أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية..الدرس العاشر















المزيد.....



اصول الفلسفة الماركسية..الدرس العاشر


جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين

الحوار المتمدن-العدد: 2506 - 2008 / 12 / 25 - 10:06
المحور: الارشيف الماركسي
    


الدّرسُ العَاشِر

ميزَة النزعَة المادّية الماركسيَّة الثانية
المادة سَابقة عَلى الوَعي

1 – حيلة جديدة مثالية
2 – النظرة الماركسية
أ) موضوعية الكينونة
ب) الوعي انعكاس للكينونة
3 – الفكر والدماغ
4 - درجتا المعرفة
5 – خلاصة


1 ـ حيلَة جَديدَة مثاليَّة
رأينا في الدرس السابق أن نزعة الدين المثالية قد حاربها تطور العلوم منذ عصر النهضة، وأنها تداعت في القرن الثامن عشر تحت ضربات النزعة المادية. فظهرت عندئذ صيغة جديدة للنزعة المثالية لتحل محل النظرة التي أخذت بالأفول.
ونجد هذه الصيغة إلى أيامنا عند عدد من الفلاسفة. وهي من صنع الراهب الإنجليزي باركلي (1685 ـ 1753).
وتهدف هذه النزعة إلى تقويض الأهمية النظرية للاكتشافات العلمية وذلك بمحاولة البرهنة على أن المبدأ المادي في العالم لا وجود له. ولما لم يعد بالامكان، في ذلك العصر، القضاء على الماديين بالقائهم في النار كما كان الحال أيام "الاضطهاد الديني" فسوف يقضي على المادة نفسها بالسخرية من أنصارها وإظهارهم بمظهر السذج العاجزين عن "التفلسف"؛ ولهذا فسوف يقرر أن المادة وهم، وهكذا يُقضى على هذه الفلسفة التي تدعي الاعتماد على الواقع.
لن يُتفلسف منذ الآن فصاعدا الا حول موضوع "الوعي" وكل ما تجاوز حدود "الوعي" فهو ليس موضوعا فلسفيا.
ولم يكن باركلي يخفي الأسباب التي تعلو على الفلسفة والتي تعمل، حسب رأيه، من أجل هذه النظرة. فقد صرح قائلا:
"إذا ما ازيلت المادة من الطبيعة حملت معها الكثير من النظريات الشاكة (أي الملحدة) الكافرة، والكثير من المناقشات والمسائل المتشابكة.. لأن المادة قد شغلت الناس بدون طائل حتى أنه لو بدت الحجج التي نثيرها ضدها غير مقنعة تماما..، فلن يقلل هذا من اقتناعي بأن أصدقاء الحقيقة (أي النظرية الفكرية الإقطاعية). والسلام (أي النظام الإقطاعي) والدين لهم الحق في أن يتمنوا أن يُعترف بهذه الحجج على أنها كافية ".
كما صرح في موضوع آخر: "إذا قبلت هذه المبادىء ونُظر إليها على أنها صحيحة، قضي بذلك على نزعة الإلحاد ونزعة الشك تماما، وتوضحت المسائل الغامضة، وانحلت الصعوبات المعقدة، وعاد الناس الذين كانوا يلهون بالمتناقضات إلى الرأي العام ".
ولقد هاجم بار كلي، بتأثير جنونه المثالي، جميع الاكتشافات العلمية لا سيما "الحساب المتناهي في الصغر" في الرياضيات قائلا عنها أنها عبث وغير منطقية ومتناقضة.
ودراسة نظرية بار كلي مهمة لأنها تعبر جيدا عن جوهر النزعة المثالية الحديثة. فهي مصدر الرأي الشائع، في الجامعات البرجوازية، القائل بأن الرجل المادي مفكر فج كما أنها مصدر احتقار "الفلاسفة المثاليين للعلوم" و "لرجال العلم".
ولم يخطيء ديدرو، حول أهمية مذهب بار كلي الرجعية، حين قال عنه "بأنه أصعب الفلاسفة على من يريد محاربته وأن كان أكثرهم عبثا. وهذه لطخة عار للفكر الإنساني والفلسفة".
فكيف يعمل بار كلي للوصول إلى هدفه؟ عرف ديدرو النزعة المثالية التي أسسها بار كلي كما يلي:
"المثاليون هم أولئك الفلاسفة الذين لا يعون الا وجودهم والأحاسيس التي تتوالى في داخلهم فلا يعترفون بوجود شيء آخر ".
يجب إذن البرهنة على أنه لا يوجد شيء عدا وعينا وتصوراتنا وأفكارنا. فليس هناك من واقع "خارجي" وكل شيء عبارة عن تصورات عقلية خاصة بنا. حتى إذا ما قضينا على "الوعي" أو "الأنا" واختفى معه كل واقع.
وهكذا لا يمكن أن توجد الكينونة والطبيعة والمادة خارج الوعي، وعيي أنا، ومستقلة عنه. لهذا سُمي هذا الضرب من النزعة المادية بالنزعة المادية الذاتية.
ولنصغ الآن إلى بار كلي لنسمعه يقول: "ليست المادة ما نعتقده حين نفكر بأنها موجودة خارج تفكيرنا. نعتقد أن الأشياء موجودة لأننا نراها ونلمسها. ونحن نعتقد بأنها موجودة لأنها تمدنا بالأحاسيس."
ولكن أحاسيسنا ليست سوى أفكار كامنة في أذهاننا. ليست الأشياء التي ندركها بحواسنا إذن، سوى أفكار، ولا يمكن للأفكار أن توجد خارج ذهننا .
ويقول بار كلي: "ضع يديك في الماء الفاتر، ولتكن احدى يديك حارة والأخرى باردة. ألا يبدو الماء باردا بالنسبة لليد الحارة وحارا بالنسبة لليد الباردة؟ هل يجب إذن القول بأن الماء حار وبارد في نفس الوقت؟ أليس ذلك هو العبث ذاته؟ قل معي إذن الماء بذاته لا يوجد ماديا مستقلا عنا. فهو ليس سوى اسم نطلقه على أحاسيسنا. فالماء لا يوجد الا فينا، في ذهننا. المادة باختصار هي الفكرة التي نكونها عنها، فالمادة هي الفكرة!
وهكذا نرى السفسطة التي يصل بواسطتها بار كلي إلى تحقيق هدفه؛ فهو يستخلص من تعارض أحاسيسي ونسبيتها أن المادة غير موجودة، فهو ينسى أن يشير إلى أنه بسبب تعارض احاسيسي استخلص أن الماء فاتر. فإذا كان القمر يبدو تارة هلالا وتارة بدرا كاملا، هل ينتج عن ذلك أن القمر غير موجود في الخارج عنا، بل ينتج عن ذلك أن القمر موجود بأحوال تجعلني أراه بصورة مختلفة حسب كل حالة.
إذا قال لي أحد الناس أنه يرى قطعة من القماش الاحمر صفراء، لا استخلص من ذلك أن تلك القطعة لا توجد الا في ذهن كل منا، بل استخلص من ذلك أن هذا الشخص مصاب بمرض. وإذا بدا لي قضيب مكسورا إذا ما أدخل في الماء لا استخلص من ذلك أن هذه الظاهرة لا توجد ألا في وعيي، بل على العكس استخلص من ذلك أن انكسار الأشعة الضوئية في الماء ظاهرة موضوعية مستقلة عني.
وهكذا نرى أيضا علام يعتمد بار كلي في سفسطته: على الطريقة الميتافيزيقية في التفكير التي تزيل التعارض في الظواهر وتأثير الظواهر كل منها على الأخرى . فهو يرى أن التناقض لا يمكن أن يوجد الا في الذهن وليس في الواقع الموضوعي. ولهذا يبدو له أنه إذا كانت أحاسيسي متناقضة فما ذلك الا لأن الشيء الذي تمثله لا يوجد الا في ذهني وهو ليس سوى وهم وخيال كآلهة البحر التي تتكون من جسد أمرأة وذنب سمكة.
وهناك مسألة أخرى: فإذا كانت المادة غير موجودة فمن أين يمكن أن تأتي هذه الأحاسيس التي تنبعث "فينا" في كل لحظة؟ الجواب حاضر: الله هو الذي يرسلها ألينا. وهكذا يعود الراهب راهبا بعد رحلته في عالم "علم نفس الأحاسيس" فتأخذ نزعة باركلي الذاتية بيد النزعة المثالية الموضوعية القديمة التي كانت على وشك الزوال. فقد كان بار كلي يأمل بانقاذه "الإله" "الداخلي" أن ينقذ أيضا "الإله" التقليدي الخالق كما ينقذ اللاهوت بأجمعه.
