أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مروان العلان - منظمة التحرير الفلسطينية: من الكفاح المسلح إلى المفاوضات















المزيد.....



منظمة التحرير الفلسطينية: من الكفاح المسلح إلى المفاوضات


مروان العلان

الحوار المتمدن-العدد: 2469 - 2008 / 11 / 18 - 05:31
المحور: القضية الفلسطينية
    


مقدمة
نشأت منظمة التحرير الفلسطينية كرافد سياسي للنهوض القومي الذي كان يجتاح المنطقة العربية في الحقبة الناصرية، وقد هدف مؤسسوها من إنشائها لعدة أهداف، ليس أقلها أهمية الوقوف في وجه ما سمّي آنذاك بالرجعية العربية التي تمثلت في النظامين الملكيين السعودي والأردني، مضافاً إليهما النظام الملكي في المغرب.
وكانت المعركة بين الاتجاهين التقدمي الذي مثلته الناصرية، والرجعي الذي مثلته الأنظمة سالفة الذكر، على أشدّها في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، حيث وصلت الأمور إلى حدود الصدام العسكري، كما حدث في اليمن، ناهيك عن الحملات الإعلامية التي لم تكن تتوقف بين الطرفين.
ولم يكن الأمر صراعاً بين قوى عربية فحسب، بل كان هناك صراع إقليمي ودولي يشارك، بشكل مباشر في بعض الأحيان وغير مباشر أحياناً أخرى. ويمكن القول أن الصراع في بعض حالاته كان صراعاً بالنيابة، حيث مثلت الأنظمة العربية أصحاب المصالح الأساسيين في الصراع على منطقة الشرق الأوسط، وهما هنا قطبا السياسة الدولية آنذاك أي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية.
في هذه الظروف حرص كل فريق على استقطاب أكبر قطاع من قطاعات الشعب العربي إلى جانبه، ومن هذه القطاعات، بل ومن أهمها، كان الشعب الفلسطيني الذي لم يكن محسوباً بكامله على طرف محدد، وإنما توزعته الأنظمة العربية، فقسم منه في الأردن والآخر في سوريا وثالث في لبنان ورابع بقي في غزة وتبع الإدارة المصرية وخامس يقيم في الخليج حيث النفط وسياسات التبعية الاقتصادية للقوى الكبرى... لذا كان لا بدّ من استقطابه.
ولأن فلسطين قضية قومية وطنية ذات طابع تحرري، فلم يكن من الممكن أن تتبناها الأنظمة الملكية التي كانت تدور في فلك المصالح الغربية، وكان من الطبيعي أن تتلقف قضيته القوى القومية والوطنية التقدمية، لذا كان التفكير في ترتيب وضع الشعب الفلسطيني بحيث يصبح جزءا من الحراك القومي التقدمي العربي، ويتحمّل بشكل أو بآخر مسؤوليته تجاه وطنه وقضيته.
تأسست منظمة التحرير الفلسطينية، إذن، كأداة تستخدم لتحقيق متطلبات النهوض القومي في الوسط الفلسطيني، بكل ما يعنيه هذا الاستخدام من اشتراطات وضغوط وتحوّلات، وكان عليها بالذات، أن تكون رأس الحربة في مشاريع الصراع العربي – العربي، خصوصاً المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي أصبحت قميص عثمان جديداً في الساحة السياسية العربية.
وقد تبنت المنظمة منذ نشأتها الخط القومي الوطني، باعتبار فلسطين قضية وطنية أولاً، تهمّ الفلسطينيين بالشكل الأساسي، وقضية قومية لا تنفصل عن البعد القومي للقضايا العربية الأخرى التي كانت تمور بها الخارطة العربية آنذاك.
وكان الهدف الأساسي المعلن لهذه النشأة هو تحرير فلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر من الاحتلال الصهيوني الكولونيالي، وبكل الوسائل الممكنة والمتاحة، بدءا بالكفاح المسلح وانتهاء بأي أسلوب أو طريقة تؤدي إلى تحقيق ذلك الهدف.
وبالفعل كان تأسيس الهياكل التنظيمية من عسكرية ومدنية وسياسية وإدارية، وعيّ! أحمد الشقيري رئيساً لها، وبدأ الرجل مساعيه لوضع المنظمة في الخارطة العربية، بموافقة أو رغماً عن، الأنظمة العربية المختلفة، ودار صراع حاد بين الأطراف العربية المختلفة، وأحدث إنشاء المنظمة اختلالاً واضحاً في النظام العربي، بل وأوجد ترتيباً جديداً للخارطة العربية.
وما هي إلا سنوات، حتى كانت هزيمة حزيران 1967، التي أدت إلى قلب الطاولة بكاملها على رأس المشروع القومي العربي، وأصابته في المقتل، ودفعت بكل القوى اللائذة به إلى البحث عن طرائق وأساليب جديدة لمواصلة بقائها، واندثرت طموحاتها الكبرى وتبددت جهودها في الحفاظ على ديمومة بقائها على رأس القيادة للشارع العربي الذي أصيب هو الآخر بدمار معنوي ألغى مت رأسه فكرة المشاريع القومية الكبرى وتركه في دوامة لم يخرج منها إلى الآن. وكان الخاسر الأكبر من هزيمة حزيران هو الشعب الفلسطيني وقضيته. فقد ضاعت بقية فلسطين مضافاً إليها سيناء المصرية والجولان السورية، وأصبح الوضع كارثياً مدمّرا.
أما الشعب الفلسطيني الذي كانت تمور في وجدان أبنائه طموحات التحرير، وتتنازعه أحلام العودة لوطنه، فقد لجأ إلى إشعال ثورته المسلحة، وأعلن الكفاح المسلّح انطلاقاً من الأردن، الحاضنة الأولى لمهاجريه في هزيمتين أدتا إلى الفقدان الكلي لوطنه.
ورأت قيادة الكفاح المسلح أن الاستيلاء على منظمة التحرير يشكل خطوة دافعة لإنجاز مشروع التحرير بالقوة الذي رفع شعاراً بعد الهزيمة، استجابة للشعار الناصري "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". وهذا ما كان، إذ أطيح بالشقيري ليتولى ياسر عرفات رئاسة المنظمة حتى نهاية حياته، وربما حياتها.
وبعد ضربتين محكمتين للثورة الفلسطينية في الأردن 1970 – 1971، وبيروت 1982، أطيح بالقوة العسكرية الفلسطينية كلياً، ووجدت المنظمة نفسها تتحول إلى هيكل سياسي آيل للانهيار، وتصلها أصوات المنتصرين منادية إياها للدخول فيما لا بدّ منه، وكان الشعار المرفوع أمامها "الموت أو الاستسلام" فاختارت الثاني، مراهنة على هامش للحركة السياسية والمناورة، قد يفيدها في تحقيق شيء لم تتمكن من تحقيقه بالقوة.
تدور إشكالية البحث حول ذلك التغيّر الذي أصاب منظمة التحرير الفلسطينية وأخرجها عن مواثيقها الأولى، ووضعها في مسار آخر غير المسار الذي بدأت به طريقها الذي رسمه لها قادة الفكر القومي والتوجهات القومية.
وبالتحديد: لماذا بعد حرب الخليج الثانية، وعندما دخلت القوات العراقية الكويت، ثم أجبرت بالقوة العسكرية على الخروج منه، في حرب الثلاثين مشاركاً، كان منها بعض الجيوش والأنظمة العربية، دخلت منظمة التحرير الفلسطينية إلى مسار التسوية، واضعة بندقية المحارب في مكان آخر، ليس هو بالتأكيد المكان الذي يصل بها إلى فلسطين، بدولتها ذات السيادة؟
ربما كان انهيار المشروع القومي العربي إيذاناً بانهيار كافة المشاريع المرتبطة به، بما فيها مشروع تحرير فلسطين، أو حتى مشروع وجود منظمة التحرير نفسها، ولولا إدراك الأطراف المنتصرة بأن هناك دوراً للمنظمة في المراحل اللاحقة لكان القضاء عليها أسهل من أي تجربة أخرى.
وربما أن وقوف قيادة المنظمة ومن ورائها عموم الشعب الفلسطيني في خندق التأييد لدخول العراق للكويت، وضع الجميع في خانة من يجب القضاء عليهم، بعد أن يؤخذ منهم كل ما يملكون، بما فيها الطموحات والأحلام.
وربما أن سياسة قيادة المنظمة، وياسر عرفات بالذات، كانت توصل في المحصلة النهائية إلى تحويل المنظمة لورقة ضغط تتمّ المتاجرة بها من قبل اللاعبين المفلسين أو من قبل الباحثين لهم عن دور في المنطقة.
تكمن أهمية البحث في كونه يعيد قراءة المرحلة السابقة من تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية، ويسلط الضوء على بعض المواقف التي في محصلتها النهائية وجدت المنظمة نفسها في موقع لا تحسد عليه، إن لم يكن في موقع مناقض لكل الثوابت التي أنشئت المنظمة على أساسها. ويحاول رؤية التطورات التي طرأت على المنظمة من خلال تحوّلها إلى لاعب ظنّ نفسه رئيسياّ، ليكتشف بعد حين أنه لم يكن كذلك، بل لم يكن أكثر من ملعوب فيه على الساحة السياسية العربية والدولية.
ومن مراجعة لما سبق وأن كتب حول تلك المرحلة يمكن تقسيم الكتابات التي تناولتها فإننا نقسّمها إلى قسمين رئيسيين: أولاهما ذلك الفريق الذي كان يهمّه مهاجمة قيادة المنظمة، وأحياناً المنظمة نفسها، على قاعدة خيانة المنظمة لثوابتها الوطنية والقومية، وثانيها ذاك الفريق الذي جعل جلّ همّه الدفاع عن تلكم القيادة على قاعدة أنه لم يكن بالإمكان إبداع أكثر مما كان. (سنضرب أمثلة على ذلك)
لم يواجه الباحث صعوبات تذكر في مسيرة البحث، فقد كانت المراجع متوفرة، وقد وثّقت الأحداث التي واكبت نشأة المنظمة منذ بدايتها وحتى الآن في كافة الصحف العربية، وبشكل أخص في الصحف الفلسطينية والنشرات والبيانات التي كانت تصدرها الفصائل والقوى الفلسطينية الشريكة في المنظمة، إبان فترات التوافق أو الصراع بين هذه الفصائل من جهة، وبينها وبين الأنظمة العربية المختلفة من جهة أخرى.
لقد عاشت منظمة التحرير الفلسطينية في مساحات التقاطع بين مصالح الأنظمة والقوى ذات المصالح في المنطقة، سواء القطرية أو القومية أو الإقليمية أو الدولية، كما اقتاتت مالياً على ما كانت تقدّمه لها ذات الأنظمة التي كانت معها على خلاف ظاهري دائم، وبالتالي فإن حراكها السياسي كان دائماً مشروطاً برضى هذا الطرف أو ذاك، مما وضعها في نهاية المشوار في حالة يرثى لها، وأخضعها بشكل مذلّ أحياناً لمتطلبات واشتراطات الآخرين، مع أن الشعار الذي ما فتئت ترفعه هو شعار "القرار الوطني المستقل"، ولكن هل يملك استقلالاً من كان ينفق عليه الآخرون؟

منظمة التحرير الفلسطينية: لمحة تاريخية
لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية بكيانها السياسي في ذهن القيادات العربية على اختلاف توجهاتها الفكرية أو حتى مصالحها السياسية، فمنذ هزيمة الجيوش العربية والأنظمة التي أرسلتها في العام 1948، وما ترتب عليها من نتائج كارثية في حياة الشعب الفلسطيني، كان أهمها تهجيره القسري واقتلاعه من أرضه ووطنه وتاريخه، وإلقائه في منافي الشتات يقاسي من الأنظمة المضيفة أسوأ ما يمكن تصوّره.
فالأنظمة العربية آنذاك كانت موعودة باقتسام فلسطين بعد قيام دولة لإسرائيل، وقد لعبت تلك الأنظمة دورها المنوط بها في إقامة تلك الدولة، وعملت بعد ذلك على طمس وإلغاء الهوية الوطنية للفلسطينيين.
إلا أن ما حدث بعد فترة، خصوصاً إثر ثورة يوليو وقيام الجمهورية في مصر، وانقسام الأنظمة العربية حسب مصالحها، حدث فرز واضح.
لقد اتجهت مصر بعد حرب 1956 نحو المجموعة الاشتراكية لتصبح واحدة من الدول التي تقف في الصف المقابل للصف الاستعماري الذي كانت تمثله الدول العربية الأخرى، التي ارتبط وجودها بالمصالح الاستعمارية في المنطقة، بل كان وجودها جزءا من المخطط الاستعماري الهادف لإبقاء المنطقة تحت هيمنة القوى الاستعمارية.
كما أن قيام النظام الناصري بالدعم المعنوي والمادي في بعض الأحيان لبعض قوى التحرر العربية في الجزائر وتونس والمغرب والسودان واليمن، سبباً مباشرا لأن تصبح مصر واجهة النظام العربي، وصاحبة الكلمة الأخيرة في تطور القوى المناهضة للاستعمار.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اكتشاف النفط قبل ذلك بفترة زمنية، وإحساس الغرب بأهمية المنطقة العربية لحماية مصالحه، إن لم تكن تشكل جزءا من هذه المصالح، دفعه لاعتبار أي قوة تقف في مواجهة الأنظمة التي قام بإنشائها بمثابة عدو تجب مقاومته.
من هنا وجدت القوى والأنظمة التي أعلنت مناهضة الاستعمار نفسها في مواجهة حتمية مع تلك الأنظمة، وبالتالي عليها حشد ما تستطيع من القوى للوقوف معها، وقد تمكنت بتبنيها للخيار القومي كمنهجية فكرية وأيديولوجية لاستقطاب الشعوب العربية من إحداث إجماع شعبي عربي يقف في مواجهة المصالح الاستعمارية في المنطقة.
في مقدمة تلك القضايا التي تبناها الخط القومي ولعب على وتر المشاعر الوطنية والقومية العربية كانت القضية الفلسطينية.
وباستعراض ما مرّت به القضية الفلسطينية، منذ بدء حملة الاستيطان الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وشعور الفلسطينيين بالدور المشبوه الذي قامت به بعض الأنظمة العربية كان توجّه الفلسطينيين نحو الاتجاه القومي هو المسار الوحيد الذي يمكنها الثقة به وبالتالي الانضواء في ظله، فنشأت التنظيمات الفلسطينية المختلفة التي تبنت الخيار القومي، وبدأت التنسيق مع النظام الناصري للبحث عن طريقة للعمل من أجل قضيتها الفلسطينية ووطنها الضائع(1).
ولم يكن التفكير بتأطير القوى الفلسطينية في إطار تنظيمي بعيدا عن رؤية القادة في مصر، بالتوافق مع أفكار القوى القومية العربية الأخرى في الوطن العربي وكذلك في أوساط الفلسطينيين. وبالتشاور مع بعض الأنظمة العربية، وبعض القوى الصديقة كانت فكرة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لتعيد للشعب الفلسطيني مركز الصدارة في التعامل مع قضيته الوطنية داخل الإطار القومي.
في اجتماع تاريخي للقادة العرب، أي في مؤتمر القمة العربي الأول (القاهرة 13 - 17/ 12/ 1964) أوكل المؤتمر إلى أحمد الشقيري مهمة إنشاء الكيان الفلسطيني (2). كان الاقتراح بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية على رأس جدول أعمال المؤتمر في مقر الجامعة العربية 1964. ورغم معارضة الكثير من الدول العربية للقرار ووقوفها ضده، فإن خطوات كثيرة كانت قد اتخذت من قبل القيادة الناصرية وشركائها من القوى القومية والوطنية العربية.

