|
المواجهة ..قصة قصيرة
احمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2558 - 2009 / 2 / 15 - 03:02
المحور:
الادب والفن
كانَ الظلامُ المخيم على أجواء الغرفة ووحشة المكان وسكون الليل وبشاعة الكابوس الذي التي كنتُ غارقة فيه قبلَ قليل ، جميعها أيقظتِ الجروح التي كانَت غافية في صدري طيلة السنوات القادمة ، ومزَقـّتِ الستار الذي كان يسترها ، ولم تـَعُد لمياء سالم الحبش متماسكة قوية ، كما كانت توهم نفسها . في هذه الليلة ، رأيتُ أمي تشقّ قبرها ، وتخرجُ لي بلا كفن أبيض ، كانت مجللة بالسواد ، ومن عينيها تتقافزُ ألسنة اللهب ، وصَلَـتني على جناح عاصفة مدمِّرة ، تجّرُ وراءها كلّ الوصايا التي كانت تقذفها في رأسي ، عندما تجمعنا ساعة الاختلاء . قفزْتُ من فراشي فـَزِعة ، أطلقتُ صرخة مرعوبة ، وبحثتُ في العتمة عن أمي التي كانَت أمامي قبل قليل ، فلم أجدْ غير الظلام يلوّحُ لي في كلّ اتجاه ، ولم أسمعْ غير عواء جروحي ، ولا أملكُ ما أدافعُ به غير البكاء . كثيرة هي الدموع التي أمطرتها هذه الليلة يا مازن !! . وكثيرة هي الجروح التي شرعّتْ أبوابها للعواء ، يا أبا شوق !! . كنتُ صغيرةٌ ، لم أعرفْ معنى العشق ، وكانت أحلامي تأتيني في الليل تتراقصُ على أجنحةِ النوارس المهاجرة ، فتحطّ حملها في قلبي ، فيمتلئ سعادة ، وأطيرُ معها إلى عالم مُشبَع بالسحر والهناء . وعندما رأيتك ، وأنتَ ترافقُ أمّك في زيارة عابرة لنا ، لن أحسبَ لك حسابا ، ولم تمنحْني شيء من الاهتمام ، غير أنّ تتابع الزيارات ، ونظارتك الصبية البريئة ، جعلَتـْني أديرُ أحلامي إليك . كنتُ وقتها تلميذة ، لم تعرفْ لغة العيون ، وكنتُ ألعبُ هذه اللعبة الملعونة دون أن أعرفَ خطورة النار التي ألعبُ بها ، وعندما كَبرنا ، كانت اللعبة تكبرُ معنا ، تُدخلنا إلى محطات جديدة ، وما عادت أحلامي تطيرُ على أجنحةِ النوارس ، استـَبْـدَلَت مسكنَها ، وعافـَتْ مسارها ، لتجدَ فيكَ ملاذها السعيد . ذات يوم ، ضبَطتـْني أمي متلبسة بالجرم المشهود ، كنتُ ساعتها أبادلكَ النظرات ، وكنتَ تصوّب نظراتك بدقّة ، فتصيب الهدف ، وأنا لا أملكُ غير خجلي الذي يدفعُ بنظراتي إلى الأسفل ، وعندما وقعَ نظري على أمي الجالسة بعيدا ، أدركتُ أنها تراقبني ، وقد اكتَشَفتْ خفايا اللعبة ، نهضتُ من مكاني ، وأنا أداري الموقف بحركات طفولية لا معنى لها . وعندما غادرْتَ البيت ، سمعتُ أمي تخاطبني بلهجة منفعلة : ــــ النظرة تقودُ إلى درب آخر يالمياء ، ابتعدي عن هذا الطريق ، ذلك خير لك يا ابنتي . في تلك الليلة نمْتُ حزينة ، استوطنني هاجسٌ مخيف ، أمي لم تتحدثْ عن هذا الموضوع ، لكني بقيتُ أحاذرها ، نظراتي تنكسرُ عند النظر إليها ، كنتُ أجلسُ في الغرفة وحدي ، أراكَ تحومُ حولي ، مثل صيّادٍ يغوصُ في أعماق البحار ، ثمّ لا يجني من مشقته سوى الرياح ، ومثلما كنتَ فريسة الظنون والأوهام ، كنتُ أنا فريسة الحيرةِ والخوفِ من نظرات أمي ، وهي تلاحقني بنظراتها أينما ذهبت . أنهيتَ دراسَتكَ قبل تخرجي ، أتذكـّرُ ذلك بالضبط ، وأتذكـّرُ أنّ فرحتي بالتخرجِ اندحرتْ أمام فرحتي عندما اختلتْ بي أمي في ذلك اليوم التموزي ، وهي تقول : ـــــ صباح هذا اليوم ، زارتني أم مازن ، وبقينا ننتظرُ قدومكِ ، لكـّنكِ تأخرتِ كثيرا . وجهُ أمي يفيضُ فرحا ، وشفتاها تقطران عسلا ، وعيناها مغمورتان بزهو الانتصار ، وأنتَ أمامي ، بدأتَ تلوّحُ لي من بعيد ، فارسا يمتشقُ سيفـَه ليذود عنـّي أشباح التردد والخوف . نظراتي ما عادت منكسرة هذه المرّة ، نظرتُ إلى أمي ، وبسؤال أردْتـُه أن يحمل من الاستفهام ما لا طاقة على حمله ، فخرج مشـّوها : ـــــ ماذا تريدُ أم مازن ؟ هذا السؤال ، فضَحَني ، حَرَقَ طاقية الإخفاء التي أردْتُ أن أسترَ فيها فرحي ، وبعد انتظار ، وصلني صوت أمي فرحا : ـــــ زارتنا أم مازن ، وبدأتْ تتحدثُ عنكِ ، تمْدحُ سمعتك الطيّبة ، وتتباهى بجمالك ، وهي فخورة بما وصلتِ إليه . أمي ترغبُ في إيصال البشرى بمقدمات ، شأنها شأن السياسيين الكبار ، وأنا أريدُ الخبر يصلني دون تمهيد ، بلا غلاف ، طازجا ، ساخنا . وأمي تتريثُ قليلا ، لتقول لي : ـــــ أم مازن ، تحدّثتْ عن ابنها ، واستقامته ، وشطارته ، وعن رغبته بالزواج ، بعد أن أصبحَتْ له وظيفة يستطيعُ من خلالها ضمان متطلبات الحياة السعيدة . أرادَتْ أمي أن تشويني بنيران مقدماتها ، لم أطقْ سكوتها ، سألتها بلهفة : ـــــ وماذا بعد يا أمي ؟ أجابتني بضحكة ، عَرفتُ من خلالها ، أنها أوقعتني في الفخ ، جاء َصوتها سريعا هذه المرّة : ــــ أعلنتْ أم مازن رغبتها بزواجكِ من ابنها مازن . واصَلتْ أمي كلامها : ـــــ قلتُ لها ، الزواج قسمة ونصيب ، والخير فيما يختاره الله . التفتتْ أمي بعد ذلك ، قائلة : ـــــ وبقينا ننتظرُكِ ، لكي نحصل على موافقتكِ في هذا الموضوع . موافقتي أنا !! . أمي تعرفُ كلّ شيء ، لكنّ النساءَ ، أدمَـنّ على هذا الأسلوب ، ولابدّ من المناورة قليلا ، الجواب السريع في موضوع الزواج عَيْب ، والتريث ضروري ، دخلتُ غرفتي ، وأنا محلـّقة فوق موج السعادة الذي غمرَني ، وفي داخل غرفتي ، أدّيتُ رقصة سريعة ، ضحكتُ بصمت ، صفـّقتُ مع نفسي ، وعندما خرجتُ إليها ، سمعتها تقول : ـــــ في المساء تعودُ أم مازن ، فماذا أقولُ لها ؟ كنتُ خجلة أمام أمي ، رجعتُ إلى غرفتي ، قائلة لها بصوت خفيض : ـــــ الأمر يعودُ إليكم ، وإذا أنتم موافقون ، فأنا موافقة . عندما المساء ، سمعتُ زغرودة خافتة ، أطلقـَتها أم مازن ، وعندما خرجتُ إليها ، نهضتْ مسرعة ، وطبَعَتْ على خدّي قبلة ، وبحماس ، سمعتُ كلمة ــ مبروك ــ . لم يمرْ أسبوع حتى ذاعَ الخبر بين الجيران ، ووصلَ إلى زميلاتي في المدرسة ، انهمرَتْ عليّ كلمات الفرح ، وامتلأ وجهي بالقبلات ، وعندما رأيتك خارجا من البيت ، كان الانتصارُ يشّعُ من نظراتك ، وأنت تلوّحُ لي بابتسامة الظفر . أمك تترددُ على البيت ، تتحدثُ عن متطلبات الزواج ، ويوما بعد يوم تتوطدُ أواصر العلاقة بين أمي التي تريد لابنتها المستقبل السعيد ، وبين أمك التي تثرثر في توافه الأمور . بعد ثلاثة أشهر ، وعند عودتي من المدرسة ، وصلتـْني ورقة صغيرة ، تخبرُني عن سفرك خارج العراق ، تمنيتُ لك رحلة موفقة ، وفرحْتُ كثيرا ، وبعد عودتك ، رحْتَ تقفزُ سلّم الدرجات الوظيفية بسرعة مذهلة ، وتحوّلتَ بسرعة غريبة إلى شخصية كبيرة ، دون أن أعلم سرّ هذا التحول المريب ، ومع صعودكَ ، كانت أمُكَ تقفزُ معك هي الأخرى إلى عالم الغرور ، زياراتها بدأت تتقلص ، ولسانها بدأ يديرُ بوصلته نحو الأعلى ، وأنا فرحة بك ، لكنّ النظرات التي كنتُ أتلقاها من عينيك تتحدثُ عن شيء آخر ، بدأ الشكُ يتسربُ لي ، أحالَ منابع الفرح إلى مواقد للحيرة والتساؤل المر ، وكانَتْ أمي تراقبُ الموقف بتوجس وحذر ، رأيتها ذات يوم ، تخرجُ غاضبة من البيت ، سألتها بمرارة : ــــ إلى أين يا أمي ؟ بكلمات غاضبة ، أجابت : ــــ إلى بيت أم مازن ، لأعرف ماذا يحدثُ من وراء ظهورنا . وقفتُ في وجهها ، تقمَصْتُ حالة الهدوء ، قلتُ لها بصوت ، أردْتُ أن ألغي منه رائحة غضبي : ــــ عليكِ بالصبر ، فالأيام كفيلة بكشفِ المستور . تراجَعَتْ أمي عن قرارها ، ولم تتراجعْ عن انفعالها الذي دفعها إلى القول : ــــ لقد سمعتُ كلاما من أم مازن لا يليقُ بسمعتنا . دون جهد ، سألتها : ــــ وماذا سمعت من أم مازن ؟ ــــ كانت تقول ، الزواج قسمة ونصيب ، ومازن يبحثُ عن فتاة تناسبه في المنصب والجاه . أطلقتُ ضحكة شبيهة بصوت طائر مذبوح ، وخرجَتْ الكلمات ثملة حد الترنح : ـــــ له الحق فيما يختار ، ولماذا أنتِ منزعجة من هذا الكلام ؟ التفـَتـَتْ لي غاضبة : ـــــ وسمعتنا يالمياء ، ولماذا أرسلَ أمه في طلبكِ ؟ وماذا يقولُ الناس ؟ الثأر لكرامتي بدأ يستيقظُ ، قلتُ لها كلاما متوترا : ـــــ سمعتنا بخير ، وإذا ما تأكدتُ من صحة هذا القول ، سأكونُ أنا الرافضة . في تلك الليلة بكيتُ كثيرا يا مازن ، بكيْتُ حتى طلوع الفجر ، وعندما نهضتُ من فراشي ، كان وجهي غير الوجه الذي أحمله كلّ صباح . ولم اعدْ التقي بك ، كنتَ مشغولا بحصد انتصاراتك ، وكنتُ مشغولة بعالم إحباطي وتعاستي ، كان جرحي يتسعُ يوما بعد يوم ، عندما أسمعُ عبارات الاستفهام ، والحكايات الكاذبة التي كانت أمك تروّجها ، وتنفخُ فيها أينما حلّتْ ، ولكي تكون أمك الرائدة في عالم الحقد ، فقد أطلقتْ الزغاريد ، ووزعَت الحلوى ، وطرَقتِ الأبواب ، وهي تزّفُ بشرى خطوبتك من فتاة تناسبك في المنصب والجاه . الدماء المعتقة في جروحي أنهكها الصراخ ، فلم تستفزْ إلى مستوى الحدث ، بقيَتْ تئنُ داخل قلبي المفجوع ، وأنا لا أملك غير طريق المواجهة ، بدأتُ بإتقان التمثيل ، أجيد الدور الذي لابدّ من القيام به ، وعندما نسيَ الجميع ما حدث لي ، تقدّمَ لي أحد الرجال ، ترددتُ في بادئ الأمر ، ثمّ وافقتُ أخيرا ، إلا أنّ أمك ذهبـَتْ إليه ، لتسرد له حكايات ملفقة ، لـطخّتْ من خلالها سمعـتي أمامه ، فانسحبَ من مشروعه غير مأسوف عليه . أرادَتْ أمي البحث عن مسكن آخر ، تخلصا من سموم الأفعى التي تطاردنا ، إلا أنني وقفتُ بحزم في وجهها ، قلتُ لها بغضب جعلها تتراجعُ بشدّة : ـــــ هذا بيتنا ، ولن أرحلَ عنه ، وإذا أراد أحدكم الرحيل ، فأنا باقية هنا .