وهكذا تتضح لنا أقوال بار كلي المشهورة:
"الكينونة أنما هي كينونة مدركة أو مدرَكة" ولكن لما كنت لا أعرف وجود الآخرين الا بواسطة الأحاسيس التي يمثلها لي "ذهني" ينتج عن ذلك بصورة منطقية أن الناس ليسوا سوى أفكار في ذهني. والخلاصة من ذلك أن الموجود الوحيد في العالم هو وعي.
ينكر باركلي أن يكون قد قال بهذه الخلاصة التي تسمى (solipsisme) (وهي الفرضية القائلة بوجود الذات لوحدها). ولكن ليس هناك من وسيلة لابعادها عنه إذا كان يريد أن يكون منطقيا مع نفسه؟ ويجب علينا أن لا نغفل الإشارة إلى أن النزعة المثالية، على عكس النزعة المادية الجدلية، لا يمكنها قط أن تكون منطقية مع نفسها لأنها تتراجع دائما أمام هذه الخلاصة غير المنطقية
ولقد حاولت النزعة المثالية الذاتية، بعد بار كلي، أن تتم بحث بعض التفاصيل وأن توجد ألفاظا جديدة تمعن في الغموض لبعث الحيوية فيها والارتفاع برصيد الفيلسوف المثالي! ولكن الطاحونة كانت تطحن نفس الحب.
يقول لينين: "لم يأت الفلاسفة المثاليون المحدثون بأية حجة ضد الماديين لا نجدها عند الراهب بار كلي .
يدل انتشار "فلسفات الذهن" و "الوعي" التي لا تؤمن بوجود المادة بل تعتبرها نتاجا ذهنيا عل استمرار النزعة المثالية الذاتية على طريقة بار كلي.
وهذه هي فلسفة البرجوازية الرجعية المحببة التي انتشرت في المدارس بعد قيام الكومون في باريس والتي تعبر عن خوف البرجوازية أمام ازدهار النزعة المادية وسط البروليتاريا. فإذا بالفلاسفة البرجوازيين يلبون نداء تيير الذي أرسله منذ عام 1848، ويحاولون بكل الوسائل إعادة الاعتبار للدين.
وهكذا يبدو الكون للاشوليه على أنه "فكرة لا تفكر بنفسها معلقة بفكرة تفكر بذاتها" وأما بوترو فهو يعتقد أن: "الله هو هذا الكائن الذي نشعر بفعله الخلاق في أعمق أعماقنا خلال جهودنا للاقتراب منه" ويقول هاملين "الواقع هو نتيجة "تركيب" يقوم به ذهننا".
وأما دوهيم فهو يرى أن النظريات العلمية ليست سوى "رموز" يبدعها الذهن الإنساني. ويقول برنشفيك "الذهن لا يجيب الا على الذهن" وأن تقدم العلوم يرجع لتقدم "الوعي " في الغرب. ولن نتحدث عن الأسياد الأقل شأنا من هؤلاء الفلاسفة.
وفي نفس الوقت تحيط "الفلسفة" نفسها بضرب من الأسرار. فلم تعد كلمة "فلسفة" تستعمل إلا كمرادف للنزعة المثالية الرسمية. حتى أن هناك من يدعي أن الاستعمال الحق لهذه الكلمة ليس في إمكان كل إنسان، إذ يجب إتقان معرفة تلاوة القداس المثالي. وتتعدد الكتب التي تحمل اسم "المدخل إلى الفلسفة" للرد على أولئك الذين لم تنفعهم حجج المثاليين والقول بأنهم ليسوا بالفلاسفة
ويمثل انتصار هذه "النكسة" الفلسفية فلسفة برجسون زعيم المثاليين البرجوازيين منذ 1900 ـ 1914 وقد تحدثنا عنه في الدرس السابق. وقد اعتمد برجسون على نظرية بار كلي دون أن يعترف بذلك فهو يؤكد في مطلع كتابه "المادة والذاكرة" أن العالم يتكون من صور، وأن هذه الصور لا توجد الا في وعينا، وأن الدماغ ليس سوى واحدة من هذه الصور.
نخرج من ذلك أنه بدلا من أن لا يوجد الوعي بدون "الدماغ" فأن الدماغ هو الذي لا يوجد بدون "الوعي" إذ أن الوعي "واقع مستقل" والدماغ هو في خدمة الفكر السابق عليه. فإذا ما أصيب الدماغ ظلت الذاكرة... في "اللاوعي". كما كانت تقول الديانات القديمة هناك روح صاف لا سند عضوي له.
ولقد دلل بوليتزر في الفصل الأخير من كتابه "نهاية استعراض فلسفي: البرجسونيه"، على المغزي التاريخي المادي لهذه الفلسفة الروحية.
فلقد قام برجسون عام 1914 وفلسفته الروحية بخدمة المستعمرين الفرنسيين فإذا به يعرض لنا الشعب الألماني كمادة خالية من الروح بعد أن لجأ الروح إلى ثنايا أعلام الاستعمار الفرنسي! كما نرى هذا "الفيلسوف" وقد تولاه الذعر أمام جروح الرأسمالية المحتضرة يجعل المسؤول عن ذلك النزعة الآلية وكتب يقول: "يمكن أن يؤدي تطور المدنية المادي، إذا ما اكتفى بنفسه ووضع نفسه في خدمة عواطف منحطة ومطامح شريرة، الى أرذل همجية".
وهذه نغمة من النغمات ضد النزعة المادية. وهكذا يقوم برجسون بدوره الفكري إلى جانب الرجعية ليصد الناس عن المشاكل الحقيقية ويقلل من شأن العلم.
وكان هوسرل المثالي يؤكد في نفس العصر في ألمانيا أن الوعي يوجد قبل وجود محتواه ويدعو من أجل ذلك باتباع "منهج فلسفي" يقوم على وضع العالم ومتناقضاته الموضوعية بين هلالين فبدلا من البحث عن أصل الوعي في الواقع يبحث عن أصل الواقع في الوعي. وتلك محاولة يائسة تعكس لنا قلق البرجوازية أمام عجزها عن السيطرة على تطور العلوم التي تضع باستمرار أمام النزعة المثالية مشاكل جدلية جديدة تستعصي على الحل. يعتقد هوسرل أن الجواب على المشاكل الفلسفية التي تثيرها العلوم يجب أن يكون استقلال وجود المادة أو عدم وجودها.
وآخر بدعة للنزعة المثالية هي وجودية هيديجر الألماني وزملائه الفرنسيين (ومن بينهم جان بول سارتر). "والوجود" الذي تتحدث عنه هذه الفلسفة ليس سوى "الوعي الوجودي". وهذا الوعي هو الواقع الوحيد. أما الكينونة والمعرفة العلمية والمعطيات الموضوعية والأفكار التي تعكسها فهي لا قيمة لها. إذ يجب على الأفكار العقلانية أن تختفي أمام "الوجود".
ولا شك أن هذا "الوجود" يحدده "وضع معين" لأن الإنسان يعيش "في وضع معين" غير أن هذا الوضع لا يحدد وعي الإنسان، بل وعي الإنسان هو الذي يحدد وضعه. لأن كل وضع يرجع في النهاية إلى وعي هذا الوضع: ويمكن في كل لحظة أن يكون لنا الوعي الذي نريده، إذ يمكن "أن يختار المرء نفسه". نستخلص من ذلك أن السجين في خليته أكثر حرية من السنونوة في الربيع لأنها لا "تشعر" شعورا وجوديا بحرمانها من الحرية! وهكذا يسخر الوجود من الكينونة، ومن المعطيات الموضوعية لأنه مستقل عنها. ولا توجد المادة إذا ما استطعت عدم الشعور بوجودها. فإذا لم يختر العالم نفسه عاملا فهو ليس بعامل!
وسواء كانت هذه "الفلسفات" ملحدة أم لم تكن فأنها تساعد على انتشار النزعة العينية لأنها تنكر أن يكون العلم ضروريا لحل المشاكل الاجتماعية، وليست المشكلة إذن هي مشكلة الرأسمالية أو الاشتراكية بل هي معرفة ما إذا كان العامل سيختار نفسه ثورياً أم لا. ولهذا لا تشتد الكنيسة في محاربة هذه الفلسفات أو هي لا تحاربها البتة فتسمح ببقاء فلسفة برجسونية مسيحية وفلسفة وجودية مسيحية. كما أنها تستخدمها لتتخذ طابعا تقدميا ولتحول المفكرين المسيحيين عن التفكير الفلسفي حول التناقضات الشخصية في العقيدة الدينية أو التفكير بالعلوم والنزعة المادية. أما الاشتراكية الديمقراطية فهي تستغل النزعة المثالية الذاتية لتشويه الماركسية.