المحطات الهامة في مسيرة منظمة التحرير

1 - النشأة الملتبسة بالمصالح
لم تكن نشأة منظمة التحرير الفلسطينية بعيدة عن حسابات المصالح لكافة أطراف التأسيس، كما لم تكن تيارات الرفض لإنشائها بعيدة هي الأخرى عن حسابات المصالح هي الأخرى. فالذين دعموا قيام المنظمة وضعوا في اعتبارهم المكاسب التي يمكن أن يجنوها إذا قامت، سواء على الصعيد المادي أو المعنوي أو استخدامها كورقة ضغط تلزم في بعض الأوقات والظروف، كما أن الذين رفضوا قيامها كانوا قد حسبوا مدى الضرر الذي سيلحق بمصالحهم في حال قيامها. فالدول والأنظمة لا تقف مع أي مشروع، كما لا تقف ضد أي مشروع ما لم تكن قد وضعت حساباتها جيداً. وحده الشعب من يفعل ذلك، والكل يعرف أن حسابات بيدر الشعوب لا تتوافق دائماً، أو في كثير من الأوقات، مع حسابات حقل الحكومات.
لذا يمكن اعتبار إنشاء منظمة التحرير واحدة من صفقات المصالح التي تنعقد بين القوى المختلفة في صراعها، فما هي المصالح التي وضعتها القوى العاملة لإنشاء المنظمة في حساباتها؟
في البدء نسأل: من هي تلك القوى؟
قلنا من قبل أن القوى التي تبنت الاتجاهات القومية والوطنية العربية هي التي وضعت مشروع إنشاء المنظمة في حساباتها، وفي مقدمتها النظام الناصري، وسنكتفي بالحديث عن المصالح التي كان يترسمها النظام الناصري في سعيه لإنشاء المنظمة(3).
منذ العام 1956، واندحار العدوان الثلاثي على مصر، نتيجة المقاومة الباسلة التي أبداها أهالي منطقة القنال، والضغوط التي مارسها الاتحاد السوفييتي وتهديداته للقوى المعتدية (إسرائيل وبريطانيا وفرنسا)، والضغوط الأهم التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية على قوى العدوان، وخوفها من قيام الاتحاد السوفييتي بتوسيع نطاق الحرب دفاعاً عن مصالحه التي تهددت بهذا العدوان، وخوفها من أن بقاء العدوان يحول دون دخولها كمنظومة استعمارية جديدة بثوب استعماري جديد ذي أساليب مغايرة للأساليب التي اتبعتها القوى الاستعمارية في المرحلة الاستعمارية السابقة، وخوفها يشكل أساسي من إعادة ترتيب المنطقة بما لا يتلاءم من مخططاتها.
منذ ذلك التاريخ دخلت مصر ميدان الصراع الدولي بشكل مؤثر ومباشر وقوي، فقد اتجهت نحو الدول الاشتراكية التي كانت في انتظار نضج الظروف ووعي النظام الناصري على مصالحه، واقتناعه بأن الوقوف مع المنظومة الاشتراكية أولى وأهمّ وأحفظ على المصالح العربية من الوقوف مع الدول الغربية، سواء في استعمارها القديم أم في الثوب الجديد، الذي تلبسه الولايات المتحدة الأمريكية.
كان مسألة السد العالي، والتسلح العسكري والوقوف ضد المشاريع الاستعمارية هي المحفزات الرئيسية للنظام الناصري للبدء في انتهاج سياسته الجديدة.
وقد وجد هذا النظام نفسه في مقدمة الدول العربية المعنية بالقضايا التحررية العربية، خصوصاً وأن تعرّضه للغزوات الاستعمارية المتتابعة، التي اختتمت بالعدوان الثلاثي واحتلال سيناء كاملة، أثبت له أن القضايا العربية هي الطريق الأقصر لقيادة الأمة العربية، وبالتالي لتصبح مصر هي القائد الأساسي للحركة العربية، ويصبح القادة المصريون وفي مقدمتهم الرئيس جمال عبد الناصر، هم الزعامة العربية الأولى. كما أن الاحتماء بالشعوب العربية اعتمادا على النظرية الاشتراكية التي ترى في الشعوب المحرك الأهم للتاريخ، وأن المجموع لا الفرد هم الذين يصنعون التاريخ، هذا الاعتماد يعني احتماء مصر بقوة هي صانعة التاريخ، وبالتالي فإنها تبعد عن نفسها خطر الوقوع تحت طائلة أي غزو أو عدوان طالما أن معها الشعوب العربية المختلفة.
وبين عشية وضحاها، وبحملة إعلامية كاسحة كان الشعب العربي من المحيط إلى الخليج ينتظر بشغف خطابات الرئيس جمال عبد الناصر، ويدفع ثمناً غالياً في سبيل بقائه على صلة بالتوجهات القومية التي يقودها عبد الناصر. وكم شهدت سجون الأنظمة العربية المختلفة من المعتقلين الذين انخرطوا في التيارات القومية التي اكتظ بها الشارع العربي في كافة الأرجاء العربية. وقد وصل الأمر بالنظام الناصري أن صدّق ما قاله للشعوب، فبدأ اجتراح مشاريع قومية ذات طابع رومانسي طوباوي، حيث كانت الوحدة العربية الشاملة والحريات الديمقراطية والاشتراكية القائمة على نظام عدالة اجتماعية ذات رؤية عربية خالصة إحدى تلك الأحلام الكبيرة للناصرية وقيادتها. لقد انتفخ البالون القومي أكثر بكثير مما تحتمله تداعيات الواقع العربي ومصالح الدول الكبرى في المنطقة.
في 13/1/1964 أصدر مؤتمر القمة العربي المنعقد في القاهرة قراراً بإنشاء كيان فلسطيني يعبّر عن إرادة شعب فلسطين، وكلف المؤتمر أحمد الشقيري ممثل فلسطين بالاتصال بأبناء فلسطين البارزين من أجل تحقيق هذا الهدف. ووضع في الأثناء الميثاق القومي الفلسطيني، الذي حمل في طياته الأحلام الكبرى والأماني العليا للتيار القومي بكامله، وللشعب الفلسطيني بشكل خاص.

