أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شرف الدين شكري - عن أدب المقاومة















المزيد.....

عن أدب المقاومة


شرف الدين شكري

الحوار المتمدن-العدد: 2563 - 2009 / 2 / 20 - 08:52
المحور: الادب والفن
    


"... ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟
مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟ .."

محمود درويش- من قصيدة لاعب النرد

- س-
هل أصبح بالإمكان الحديث من جديد عمّا يسمى بأدب المقاومة في عصرنا الحالي ؟
عقيلة رابحي يومية " صوت الأحرار " الجزائر- ندوة "الأحرار" الثقافي حول أدب المقاومة

ج- شرف الدين شكري-

من خلال السؤال، يتبيَّنُ بأن الزمن المطلوب الحديث عنه، هو زمن يعودُ بعد غيابٍ، كأنما لكي يستنهضَ أسطورة الحنين العربي التي تقول بـ"عودة الابن الضال"؛ أي بعودة من كان خارجا عن قواعد اللعبة الرمزية العائلية المُتَّفق عليها، والتي تؤلِّهُ الجانب البتريركي أكثر من تأليهها لزمن الخروج عن معطف الأب والسياحة بعيدا في أرض السؤال والمجهول والمغامرة واستنفاذ الزاد المتوارَث واختلاق زاد جديد نوعي، يكفَل حياة تلك الإطلالة الجديدة التي استُحدِثَت بفعل ذلك (الخروج) المُهـدَّد والمهـدِّد.
فهل يصحُّ طرحُ سؤال كهذا على زمن، لم يغب أبدا عن تاريخنا العربي في الحقيقة.؟ وبحصرِ الموضوع في الجغرافية العربية- كما توحي روح السؤال غير المباشرة !- فإننا سوف نستبعدُ بعض الجوانب المنهجية العامة في الإجابة عن سؤال كهذا ،ونؤكِّدُ أكثر على الجانب الحميمي في إجابتنا ، متخلّصين من الكثير من التميات الموضوعية التي من شأنها أن تفكَّ شيفرات مختلف الخطابات التي تعالجُ موضوع المقاومة ،وبالتالي مبتعدين رغما عنّا عن التحليل المتعقِّل للبنية الذهنية التي أدَّت إلى نشوء تلك الأنواع من الخطابات.

***

هناك ظروف استثنائية إذن تُلفِّعُ جغرافية البلاد العربية ،وتُلزمها على تقمُّص نوع خاص من الدِّفاع عن الذات، بحكم التهديدات الخارجية التي تربض عند حدودها، أو الداخلية التي تتأتى من الانقلابات العديدة ، والتي تعود إلى وضعيتها الضعيفة تارة (تكالُب الغرب على أراضيها وثرواتها، اندثار قوَّة البلاد العربية التي مارست عبر عواصمها التاريخية الإسلامية فيما مضى نوعا معيَّنا من الاستعمار هو الآخر يدخل في سياق الفتوحات الإسلامية – حكم أخلاقي على نوع من الاستحواذ - )أو الحيادية تارة أخرى (أي اللُّجوء إلى الحفاظ بقدر الإمكان على مكاسب الحروب القديمة ،قبل زمن الترسيم السياسي لحدود الأمصار(فلسطين كمثال)،أو بعد ذلك أيضا وفق الاتفاقيات الدولية التي تأخذ في الحسبان مصالح القوة الُمسيطِرة(حالة مزارع "شبعة " بجنوب لبنان، وحالة الصحراء الغربية..إلخ)،والذود عنها انبثاقا من الديانة الموحَّدة أو العرق المُشتَرك..إلخ)...
وأمّا إمكانية تجسيد فكرة الوضعية الهجومية التي تلجأ إليها أحيانا بعض البلدان المُسيطرة على القوة عالميا اليوم، مشفوعة بنوع من الحتمية التاريخية ،والنظريات الفلسفية القائلة بالحروب كضرورة اقتصادية استمرارية ،فإنه يبدو من المستحيل الحديث عنها كقوًَّة قائدة للفعل العسكري الرَّسمي العربي المُمثِّل للدولة القائمة.