2 – النظرية الماركسية
تعتمد النزعة المادية الفلسفية الماركسية على المبدأ القائل بأن المادة والطبيعة والكينونة هي وقائع مادية موجودة خارج الوعي ومستقلة عنه. وهي بذلك تعارض النزعة المثالية التي تؤكد بأن الوعي وحده موجود حقاً وأن العالم المادي والكينونة والطبيعة لا توجد إلا في وعينا وفي أحاسيسنا وتصورتنا.
كما تقول النزعة المادية أن المادة معطى أولى لأنها مصدر الأحاسيس والتصورات والوعي، بينما الوعي هو معطى ثان، لأنه انعكاس المادة والكينونة، وأن الفكر نتاج المادة متى بلغت هذه المادة في تطورها درجة عالية من الكمال. وأن الفكر بصورة أدق هو ثمرة الدماغ. يقول ستالين: "والدماغ هو عضو الفكر، ولهذا لا يمكن فصل الفكر عن المادة وألا ارتكبنا خطأ جسيمًا .
وهكذا يضع ستالين فرضيتين أساسيتين عن النظرية الماركسية للمعرفة: الكينونة واقع موضوعي، والوعي هو انعكاس ذاتي لهذا الواقع. وهو يشير من ثم إلى أن النزعة المادية تثير مشكلة مصدر الفكر خلال تطور الكائنات الحية، ومشكلة العلاقات بين الفكر وبين الدماغ. ولا شك أن الدراسة العلمية لهذه المشكلة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى تدقيقات جديدة في نظرية المعرفة. فلنبحث هذه المسائل المختلفة.
أ) – مَوْضُوعيَّة الكَينُونَة
رأينا "في الدروس السابقة أنه لا يجب الخلط بين النظريات العلمية عن المادة ـ تلك النظريات التي تتطور وتتعمق ويزداد غناها كلما ازدادت جدليتها، لأن ميزات المادة لا تنضب ـ وبين الفكرة الفلسفية عن المادة التي هي أساس كل عمل فلسفي وكل معرفة والتي لا يمكن أن تعتريها الشيخوخة .
ولقد حان الآن الوقت لتحديد المفهوم الفلسفي للمادة: المادة هي مقولة فلسفية تستخدم للدلالة على الواقع الموضوعي الذي يجده الإنسان في أحاسيسه التي تنسخه وتصوره وتعكسه دون أن يكون وجوده متعلقا بوجودها.
ويقول لينين في موضوع آخر: "يوجد الواقع الموضوعي مستقلا عن الوعي الإنساني الذي يعكسه ".
وهكذا لا يُرجع لينين الواقع إلى ما ندركه عنه كما كان يفعل باركلي بل هو يفسر ما ندركه من الواقع بالواقع نفسه.
تبدو النزعة المثالية كأنها موقف رجل يعتقد أنه وحيد في العالم وأن لا شيء يوجد مستقلا عنه فهو يفسر كل شيء بسذاجة اعتماداً على حالاته النفسية. فإذا بالعالم يصبح عالمه.
وهي سذاجة مزدوجة تكتفي بنفسها بصورة عجيبة كما لو أنه لم تكن هناك حاجة للخروج عن الذات للمعرفة!. وهو موقف من لديه الجواب على كل سؤال، كما لو كان "حكمة" الشريعة والأنبياء، ذاك يتخذ من وعيه معياراً لكل واقع والذي يحدد للنوع البشري حداً لايتخطاه، هو الحد الذي يقف عنده وعيه. ولقد أدى تطور العلوم منذ عدة قرون إلى الكشف عن جوانب للواقع لا مجال للشك فيها، وان القول بأن العالم لا يحتاج إلى وعينا والى رخصة المثاليين في وجوده، يعبر عن نظرة العلوم الدائمة التي تنادي، بهذا الصدد، بنزعة مادية تلقائية بوجود واقع موضوعي خارج عن الوعي. فإذا كان العلم يكتشف باستمرار ميزات جديدة للمادة فما ذلك إلا لأن المادة لا توجد في داخلنا بل في الخارج.
وليس هناك من يشك في أن الجراثيم كانت موجودة قبل اكتشافنا لوجود الأمراض التي أتاح اكتشاف جراثيمها وشفاءها.
ولا شك أنه قد مضى زمن لم تتوفر فيه على سطح الأرض جميع الأسباب التي يتطلبها وجود الكائن الحي، ويعترض المثاليون على ذلك بقولهم: "ما معنى الوجود بدون الوعي" إذا كان الوعي هو الذي يتمثل وجود العالم بدون الإنسان وقبل الإنسان؟ ما معنى وجود أميركا قبل أن تراها عين كريستوف كولومبس إذا كان الوعي هو الذي يتخيل هذا الوجود السابق؟ فلا توجد الصحراء القاحلة بدون الوعي لأن الوعي هو الذي يتصورها لنا".
ولقد أجاب لينين، منذ زمن طويل، بأن نظرية المعرفة تقوم على معرفة التمييز بين وجود الإنسان الواقعي الحاضر في العالم في ظروف زمانية ومكانية وبين وجود الفكر الخيالي ووجود الوعي الملحق عقلياً بتمثل العالم الموجود حقا قبل الإنسان وبدون الإنسان. أن عدم التمييز هذا يدل على انعدام الفلسفة.
وليس هناك من يشك بأن حياة المجتمع المادية توجد مستقلة عن وعي الناس لأنه لا الرأسمالي ولا العامل سيتمنيان الأزمة الاقتصادية التي لا بد من حدوثها.
ويعمل قانون القيمة الذي يقول بأن كمية العمل التي تحتوي عليها بضاعة معينة تبدو بواسطة القيمة، منذ بداية الإنتاج التجاري، بالرغم من أن ريكاردو الاقتصادي لم يكتشفه الا في القرن التاسع عشر.
كما أن النضال بين البرجوازية وطبقة النبلاء هو واقع منذ بداية عهد البرجوازية؛ ومع ذلك لم يكتشف هذه الحقيقة ويعبر عنها المؤرخون البرجوازيون أمثال جيزو ومينيه وتيير الا في القرن الثامن عشر.
ماذا نقول إذن عن مثل هذا التأكيد المثالي: "كل ما لا تفكر به هو عدم صرف... ليست الطبيعة هي التي تفرض علينا تصور المكان والزمان بل نحن الذين نفرضهما على الطبيعة . سوى أن جهل المفكرين البرجوازيين الأساسي بصدد النزعة المادية الجدلية يسمح لهم بأدعاء مثل هذه الفرضيات.
ولا شك أنه ربما بدا لمن لا يملك المنهج الفلسفي أن الطبيعة، والكينونة والمادة تعكس فكر الإنسان الذي يفرض عليها ضرورياته، مثال ذلك أنه بعد بناء سد من السدود تعكس الطبيعة التخطيط الذي تصوره المهندسون. وهكذا يخضع السيل لإرادة الإنسان. فهل يعني هذا أن قوانين الطبيعة قد انتهكت أو تبدلت أو أزيلت أو أنها لا توجد مستقلة عن الوعي الإنساني وأنها بدون الوعي تزول؟
لقد اتخذت جميع هذه الإجراءات، على العكس من ذلك، على أساس قوانين الطبيعة والقوانين العلمية لأن كل خروج على قوانين الطبيعة والقوانين العلمية يؤدي إلى فشل هذه الإجراءات .
وهكذا حين نتكلم عن السيطرة على قوى الطبيعة والقوى الاقتصادية لا يعني ذلك أنه يمكن "إزالة" القوانين العلمية أو تكوينها. بل يعني ذلك، على العكس أنه يمكن اكتشاف القوانين ومعرفتها وتمثلها وتعلم تطبيقها على ضوء معرفة الأسباب، واستخدامها لمصلحة المجتمع والحصول عليها بهذه الوسيلة وإخضاعها لسيطرتنا .
يسمح لنا كل ذلك بتقدير أهمية الفرضية الماركسية الأساسية التي عرضها ستالين في آخر مؤلف له حول قوانين العلم حيث يقول: "تنظر الماركسية لقوانين العلم ـ سواء كانت قوانين الطبيعة أم قوانين الاقتصاد السياسي ـ على أنها انعكاس لعمليات موضوعية تجري مستقلة عن الإرادة الإنسانية ".

