كانت السلطة المجرمة تريده لهم. وهكذا حققت هذه القصة حلماً طالما راودنا في أن نرى هذه الحادثة في فلم روائي أو عمل روائي. وانتفاضة حسن سريع وصحبة الأحرار وهي ملحمة أخرى من ملاحم الشعب العراقي وبطولاته النادرة تحكيها هذه المجموعة في أقصوصة أخرى (موت وسعة المدى – ص124). لم يرضَ نائب العريف حسن سريع لسلاحه أن يدافع عن الظلم وأن يديمه ويتستر عليه. وكان برماً بالانقلابيين الذين أطاحوا بثورة الرابع عشر من تموز. كان يسعى الى هدف اطلاق سراح نخبة خيرة يحتجزهم الانقلابيون في السجن رقم (1) لينفذوا فيهم حكم الاعدام. ولكن المحاولة تفشل وأحيط به في طوق من الأسلحة والعيون القاسية. وعندما سألوه من يكون وما رتبته لم يصدقوا ما يؤكد الذي يرونه والذي ليس بوسعهم الاقتناع به : نائب العريف الهزيل الجسد يتمرد على كل الظالمين وعلى كل الأسلحة وقد تركهم يسألون ويعجبون ويدهشون ويضربون ويمارسون عليه نقمة وحشية لا حدود لها. وعندما تركوه لحظات قال لهم : أنا المسؤول عن كل شيء ولست نادماً واعتلى المشنقة مقدماً نفسه قرباناً في هذا البلد الذي كتب عليه منذ شهادة الإمام الحسين أن يكون بلد التضحية والضحايا والدماء المقدسة. هذا ما تقصه علينا هذه المجموعة من أنباء عذاب وصبر هذا البلد. وهي تمضي على هذا في كل التفاصيل والأحداث مما دارت عليه قصص حياتنا. قصت علينا قصة الملازم البطل صلاح الدين أحمد الذي تمرد على الأوامر العسكرية التي تقضي بضرب اخوانه من أبناء الشعب وكيف تمكن من الهرب بعد اعتقاله والحكم عليه بالاعدام وكيف أعيد الى الاعتقال بعد أن اعتقلوا زوجته وابنته ليدفعوه الى تسليم نفسه لأنهم يدركون حرصه على شرفه ومدى حنانه. ثم كيف يموت ميتة مأساوية بعد أن حاول الهرب مرة أخرى بعد إرساله الى نقرة سلمان في قطار الموت. قصت المجموعة علينا قصصاً أخرى عن الموت اللامنطقي الذي ينزل بالناس على أيدي جلاوزة النظام (للشاي مذاق الموت-ص118). وأدانت هذه القصص حروب الطاغية ودعت الى التطلع الى أيام لا نسمع فيها كلمة حرب (الموناليزا تكره الحروب –ص40) وروت عن ضحايا الحروب (الحروب الجميلة ص149) وكيف أصبح العراق بلد الحروب ، والحروب تعني الخراب والدمار والجوع والمرض (الثمرات ص167) وأصبحت الجندية تعني الخدمات الشخصية للضباط لا خدمة الوطن في حروب صدام التي إما أن تحارب الأكراد في الشمال أو سكان الأهوار أو أن تقوم بالتحرش بالجيران أو تقمع الأصوات المناهضة بالرصاص. ولقد ساءت الحالة المعيشية واضطر الناس الى بيع حاجياتهم المنزلية لشراء المواد الغذائية واضطروا الى رفو ثيابهم القديمة. وكانت مادة الحصة التموينية توزع منقوصة الوزن فقد شاع الغش لدى موزعي هذه المواد وقد اكتشف الناس في احدى المرات أن مادة الطحين كانت تخلط بالجص. وشاع الخوف والحذر والريبة الى حد أن الآباء كانوا يخشون الحديث عما يعانونه من سياسة الحكام أمام أطفالهم (عناء ص176) وقد ألزم الناس بالتطوع قسراً للخدمة في الجيش الشعبي وذهبت ضحايا كبيرة في هذا الجيش. ومن كان يرفض الخدمة فيه أو يوقع بالرفض تقع عليه تبعات رفضه (رئة الأرض ص134). أحزان الأمهات لاتنتهي أبداً فما أن تعتادها حتى تتجدد ويكون البحث عن النسيان بلا جدوى .. ذلك ان (أم المعارك) لابد من أن تورث أماً جديدة قد يكون اسمها (أم القنابل) .. ومع كل أم تتجدد أحزان الأمهات ، حزن بدأ بالحسين الشهيد ولم ينته حتى هذه اللحظة ، ولن ينتهي على مدى الأعوام .. مع كل غائب ، مع كل عائد ، مع كل لحظة لهن دموع وثياب سود لاتنزع عنهن أبداً (الأمهات ص97). الجو البوليسي يخنق الناس والعيون الراصدة المأجورة تراقب المؤشر عليهم في كل حركة ومع كل انتقالة. يراقبونهم