أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - علي اوعسري - الوضع العربي في ضل الهجوم الاسرائيلي على غزة















المزيد.....



الوضع العربي في ضل الهجوم الاسرائيلي على غزة


علي اوعسري

الحوار المتمدن-العدد: 2534 - 2009 / 1 / 22 - 09:09
المحور: القضية الفلسطينية
    


كشف الهجوم الإسرائيلي البربري على الشعب الفلسطيني في غزة عن واقع عربي رسمي رديء، سماته العامة: العجز، الانقسام، التخاذل، التواطؤ، أو قل حتى المشاركة في العدوان الإسرائيلي.... ليس أكثر رداءة من أن تعلن تسيفي ليفني عن نية إسرائيل الهجوم على غزة وتغيير الواقع بها، من على أرض مصر وأمام مرأى ومسمع القيادة المصرية؛ فالعجز كل العجز أن لا تقوى الأنظمة العربية حتى على إصدار مواقف خشبية، فهي لاذت إلى صمت مطبق ومريب.
لم تقوى هذه الأنظمة على الاتفاق حتى على توقيت قمة عربية، بالرغم من يقيننا التام من لا جدوى انعقاد "القمة"؛ فالقمم ما فتئت تحمل معها بطشا وخرابا للشعب الفلسطيني، ذلك أنه في كل مرة تنعقد فيه قمة عربية للإعلان عن "مبادرة عربية"، إلا وقامت إسرائيل بمهاجمة الشعب الفلسطيني وذاقته الموت والاعتقال والتشريد... ليس هدفنا في هذا المقام القيام بوصف ما يجري هذه الأيام في غزة، لكن ما نتوخاه، هنا، هو محاولة وضع ما يجري في إطار عام بهدف تفكيك جملة من العناصر المؤطرة لمواقف كل الأطراف العربية المتدخلة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي مما يجري في قطاع غزة من حصار وتقتيل.
لا شك أن هذا الهجوم البربري عرى عن تناقضات حادة في النظام العربي الرسمي، ذلك أن القنوات الفضائية باتت منبرا إيديولوجيا للعديد من هذه الأطراف التي تحاول جادة تبرير مواقفها السياسية المتباينة من هذا الهجوم. هكذا انزلق الجدال، داخل النظام العربي، عن وجهته الرئيسة، أي من إمكانية اتخاذ موقف حازم من الهجوم الإسرائيلي إلى التركيز على التلاسن العربي-العربي؛ هذا معناه أن التناقض الثانوي، في الصراع العربي الإسرائيلي، برز إلى العلن في غير وقته، وغطى عن التناقض الرئيسي الذي يتمثل، في توجيه خطاب موحد لمواجهة إسرائيل سياسيا واقتصاديا وإعلاميا، ولم لا اقتصاديا وعسكريا...

في الحاجة إلى نقاش إيديولوجي لصبر أغوار ما يجري في غزة

بالرغم من هذا الانحراف/الانزلاق، نعتقد أن لكل هذا الذي وقع حسنات، ذلك أن الهجوم الإسرائيلي كشف عن نقاش، أو قل صراع، إيديولوجي عميق داخل بنية النظام الرسمي العربي في ارتباطه بحركة التحرر الوطني العربية، وهو صراع ما كان له ليتكشف على هذا النحو لو لم يصل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي إلى هذه الحدة الناجمة عن رغبة إسرائيل في تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية.
هذا الصراع الايديولوجي المتفجر له حسنات في كونه يوفر الفرصة للجماهير العربية في الوقوف –بحدسها- على جملة من التضليلات التي مارسها النظام العربي الرسمي، لما اتخذ من قضية فلسطين قضيته الوطنية، لما توفره له هذه القضية من مبررات عدة في بناء شرعيته الوطنية/القومية على حساب بناء الشرعية الشعبية الديمقراطية التي تطالب بها القوى الحية في مجموع الوطن العربي، وفي كل قطر على حدة.
لتوضيح خلفيات هذا النقاش الايديولوجي المنفلت من عقاله بسبب من حدة الصراع العسكري/السياسي الجاري في فلسطين، لا بد لنا من القيام بقراءة موضوعية في محاولة لتفكيك وتحليل الواقع العربي في تعقيداته وفي ترابط الأبعاد الوطنية والقومية فيه بأبعاد سياسية واجتماعية، سواء داخل كل قطر أم في مجموع الوطن العربي بشكل عام.
بمعنى آخر لا بد لنا من استحضار القاعدة الاجتماعية الطبقية التي تستند إليها الفئات المهيمنة داخل الأنظمة العربية حتى يتسنى لنا فهم الدور السلبي للنظام العربي الرسمي في توجيه الحركة الوطنية التحررية الفلسطينية التي ليست سوى ذاك الجزء الطليعي من حركة التحرر الوطني العربية، باعتبار الدور المؤثر للحركة الوطنية الفلسطينية في الوضع السياسي والاجتماعي داخل الدول العربية، وأيضا في أوساط الجماهير الشعبية العربية الكادحة/المسودة؛ هنا بالضبط تبرز العلاقة العضوية بين النضال التحرري الذي تخوضه القوى الوطنية الثورية الفلسطينية وبين النضال الجماهيري الديمقراطي علي الساحة العربية، ومن ثم أهمية تحليل موضوعي لما يجري الآن.