ب) – الوَعي انعِكاس للكَيْنُونة
ماذا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي انعكاس للكينونة وللواقع الطبيعي والاجتماعي؟
يعني ذلك أن الثنائية قد زالت وأن الفكر لا يمكن فصله عن المادة المتحركة: فلا يوجد الوعي خارج المادة مستقلا عنها.
العالم المادي الذي ندركه بحواسنا والذي ننتمي إليه هو الواقع الوحيد .
غير أن ذلك لا يعني قط أن الفكر مادي كالمواد التي تفرزها أعضاؤنا. والاعتقاد بذلك أنما هو خطوة خاطئة نحو الخلط بين النزعة المادية والنزعة المثالية، وإقامة تماثل بين المادة والفكر وبين المادة والوعي. ويؤدي ذلك إلى الوقوع في النزعة المادية الساذجة.
لا تعني الفكرة القائلة بأن الوعي صورة من صور الكينونة قط أن الوعي، بطبيعته، هو من المادة أيضا... وتقول النزعة المادية عند ماركس أن الوعي والكينونة والفكرة والمادة أنما هما صورتان مختلفتان لظاهرة واحدة تحمل اسما عاما هو أسم الطبيعة أو المجتمع. فالواحد منهما إذن ليس نفيا للآخر ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فهما لا يكونان نفس الظاهرة .
وكذلك لا تعني الفرضية الماركسية القائلة أن الوعي سلبي ولا عمل له أن الماركسيين "ينكرون عمل الوعي" الخ... لأن القول بذلك يؤدي إلى الخلط بين الماركسية وبين النظريات الخاطئة التي تقول بها فلسفة "الظاهرية المصاحبية" كما يؤدي إلى إتباع مزيفي الماركسية. فإذا كان الوعي لا عمل له فلماذا كتب ماركس هذا العدد الضخم من المؤلفات وأسس العالمية الأولى، واستخدم جميع الوسائل لنشر أفكاره؟
تعني الفرضية الماركسية أن لا مصدر لمضمون وعينا الا الخواص الموضوعية التي تبدو في الظروف الخارجية التي نعيش فيها والتي نشعر بها في أحاسيسنا.
فلا توجد تصوراتنا ولا توجد "انيتنا" الا بمقدار وجود الظروف الخارجية التي تولد انفعالات "انيتنا"... لأن الشيء القائم في الخارج سابق على الصورة التي نتصوره بها، وتتأخر هنا أيضا الصورة عن الشيء ومضمونه. فإذا ما نظرت ورأيت شجرة فهذا يعني ببساطة أن الشجرة موجودة قبل أن تنبعث صورة الشجرة في ذهني، وان هذه الشجرة هي التي ولدت فيَّ صورة الشجرة .
فالوعي هو انعكاس لحركة المادة في دماغ الإنسان.
وتعني الفرضية الماركسية أخيرا ان الوعي سواء من وجهة نظر تاريخ الطبيعة أو المجتمع أم من وجهة نظر تاريخ الفرد وشخصية كل منا أنما هو نتاج تطور تاريخي.
يسبق الوعيَ، وهو عبارة عما يجري في دماغنا، خلال تطور الطبيعة، تغيير مادي مماثل، وهو عبارة مما يجري خارجنا، وسوف يتبع هذا التغيير المادي تغيير فكري مماثل .
يسبق التطور الفكري من ناحية الوعي تطور للظروف الخارجية من الناحية المادية فتتغير أولا الظروف الخارجية التي تمثل الناحية المادية ثم يتغير الوعي الذي يمثل الناحية الفكرية .
يكوِّن هذا الأمر، الذي يمكن لكل إنسان أن يتأكد منه، البرهان التجريبي للنزعة المادية وتعلق الوعي بالنسبة للكينونة كما أنه يبرهن على أن الوعي لا يمكن أن يكون رأساً انعكاساً دقيقاً للواقع كالانعكاس الذي يحدث في المرآة بل هو انعكاس حي متحرك في تطور دائم.
ولا شك أن ذلك لا يبدو لنا لأول وهلة حينما نفكر: إذ يبدو أن الفكر يقوم بذاته بصورة رائعة. ويمكن أن نتخيل، كما كان يقول ديكارت، أنه يكفينا أن نفكر كي نوجد، وأن هذا التفكير لا يحتاج إلى الجسم كي يتم. ولهذا كان الفلاسفة المثاليون سعداء بتفكيرهم حتى أنهم مستعدون للاعتقاد بأن كل موجود أنما هو موجود بفضل تفكيرهم الحر. فهم يجهلون الجذور الطبيعية الاجتماعية للفكر ولذلك يعتقدون أن كل شيء يصدر عن هذا الفكر ولهذا يطأطئون رؤوسهم ساجدين أمام الفكر ويرددون مع بول فاليري:
"كل الكون يتهادى ويرتجف فوق جذعي".
وهذه محاولة خطرة عابثة ألا وهي الاعتقاد بأن الأفكار تقوم بذاتها وتتطور من نفسها، وأن الوعي عبارة عن إله داخلي جبار. وقد حارب هذا الوهم الفيلسوف المادي الكبير ديدرو، فهو يشبه عملية تكوين النزعة المثالية بأوهام البيان الذي يخيل إليه، وقد وهب الاحساس، أنه وحيد في عصره ويعتقد بأن كل "أنغام الكون" تجري في داخله .