حين ينامون وحين يستيقظون ، وهم يعملون. ويعاقبون بأقسى أنواع العذاب والتنكيل لمجرد رأي أو فكرة أو انحياز لحق. كانت الممارسات الظالمة تتجاوز حد المعقول حتى انها تحاكم الحالمين على أحلامهم (اعدام حلم ص189) وتصدر مرسومات تقضي بقطع الأذان مثلاً (مرسوم الطاعة ص203). لقد حول الجو العام النفوس الى أنقاض من البشر تخلوا عن آدميتهم حتى ليشارك الصديق في اعدام صديق حميم له. البلد كله انقاض دمرته الحروب ودمرت النفوس فكان الناس يرتكبون ما لم يدخل في قناعاتهم ولكن الخوف يحاصرهم (أنقاض ص64) لقد فقدت حياة الناس مضمونها وأصبحت عبارة عن باطل وسخف. فالاهتمام بصورة الرئيس أهم من أداء الواجب الوظيفي لدى المسؤولين (طلاء فاسد ص112). وكان هؤلاء المسؤولون يعاملون بطريقة مذلة فكانت سياسة الاذلال التي يتبعها صدام لم يتخلف عنها حتى المسؤولين الكبار (الزعيم يختار الخراف الرشيقة ص156) كل هذا وغيره جعل العراقيين جميعاً يفكرون في الهجرة ويتمنونها ما دام الحاكم الظالم فيها (مدينة تسافر الى المجهول ص213) وكان في مقدمة هؤلاء أعلام العراق ومبدعيه (صورة صلاح القصب الأثيرة ص161). وأكتفي بهذا ولا أستعرض مضامين كل القصص والمسرحيات التي ضمتها هذه المجموعة.
كان الواقع العراقي هو موضوع القاص الرئيس ومادته التي تتجدد دائماً بخبرته الفنية المقتدرة المتجددة. ان الموضوع الواقعي هو ما يجمع بين قصصه ويختلف في زاوية الرؤية وطريقة المعالجة والتناول. ولقد كان الاتجاه نحو القصة الواقعية له دوافع سياسية وآيديولوجية لدى كتابها ولدى قاصنا وقد بلغ لديهم درجة من النضج الفني عن طريق الاطلاع على الأدب الواقعي التقدمي الانساني في ينابيعه الأصلية واستخلاص قوانينه وأدوات صياغته الفنية التي تنصهر في ذواتهم لتولد هذه الأعمال الادبية الناجحة التي اتجهت الى الشعب تكتب عن آلامه وآماله وتمجد بطولاته وتتغنى بها وتعبر عن تطلعاته الى غد مشرق تسوده العدالة والمساواة والسلام. ولقد ازدهر هذا الاتجاه في مرحلة الخمسينيات وهي مرحلة النضال ضد الاستعمال والحكومات السائرة في ركابه التي لم تجنِ الشعوب من سياستها وحكمها غير التخلف والحرمان والفقر والمرض. ولهذا غلب هذا الاتجاه الواقعي والسياسي على الكتابة في سائر الأنواع الأدبية الأخرى حتى اذا كانت تبدو على غير ذلك عندما كانت تتقنع بأقنعة رمزية إذ لا تسمح الظروف السياسية للأديب بالتعبير الصريح. وقد لا ينزع هذا القناع الرمزي أبداَ لدى بعض أدبائنا الملتزمين ما دامت الظروف في غير صالح التصريح. وهذا هو ما عليه أدب فؤاد التكرلي مثلاً. فهو دائماً يريد (الوجه الآخر) عندما يكتب من خلال وجه ظاهر. وما أقسى الظروف السياسية في العراق التي تبحث عن هذا (الوجه الآخر) وعن الأقنعة التي كان يتقنع بها المعارضون.
قد يقال ان هذا التعامل مع الأدب من خلال الآيديولوجيا ينطوي على نظرة ضيقة قد تدفع صاحبها الى عدم الاهتمام بالمستوى الفني. واذا كان هذا صحيحاً لدى بعض الكتاب إلا إنه لا يصدق على غيرهم ومنهم الأستاذ حسب الله يحيى. فأعماله يتحقق فيها التوازن بين العناصر الموضوعية والفنية اللازمة للابداع. ولقد أثبت أن له قدرته وحساسيته المتميزة في اختيار البناء والتشكيل الفني الملائم ليجعله منسجماً مع المضامين الواقعية. ولهذا جاءت قصصه تجمع بين عنصري الصدق الفني والصدق الأخلاقي والفكري. ومع أن هذا لم يكن حظ الجميع الا اننا نجده متوفراً لدى الأستاذ حسب الله يحيى في هذه المجموعة من القصص والمسرحيات التي عاش فيها تجارب الحياة الواقعية في العراق بين ألسنة اللهب وصرخات الإحتراق وأنين العذاب وهو يصور كل ذلك محققاً هذا التوازن الذي تحدثنا عنه بين الحياة والفن.