لقد قامت الثقافة العربية- الإسلامية، على نوع من المقاومة في بسط سدّة الحكم السياسي، كانت فيها تنعكس دوما تلك الجدلية العنيفة بين السلطة المركزية الحاكمة،والهامش المحكوم(جدلية مقاومَة). وربما، أفضل مثال معروف في التاريخ الإسلامي للبرهنة على ذلك هو حادثة "السقيفة "،التي تم فيها تولّي الحكم لأول مرة بعد موت الرسول محمد صلع ،حيث نشأت شرارة أوّل حركة مقاومة في التاريخ الإسلامي قادتها بعض الطوائف التي رأت نفسها جديرة بالحكم أكثر من الطائفة المُستولية عليه !.كي ينهمرَ فيما بعد سيل تاريخ الاغتيالات السياسية والدسائس ،وتتجذَّر منهجية القوَّة في الاستيلاء على الحكم ،وتغدو سمةً شبه شاملة لنظام الحكم في البلاد العربية والإسلامية،والتي لم يُستثنى منها إلاّ تاريخ قلّة من الرّجال.

لقد كانت المقاومة إذن – ولم تزل حتى الساعة – في عالمنا العربي، مقاومة (داخلية– داخلية) في بدايتها، أكثر من كونها مقاومة (داخلية- خارجية)، لأن روح السُّلطة العليا ،كانت دوما روحا دينية عشائرية ،أكثر منها سياسية خالصة في استقلاليتها. وكان الممثِّلُ الأعلى لها منطقيا، هو الممثل الأرضي لتعاليم السّماء؛ أي أنَّ الشمولية والمُطلقية التي كانت سائدة، كانت تنبع من قوَّة عالية،أصبحت بفضل الاستقرار الذي ضمَنَته بعض الرَّمزيات السوسيو- ثقافية المُخلِّدة لها، قـوَّة " متعالية ".
هذه القوة المتعالية ،هي التي سوف ترسم وفق الشرعية العشائرية والشعائرية نظامَ حكمها،وهي التي سوف تؤسِّس لبنى حفظها وتخليد حكمها، وتشرِّعُ لشرطة خطابها بالرغم من سذاجة موضوعيته،وهي التي سوف تستشرف أنظمة الرّدع الداخلية التي قد تُهدّدُ سلطانها ،وهي التي سوف تخطّطُ لامتداد تلك الأنظمة الدفاعية مع القوى الخارجية الجائرة التي تأخذ ديناميكا نظام سياستها الخارجية ذاتها من التدخُّل في شؤون كل البلدان الضعيفة التي تحتوي على ثروات باطنية وفيرة من جهة، وعلى تقهقرٍ أو تخلُّف ذهني من جهة أُخرى ،مثلما هو الحال في علاقة البلاد العربية بأمريكا وبريطانيا وفرنسا مثلا.
فمن جهة إذن،هناك الأنظمة العربية الحاكمة التي تفتقد إلى الشرعية القانونية في قيامها، وفي استمرارها وتحالفها الرسمي والعلني والمُباشر مع حليف اقتصادي ظَــلُوم ،ومسانِدٍ لها كأنظمة ظلومة ولا شرعية، ومن جهة ثانية، هناك ما تكلمنا عنه أعلاه ، وهو نوع خاص من النظام "غير الرَّسمي" الذي ينبثق من جدلية خاصة (جدلية المقاومة)،والذي يلقى شكلَه عبر تمثيل سوسيولوجي يتمثَّل في القوى الشعبية العربية التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية فقيرة أو متوسِّطة أو حتى غنية ولكنها تمتلك تاريخ مقاومة عريق،وتلقى سندا – حسب أهدافها على السّاحة الراهنة والأحداث– من قِبَل القوى العسكرية المُسلَّحة المناهضة لتلك الأنظمة غير الشرعية، والتي عادة ما تأخذ مرجعيتها من مصادر دينية متطرِّفة (حالة القاعدة وميليشياتها المتعدِّدة في البلاد العربية والإسلامية)أو أخرى ذات طابع تحريري (حالة حزب الله وحماس) ،أو أخرى ذات طابع أُممي –وهذا ما عاد إلى العيان مؤخرا عبر موقف فنزويلا مثلا-،وأُخرى ذات طابع عالمي (حالة التجمُّعات السلمية من إسرائيل حتى نيويورك)...