2 - المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول في القدس
بعد اتخاذ قرار إنشاء المنظمة بدأت الخطوات العملية للتأسيس.
وتشكلت من أجل مأسسة المنظمة لجنتان أساسيتان هما اللجنة التنفيذية واللجنة المركزية، وكذلك أنشئت العديد من الدوائر كأمانة السرّ، والدائرة السياسية والدائرة العسكرية (جيش التحرير الفلسطيني)، والصندوق القومي ودائرة شؤون الوطن المحتل ودائرة التربية والتعليم ودائرة الإعلام والثقافة ودائرة العلاقات القومية ودائرة التنظيم الشعبي ودائرة الشؤون الاجتماعية ودائرة الشؤون الإدارية.
وكان لا بدّ من إقرار الشعب الفلسطيني وموافقته على قيام المنظمة، خصوصاً وأن هذا الشعب كان موزّعاً على كافة الدول المحيطة وغير المحيطة بفلسطين.
وفي القدس، عاصمة فلسطين، حسب الحلم الفلسطيني القومي والوطني، انعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول في 28/5 – 2/6/1964. وقد حضرت المؤتمر وفود تمثل الجامعة العربية والدول العربية كما حضر المؤتمر الملك حسين ملك الأردن الذي حاول عرقلة مسيرة المنظمة، وفي هذا المؤتمر تمت الموافقة على تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية بكافة أجهزتها ولجانها(4).
ولم يكن لمنظمة التحرير أي قيمة سياسية في الوسط العربي، وبقيت الكثير من الدول العربية دون اعتراف بالمنظمة، بل وعملت جادة على تعطيل وجودها وإعاقة تحركها، يساعدها في ذلك احتدام الصراع داخل هيئات المنظمة، واتهام الشقيري بالاستفراد بالقرارات، وتجاوزه للصلاحيات التي أنيطت به منذ البداية.
وما هي إلا سنوات قلائل حتى كانت هزيمة حزيران التي غيّرت كما أسلفنا وجه المنطقة وأدت إلى انهيار المشروع القومي مع ما ارتبط به من مشاريع قطرية.

3 - انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة
كانت هزيمة حزيران ساحقة. وكما أوردنا فقد قلبت الطاولة رأساً على عقب، ودفعت بالمشاريع القومية والوطنية العربية إلى هاوية النهايات المأساوية، وكان المتضرر الأكبر منها هو الشعب الفلسطيني الذي فقد بهذه الهزيمة ما تبقى من وطنه، ووجد نفسه وحيداً في ساحة المواجهة مع المحتلين.
كان الشعب الفلسطيني، وفي سياق انخراطه في النضال من أجل قضيته قد أنشأ العديد من المنظمات التي كانت تؤمن بأن حلّ القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتمّ إلا بالكفاح المسلح(5). وكانت ترى في قيام المنظمة انحرافاً عن الهدف الوطني وخروجاً على الأماني الفلسطينية، ووضعاً للشعب الفلسطيني في مهبّ رياح المساومات السياسية. لذا قامت هذه المنظمات، ومنذ اليوم التالي لهزيمة حزيران بإشعال الثورة الفلسطينية وتبني الكفاح المسلّح عملياً، واتخذت من الأردن الذي لم يكن قد أفاق من صدم الهزيمة قاعدة انطلاق بحكم كونها الأقرب لفلسطين، ولكون النظام الأردني كان من الهشاشة بحيث لم يكن قادراً على منع هذه المنظمات من بدء نشاطاتها.

4 - دخول الفصائل المسلحة في المنظمة
بعد هزيمة حزيران اشتدت الضغوط على الشقيري، واتهم بالعديد من الاتهامات، مما دفعه لتقديم استقالته من رئاسة المنظمة، وتولاها يحيى حمودة بالوكالة.
في الأثناء وجدت الفصائل المسلحة، وخصوصاً تنظيمي "فتح" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" أن الهيمنة على المنظمة تعني بالدرجة الأولى رفد المنظمة بالأموال العربية، والهيمنة على القرار الفلسطيني، وانتزاع تمثيل فلسطين من أيدي الحكومات العربية، وهذا يعني تحوّل المنظمة وقيادات المقاومة الفلسطينية إلى لاعب رئيسي في الساحة السياسية العربية والدولية كذلك(6).
وهذا ما كان بالفعل، ففي الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني في 10/7/1968 انخفض عدد أعضاء المجلس من 500 عضو إلى 100، بسبب وقوع الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما عنى خروجهم من إمكانية الحضور والاجتماع. وفي هذا المؤتمر تمّ تغيير اسم الميثاق القومي إلى الميثاق "الوطني" بما حمله التعبير من نزعة قطرية فلسطينية خرجت بالقضية من إطارها القومي إلى الإطار الأضيق، كما دخلت كافة الفصائل الفلسطينية المسلحة بمختلف اتجاهاتها في عضوية المجلس مع وجود نسبة من المستقلين، وأعلن المجلس رفضه للقرار 242 الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، معلناً الكفاح المسلح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، كل فلسطين، من النهر إلى البحر.
كان هذا التحوّل في بنية وفكر المنظمة إعلاناً واضحاً للخروج الفلسطيني عن كل ما اتفقت عليه مؤتمرات القمة العربية، وإعلاناً للاستقلال الفلسطيني عن التدخلات العربية، وعدم الخضوع للمشاريع السياسية التي تجريها الدول العربية. وفي العام 1969، وفي الدورة الخامسة للمجلس المنعقدة في القاهرة انتخب المجلس لجنة تنفيذية جديدة انتخبت هي بدورها ياسر عرفات رئيساً للمنظمة، وتشكلت منذ ذلك الحين "قيادة الكفاح المسلح".

5 - هزيمتا أيلول في عمان وبيروت
واجهت الفصائل الفلسطينية ومنظمة التحرير عمليتي تصفية قاصمتين.
الأولى مارسها النظام الأردني بشنّه حرباَ شعواء في أيلول 1979 وأيلول 1971، أدت إلى إزالة كافة مظاهر الكفاح المسلح، والقضاء على البنية العسكرية للثورة الفلسطينية، مما عنى بالنسبة للشعب الفلسطيني تحوّله إلى ضحية من ضحايا الأنظمة العربية، بعدما كان ضحية للاحتلال الإسرائيلي لوطنه.
أما الثانية فقد مارستها إسرائيل في أيلول من العام 1982، عندما قامت باجتياح لبنان بشكل كامل، وحاصرت العاصمة اللبنانية بيروت، ولم ينته الحصار إلا بعد أن تمّ الاتفاق على خروج كافة مقاتلي منظمة التحرير الفلسطيني وسلاحهم إلى خارج لبنان، بل وخارج المناطق المجاورة لفلسطين، فانتقلت قيادة المنظمة إلى تونس، وانتشر مقاتلوها في المنافي العربية في الجزائر واليمن والسودان، وعاد بعضهم إلى الأردن.
لقد تعرضت المنظمة في بيروت قبل اجتياحها لهزّات عديدة، بعضها كان سياسياً، والبعض الآخر كان عسكرياً، فعلى الصعيد السياسي، وفي الدورة الثانية عشرة للمجلس الوطني كان التحوّل الأبرز غفي مسيرة المنظمة عندما طرح مشروع "النقاط العشر" الذي قدمته "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، واعتبره قسم من فصائل المنظمة تفريطاً وتراجعاً عن الميثاق الوطني، وتشكل ما أطلق عليه آنذاك "جبهة الرفض"، أي الذين رفضوا برنامج النقاط العشر، ومنذ تلك الفترة بدأت الحلول السياسية تظهر على الساحة الكفاحية الفلسطينية على حساب النضال العسكري المسلح.
أدت أحداث أيلول في الأردن، ومثيلتها في لبنان إلى تقليم كافة أظافر المنظمة وفصائلها، وأعادت الفلسطينيين إلى المربع الأول في مواجهة عدوّهم وتناول قضيتهم. ولأنهم أعلنوا قطرية المعركة، وأرادوا تولي أمور وطنهم بأنفسهم، فقد أعطت مبرراً للحكومات العربية للتخلي عن بعض مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، بل وتجاه الشعب الفلسطيني نفسه.
وفي هذه الحالة بدأت تطرح على قيادة المنظمة مشاريع الحلول السياسية، مما أدى إلى حدوث خلافات حادة، وشبه انشقاقات في بنية المنظمة نجمت عن انسحابات لبعض الفصائل من اللجنة التنفيذية أو الهيئات الأخرى(7).