في تحديد السمات الأساسية العامة للوضع العربي الراهن

ما من شك أن ما يجري حاليا في الوطن العربي من تفجير وتفجر للأوضاع، من خلال ما تشهده الساحات العربية بشكل عام، والفلسطينية واللبنانية والعراقية بشكل خاص، هو تعبير عن وصول الأزمات المرتبطة بقضايا المنطقة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في بعدها الوطني والقومي، إلى مأزقها التاريخي، الذي هو مأزق الحركة التحررية العربية بجميع مكوناتها الاجتماعية وفصائلها السياسية وتياراتها الفكرية والعقائدية....
بشكل أدق يمكننا القول أن الحركة التحررية العربية، بتناقضاتها الثانوية، وفي مواجهة تناقضها الرئيسي/إسرائيل الممثل لمصالح القوى الصهيونية والامبريالية، إنما هي، في طورها الراهن، الذي هو طور أزمة انتقال القيادة فيها، في أزمة بنيوية، من حيث هي أزمة انتقال الهيمنة فيها من قوى سياسية معبرة عن البورجوازية العربية، في تمايزاتها القطرية، إلى قوى اجتماعية شعبية ناهضة ذات مشروع نقيض لمشروع البرجوازيات الذي هو مشروع "السلام". هذه هي حقيقة ما يعتمل داخل النظام الرسمي العربي في ارتباطه بالحركة التحررية العربية والتي فيها يتبوأ موقع القيادة الطبقية.
أما ما يقال، إعلاميا، عن محور "المعتدلين" في مقابل "المتطرفين" أو "الإرهابيين"، فذاك نوع من خلط الأوراق في محاولة للتضليل عما يجري؛ لذا كان لزاما علينا في تحليلينا شطب مفهومي "محور المعتدلين" و "محور المتطرفين"، فهذه نعوتات إنما استعملتها الدعاية الأمريكية لأغراض بغيضة، وللأسف انساق وراءها كثير من المفكرين ربما عن قصد للتغطية عن طبيعة الصراع الدائر في المنطقة العربية وأيضا للتغطية على أطراف الصراع بتناقضاته الثانوية والرئيسية.
لم يكن بمقدور الحركة العربية التحررية بصفة عامة - ودون الدخول في الخصوصيات القطرية لهذه الحركة - أن تنجز مهامها الرئيسة في التحرر والوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. وهذا انعكس سلبا على مسار وآفاق حركة التحرر الوطني العربية التي وجدت نفسها فيما بعد أمام تحديات كبيرة فرضتها التراكمات الناجمة عن عدم انجاز المهام التاريخية المطروحة، وأيضا حجم التحولات الكبيرة والمفاجئة التي عرفها النظام الرأسمالي في السنين الأخيرة، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين.
لم تكد الحركة التحررية العربية تتكيف مع هذه التطورات حتى جاءت أحداث 11 سبتمبر لتزيد من إكراهاتها ولتضع حدا فاصلا بين مرحلة منها وأخرى.... مرحلة كانت فيها حركات التحرر الوطني تحضى بشرعية دولية وباعتراف القانون الدولي، ومرحلة جديدة أضحت فيها شرعية تلك الحركات محط تشكيك، بل باتت فيها كل حركة تحررية حركة إرهابية، مما ضاعف من حدة الأزمة التي تجتازها الحركة التحررية العربية، وأضعف مرحليا حظوظ انجازها لكل المهام المنوطة بها.
إن وصول المنطقة العربية إلى هذا النفق المسدود إنما هو نتيجة حتمية للانتكاسات والخيبات والهزائم العسكرية من جهة، وكذا نتيجة للإخفاقات السياسية والإيديولوجية للتيارات السائدة – بما هي في أساسها تعبيرات لتحالفات طبقية برجوازية هجينة - داخل حركة التحرر الوطني العربية...