***

لقد دأب الأدب على التفاعل دوما مع مستجدات السّاحة السياسية، والمتغيرات الناتجة عن هذه السّاحة على جميع الأصعدة.وبالمقابل،أدَّت بعض الرؤى الأدبية الإبداعية والمؤسَّسة، إلى التأثير – بشكل غير مباشر- على الساحة السياسية،عبر تظاهرات نوع خاص من المثقفين أحيانا، وعبر تولي السلطة من قبل ذوي الثقافة الأدبية، وعبر التصوير الأدبي الذي يدخل في تفاصيل بعض الخطابات السياسية، وعبر المقالات الأدبية أو الأشعار وتأثيرها على القارئ، مثلما قرأنا ذلك في أدب محمود درويش وغسان كنفاني - خاصة-ومالك حداد ،وكاتب يسين ،وأدونيس...إلخ.
ولكن بوجه عام، فإن تأثير السّياسة على الأدب، يبدو أكثر تجليا من تأثير هذا الأخير على الأول. وبشكل عام أيضا، يمكن اعتبار كرنولوجيا تأثير الفعل السِّياسي على الثقافي أكثر عمقا وسرعة ، من كرونولوجيا تأثير الفعل الثقافي على السِّياسي، بحكم طبيعة كلا الخطابين : فالخطاب السياسي ، يعتمد على التخطيط المصلحاتي ،وعنصري المفاجأة والسريّة، مستبعدا من أجل تحقيق ذلكَ مصلحةَ الآخر المغاير أو المُعارِض،ومعتمدا في لغته على تحقيق الأهداف، أكثر من اعتماده على التصوير الإستيطيقي لها. تأثيرُ السياسة على الفرد يكون أيضا تأثيرا شموليا، يمسُّ كل فرد بدرجات مختلفة. وأمّا الخطاب الأدبي ،فيعتمدُ على الحبك الفني والتطلُّعات البعيدة والنّسج الإنساني الذي كُلّما كثرت فيه التماهيات المختلفة في شكل هرموني شبه مستحيل ، كلَّما بانت فيه حذاقة الإبداع ،واتّسعت فيه جوانب التّعامل مع الظواهر المؤثرة على المجتمع والفرد ، وانبسطت فيه عقلانية التفهُّم ،وبدت فيه العوالمُ الصموتَة جلية بقدر الإمكان للعيان.
من هنا، يمكننا التمييز أيضا، بين الأنواع الأدبية التي تمتهن فكرة المقاومة كمبدأ، والأخرى التي تمتهنها كهدف. فالمقاومة كمبدأ متعدِّد المصادر والموضوعات، ترتبط أشدّ ما ترتبط بفكرة الالتزام الفني الكاشف ،الذي يعزفُ على أوتار الأبدية والعالمية ويسعى نحو أنسنة الفعل المحلّي، وبالتالي نحو توسيع فكرة المقاومة وإخراجها من قمقم الاختزال الرَّمزي القاتل لها ،إلى فضاء التحرُّر من الإيمان القاطع والأجوبة الجاهزة، والفعل المحدود والمُحدَّد – أي الإنتاج المؤدلج -، وكمثال على هذا : قصيدة مديح الظل العالي، ويوميات الحزن العادي لدرويش، القصيدة في زجاجة لمعين بسيسو، جميع روايات مالك حدَّاد ، روايات محمد ديب التي تعود إلى فترة معينة ،بعض أعمال منيف والكوني...إلخ، من الأعمال الفنية التي اخترقت شرنقة السياسة القاتلة ، بشكل هادئ ومتزِّن وطهت أعمالها على نور العقل، وفنية النحت،ممّا أكسبها شرعية كرونولوجية ،ستسمح فيما بعد لأجيالٍ وأجيال ،بتأسيس مدرسة رمزية متـفـتحة ومنـفتحة على عنصر المفاجأة والجدّة والمغامرة التي هي أساس الحضارة البشرية المتطوّرة اليوم. بالمقابل من ذلك، هناك إذن،أدب المقاومة الذي يأخذ فكرة المقاومة كهدف،والذي لا يختلف في مضمونه عن مضمون الخطاب السياسي الآني والمصلحاتي.والذي يفتقد أحيانا كثيرة إلى الشرعية الفنية،والتحليل الإبداعي العالي،والتنقيب العميق في خلفيات الظواهر التي تؤثر على المُجتمع ،معتمدا في ذلك على الصراخ العاطفي، والتنديد الجزافي، والجمع غير المنطقي للحيثيات، والتسرُّع في الوصول إلى المتنفَّس الذي يكون مداه قريبا.