3 – الفِكْر وَالدّمَاغ
حاربت النزعة المادية باستمرار هذا الوهم. ولقد قال ديدرو بفرضية تدعي أن المادة يمكن أن تفكر. كما كتب ماركس يقول: "لا يمكن فصل الفكر عن المادة المفكرة. لأن هذه المادة هي أساس جميع التغييرات التي تحدث ".
كما يقول انجلز من ناحية أخرى:
"مهما بدا لنا وعينا وتفكيرنا أنهما متعاليان فهما ليسا سوى ثمرة عضو مادي ألا وهو الدماغ ".
وكذلك يقول لينين: يدلنا منظر العالم على كيفية تحرك المادة و "كيفية تفكيرها" .
كما يلاحظ أن القول بأن الفكر ليس حركة بل هو "الفكر" هو قول علمي كالقول بأن "الحرارة ليست حركة، بل هي الحرارة".
تدل العلوم الطبيعية على أن عدم اكتمال نمو الدماغ عند شخص من الأشخاص يكون عائقا مهما أمام نمو الوعي والفكر: ذلك هو شأن الأغبياء. لأن الفكر نتاج تاريخي لتطور الطبيعة وبلوغها درجة سامية من الكمال" يتمثل في الأنواع الحية في الأعضاء والحواس والجهاز العصبي ولا سيما في جزئه الأعلى المركزي الذي يسيطر على الجسم بأكمله ألا وهو الدماغ. فالدماغ يعكس في نفس الوقت الظروف التي تحيط بالجسم كما يعكس الظروف الخارجية.
فمن أين يبدأ الوعي والفكر؟ يبدأ من الإحساس بتأثير حاجاته الطبيعية. فالعمل والتجربة والإنتاج هي التي تثير أولى حركات الفكر في بدء الجنس البشري. ومصدر الأحاسيس هو في المادة التي يشتغل بها الإنسان وليس العمل ثمرة اللعنة كما تقول التوراة: "ستكسب خبزك بعرق جبينك" لأن العمل هو اتحاد جوهري بين الإنسان والطبيعة، وهو نضال الإنسان ضد الطبيعة في سبيل العيش كما أنه مصدر كل تفكير.
"أن خطأ كل نزعة مادية الأساسي في الماضي هو أن الشيء والواقع والعالم الحسي لم يكن يُنظر إليها كنشاط إنساني ملموس في ميدان العمل ".
ولقد دلل انجلز في نص مشهور كيف أن العمل، باكثاره من أحاسيس الإنسان في أول خروجه من الحيوانية، قد نمى يده وبذلك نمى دماغه مما أتاح له القيام بتقدم عملي جديد. وهكذا اليد، عضو العمل، هي ثمرة العمل .
وتعلمنا العلوم، من ناحية ثانية، أنه إذا ابتعد فرد من الأفراد عن الحياة الاجتماعية تعطل تفكيره وتداعت ذاكرته وتخاذلت ارادته فتصبح لا شيء. فإذا لم يعرف قط الحياة الاجتماعية زال خلقه الإنساني. فلقد رأينا اطفالاً تركوا في الغابات فحضنتهم الذئاب فإذا بهم يتخلقون بأخلاق الذئاب.
ويلاحظ انجلز أن كل عمل إنساني كان ولا يزال منذ البداية عملا ضمن المجتمع والا لما استطاع الإنسان أن ينجو من الأخطار الطبيعية. وهذه الملاحظة مهمة جدا لفهم أصول الفكر والتأمل، لأن العمل يوضح جوانب جديدة للواقع، كما أنه يثير مشاكل جديدة. فهو يكشف عن علاقات موضوعية جديدة لا تكفي الأحاسيس للتعبير عنها، بيد أن العمل يتطلب جهداً مشتركاً وعملا مشتركاً لكي تتوحد جميع الطاقات لجماعة من الناس فتعمل في موضع معين ووقت معين، كتحريك صخرة مثلا. ولكي ندفع الناس إلى العمل حقاً نحتاج إلى اشارة وإلى أمر: ولكن كلما ازداد تعقد العمل لم يعد الصراخ أو الحركة كافيين ووجب القدرة على شرح العمل الذي يجب القيام به، أي أننا بحاجة إلى إشارات جديدة في نوعها تعبر عن العلاقات بين الأحاسيس ألا وهي الكلمات. وهكذا يتخذ العمل طابع تبادل الناس الانفعالات التي يثيرها فيهم. العمل إذن هو الذي أثار الحاجة للاتصال فتولد عن ذلك اللغة التي هي عبارة عن اتصال بالآخرين قبل أن تكون تعبيراً .
ويزداد، في نفس الوقت، غنى دماغ الإنسان بعلاقات جديدة. لأن الدماغ نتاج اجتماعي، وأخيراً يعني ظهور الفلسفة ظهور الفكر الصرف والتأمل. وهذه خطوة مهمة. فلا لغة ولا فكر بدون العمل الذي هو نشاط اجتماعي.
يقولون أن الأفكار تأتي إلى ذهن الإنسان قبل أن يعبر عنها في حديثه وأنها تولد بدون واسطة اللغة عارية من غطاء اللغة. ولكن مهما كانت الأفكار التي ترد على ذهن الإنسان فهي لا يمكن أن تولد وتوحد الا معتمدة على اللغة والفاظها وجملها. فليس هناك أفكار خالية من وسائل اللغة ومن "مادتها الطبيعة".
"لأن اللغة هي واقع الفكر المباشر" (ماركس) ويظهر واقع الفكر في اللغة. والمثاليون وحدهم يمكنهم التحدث عن فكر منفصل عن "المادة الطبيعية" وهي اللغة، أو عن فكرة بدون لغة .
ولقد اثبتت العلوم الطبيعية صحة هذه النظريات التي قالت بها النزعة المادية الجدلية، كما تنبأ لينين، وذلك في أعمال العالم الفيزيولوجي الكبير بافلوف.
فلقد اكتشف بافلوف أن عمليات النشاط الذهني الأساسية أنما هي انعكاسات مشروطة تثيرها الأحاسيس الداخلية أو الخارجية وهي تحدث في ظروف معينة، كما أنه دلل على أن هذه الأحاسيس تستخدم كاشارات لكل نشاط الجسم الحي.
كما اكتشف أن الكلمات ومضمونها ومعانيها يمكن أن تحل محل الأحاسيس التي تبعثها الأشياء التي تدل عليها فتثير بدورها انعكاسات مشروطة وردود فعل عضوية أو لفظية. فتكون بذلك إشارات للإشارات أي نظاماً ثانياً للإشارات يقوم على أساس النظام الأول وهو خاص بالإنسان. اللغة إذن هي الشرط لنشاط الإنسان الأسمى، وعمله الاجتماعي، وهي تحمل الفكر المجرد الذي يتجاوز الإحساس الحالي. اللغة هي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع بأكبر قدر من الدقة.
ولقد برهن بافلوف في الوقت ذاته على أن ما يحدد وعي الإنسان في الأساس ليس هو جسده ولا الظروف الحيوية كما يعتقد الماديون السذج والمحللون النفسيون بل المجتمع الذي يعيش فيه ومعرفته لهذا المجتمع، وهكذا تتعلق الناحية البيولوجية في الإنسان بالناحية الاجتماعية لأن الظروف الاجتماعية للحياة هي التي تحدد الحياة العضوية والحياة الذهنية فالفكر بطبيعته ظاهرة اجتماعية.
يحق إذن القول بأن الدماغ هو عضو الفكر فقط وهذا لا يخالف أبدا قول الماركسية الأساسي.
"ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ".