لقد اتخذت تلك الإخفاقات شكل مسلسلات تسوية مع الكيان الإسرائيلي من دون استشعار طبيعة هذا الكيان العنصري الصهيوني الذي زرع في قلب المنطقة العربية من طرف قوى الامبريالية لأداء وظيفة مركزية في محاربة ولجم كل القوى التحررية الوطنية بالمنطقة العربية، في محاولة من الامبريالية للإبقاء على واقع التجزئة المنبثق عن استقلاليات قطرية شكلية، بفعل دور رجعي لتلك البرجوازيات التبعية في قيادة حركة التحرر الوطني العربية، وبسبب من طموحها في السيطرة على مقاليد السلطة في الأقطار الخارجة لتوها من الاستعمار المباشر، وهذا ما تحقق لهذه القوى البرجوازية في العديد من الدول، إن لم نقل في جل الدول العربية.
ليس الهدف من زرع الكيان الصهيوني في المنطقة هو الإبقاء على التقسيم القطري فقط، بل إن مهمته المركزية، بالوكالة، هي متابعة التجزيئ للمنطقة، وذلك عن طريق خلق تناقضات ثانوية، ذات أبعاد دينية ومذهبية واثنيه وعرقية، في الحركة التحررية العربية التي كان فيها الاختلاف سياسيا أي طبقيا، لكن بتمظهرات وطنية، وصولا إلى تقسيم المقسم بتغذية النعرات العشائرية والمذهبية داخل كل فرقة أو داخل كل طائفة تحقيقا للفوضى "الفوضى الخلاقة"، في محاولة للقضاء على كل عناصر الالتحام والتماسك والوحدة العربية....
كل ذلك جرى ويجري بهدف تعزيز هيمنة إسرائيل وتكريس دورها المحوري في المنطقة العربية التي أضحت تحمل تارة اسم الشرق الأوسط الجديد وتارة أخرى الكبير، لذا نرى أن محاولات حثيثة جرت، وتجري، في أفق إرساء هذا المشروع الأمريكي الصهيوني، وذلك لإعادة صياغة واقع المنطقة الجيوسياسي، وفق متطلبات العولمة الرأسمالية في مرحلتها ما بعد الامبريالية.
هذه المحاولات الحثيثة اتخذت أشكالا متعددة من مشروع الشرق الأوسط الذي جاء به بيريز في سبعينيات القرن الماضي كمرادف لمسلسل السلام الذي انطلق في حينه، ثم كذلك مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي جاءت تبشر به الامبريالية الأمريكية بإقدامها بغزو أفغانستان والعراق مع ما رافق ذلك آنذاك من تهديد مباشر لدول ما اصطلح عليه "محور الشر" كسوريا وايران؛ أما مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي جاءت تعلنه كوندوليزا رايس من لبنان إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في حرب تموز، فقد تم إفشاله من طرف المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله.
لقد اتخذت محاولات إرساء المشروع الأمريكي الصهيوني الامبريالي، بشتى أشكاله التي أوردنا، عناوين وشعارات متعددة بتعدد السيناريوهات والظروف المرتبطة بكل مشروع وبمستلزمات إرساءه.... فإذا اقتصرنا فقط على مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، أمكن لنا أن نرصد مجموعة من العناوين البارزة التي عملت الدعاية الأمريكية بكل وسائلها المتطورة على تسييدها ونشرها في أوساط الرأي العام العربي.
ذلك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير أطرته شعارات أمريكية تتمحور أساسا حول نقطتين رئيستين وهما محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية، مع ما يتطلبه ذلك من الأنظمة العربية من الانخراط في المشروع الأمريكي لمكافحة الإرهاب، حتى من دون التوافق على تعريف دولي محدد للإرهاب، وأيضا المضي قدما في الإصلاحات السياسية الديمقراطية على المقاس الأمريكي.
اعتبارا لمصالحها السياسية الطبقية، ارتأت الأنظمة العربية الممثلة لمصالح البورجوازيات العربية، الانخراط في محاربة الإرهاب لكي لا تصنف، حسب الرؤية الأمريكية، ضمن محور الشر؛ بالمقابل تلكأت تلك الأنظمة في انجاز الإصلاحات "الديمقراطية" المطلوبة أمريكيا بمجرد فقدان الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة، في العراق "النموذج" اثر البروز القوي والمفاجئ للمقاومة العراقية التي عملت بشكل سريع ومتميز -أو قل متفرد - على تعطيل المشروع الأمريكي، ولو بشكل مرحلي، في أفق إفشاله استراتيجيا لاحقا.