ان الذين يدافعون عن نظرية (الفن للحياة أو للمجتمع) يؤكدون أن تناول قضايا الواقع والمجتمع وتضمن رؤية سياسية لا يضير الأدب والفن بل يرقى بهما. والمضمون الانساني والاخلاقي والسياسي يكفل للأدب والفن البقاء والخلود. وليس صحيحاً أن القيمة الفنية تتناقض مع الغايات السياسية والاجتماعية. وهذه المجموعة القصصية تؤكد هذه الحقيقة. فما دام القاص متمكناً من فنه ، وذا وعي وحساسية فنية فلا يُسقِط موضوعُه فنَه القصصي. ومن ملامح الوعي الفني في هذه المجموعة أن السرد ليس تجميعاً للوقائع التي ترد كما في النقل التوثيقي أو التاريخي للأحداث ، فلا نجد تقريراً مباشراً بل بناء متماسك يعي طبيعة الفن القصصي ويعرف مداخله ومخارجه وابعاده المتعددة لهذا لا نجد القاص يتدخل تدخلاً سافراً ولا يعلق تعليقات تشير اليه. الأحداث تتعاقب وتتنامى من خلال إيقاع الأحداث اليومية في همومها الكثيرة ومسراتها القليلة من خلال وحدة عضوية تنتظم كل الأحداث وتجمع كل الشخصيات فهو يضع شخصياته ضمن علاقاتها الاجتماعية وبيئاتها التاريخية. ويأتي التصوير الموحي الذي يجسد الشخصيات ويجعلها تصرح بما تنطوي عليه. وهو يقيم توازنا بين الوصف الخارجي للشخصيات وعالم الواقع التاريخي الذي تعيش فيه. ويهتم بوصف مظاهر السلوك وهواجس النفس وهي تمر بهذه التجارب النفسية القاسية التي دعته الى الاهتمام بعنصر الحوار الداخلي ، وكان الاهتمام بالحوار مما يقرب قصصه من الدراما ويطبعها بطابعها. أما نهايات هذه القصص فتنتهي أغلبها نهايات حزينة ومأساوية. وقد يجد النقاد أن هذا يتعارض مع الصدق الفني ولكن من يعرف كيف كانت الحياة تسير أيام حكم النظام السابق قد يستنكر بعض النهايات التي لا تنحو هذا المنحى القاتم الحزين وكأن حال العراق يقول :
تعجبين من سقمي صحتي هي العجب
كما ان هذا الحزن الجاثم والمعاناة المرة تجعل تبني القاص للرؤية السياسية أمر مبرر ولايتنافى كذلك مع الصدق الفني فنجد حضور السياسة واضحاً وهي توجه الأحداث وتطبع الشخصيات بطابعها وتنطقها بأفكارها. إن هذا التراكم للمآسي والأحزان والمعاناة قد يطبع هذه القصص بطابع المدرسة الطبيعية المغرقة في التشاؤم وعرض جانب الشرور في الواقع وفعل الأقدار القاسي ، ولكن هذه المدرسة لا تقترن بالآيديولوجيا ولا تنطلق من رؤية او تحليل سياسي. لذلك فإن قصص الكاتب بالرغم مما حفلت به من مآسٍ وظلمات الا انها كانت توحي بأمل وكانت على ثقة بغد مشرق آتٍ لأنها تنتمي الى مدرسة واقعية أخرى يدين بها القاص وهي ترتبط بالأفكار السياسية التي يدين بها كذلك.
ان هذه المجموعة القصصية تمثل دعوة للأدباء الآخرين لكي يقدموا شهادتهم وإدانتهم ونقدهم لتلك الحقبة المظلمة ، دعوة لكي يقاربوا السياسة ويسهموا في التغيير الاجتماعي والسياسي. وان يكون لهم دور في هذه المرحلة ولا يلوموا غيرهم بتهميشهم ، فإنهم من يهمشون أنفسهم. لقد تأخروا كثيراً وصمتوا وكان الخطاب الثقافي خارج الثقافة العراقية وخارج العصر والمجتمع وفشل في أن يمثل الهوية العراقية والوعي الاجتماعي. وما زال المثقفون صامتون لم ينجزوا ما ينتظر منهم من مهمات ثقافية. وما زال خطابهم ضعيفاً متلكئاً. وما زلنا نفتقد الثقافة النقدية التي هي علة تطور المجتمعات. اننا نفتقد المثقف والأديب السياسي القادر على انجاز مهمة التغيير والاصلاح في كل ابعاده الاجتماعية والفكرية ...

*حكايات من بلاد مابين النارين – تأليف:حسب الله يحيى – دار الشؤون الثقافة/بغداد 2008



#بتول_قاسم_ناصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بتول قاسم ناصر - الأدب والسياسة