لمْ يمّرْ علينا وقت طويل ، بدأتْ صحة أمي تسوء ، كانت تعاني ألاما حادة في صدرها ، وفي ليلة مسكونة بالقلق المريع ، والترقب الشرس ، ماتت أمي ، وفي ساعة موتها ، كانت الجروح تتلقحُ بجروح أخرى ، لتجد في قلبي مرتعا خصبا لنموها ، ماتت أمي وفي داخل صدرها عصافير أمنياتها ، هي الأخرى ذبحت باسلوب وسخ . هل تعرف فجيعة موت ألام ، وهي حاملة معها كل أمنياتها يا مازن ؟ هل تعرف كيف يموت قلب ألام المترع بأناشيد لم ْيسمعْها أحد ، ويدفن معها الدمع المتكسر في عينيها يا صاحب الجاه والمنصب ؟ ولابدّ من المواجهة ، من إجادة الدور الذي أقومُ به ، بعد موتها خرجْتُ حاملة كبرياء ، أردْتُ من خلاله أن أوهم نفسي والآخرين ، إنني قادرة على تجاوز المحن ، وجاءت ابنتك شوق إلى الدنيا ، علمْتُ بها من خلال زغاريد أمك التي ردّدها جدران زقاقنا الضيّق وهي تطرقُ الأبواب وتوزّعُ الحلوى ، وعندما سمعْتُ أنك أطلقتَ على المولودة الجديدة اسم ( شوق ) ضحكتُ وبكيتُ في وقت واحد : ( أيّ شوق تحمله في صدرك يا مازن ؟ ) . بعد أيام وصلتني رسالة منك ، أرسلتها بيد أقاربك لأحدى زميلاتي ، دفـَنَـتـْها سرا في يدي ، وهي خائفة من ردود فعل قد أقومُ به ، لكنّ تمثيلَ الشخصية المتزنة أصبحَ جزءً من حياتي ، كما هي الثرثرة وخلق الأكاذيب عند أمك ، كنتُ هادئة عندما وضعتُ رسالتك في حقيبتي الصغيرة ، وعند عودتي إلى البيت ، قرأتها دون تركيز ، كانت كلماتك لا ترتقي إلى مستوى مكانتك العالية ، كلمات مصبوغة بالرياء ، وبعضها مصنوعة من الكذب الخالص ، اعتذارات يتكدسُ بعضها على البعض الآخر بطريقة مقرفة . وعندما حلّ الليلُ ، بكيتُ بلوعة يا مازن !! ورسالتك لا زلتُ أحتفظُ بها الآن ، وكانت دهشتي أكبر عندما ألحقتها برسالة أخرى ، تطلبُ فيها مقابلتك . ( أنتَ لم يعدْ لك القليل من الحياء ياأباشوق !! ) جرفتكَ الموجة السوداء ، فلم تعدْ ترى النور إلا من خلال الظلام الذي غرقتَ فيه ، كنْتُ أقاوم بعنف من أجل أن تكون حياتي طبيعية أمام الآخرين ، وجاءَتِ الساعة التي رأيتك فيها ، وأنتَ تقف بسيارتك الفارهة أمام المدرسة ، تطلبُ مقابلتي ، وضَعْـتـني أمام خيارين ، أمّا الفضيحة أمام الجميع ، أو الخروج إليك ، ولابدّ من مقابلتك بطريقة أخرج ُمنها بأقل الخسائر ، وخرجْتَ إليك قائلة في نفسي : ( فرخ البط عوّام ) . كنتُ أمامَك َوجها لوجه ، ابتسامتـُك التي ألصقتها على شفتيك ، تخجلُ من نفسها ، فكيفَ لا تخجل من فعلكَ يا مازن ؟ . لا أريدُ للمقابلة أن تطول ، قلتُ لك بشجاعة ، متجاهلة ما كان بيننا : ــــ تفضل . ضَحِكتَ بخبث ، أردتَ أن تكون كباقي الرجال ، فخرَجَتْ كلماتك هجينة : ــــ وهل يصح استقبالي بهذه الطريقة ؟ ــــ وكيف تريدني أن أقابلك ؟ ــــ بالعبارات المتعارف عليها . بدأ الغضبُ يتحركُ في أعصابي ، ولكي لا أخرج عن طريقي ، سارعْتُ في القول : ـــــ أرجوك مازن ، قلْ ما عندك باختصار . أطرقتَ إلى الأرض ، ثمّ رفعْتَ رأسكَ ، قلتَ بصوت ، أحسست ارتعاشه : ــــ لا شيء سوى الاعتذار . ــــ شكرا لك ، اعتذارك مقبول . أردتُ مغادرة المكان ، إلا أن صوتكَ جاء سريعا : ــــ ما دمتِ قد قبلتِ الاعتذار ، فلابدّ من إعادة علاقتنا السابقة . النظرُ في وجهكَ ، يزيدُ من ثورة الغضب التي بداخلي ، قلتُ مستنكرة : ــــ وماذا عن زوجتك وابنتك ؟ أجبتَ بصوت مندحر : ـــــ أنهما يعيشان بخير . تصاعدَ الغضبُ من جديد ، فطغى على لساني هذه المرّة : ــــ مازن ، قل لي ما تريد ؟ ــــ أريدكِ خليلة وحبيبة ، وقد أفردتُ لكِ شقّة بعيدة عن أنظار الجميع . وصل الطوفان ، لم تنفعْ معه السدود الضعيفة ، الكبرياء المزوّر ، والغرور الأجوف ، أفرغا ما في جوفهما دفعة واحدة ، كنتُ أفكر بفعل سريع ، ينهي المقابلة ، اقتربْتُ منه قليلا ، بصقتُ في وجهه ، وامتدَتْ يدي بسرعة إلى الحذاء ، خلعته ، ولوّحتُ به إليه ، لا أعرف ماذا قلت له ؟ . كلمات تأمره بمغادرة المكان والا أخذ الحذاءُ دورَه في المقابلة ، السيارة تتحركُ بسرعة ، وأنا واقفة ، والحذاء يهتزُ بين أصابعي ، أسرعتُ إلى دخول المدرسة ، لم ألتقِ بأحد ، كان الغضبُ يعلنُ عن نفسه ، دون أن يمنحني فرصة التستر عليه ، وعـندما دخلتُ البيتَ ، بكيتُ كثيرا يا مازن !! ، غزيرة هي الدموع التي سقطتْ على فراشي يا أبا شوق ، أشعرُ أنني في تلك اللحظة ، افتقدتُ أشياء كثيرة من رأسي ، أحتاجُ إلى الراحة ، ولابدّ من الذهاب إلى المدرسة ، كي لا أفتح بابا آخر ، يسيء إلى سمعتي ، عانيتُ من الصدمة ، آثارها لا زالت تفتكُ بي ، صورتك ، وأنت منتفخ كبالون فارغ ، لا زالت شاخصة أمامي ، وفي الليل ، تأتيني الآلام مشتعلة ، بنيران ، لا أستطيع تحملها ، غير إنّ دموعي ، تطفئ بعضها ، وأغفو على البعض الآخر ، حتى جاءَتْ تلك الليلة التي سمعتُ فيها صراخا وضجيجا في الزقاق ، كنتُ ساعتها نائمة في فراشي ، عندما دخل أخي يقول بصوت خائف : ــــ لمياء ، ابقِ مكانك ، لأرى ما يحدث في الزقاق ؟ لم أعره اهتماما ، تظاهرتُ بالنوم ، بعدها سمعتُ الباب يفتح من جديد ، وصوت أخي يسبقه في الدخول إلى غرفتي : ــــ لمياء ، استيقظي ، مازن ابن سليمة ، مات بحادث سيارة . لم أحرّكْ ساكنا ، بقيتُ راقـدة في فراشي ، أرادَ أخي إرسال برقـية مستعجلة ، فـقالَ بصوت مرتفع : ــــ لقد اصطدمَتْ سيارة مازن بإحدى سيارات الحمل ، عندما كان يقود سيارته بسرعة جنونية ، وكان مخمورا ساعة الحادث . تلقيتُ الخبرَ ، كما تتلقى أذناي برقية مشفـّرة ، جروحي لا تعرف الشماتة يا مازن ، وقلبي ليس له متسع للفرح أو للحزن يا أبا شوق . انقضت سبعة أيام على دفنك ، وأمك انحدرتْ بوصلة غرورها إلى الحضيض . لقد عقدتُ العزمَ على زيارتك غدا ، سأحفرُ قبراً إلى جانب قبرك ، أواري فيه أوراقك التي أحتفظ بها جميعا ، وأزورُ قبرَ أمي لأحدثها بكلّ التفاصيل . وستكون لي زيارة أخرى لقبرك ، ففي رأسي العديد من الحكايات التي لم أتحدث عنها بعد .
#احمد_الجنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر
...
-
تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ
...
-
مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من
...
-
فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي
...
-
“ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام
...
-
محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة
...
-
الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف
...
-
“نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي
...
-
بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
-
“مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي
...
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|