مما لا شك فيه أن بروز المقاومة العراقية، بالرغم من كل محاولات التشويش عليها إقليميا وأمريكيا، شكل زخما كبيرا واظافة نوعية بالنسبة للقوى الثورية الوطنية داخل الحركة التحررية العربية، حيث شكل بروزها اختراقا استراتيجيا، أو قل تجاوزا لذلك الانحباس التاريخي، في الأزمة البنيوية التي تتخبط فيها الحركة الوطنية العربية بقيادة البورجوازيات التبعية في الوطن العربي منذ أمد بعيد.
سيؤدي ذلك الفشل الأمريكي في مهده في العراق إلى تغييب الشعارات ذات الصلة بالإصلاحات السياسية وبنشر "الديمقراطية"، وهو ما شكل فرصة تاريخية للأنظمة العربية، لتنفس الصعداء من جديد، حيث عملت على استغلال هذه الفرصة التي وفرتها المقاومة العراقية من أجل إعادة إنتاج عناصر ديمومتها من جهة، وكذا تعزيز آليات سيطرتها داخل الحركة التحررية العربية، من جهة أخرى....
ما كان إذن من خيار لتجاوز المأزقين معا، المأزق التاريخي للحركة التحررية العربية بقيادة البورجوازيات العربية من جهة، والمأزق الأمريكي الامبريالي في العراق من جهة أخرى، قلنا ما كان إذن من خيار إلا انفجار الأوضاع برمتها في كل من العراق ولبنان وفلسطين كتعبير على حدة التناقض الرئيسي الذي يحكم الصراع بين القوى الوطنية التحررية، في حركة التحرر الوطني العربية، وبين قوى الاستعمار القديم-الجديد بقيادة الولايات المتحدة ووكيلتها في المنطقة إسرائيل وبدعم ومشاركة من الأنظمة العربية.
إن انفجار تلك التناقضات الحادة بين أطراف الصراع الرئيسية، في شكل حروب تدميرية، هو تعبير عن فشل المشروع الامبريالي الصهيوني في تطويع الوطن والكيان والإنسان العربي، وهو كذلك محاولة لتكريس واقع التشتت والتجزيئ للمنطقة العربية بما يعنيه ذلك من تخلف ويأس واستلاب للإنسان العربي وتدمير هويته ومستقبله، بالرغم مما تستبطنه الشعارات الإيديولوجية الأمريكية البراقة من تحقيق الديمقراطية والازدهار والتقدم في المنطقة العربية.
لقد شكلت لحظة الإطاحة بنظام صدام حسين تمفصلا بين مرحلتين، بحيث بعثت تلك اللحظة بإشارات ذات دلالات عميقة للأنظمة العربية، مفادها أن الحفاظ على الكراسي لن يستقيم من دون الانخراط التام واللامشروط في ركاب المشروع الأمريكي، بهدف التطبيع العربي العلني مع الكيان الإسرائيلي، مما فسح المجال واسعا أمام استكمال مسلسل التنازلات التي دشنها النظام البرجوازي العربي الرسمي منذ اتفاقات كامب دايفيد أيام أنور السادات.
هذا النظام المتآكل المستعد للتنازل عن كل ما تبقى من مقومات الوجود العربي من دولة ذات سيادة وطنية وتماسك مجتمعي وهوية وتاريخ، في مقابل بقاءه في سدة الحكم دفاعا عن مصالحه الطبقية البورجوازية المرتبطة عضويا بمصالح القوى الامبريالية، هو ذاته نفس النظام الذي أوجد الشروط الضرورية لتدمير العراق مع ما ترتب عن ذلك من اختلال في موازين القوى الإقليمية، وهو أيضا - أي هذا النظام - من يباشر أو يبارك تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، لما وافق على المشاركة في أنابوليس في ظل الانقسام الفلسطيني الحاد، ولما ظل في وضع المتفرج عما يجري من حصار وقتل ممنهج للفلسطينيين في قطاع غزة.