6 - الانتفاضة الأولى ومؤتمر الجزائر وإعلان الاستقلال
كان مفهوم "الدولة الفلسطينية الديمقراطية" قد بدأ بالظهور منذ دورة المجلس الوطني التي انعقدت في القاهرة في شباط 1971، فالضربات المتتابعة التي تعرضت لها القوة العسكرية الفلسطينية، والاغتيالات التي طالت كبار قادتها العسكريين والسياسيين والانقسامات التي بددت جهود القيادات والتجمعات المناصرة للقضية، وتخلي العديد من الدول العربية عن مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته، كل هذا العوامل أدت إلى ظهور تيارات في الوسط الفلسطيني ترى أن تحرير فلسطين له طريق لآخر غير البندقية، بل ويرى أن البندقية ساهمت بشكل مباشر في المزيد من الكوارث على الشعب الفلسطيني.
وحين رأت المنظمة أن وضعها خارج فلسطين أصبح في غاية الخطر، وأنها تتعرّض لعملية تصفية منظمة، دعت الجماهير الفلسطينية إلى التحرّك.
وفي الثامن من كانون أول 1987، اندلعت انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتمكنت من وضع إسرائيل في موقع لا تحسد عليه، خصوصاً وأنها تتشكل من شبان وفتيان ليس لديهم سوى الحجارة، وبدأ نجم المنظمة بالصعود، والتفتت إليها الأنظمة العربية والأوروبية، مما جعل قياداتها تعتقد أن بإمكانها من جديد العودة إلى مواقعها الأولى، على الصعيد السياسي على الأقل، وبعد عام إلا شهر، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر/ الدورة السابعة عشرة.
أعلن ياسر عرفات في 15 تشرين الثاني عام 1988 في دورة المجلس الوطني الفلسطيني "استقلال فلسطين" مستنداً إلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، واستند كذلك إلى الشرعية الدولية وقراراتها ومواثيقها، وبعدها دعي ياسر عرفات في ديسمبر عام 1988 لإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، حيث أدان فيه الإرهاب، ودعا إلى الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية وعيش دول منطقة الشرق الأوسط بما فيها فلسطين بسلام.

7 - حرب الخليج الثانية 1990
في مطلع فجر 2 آب 1990 دخل الجيش العراقي الكويت وتوغلت المدرعات والدبابات العراقية في العمق الكويتي، و قامت بالسيطرة على مراكز رئيسية في شتى أنحاء الكويت ومن ضمنها البلاط الأميري. تم اكتساح الجيش الكويتي بسهولة وبدون مقاومة تذكر إلا أن معارك عنيفة وقعت بالقرب من قصر أمير الكويت و كانت هذه المناوشات كفيلة باكتساب الوقت الكافي لأمير الكويت للجوء إلى السعودية. وكحدث بهذه الضخامة والأهمية أبدت الدول العربية مواقف مختلفة، ونظراً للعلاقات القوية التي كانت تربط ياسر عرفات بالرئيس العراقي صدام حسين، ونظراً لوجود الفكر القومي في وعي المواطنين الفلسطينيين، فقد اتخذت منظمة التحرير موقفاً مؤيدا لدخول الكويت، مما وضعها في اصطفاف خطر على وجودها ومستقبلها.
وبعد الحرب، وانتهاء حروب عاصفة الصحراء وخروج العراق من الكويت، وبدء حصار الشعب العراقي، وقفت الدول الخليجية، وفي مقدمتها الكويت موقفاً عدائياً جداً من الشعب الفلسطيني وقيادته ومنظمته، وقطعت كافة العلاقات مع منظمة التحرير، وأوقفت معوناتها للمنظمة، وبالتالي فقد أصبحت المنظمة في حال لا تحسد عليه، إذ وصل القحط المالي حدوداً قاسية، وأوشكت المنظمة على الانهيار.
وكانت هذه النقطة الحرجة هي ما تنتظره الدول العربية والأوروبية وإسرائيل لوضع المنظمة تحت سكين الاعتراف المباشر بكافة الأخطاء التي ارتكبت بحق إسرائيل، بدءا من تكوين التنظيمات المناهضة وليس انتهاء بالانتفاضة الأولى.
عاشت المنظمة فترة صعبة من العزل الديبلوماسي الذي فرضتها عليها الدول الأوروبية، كما مورس عليها الضغط الاقتصادي من قبل مصادر دعمها التقليدية وفي مقدمتها دول الخليج مما حدا بها إلى تغيير مواقفها السياسية كما قلنا.
وأخذت الضغوط على المنظمة تأخذ منحى يهدف إلى تصفيتها كلياً أو تحويلها إلى هيكل يوافق على كل ما يطلب منه. ولأن القيادة الفلسطينية لم تشأ أن تتخلى عن مسؤولياتها ومواقعها، فقد وافقت على الدخول في مفاوضات دعيت إليها.


8 - مفاوضات مدريد وأوسلو وقيام السلطة الفلسطينية
وجد الشعب الفلسطيني نفسه يدخل نفقاً لا يعرف إلى أين يصل به، ففي عواصم أوروبية متعددة تحدث اجتماعات ولقاءات، ويتسرب عبر وسائل الإعلام ما يشير إلى أن منظمة التحرير وقعت في فخّ الحلول السلمية التي كانت لا تخطر بتاتاً ببال المواطن الفلسطيني في أي من أماكن وجوده.
وما هي إلا فترة وجيزة حتى أعلن عن قيام مفاوضات عربية إسرائيلية، وأن المنظمة دخلت المفاوضات بوفد ملحق بالوفد الأردني وذلك في العاصمة الإسبانية مدريد.
ودارت الأحاديث عن تعثر في المفاوضات وخلافات عربية – عربية وانسحابات واشتراطات، غير أن الأمور تكشفت بعد ذلك عن جانب آخر في العملية السلمية كان يدور بموازاة مفاوضات مدريد.
كانت "أوسلو" العاصمة النرويجية هي بؤرة الحوار السياسي، وكان الطرف الفلسطيني، وتمثله منظمة التحرير الفلسطينية، جاهزاً للتوقيع على أي اتفاقية يتمّ إبرامها، فالوضع العام للمنظمة يشير إلى انهيارها، وخشبة الخلاص التي مدّت لهذا الغريق كانت بيد المنقذ الإسرائيلي، صاحب الاشتراطات التي لا تنتهي، والتي كلما حقق جزءا أنتج مطالب جديدة.. وهكذا.
واستمرت المفاوضات، كما استمرّ مسلسل التنازل الفلسطيني، وكانت قيادة السفينة الفلسطينية بيد ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، والذي كان في ذات الوقت رئيساً لحركة "فتح" والقائد الأعلى لقوات الثورة الفلسطينية، عدا عن العصب الرئيسي للمنظمة وهو الجانب المالي الذي كان بين يديه بكامله.
واتفق الطرفان الإسرائيلي والمنظمة على قيام السلطة الفلسطينية، على شكل كيان تديره المنظمة في غزة وأريحا، ويتمّ توسّعه عندما ترى إسرائيل نتائج المرحلة الأولى على الأرض(8).

