جوان حسين
الحوار المتمدن-العدد: 2503 - 2008 / 12 / 22 - 01:23
المحور:
الادب والفن
ولدي العزيز قرّة عيني
هذه وصية والد طحَنته الظروف و عجَنته الألأم , و أذاقته الحياة كؤوس الذلّ و حلاوة الفوز , اكتب إليك يا ولدي ما علّمتني إيّاه الأيام خلال مسيرة سبعين عاماً هي سنوات عمري ,و أنا ما أزال ممتلئاً بحماسة الشباب و قوة الأبطال , لا أبالي برسوم الزمن على وجهي المتغضّن , و لا أشباح الموت المنتصبة كالحراس على أبواب القصور يعدّدون دقائق عمري الباقية لكي ينقضّوا على جسدي الهزيل بأفواههم الشرسة .
فلتعلم يا ولدي أن الحياة كبستان من الزرع تعطيك من ثمارها بمقدار ما تعطيها أنت من العمل و التفاني , و ليس لذوي الأفئدة الخنوعة و النفوس الوضيعة مكان في المعالي , و من هان عليه الصعاب أدرك النجاح , و إنني إذ أضع بين يديك سطور حياتي تمعّن و أقرا بتدبّر , فالقوي يا ولدي مَن كان له قلباً غليظاً و لساناً مليحاً و يداً شديدة , و خذ حياتي مثالاً يغنيك عن السؤال , فبعد أن تمّ تعييني موظفا صغيرا , لم أكن غير رقم مهمل في حسابات السادة , أنفذ أوامرهم و أخدم رغائبهم , و أمدّهم بالتقارير عن كل شاردة و واردة , و أرهف السمع و لا أبالي , فما رأيت دمعاً يجري إلا و تذكرت جريرة يدي , و ما قابلت محزوناً ألا و تذكرت سوءة نفسي , و ما أزال أذكر تاريخ ذلك اليوم الحافل الذي ارتقيت فيه و صرت معتمداً على الشؤون المالية في الدائرة .
و اعلم يا ولدي أن العقل الراجح و الفكر السديد , كالشمس العالية في كبد السماء , ما أن تغرب بالظلام حتى تبزغ بالنور , و أعقل الناس مَن اتبع نور عقله و أخفى سريرة قلبه , و جعل عواطفه خلف ظهره , فالناس أهواء و مصالح , وجوه مرضية في الظاهر , مخيفة من الداخل , يلهثون كالقطيع وراء المادة , و تحت أقدامهم يسحقون أرواحهم , و العاقل مَن ألقى الأحزان عن جسده و اختطف السعادة لنفسه , فبعد اعتمادي على خزينة الدائرة , تكاثرت من حولي نظرات الحسد الممزوجة بالغيرة , و راح البعض يحاولون زرع الأشواك في طريقي , و أنا كالطود لا أتزحزح عن موضعي , أقابل شرّهم بالبسمة , و هجومهم بالغنوة , و أحقادهم بالمحبة , و في نفسي أدبّر لهم ألف خدعة و خطة , تذيب أمالهم بين ضلوعهم , و تجعل همهم في نفوسهم , فما أسفت على شيء أسفي على ما مات من عواطف في قلبي .
و اعلم يا ولدي أن المال سلطان , يرفع الوضيع عالياً , و يجعل العزيز واطياً , يُذلّ مَن كان في حاجة و فاقة , و يستر على السفلة جرائمهم و آثامهم , و كم من شريف أذلّه السؤال , و كم من فاسق , فاجر , أرفعه الغنى مقام السادة , فقبل أن يتمّ تعييني على المالية , كان الناس يترفّعون عن إلقاء التحية علي , إذا تكلّمت جادّا سخروا , و إذا بكمت تلفظوا بألفاظ كالنار تجرح , و لمّا جرى المال في يدي جري الماء في النهر , توافد الناس أفواجاً على منزلي , يسألون الحاجة و يبغون المساعدة , إذا حدّثت انتصبت آذانهم كآذان الحمير , يصغون و يصيخون لأدنى حرف , و إذا عاتبت موبّخاً احنوا رؤوسهم خانعين , و إذا صمتُّ يصمتون , و ارخص الأشياء في زماننا , النفوس , يأتونك خفافا إذا اشتمّوا بدل عبق العطر رائحة المال في جيوبك , كم تمنّيت أن أعانق روح فتاة لا تطمع في مالي , و كم تمنيت أن يسأل الشيخ عن وجه الشرع في جمع أموالي , كانوا جميعا يهنئونني و يباركون لي , يوم فزت في انتخابات الإدارة .
و اعلم يا ولدي أن قوّة المرء في نفوذه و هيبته في قلوب الناس , و أن سبيل المجد محفوف بالمخاطر , و أعظم و أخطر ما يتهدد و يواجه الإنسان , شرّ الإنسان ذاته , و ما أكثر أشرار الإنس في غابة الحياة , في كل مكان تلقاهم تلامس روحك أنفاسهم و لهاثهم , في الشارع , في العمل , في البيت , في بواطن نفسك تجد ذاتك منحلة في خرائب روحك .
الحياة كالحقيقة يا ولدي , عذبة حلوة , و قاسية مرّة , إذا غالبتك أعاصيرها طوتك في أحشائها كما يطوي الموت الأرواح في جوفه , و إذا غالبت َ أمواجها فتحت لك أحضانها و أبوابها , و إنني شربت كأس الحياة حلوها و مرها , و تجرعت آلامها و لذّاتها , و عشت اليأس و الرجاء في رحابها , و لم افقد خيط الأمل عندما صرت مديرا , أحكمت قبضتي على المؤسسة , و أرهبت القلوب و غرست الخوف في النفوس , لأنّ الناس في أوطاننا ينبذون الضعيف و يمجّدون القوي , و يتبعون كالظل مَن يُرهبهم , مثلما كانوا يَحيُون حياة الخِراف المذعورة من الذئب , كنتُ أقـبّل اليد التي فضّلت علي , و اليد التي أخشى أن تمتد إلي , و كلّ يدٍ قويّة , أو آثمة , أو وضيعة قد تفيد مثقال ذرّة ما أصبو إليه من المجد و النفوذ و الثروة , و ما النعيم الذي تتقلب في أحضانه و تتنعّم بملذاته , غير أحلام بنيتها عالياً بالدموع المترقرقة في مآقي الآخرين , كانوا يحلمون مثلنا , يوماً , بحياة جميلة , لكن ماتت أمالهم و تلاشت أمانيهم حين نمت أحلامنا تتغذى بأحزانهم , و تكبر كلّما صغرت أحلامهم , فحافظ على الميراث الذي أضعه بين يديك , و اقرأ بتمعن كل حرف سكبت عليه مداد حياتي .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