في ترابط الحركات الوطنية في الساحات اللبنانية والفلسطينية والعراقية

إننا نود هنا تسليط الضوء على تطورات الوضع العربي بمختلف ساحاته على مدى السنين الماضية، وتحديدا منذ غزو العراق الذي شكل ذروة المحاولات الأمريكية في إعادة تشكيل المنطقة العربية، وفق ما سمي وقتذاك مشروع الشرق الأوسط الكبير، مرورا بلحظات انكسار وتراجع هذا المشروع تحت وطأة المقاومة الوطنية العراقية، وصولا إلى لحظة مفصلية، وهي حرب تموز 2006 التي أسقطت بدورها ما سمي الشرق الأوسط الجديد.
إن حرب تموز في لبنان شكلت، في اعتقادنا، بداية انكفاء هذا المشروع بفعل صمود المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله؛ لقد شن الكيان الصهيوني تلك الحرب بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية في محاولة لتجاوز الإخفاق الذي لحق المشروع الأمريكي في المنطقة.....
فأن تستبدل الولايات المتحدة الأمريكية مشروعها الجديد-القديم، من مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى الشرق الأوسط الجديد، فذلك ما لا يخلو من دلالات، لعل أحد أبرز تلك الدلالات هو إخفاقها في العراق، على اعتبار أن العراق كان يفترض أن يشكل حجر الزاوية في إنجاح المشروع الأمريكي في المنطقة، لو لم تنبثق المقاومة العراقية التي بعثرت كل الأوراق الأمريكية في مهدها....
يمكننا القول إذن أن الولايات المتحدة وجدت نفسها منذ الوهلة الأولى لغزو العراق في وضع رد الفعل التكتيكي وليس في وضع الفعل الاستراتيجي، حيث ضلت تتخبط في المستنقع العراقي عوض أن تجعل من العراق نموذجا "للديمقراطية" في أفق نشرها وتعميمها في المنطقة العربية.
لم يكن من خيار أمام الولايات المتحدة إلا الاستعانة بوكيلتها في المنطقة إسرائيل لضرب مفاصل المقاومات العربية، في لبنان وفلسطين، وإشاعة نوع مما تسميه الفوضى الخلاقة حتى تتمكن من الانفراد بالمقاومة العراقية وعزلها عن كل امتداد إقليمي.... جاءت إذن حرب تموز كحاجة ماسة لولادة الشرق الأوسط الجديد حسب ما تقتضيه الإستراتيجية الأمريكية للهيمنة ولإنجاح مشروعها الامبريالي، بغض النظر عن الشعارات المرفوعة كنشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب واحتواء البرامج النووية، إلى غير ذلك من الشعارات المبطنة والديماغوجية.
لقد شكلت تلك الأحداث الدرامية في مجموعها وتمفصلاتها نوعا من التمرحل التاريخي للحركة التحررية العربية، في محاولة لاستعادة مجراها الطبيعي الذي هو مجرى النضال المزدوج في أفق التحرر من هيمنة البورجوازيات المحلية التي ما انفكت تدور، منذ الاستقلاليات الشكلية، في إطار من التبعية الأجنبية، وكذلك في أفق التحرر من الامبريالية التي تتمظهر في المرحلة الراهنة في شكل عولمة.
فالنضال المزدوج الذي تخوضه قوى اجتماعية وسياسية تحررية ذات مشاريع وطنية –المقاومة- نقيضة لمشروع البرجوازية العربية –السلام- سيمكن الحركة التحررية العربية من رسم وجهتها العامة نحو هدفها في التحرر التام من قوى الامبريالية والصهيونية، الشيء الذي سيفسح المجال واسعا لكي تتجاوز هذه الحركة انحرافاتها وانحباسها التاريخي المزمن، بهدف تحقيق السيادة الكاملة على الوطن كشرط رئيس لإرساء الديمقراطية الحقة وتحقيق التنمية المستديمة والسير في طريق التقدم والحداثة بكل تجلياتها وأبعادها.
لقد أشرنا في تحليلنا لتطور الأوضاع في المنطقة العربية في علاقتها بالإطماع الامبريالية الأمريكية والصهيونية إلى نوع من الانحباس التاريخي الذي هو في اعتقادنا انحباس مركب. يفصح ذلك الانحباس عن نفسه من خلال مستويين رئيسين، لا ينفيان وجود مستويات أخرى ذات أهمية بالغة، أولهما ذو بعد تاريخي بنيوي عام، وهو مرتبط بأزمة تطور حركة التحرر الوطني العربية بشكل عام والحركة الوطنية الفلسطينية بشكل خاص، في ظل قيادة البورجوازية العربية لهذه الحركة؛ وثانيهما ذو بعد سياسي إيديولوجي ويمثل عقيدة - أو قل وهم - تلك البورجوازية فيما يخص قضايا الحرب والسلام مع العدو الإسرائيلي...