أبعاد سياسة منظمة التحرير الفلسطينية في مسيرتها

1 - العلاقات الداخلية في المنظمة (البعد الفلسطيني)
حرصت المنظمة ومنذ بدء مسيرتها على تجميع القوى والشخصيات الفلسطينية في صعيد وحدة وطنية واحدة، وجرت محادثات مطولة واتصالات مكثفة لجعل الفلسطينيين أشيه ما يكونون بشعب واحد، ملتزم بقضيته الوطنية، وبذلت المنظمة وقيادتها على استبعاد كل ما يمكن أن يعمل على تشتيت الجهد الفلسطيني.
غير أن الواقع الفلسطيني لم يكن يقبل مثل هذه المحاولات الاندماجية، فالتيارات الفكرية، سواء الإسلامية أو القومية أو الماركسية كانت ترفض الرضوخ للإملاءات الوطنية التي كانت تحاول قيادة المنظمة فرضها، كما أن ارتباط الكثيرين من الشخصيات الفلسطينية سواء الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية بأنظمة أخرى جعل إحداث توافق فلسطيني عملاً شبه مستحيل.
ولم يحدث في التاريخ الفلسطيني أن أنجزت وحدة فكرية أو سياسية بين الشخصيات الفلسطينية، وبالتالي كان على المنظمة أن تعمل داخل كل هذه الخلافات المستعصية، مما أدى إلى نزاعات وصراعات أوصلت الفلسطينيين حدود الانشقاق على المنظمة نفسها، مما أعطى بعض الدول العربية مبررات للتدخل في الشؤون الفلسطينية، وفرض إملاءاتها على أطراف فلسطينية متعددة(9).
إضافة إلى هذا كله فإن قيادة المنظمة وجدت نفسها في مثل هذا الظرف، وتحت كل هذه الاختلافات مضطرة للتصرف بفردية مطبقة في الكثير من القرارات مستندة على تأييد الأعضاء الموالين في التنظيم أو التنظيمات الموالية.
ونتيجة لكل هذه التناقضات فقد حدثت نزاعات وصراعات حادة وانقسامات داخل البيت الفلسطيني وصلت حدود الاقتتال والتصفيات، وقد انعكس هذا كله على مسيرة الحلّ الفلسطيني، ولذا عندما جاءت مفاوضات أوسلو أحضرت معها حزمة من الصراعات لم تهدأ إلى الآن.

2 - علاقات المنظمة بالأنظمة العربية (البعد العربي)
منذ ظهرت القضية الفلسطينية على مسرح الأحداث، والفكر العربي يتراوح في النظر إليها بين أكثر من تصوّر، ويمكن تمييز ثلاثة مسارات رئيسية فيه:
الأول: التيار الديني، الذي يرى في القضية صراعاً بين الإسلام وأعدائه من الكفرة والصليبيين واليهود، وأن ما يجري ليس سوى امتداد للحروب الدينية السابقة ومنها الحروب الصليبية.
الثاني: التيار القومي، الذي يرى في إسرائيل شكلاً من أشكال الاستعمار الكولونيالي الاستيطاني، وأنها تمثل خطرا على فلسطين والأمة العربية، وأن حل المشكلة الفلسطينية متضمّن في الوحدة العربية، وأن اليهودية تختلف عن الصهيونية، وبالتالي فالمعركة هي مع الصهيونية لا مع اليهودية.
الثالث: التيار الماركسي (الأممي) الذي يرى في الصراع الإسرائيلي – العربي صراعاً للطبقات، وأن المشكلة يجب أن تحلّ من خلال صراع اقتصادي تقف فيه القوى الكادحة في مواجهة البرجوازية الاستعمارية التي تمثلها الطبقة البرجوازية الإسرائيلية.
وبعيداً عن هذه التيارات كانت الأنظمة العربية هي الأخرى ذات مواقف متباينة، ولكل نظام رؤيته لحلّ النزاع. فهناك دول تتبنى الفكر القومي تريد وضع القضية الفلسطينية في الإطار القومي، وتعمل على حلّ الصراع في ذلك الإطار، وبقيت تحاول إنجاز الوحدة العربية أولاً وصولاً لتحرير فلسطين، ولكن هزيمة حزيران التي أطاحت بالمشروع القومي جعل من الوحدة العربية حلماَ مستحيلاً، وبالتالي فتحرير فلسطين لم يعد في وارد تلك الأنظمة.
أما الأنظمة ذات الاتجاه الوطني القطري فلم تكن القضية الفلسطينية في وارد اهتماماتها إلا بالقدر الذي تشكل فيه هذه القضية طريقاً لمصلحة هذه الأنظمة، فإذا لم تكن كذلك فإن دخول القضية على جداول أعمال هذه الأنظمة ليس وارداً(10).
تبقى الأنظمة ذات الاتجاه الديني في ظاهره، لأنه ليس هناك من دولة تتبنى الدين كنظام حياة كاملاً، فقد كانت توجهها مرتبطاً بما تتضمنه مصالحها مع إبقاء خيط رفيع تحتمه طبيعة علاقة هذه الأنظمة بفلسطين كمنطقة تحتوي على مقدسات إسلامية.
وقد حاولت منظمة التحرير، بقيادة ياسر عرفات أن تنسج علاقات مع جميع تلك الأنظمة لأن القضية الفلسطينية كانت بحاجة لكل تعاون ممكن مع كل نظام، حتى لو كان يحسب مصلحته أولاً. ولأن المنظمة وليدة الجامعة العربية فإن دعمها مطلب عربي، ولأن فلسطين وطن إسلامي فإن دعمها من قبل القوى الإسلامية كان مطلباً، ولأن فلسطين مرتبطة جغرافياً وتاريخياً مع الكثير من الدول العربية فإن دعمها يصبح ضرورة.
من ناحية أخرى فإن ما تملكه المنظمة من قدرة عسكرية، كانت قادرة على إحداث أعمال شغب واضطرابات في أي دولة عربية تتوقف عن دعم المنظمة.
نسجت المنظمة علاقاتها من الأنظمة عبر توازنات دقيقة كانت تنجح أحياناً وتفشل في معظم الأحيان، فحدثت توافقات عالية مع الأنظمة المصرية والعراقية والسعودية والجزائرية والإماراتية، بينما وقعت في إشكاليات كبيرة مع الأنظمة السورية واللبنانية والكويتية والمغربية، وكانت مواقف المنظمة تقوم على تجميع أكبر قدر ممكن من التوافق مع أي نظام عربي، وتنظر المنظمة لمثل هذه العلاقات على أنها تصبّ، إن عاجلاً أو آجلاً في مصلحتها، خصوصاً من الناحية المالية. لذا كان البعد العربي مهماً، ويكفي تدليلاً على ذلك أن مفاوضات مدريد لم يكن مقدراً لها أن تكون لولا موافقة النظام الأردني على اعتبار الوفد الفلسطيني جزءا من الوفد الأردني، ولم يكن كذلك لمفاوضات أوسلو أن تكون لولا الموقف السوري الذي أصرّ على الحل العربي الكلي للقضية العربية، وليس القضية الفلسطينية فقط، ومن هنا كانت إدانة النظام المصري عندما انفرد بالحل عبر اتفاقيات كامب ديفيد(11).