4 – درَجَتَا المَعرفَة
تتيح أبحاث الفيزيولوجي بافلوف واكتشافاته أن نحدد بدقة الطريقة التي يتكون بها في الوعي انعكاس الواقع والكينونة أي تكون المعرفة.
لنضرب على ذلك مثلا بسيطا: كيف نعلم الطفل معنى الكلمات المستعملة؟ يجب اطلاعه عدة مرات متتالية على الشيء الذي تعنيه الكلمة، وفي نفس الوقت يذكر له الاسم ويُحمل على لفظه كلما كان ذلك ضروريا حتى يجمع من تلقاء نفسه بين الكلمة والشيء، يعرف كيف يستعمل الكلمة عند غياب الشيء أي بصورة تجريدية.
وهكذا أصبح معنى الكلمة بعد تمثله يمثل فكرة الشيء، وتتكون هذه الفكرة وهذا المفهوم على أساس الأحاسيس المتكررة وعلى أساس اللغة التي تشير إلى هذه الأحاسيس. هناك إذن درجتان للمعرفة: الإحساس المباشر، والفكرة المجردة (أو المفهوم) والاحساس بمفرده معرفة أقل كمالاً من الفكرة، فطالما لم ير الطفل الا البجعات البيضاء فسوف يعتقد أن البجعة طائر أبيض وهذا خطأ نوعا ما. اما عالم الحيوانات الذي يعرف البجعة بتعريفها العلمي فسوف يكوّن عنها فكرة أدق وأصدق وأكثر مطابقة لها.
وهكذا نرى أن الفكرة المجردة هي التي تعكس بدقة الواقع. ولكن هذه الفكرة العلمية عن البجعة لم تتكون الا على أساس حصر أنواع البجع التي توجد في الطبيعة أي على أساس الأحاسيس.
أما فيما يتعلق بالأشياء "المجردة" بذاتها كفكرة القرابة مثلا فأن الطفل لا يمكنه تلقيها الا بواسطة الاستعمال الاجتماعي الذي يتكرر غالبا.
ولنضرب على ذلك مثلاً أشد تعقيدأ. يرزح التاجر الصغير تحت عبء الضرائب الثقيل. كما تهدد البطالة عامل النسيج وكذلك يربح الموظف الصغير 20000 فرنك في الشهر.
لنفرض أن الأول يقرأ جريدة "الأورور". والثاني جريدة "فرانك تيرور". والثالث جريدة "الفيجارو". يجد كل منهم صدى لشقائه في جريدته، فمحرر الجريدة البرجوازي يتألم لمصير الفقراء المحزن.
تعكس هذه الجرائد الوضع إذن في مظاهره الحية ولا تتعدى ذلك. فهي تحذر جيداً من أن تشرحه وتفسره فتتهم إسراف الإدارة أو عدد المؤسسات الصغيرة أو عدد الفلاحين.
أما قارىء جريدة "الأومانيتي" أو قارىء تقرير وضعه موريس توريز، فلسوف يجد التفسير الذي يضع بيدنا مفتاح جميع أوجه الوضع، كتحليل أزمة الرأسمالية وتناقضاتها، وفكرة قانون الرأسمالية الأساسي الحالي الذي يعكس الواقع بعمق، والجري وراء الربح الأقصى.
وهكذا تنتقل المعرفة من الحسي إلى العقلاني في جميع الميادين. ويرى باركلي أن رؤيتنا للشمس مسطحة حمراء "دليل" على أنها لا توجد إلا في وعينا، أما الماركسية فهي ترى أن ذلك ليس سوى دليل على أن المعرفة الحسية غير كافية لأنها إذا كانت تصلنا بالواقع فانها لا تجعلنا نفهم ما هو الواقع.
ولقد علمتنا الجدلية أنه يجب علينا، كي نفهم ظاهرة ما، أن نربطها بظواهر أخرى هي أصلها، وأن ندرك تناقضاتها الداخلية. لأن العلم والمعرفة بواسطة الأفكار لا يجعلاننا نعرف فقط كيف تكون الشمس حقيقة بل لماذا نراها مسطحة حمراء. فالعلم يطلعنا على جوهر الظواهر.
تختلف المعرفة المنطقية عن المعرفة الحسية... وذلك لأن المعرفة الحسية تحيط بجوانب الظاهرة الخاصة وعلاقة الأشياء الخارجية، بينما المعرفة المنطقية تحيط بالأمور المشتركة بين الأشياء، فهي تحيط بمجمل الأشياء وجوهرها وعلاقتها الداخلية فتؤدي إلى اكتشاف التناقضات الداخلية في العالم الذي يحيط بنا، وتتمثل بذلك تطوره والعديد من علاقاته الداخلية .
والانتقال من الدرجة الأولى للمعرفة، وهي درجة الاحساسات والتأثرات والانفعالات، إلى الدرجة الثانية، وهي درجة المفاهيم، أنما هو مثال رائع على الجدلية لأن تجمع الاحساسات الكمي هو الذي يحدث الظاهرة النوعية الجديدة الا وهو "المفهوم".
الدرجة الأولى للمعرفة هي ما يسمى بالدرجة الانفعالية للمعرفة أي درجة الاحساسات والتأثرات.
ويؤدي استمرار الاستعمال الاجتماعي في تجربة الناس إلى تكرار الأشياء التي يدركونها بحواسهم والتي تؤثر فيهم. فيحدث في دماغ الإنسان قفزة في عملية المعرفة: إذ يظهر المفهوم. ويمثل المفهوم بطبيعته تمثل طبيعة الأشياء وما بينها من عناصر مشتركة وعلاقتها الداخلية.
وهناك اختلاف بين المفهوم والإحساس وهو ليس اختلافاً كمياً بل هو اختلاف نوعي أيضاً .
ويقول لينين: "المفاهيم هي أسمى ما ينتجه الدماغ، والدماغ نفسه أسمى ما تنتجه المادة .
فإذا كان هناك تناقض في أفكار الناس فذلك لأن هناك تناقضاً في الواقع الذي يعكسه تفكيرنا. وجدلية الأشياء تحدث جدلية الأفكار والعكس ليس صحيحا .
ولقد قال ماركس: ليست حركة الفكر سوى انعكاس لحركة الواقع بعد أن انتقلت إلى دماغ الإنسان .