القضية الفلسطينية في منطق النظام الرسمي العربي

لا غرابة إذن أن نرى محاولات هذه البورجوازية جادة في التمسك بمفاوضات السلام التي انطلقت بمدريد في بداية التسعينيات والتي جاءت في سياق الوعود الأمريكية للأنظمة العربية بحل القضية الفلسطينية، بعد "تحرير" الكويت آنذاك من العراق.
إن تلك الوعود لم تكن سوى تكتيكات أمريكية لتشكيل تحالف من الأنظمة العربية تمهيدا لمسلسل تدمير العراق واحتلاله... وقد انكشفت تلك التكتيكات الأمريكية الإسرائيلية لما عملت إسرائيل لاحقا على حصار وتسميم الراحل ياسر عرفات الذي امتنع عن تقديم تنازلات جوهرية في الثوابت الفلسطينية، وبذلك تكشفت أوهام البرجوازية العربية في إمكانية حل القضية الفلسطينية من خلال مفاوضات "السلام"؛ لقد شكل ذلك الحدث إيذانا صريحا بنهاية مسلسل السلام، لكن البرجوازية العربية التي لا يهمها، في القضية الفلسطينية، سوى رفع شعاراتها أمام الجماهير العربية، لم ولن تعدم الوسائل الإيديولوجية للدفاع عما تسميه "السلام".
لذا نرى الأنظمة العربية تسعى جادة إلى استعادة بعض مبادرات السلام الجوفاء التي لم تجلب، في وقت إعلانها، إلا المزيد من الشقاء والتدمير للشعب الفلسطيني. في هذا السياق، نورد على سبيل المثال لا الحصر المبادرة السعودية التي تحولت إلى المبادرة العربية بقمة بيروت مارس 2002 والتي رد عليها شارون بمجزرة جنين.
لقد ارتبطت سيرورة مفاوضات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية بتطور الصراع العراقي الأمريكي في تسعينيات القرن الماضي، وبما أفرزته مستجدات الساحة العراقية فيما بعد من اختلال في موازين القوى الإقليمي. لم تحضى تلك المفاوضات بإجماع القوى الثورية الوطنية الفلسطينية ولم تكن تراعي مستلزمات الصراع الجاري على الساحة الفلسطينية فقط، بل جاءت تعكس مدى هيمنة رؤية التيار البرجوازي الفلسطيني-العربي داخل حركة التحرر الوطني العربية في حل القضية الفلسطينية.
كان من اللازم أن يكون المحدد الرئيس لكل تفاوض حول حل القضية الفلسطينية هو مدى تحقيق الحركة الوطنية الفلسطينية لأهدافها في تحرير الأرض، لكن التحاق تيار التسوية الفلسطيني بركاب البرجوازية العربية في رؤيتها لمعالجة القضية الفلسطينية أفرغ أية مفاوضات من محتواها السياسي، وتحولت مع مرور الزمن إلى نوع من الاستهتار بالمشروع الوطني الفلسطيني في تحرير فلسطين. لقد أريد للقضية الفلسطينية أن تحتضر في أنابوليس بمباركة النظام الرسمي العربي الذي يتغيى تحقيق مصالح ظرفية تمهيدا لتصفية هذه القضية التي تحمل له إحراجا مزمنا من جراء معانات الشعب الفلسطيني في ضل الاحتلال الإسرائيلي.
ما نريد قوله، هو أن القضية الفلسطينية لا يمكن لها أن تجد حلا عادلا ما لم تجري المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على أساس تطور الأوضاع السياسية الداخلية على الساحة الفلسطينية، بما يستلزمه ذلك من تحقيق الوحدة الوطنية وعدم التخلي عن المقاومة المسلحة حتى أثناء المفاوضات؛ والحال أنه لا الشعب الفلسطيني موحد في هذه المرحلة المصيرية، ولا التنظيمات الفلسطينية لها موقف موحد من المقاومة المسلحة من توحيد جهودها وأساليبها وأهدافها....
هذا الوضع زاد تفاقما في ضل الانقسام السياسي الجغرافي الكياني الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية بفصل غزة عن الضفة الغربية، حيث هناك حكومتان لوطن واحد لم يستقل بعد، حكومة غزة غير مرغوب فيها من طرف المنتظم الدولي ومن طرف النظام الرسمي العربي ومحاصرة من طرف إسرائيل ووكلائها، وحكومة رام الله مرغوب فيها عربيا ودوليا باعتبارها نموذجا للنظام العربي الرسمي.... إن غياب الوحدة الوطنية وغياب موقف موحد يطرح إشكالات حول مدى استقلالية وقدرة المقاومة الفلسطينية على توجيه فعلها لخدمة الأهداف التحررية للشعب الفلسطيني، وليس لخدمة أجندات إقليمية....