3 - علاقات المنظمة بالدول غير العربية (البعد الدولي)
حاولت الجامعة العربية أن تضع منظمة التحرير الفلسطينية على خارطة القوى السياسية المعترف بها عالمياً، خصوصاً القيادة الناصرية، غير أن جهودها اصطدمت بالرفض الدولي الذي استمد موقفه من الهيمنة الأمريكية وإملاءاتها على بقية الدول. فقد كانت أمريكا ترى في أن العبور إلى مملكة الرضى الأمريكي لا بد وأن يبدأ بالجسر الإسرائيلي أولاً.
وبعد هزيمة حزيران وجدت الدول العربية فرصة مناسبة في الاتفاق المصري الإسرائيلي في كامب ديفيد لإقناع المنظمة بالسير في ذات الطريق للوصول إلى اعتراف العالم بها.
لكن العالم كان في واد آخر. كان يرى كل شيء بالعين الإسرائيلية، ويحكم على المواقف من خلال الرؤية الإسرائيلية، ويرفض ما ترفضه إسرائيل. وبعد جهود مضنية بذلتها الدول العربية الحليفة لأمريكا وافقت المنظمة على القبول العلني بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل هدفها الأول اعتراف المنظمة بإسرائيل وإدانتها للعنف والإرهاب الذي كانت تمارسه، مقابل أن يسمح للمنظمة بالحصول على مقعد مراقب في الأمم المتحدة ويسمح لياسر عرفات بإلقاء خطاب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت مرحلة جديدة في تاريخ المنظمة، حيث اعترف العديد من الدول بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والناطق الرسمي باسم كافة الفلسطينيين والمفاوض الدائم في كل اتفاقيات تعقد بين الفلسطينيين وأي طرف آخر. وافتتحت قنصليات فلسطينية في مختلف دول العالم المعترف بفلسطين كقضية في طريقها للحل(12).
لكن هذا لم يكن يقدّم للمنظمة شيئاً كثيراً، لأن العالم كله، والغربي بشكل خاص، والولايات المتحدة على وجه التحديد لا ترى في المنظمة كياناً ذا قيمة سياسية حتى لو تمّ الاعتراف به رسمياً ما دام بدون مقعد في الأمم المتحدة.

ماذا بقي من منظمة التحرير الفلسطينية؟
وما المدى الذي بلغه انحدارها بعد كل التضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني؟

هل كان توجه المنظمة للعمل السياسي هو بداية الطريق لانهيارها؟ أم أن المنظمة وجدت أصلاً لتخرج بالانفعال الفلسطيني من طور التعبير بالعنف إلى طور الاستسلام لمقدرات الترتيبات العربية والدولية لشؤون قضيته؟
هل كان في خلد عبد الناصر وهو ينشئ منظمة التحرير أن يقيم كياناً سياسياً يقبل بتصفية
قضية فلسطين في الوقت الذي كان فيه يبحث عن دعائم للمشروع القومي الوحدوي العربي؟
أم أن الظروف الدولية وضعت الكيانات العربية المختلفة، ومنها الكيان الفلسطيني غير المكتمل، في حالة من التراجع الكلي، لم يعد ينفع معها أي حلم قومي، فكيف يمكن القبول بمشروع قومي يتخذ من قضية فلسطين صهوة يعتليها ويشاغب بها على مصالح العالم الغربي التي مرت عقود متطاولة حتى أرسيت واستقرّت؟
من المسؤول المباشر أو غير المباشر عن الحالة التي أحدثت التحوّل في الفكر السياسي الفلسطيني، فأخرجته من الاستماع إلى صوت الرصاص وتحقيق الأهداف الآنية السريعة، إلى الصمت المطبق استماعاً لوشوشات السياسيين العرب والغربيين، الذين كان هدفهم الرئيس إبعاد أي خطر يمكن أن يشكله وجود كيان فلسطيني؟
إذا كان الكلام حول المشاريع السياسية كان قد بدأ في مرحلة مبكرة من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، فإن هناك سؤالاً كبيراً سوف يطرح نفسه، أو تطرحه الذاكرة العربية أو الفلسطينية يدور حول إنشاء المنظمة وأهداف القائمين على عملية الإنشاء.
أما إذا كان الحديث عن المشاريع السياسية قد ظهر على سطح الحوار الفلسطيني/ الفلسطيني داخل أروقة المنظمة وبين زعمائها منذ طرح النقاط العشرة، فإن المسؤول آنذاك لن يكون المؤسسون الأوائل للمنظمة، بل هناك مسؤولون عرب أو فلسطينيون، كانوا معنيين بإيصال الحالة الفلسطينية إلى مرحلة العدم، أو على الأقل الندم على مجرد التفكير بأن هناك حلاً للقضية الفلسطينية يمكنه الخروج من دائرة القرار الأمريكي المهيمن؟
وبالإجابة على هذه الأسئلة نكون قد وضعنا يدنا على سؤال البحث، وإجابته في نفس الوقت.

إن معطيات الحراك السياسي منذ تأسيس المنظمة يشير إلى النقاط التالية:

أولاً:
لم يكن لدى العرب أي تصوّر عن كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية. وبالرغم من أن الفلسطينيين أبدوا قدراً عالياً من المسؤولية تجاه البعد القومي لقضيتهم، والتزموا بقوّة بالتوجهات القومية لأكثر من مبرر وسبب، إلا أنهم غفلوا عن أن البعد القومي آنذاك لم يكن سوى الغطاء الشرعي للإقليميات العربية التي وضعت أسسها إبان مرحلة الاستعمار، وأنه لم يكن في وارد أحد، ولا في قدرته لو أراد، أن يلغي المشروع الاستعماري بتجزئة الأقطار العربية، وتحويلها إلى كيانات تابعة.

ثانياً:
لم يكن في وعي الفلسطينيين أن يكون تنفيذ وعد بلفور معتمداً على الدعم العربي والمشاركة العربية بكل هذا الحجم، ولم يكن يخطر ببالهم أن ما كانوا يعملون لأجله ليس سوى رصاصة الرحمة التي ستطلق على رأس قضيتهم الوطنية، وأن البندقية التي ستطلق الرصاصة ليست سوى بندقية عربية، وإن كتب عليها اسم غير عربي. ولم يخطر لهم ببال أن ما سيحدث لقضيتهم لن يحدث دفعة واحدة، وإنما سيشربون الحل جرعة وراء جرعة.

ثالثاً:
كان تأسيس المنظمة نزوعاً إقليمياً وقطرياً بامتياز، رغم أنه غلّف بغلاف محكم من القومية، ووضع في أدراج القرار القومي، وأنه لم يكن سوى ورقة يستلّها المستفيدون من وجودها، سواء كانوا قطريين أو قوميين أو إسلاميين أو حتى ماركسيين.

رابعاً:
لم يكن غائباً عن أبناء الشعب الفلسطيني أن قيادتهم لم تكن تختلف في جوهرها عن أي قيادة عربية، لا من حيث تغليب مصالحها على المصالح العامة للشعب، ولا من حيث رغبتها الدائمة في إحراز المزيد من المكاسب الآنية وتحقيق إنجازات وهمية تخدع بها جماهيرها، غير أن هذا الشعب لم يكن يملك خياراً آخر، لأن التكوين الفكري والنفسي للشعوب العربية لا تختلف في إفرازها لقياداتها، وأن أي مواطن عربي ليس سوى ديكتاتور صغير في موقعه.