5 – الخلاصة
ندرك الآن أهمية النظرية الماركسية من الناحية العلمية فيما يتعلق بأسبقية المادة على الوعي.
أولاً: إذا كانت الظروف هي التي تتغير أولا ثم يتغير وعي الناس فلا يجب البحث عن سبب أية عقيدة نظرية أو مثالية في أدمغة الناس أو في مخيلاتهم أو عبقريتهم المبدعة بل في تطور الظروف المادية لأن الفكرة التي تقوم على دراسة هذه الظروف هي الفكرة الصائبة المقبولة.
ثانياً: إذا كان وعي الناس وعواطفهم وأخلاقهم وعاداتهم تحددها الظروف الخارجية، فأنه يصبح من البديهي أن تغيير هذه الظروف وحده يمكن أن يغير وعي الناس. فليس هناك إنسان خالداً أو "طبيعة إنسانية خالدة". ومن الطبيعي إذن أن يكون الإنسان، في نظام يقوم على الملكية الفردية ويحتدم فيه النضال الفردي من أجل الحياة، ذئباً يفترس أخاه الإنسان. كما أنه من المحتم أن تنتصر أفكار الأخاء بين الناس في نظام تحتدم فيه المنافسة الاشتراكية ويقوم على الملكية الاشتراكية.
الإنسان ليس صالحاً ولا طالحاً بل هو ما تصنع منه الظروف. وتحمل الماركسية جواباً حاسماً على السؤال الذي يردده المفكرون البرجوازيون الا وهو:
هل يجب القول بأن "المؤسسات السيئة" هي التي تجعل الإنسان شريراً أم أن الشر الكامن في الإنسان هو الذي يفسد "المؤسسات"؟ لسنا بصدد "المؤسسات" وأنما نحن بصدد الرأسمالية التي تفسد الإنسان. ولهذا كانت فكرة الثورة عن طريق "الإصلاح الأخلاقي" فكرة كاذبة.
ويمكن أن يتكون إنسان جديد، له وعي جديد اشتراكي في ظروف معاشية جديدة اشتراكية.
فماذا يجب من أجل ذلك؟ الإسراع في إيجاد هذه الظروف الجديدة بتحويل الواقع الاجتماعي والنظام الرأسمالي الظالم. أو كما يقول ماركس: "اذ كانت الظروف تكوِّن الإنسان فيجب تكوين هذه الظروف بصورة إنسانية ".
وهكذا تبدو بوضوح العلاقة بين النزعة المادية وبين الاشتراكية. ولقد بدت لنا هذه العلاقة سابقا عند عدد من الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وهكذا اضطر الزعماء الاجتماعيون الديمقراطيون اليمينيون ـ الذين لا يؤمنون بالاشتراكية ـ إلى بذل جهودهم لتشويه الماركسية برفض النزعة المادية، والتجأوا وراء النزعة المثالية الرجعية كما سنرى في دروس أخرى.
أما النزعة المادية فهي تفتح، على العكس، أمام البروليتاريا والإنسانية طريق تحررها المادي والثقافي الا وهو الطريق الثوري.
تعريب شعبان بركات
المكتبة العصرية ـ صيدا . بيروت