الهجوم على غزة حلقة من حلقات تصفية القضية الفلسطينية

شكل مؤتمر أنابوليس حلقة أساسية من حلقات تصفية القضية الفلسطينية، فقد جاء المؤتمر في سياق تحولات إقليمية أثرت بشكل حاد على الوضع الفلسطيني الداخلي، فما تم التوصل إليه من "تسوية" في أنابوليس ليس ذي طابع استراتيجي، بمعنى أن تلك التسوية ليست دائمة، وهذا ينطوي على مخاطر حقيقية، خصوصا بالنسبة للذين تقاضوا تلك الأثمان لقاء مساهمتهم وتعاونهم مع الولايات المتحدة في استتباب الأمن وتحقيق التهدئة...
للإشارة فان التهدئة ليست هي جوهر القضية ولا هي جوهر ما يجري الآن، كما يحاول تصويره النظام المصري خصوصا، لأن التهدئة انقلبت عنها إسرائيل في ما مرة، فالتهدئة ليست تسوية ولا حلا للمسائل الأساسية والجوهرية للصراع الدائر في المنطقة، وإنما هي حاجة تكتيكية إسرائيلية سرعان ما تنقلب حربا كما وقع في غزة.
تمخض مؤتمر أنابوليس عن تصعيد عسكري من طرف الجيش الإسرائيلي عل قطاع غزة للتضييق على حماس وإضعافها في أفق إحداث انقلاب على انقلاب في قطاع غزة الذي اعتبرته إسرائيل كيانا معاديا؛ فقد ساعد محمود عباس، المدعوم من طرف النظام الرسمي العربي، بمواقفه المتشددة من حماس و بمواقفه اللينة اتجاه إسرائيل على تشجيع هده الأخيرة على ممارساتها، من تصعيد عسكري مرورا بتهدئة تحت الحصار وصولا إلى الهجوم العسكري على قطاع غزة؛ الهدف واضح هو القضاء على المقاومة وليس شيئا آخر، وهذا واضح من خلال مواقف الشارع الفلسطيني الصامد في غزة.
في مقابل التصعيد في حق حماس في القطاع، جرى ويجري ضخ الأموال من طرف الدول الاروبية المانحة إلى للضفة الغربية، أي إلى السلطة الفلسطينية، في إطار مسلسل اقتصادوي يقوده توني بلير في محاولة لخلق رأي عام فلسطيني موال للسلطة الفلسطينية....
لا بد من الإشارة هنا إلى خطورة هذه السياسة الاقتصادوية على القضية الفلسطينية؛ ففضلا عن كون هذه السياسة جاءت تكرس واقع التقسيم بين الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنها تحاول تكريس المدخل الاقتصادي، بدلا من المدخل السياسي، لمعالجة القضية الفلسطينية، أوقل للدقة لتصفية القضية الفلسطينية.
إن من شأن اعتماد المقاربة الاقتصادوية إفراغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي التحرري الوطني بهدف خلق شروط تصفيتها في إطار من مسلسل "السلام". لقد كشف ذلك المخطط التصفوي للقضية الفلسطينية عن نفسه من خلال دعوة بوش وأولمرت الفلسطينيين والعرب، في أنابوليس، إلى الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وأيضا من خلال دعوة النظام الرسمي العربي إلى التطبيع مع الدولة اليهودية العنصرية....