***

لقد أثبتت التجربة العصيبة التي مرَّت بها مدينة غزَّة ، والتي أكَّدت على الوجه الهمجي والدَّموي للكيان الصهيوني، الذي استفحل داؤه بفضل دعم الإدارة الرَّسمية السياسية الغربية شبه المُطلق له، وكذا الإدارة العربية ممثلةً في أنظمتها الرسمية هي أيضا التي عجزت عن سنّ قانون ردعي واحد للآلة المُجرمة الصهيونية،وانساقت نحو ضعفها وذبول سلطانها دوليا، وتأكدت للمرة التي لا تحصى مكانتها العالمية، ومكانتها المحلية أيضا التي قامت على فقدانها للشرعية – أي لشرعية تمثيل شعوبها - ...لقد أثبتت تلك التجربة ،التي تُعدُّ بمثابة العرض المُتجدِّد الذي يعاود نشرَ تفاصيله في شكل مذبحة تتكرَّر كل بضعة سنوات تقريبا،أمام أنظار العالم العربي الذي لا يعرف قراءة تاريخه إلاَّ آنيا بشكل عاطفي ،ولا يعرف كيف يسوق تأجُّجاته العاطفية التي تثور ساعات المذبحة فقط ، وسرعان ما تخبوا كي تترك مكانها لتاريخ الحُكَّام المحليين، من سلاطين خلّفهم الاستعمار البريطاني أو الفرنسي بعد أن ضمن امتداد روحه فيهم ،إلى رؤساء لقطاء خرجوا من طبقة اجتماعية دنيا ،واعتلوا مناصبهم كي ينتقموا من تلك الطبقة ليس إلاّ...رؤساء تغيب عن مرجعياتهم المصادر الفكرية وحتى المنهجية السياسية ...لقد أثبتت تلك التجربة ،من جهة ، مدى تهافت الخطاب الأدبي وراء رسم معاناة الشعب الفلسطيني التي كانت تعكسها الصورة الإعلامية مباشرة، مما جعله(أي الخطاب الأدبي) في كل مرَّة يقفز إلى واجهة التصوير لغويا هو الآخر في نوع من مواكبة الجرح في شكله الأدبي فقط – أكثر منه إبداعيا– ، وهذا ما طبع أغلب المواقع والمدوّنات والجرائد الرقمية والورقية، وجعل الحدث يستأثر بشكل شبه عام على فصول تلك المواقع .
فهل يُعدُّ هذا الأدب الذي ذكرنا حيثيات انبثاقه ،أدب مقاومة ؟
هل إنَّ المرجعية الزمنية للمقاومة أدبيا،هي مرجعية آنية ، وعاطفية ،وانفعالية، وانسياقية حتما، مثلما هو بادٍ على نوع ذلك الخطاب الأدبي الذي انفجر في مرحلة التقتيل الأخيرة بغزَّة ،علما بأنَّ حقيقة تلك المَجزرة الصهيونية مُستمرَّة منذ أكثر من ستين سنة ؟
ربما، مهدّنا للإجابة على السؤال الأول بما فيه الكفاية، ولكننا لم نستطع أن نتوصّل إلى إجابة فاصلة، تريح القلب بما يكفي ، لكي يقنَع بمدى تغلغل الأقنعة في تأسيس رؤاه لهذا الكون، وبمدى تحمُّله المُغَالَط لخطيئة ارتكابه جرم التعبير عن أشياء العالم أدبيا،مما جعله ينأى بنفسه عن القدرة على استبصار ذلك العالم بعيون مغايرة ،غير تلك التي رأى بها قلبه تلك المجازر، و يسمع أصوات أنين الآخر بآذانٍ غير تلك التي أنصتَ بها إلى وسائل ذلك الإعلام التدجيني النشيط.