#جورج_بوليتزر_وجي_بيس_وموريس_كافين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اصول الفلسفة الماركسية . الدرس التاسع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثامن
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس السادس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الخامس
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الرابع
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثالث
- اصول الفلسفة الماركسية ..الدرس الثاني
- اصول الفلسفة الماركسية


المزيد.....




- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...
- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية


المزيد.....

- تحليل كلارا زيتكن للفاشية (نص الخطاب)* / رشيد غويلب
- مَفْهُومُ الصِراعِ فِي الفسلفة المارْكِسِيَّةِ: إِضاءَةِ نَق ... / علي أسعد وطفة
- من أجل ثقافة جماهيرية بديلة 5 :ماركس في عيون لينين / عبدالرحيم قروي
- علم الاجتماع الماركسي: من المادية الجدلية إلى المادية التاري ... / علي أسعد وطفة
- إجتماع تأبيني عمالي في الولايات المتحدة حدادًا على كارل مارك ... / دلير زنكنة
- عاشت غرّة ماي / جوزيف ستالين
- ثلاثة مفاهيم للثورة / ليون تروتسكي
- النقد الموسَّع لنظرية نمط الإنتاج / محمد عادل زكى
- تحديث.تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ
- تقرير الوفد السيبيري(1903) ليون تروتسكى / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الارشيف الماركسي - جورج بوليتزر وجي بيس وموريس كافين - اصول الفلسفة الماركسية..الدرس العاشر