في خضم هذا الانقسام الفلسطسني-الفلسطيني، تستمر إسرائيل في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، مما يشكل التحدي الأبرز أمام صيرورة المفاوضات بعد أنابوليس والتي لا زال يتمسك بها رموز السلطة الفلسطينية -أي التيار البرجوازي المهيمن في حركة فتح- من دون أن يتمكنوا من استرداد أي حق من الاحتلال الإسرائيلي....
فالبورجوازية الفلسطينية، ومعها نظيرتها العربية الراعية لها، توجد في هذه المرحلة التاريخية من حركة التحرر الوطني العربية في مأزق أوهامها المبنية أساسا على "السلام"، وبذلك فهي لن تستطيع أن تلبي الحد الأدنى من المطالب التاريخية المشروعة للشعب الفلسطيني، ولن تستطيع من موقع قيادتها لحركة التحرر الوطني الفلسطيني أن توجه الشعب الفلسطيني نحو انجاز أهدافه في التحرر، لأن في إقدامها على ذلك خطر على مصالحها الطبقية الإستراتيجية، بل على وجودها ككل...
من هنا نفهم ذلك الترابط المصلحي الطبقي العضوي بين البرجوازية العربية ككل وبين القوى الامبريالية المسيطرة في المنطقة العربية، وهذا هو جوهر رؤية هذه البرجوازية لحل الصراع على أساس "السلام".... حتى الحروب التكتيكية التي خاضتها هذه الفئات كانت من اجل السلام فقط، وإلا فكيف لنا أن نفهم مبادرة السادات توقيع سلام منفرد مع إسرائيل بالرغم من الانتصار العربي على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973.
استنادا إلى ما سبق أمكننا القول أن الإشكال الفلسطيني اليوم تجاوز بكثير حادث الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مستوى آخر من الخلاف والاستقطاب الحادين؛ حيث بات ذلك الخلاف عميقا بين مجموعة أوسلو سابقا "أنابوليس حاليا" وبين مجموع فصائل المقاومة وليس فقط حركة حماس. انه الفرز الطبيعي بين فريق السلام الذي تمادى في تقديم التنازلات تلو الأخرى، ولم يعد يمانع في تجريم المقاومة وفي نزع سلاحها وبين قوى المقاومة الناهضة والطامحة لتولي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية لانجاز مهام التحرر.



#علي_اوعسري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قالت المصادر لـCNN عن كواليس الضربة الإسرائيلية داخل إي ...
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل
- CNN نقلا عن مسؤول أمريكي: إسرائيل لن تهاجم مفاعلات إيران
- إعلان إيراني بشأن المنشآت النووية بعد الهجوم الإسرائيلي
- -تسنيم- تنفي وقوع أي انفجار في أصفهان
- هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني - لحظة بلحظة
- دوي انفجارات بأصفهان .. إيران تفعل دفاعاتها الجوية وتؤكد -سل ...
- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - علي اوعسري - الوضع العربي في ضل الهجوم الاسرائيلي على غزة