ولذلك فإن دفقة الكتابات التنديدية والاستنكارية التي جاءت عبر أشكالٍ أدبية متنوِّعة ،لا تعدُّ شرطا أساسا يُقحِمُها في خانة الكتابات الأدبية المؤسَّسة التي تأخذ شرعية بلوغها مرحلة النضج من باب تطرُّقها لغويا لحادثة سياسية مؤلمة؛ وبالتالي يمكن اعتبارها ضمن سياق أدب المقاومة، بقدر ما تعدُّ تعبيرا آنيا، مرحليا، مفتوحا أمام أبواب النّقد التي عليها أن تواكب هي الأُخرى هالة تلك الكتابات ،ولكن بشكل انتقائي حكيم، لتعذُر تداول جميع تلك التجارب التي خرجت للعيان في تلك المرحلة ،والتي كانت من بينها حتى بعض التجارب التي أثبتت موتها، ولكناها سرعان ما استعادت حياتها،وطفت على السطح كقشة مناسباتٍ مغمورة في قاع بحر الأدب.
من هنا، تنشأ ربما ،هوية الأدب العربي الحديث، كي تأخذ معالمها من تلك التعريفات الكلاسيكية الميتة للأدب، والتي تربطُ هذا الأخير دوما إلى رباط العاطفة المتين منذ تأسيساته الأولى ،وتشتغل على تربية الناشئة على هكذا مرجعية مغاَلِطة ،كي تَحُدَّ من توسيع الرؤية لدى ممتهن هذا النوع من الكتابة ،وتواصل قتلَ درجة المقروئية في العالم العربي التي أصبح فيها الأدباء رغم كثرة تجمُّعاتهم الرقمية ،يُعدُّون بمثابة الكائنات المُنقرضة التي لا يُسمعُ لها من صوت إلاّ في مآدب المنبوذين والمجانين والخارجين عن واقع الحياة، والذين يتبادلون صراخاتهم فيما بينهم فقط !
لقد كانت العاطفة، في قاموس الإبداع ولا تزال دوما، عنصرَ تحرير بغية تكوين متين،ولكنها تنقلب على وجهها مباشرة كلما اتصلت بالجانب التدجيني الأخلاقي،وانحصرت في زاوية القناعات الشمولية التي ترى الحقيقة من جانب واحد. فتغدو بذلك ،عنصرَ هدمٍ وسَجنٍ وكبتٍ واختصار واختزال.
ولأنّ التجربة الأدبية التي عكست تلك الصراخات الكبيرة التي توقَّفت بمجرَّد التوقف المؤقَّت لنزيف الجرح العربي التليد ، لم تكن وحدها شاهدا لُغويا بالرغم من بساطته الشديدة ، فقد تبلورت بعد مرور أيامٍ من الصَّمت ،ولا زالت بعدُ، رؤيةً تأملية فريدة، اختمرت على وجه الأحداث التاريخية التي ألقت بظلال مصادرها على تاريخٍ طويل من الكفاح،أدبيا وسياسيا، ولم تنجرّ من رقبة عاطفتها كي تتفاعل على وقع الأحداث بمنأى عن تاريخانية ميلادها .فظهر منها ما اشتغل على الجانب الفني،وطوَّع الجرح العربي كي يبدوَ جرحا عالميا، ويقتنصَ فرصته من كرونولوجيا الإبداع بمفهومها العريض، ومنها أيضا من أعلن عجزه –وهذا دليل صدق عالي الطراز هو الآخر- فانغمر في قراءة تلك التجربة والتمعُّن في حيثياتها، في انتظار أن تتعرى أحداثا أخرى مرتبطة بالقضية، لم ترها العين ،ولم تسمعها الأذن، ولم تصطدها وسائل الإعلام التدجينية التي أصبحت تعتمدُ على الإشاعة ،أكثر من اعتمادها على التحليل العلمي للواقعة.
لقد تأسس الـ "أدب " الذي أطلقنا عليه ،عن غير وعي لقب الـ"مقاومة"، على فكرة (الهدف) أكثر من تأسُّسه على فكرة (المبدأ). فكان أن افتقد هذا النوعُ من الأدب قيمَتَه الفنية ،أي ديمومته ،وأسَّس لفنائه أكثر من تأسيسه لديناميكا التواصل مع أشياء هذا الكون عبر علاقة ذكية وجميلة ومتعقِّلة . وبالرغم من ذلك، فإننا نشهدُ دوما ميلادا متجدِّدا يأخذ في الحسبان تلك النقاط المنسيّة ،ويقفزُ فوق كبة نار التخلُّق المُبتـذَل ،وينتعشُ من احتكاكه بالتجربة الإنسانية العريضة، ولا ينساق نحو الخطاب السّياسي المُباشر الذي يُلقي بطرق التمويه أكثر منها طرقًا تؤدي إلى الحقيقة، ويعتبـِرُ من الجرح المرئي أكثر من انسياقه نحو الجرح المحكي،ويقرأُ التاريخ المسكوت عنه،بدل التاريخ التربوي المدرسي أو الآكاديمي العميل أو حتى الشوارعاتي ، وينغمرُ في أنَّة اليومي الذي لا يكفّ عن الطلوع بجديد الحياة، ويستبقُ الحادثة بحسِّها الفريد الصّموت ،بدل فصول الصراخ التي امتلأت بها الشوارع العربية الكليمة، وظلَّت صراخا لا يؤسِّسُ للقرار المتين،ولا للتغيير الأكيد،ولا يمنحُ العقل فرصة التفرُّس في خبايا لعبة السّيطرة العتيدة التي افترضتها ثقافة عولمة متوحِّشة لم تمنحنا الوقت الكافي لكي نتجهَّزَ لها ونشاركَ في الدّفاع عن أنفسنا من براثن سلطانها، حتى نمرَّ من ثمَّة إلى صناعة القرار فيها ككيان مستقلٍّ وقائم بذاتها، بشتى أنواع الخطابات ،بما في ذلك خطابَ أدب المقاومة الذي لم يعرف البتة حتى الساعة كيف يتأسّسُ بوجه حداثي متين، ويفصلُ بين غايته الأدبية المستقِلَّة والغاية التي تشترك فيها العديد من الخطابات بمميِّزاتها المختَـلفة، وعلى رأسها الخطاب السّياسي الذي لم ينضج بعد في سياقه الرسمي عربيا لافتقاده لشرعية التمثيل ،والذي يبدو فيه التعامل معه والانسياق خلفه في منطق العقل، بمثابة الضرب الخالص من السّذاجة والغباء.



#شرف_الدين_شكري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شرف الدين شكري - عن أدب المقاومة