خامساً:
أن القضية الفلسطينية وجدت أوجها وارتفاع شأنها في الوقت الذي ارتفع فيه الشأن القومي، وكان التيار القومي ملء سمع العالم وبصره. لذا فإن اندماجها في المدّ القومي كان استجابة طبيعية للمرحلة، غير أن دخولها في قلب الصراعات العربية، وانحيازها لبعض الأطراف العربية ضد الأطراف الأخرى، جعل منها خصماً، وتركها تراهن على حصان يبدو رابحاً، في الوقت الذي كان فيه هذا الحصان يتطلع في اتجاهات أخرى ومضامير متعددة بددت جهوده واستنزفت طاقاته، فوقع في ساعة كان لا بدّ أن يقع فيها، وسحب معه في سقطته كل الذين راهنوا عليه.

سادساً:
انعكس الانقسام العربي إلى عديد من الاتجاهات الفكرية والسياسية، بشكل أو بآخر، على تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، فحملت التشكيلة الأولى للمنظمة كافة تناقضات السياسة والفكر العربيين، وجرّ كل سياسي فلسطيني معه متاعب النظام الذي يواليه، فالقادمون من ساحة الأردن قدموا ومعهم النظام الملكي ومتطلباته من فلسطين، والقادمون من الساحة السورية قدموا ومعهم اشتراطات النظام السوري البعثي، أما القادمون من بلاد النفط المختلفة فقد وصلوا المنظمة على أجنحة الترف النفطي ورغباته، وما أن اجتمعوا حتى أفرغ كل واحد منهم حمله في طبق المنظمة، مما أنتج "طبخة" عربية المكوّنات، فلسطينية الطباخين، أوروبية الرائحة، أمريكية الطعم، وربما إسرائيلية الإشراف، لذا فإن البحث عن إعادة دمج هذه المكوّنات ستبوء بالتأكيد بالفشل الذريع، وطلب نمط جديد من الإنتاج السياسي يوصل ‘لى تحقيق الحرية أو التحرير لفلسطين هو من باب المستحيل غير منطقي التحقق.

سابعاً:
كان دخول الفصائل الفلسطينية المسلحة في منظمة التحرير، ومن ثمّ استيلاؤها على مواردها ومكوناتها وقراراتها السياسية والعسكرية محاولة لتغيير اتجاهها نحو شواطئ لم تتمأسس لأجلها، ويبدو أن تصرف القيادات الفصائلية في تحرك المنظمة زادها انحشاراً في زاوية القدرة العربية على حصارها والتحكم فيها بدل أن يكون الأمر هو العكس.
لقد خاطب الفكر السياسي الفلسطيني العالم بلغتين بينهما من التناقض أكبر مما بينهما من الاتفاق، وهما لغة السياسة ولغة السلاح، فظل المتحاورون في الشأن السياسي يخافون النزعة العسكرية، في حين ظل المخاطبون بلغة السلاح يتوقعون التخلي عنه لصالح اللغة الأخرى، ولم تتمكن منظمة التحرير من اجتراح لغة تحاورية أو تفاوضية كتلك التي اجترحها الفيتناميون في مفاوضاتهم مع المحتل الأمريكي، واستطاعوا بواسطتها من تحقيق مكاسب لم يكونوا بقادرين على تحقيقها لو اختل توازن العلاقة بين اللغتين.

ثامناً:
لقد رفعت المنظمة شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، لكنها لم تلتزم به في أي حالة من الحالات، إذ كان مطلوباً منها أن تبيّن رأيها فيما يجري، وتتخذ موقفاً، وبالتالي فرض عليها الاصطفاف مع أي من الأطراف العربية المتنازعة. وقد أدى هذا إلى تأييدها قطراً عربياً ما ضد آخر، مما عنى معاداة لهذا القطر على حساب ذاك. وحسب مقولة أحد المفكرين السياسيين بأن مساعي المنظمة لإيجاد هامش استقلالي عبر ممر التناقضات العربية الرسمية لم يكن سوى تعبير عن شرط الفناء الاستراتيجي العربي الذي تقيم فيه ومن افتقادها إقليمها الخاص.

تاسعاً:
عندما تقزّم الهدف العربي بعد هزيمة حزيران إلى "إزالة آثار العدوان" وجدت المنظمة نفسها في مأزق وجودي، فظهر تناقض جوهري بين المنظمة ومنظومة الدول العربية، ولم يخفت هذا التناقض إلا بعد حرب تشرين 1971، حيث تحركت القضية العربية في اتجاه الاعتراف العربي بإسرائيل، مما وسّع الفجوة بين الاتجاهين، دفعت المنظمة، بصفتها الطرف الأضعف، الثمن الأكبر. وكان هذا مأزقها الأخير، الذي انهارت بعده رزمة الثوابت الفلسطينية الوطنية، وبقية الثوابت القومية العربية.

خاتمة

ما الذي جنته القضية الفلسطينية من تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية؟
هل يعتبر هذا سؤالاً مشروعاً بعد كل تلك المسيرة التي قطعتها المنظمة، وقطعها معها الشعب الفلسطيني الذي لم يبخل بأية تضحيات، ولم يرفض، تحت أي ضغوط، أن يتنكر لقراره التاريخي بالاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً له؟
ليس من العدل أن نحاكم المنظمة على ضوء ما وصلت إليه أحوالها هذه الأيام، لأن عملية تهميشها لإخراجها من دائرة الفعل السياسي في الساحة الفلسطينية كان هدف الجميع بمن فيهم تلك الفصائل التي تشكلت منها تركيبة المنظمة. كما أنه ليس من العدل أن نحمّل المنظمة مسؤولية الأخطاء المتراكمة التي ارتكبتها قياداتها المتتابعة، وأوصلتها إلى ما عليه الآن.
غير أنه من المهمات الرئيسية للباحث الفلسطيني بشكل خاص، والباحث العربي بشكل عام، أن يقوم بتقييم التجربة، ووضع المسيرة تحت مجهر النقد والتشريح، وبدون ذلك لا يمكننا تصحيح ما تراكم من أخطاء أثقلت كاهل الفلسطينيين، ولا يزال البعض مثقل الكاهل بذلك.
لقد نشأت المنظمة ككيان سياسي عربي، حققت من خلاله بعض الأنظمة العربية العديد من المصالح، وتحولت فيما بعد إلى كيان قطري بلا مكان أو زمان، وتركت وحيدة في ميدان الصراع، بل ودفعت دفعاً لإلغاء كافة الاشتراطات التي وضعتها في مواثيقها الأولى.
وحين تتابعت الهزائم حملت المنظمة، والشعب الفلسطيني معها، مسؤولية ما حدث، ودفعت والشعب معها أفدح الأثمان وأبهظها، وحين حانت ساعة الحساب، كانت الوحيدة التي جلست على كرسيّ الاتهام، وأكيلت لها التهم من كافة الأطراف التي صنعت الهزائم بشكل مباشر وفاعل، وربما متعمد كذلك.
ولكن هذا لا يعفي المنظمة وقياداتها من المسؤولية، فقد ارتكبت تلك القيادات الكثير من الأخطاء، وأدخلت شعبها في متاهات المواقف الخاطئة، التي كان من أبرزها خروجها الأول على خطها السايسي القومي العربي، وكان الثاني تحوّلها من هذا الخط إلى خط لغة السلاح اعتماداً على قدرات ذاتية، ووعود لم يكن يتحقق منها إلا القليل.
أما على صعيد ممارسات القيادة وأخطائها، فقد كتب في هذا الكثير الذي لا داعي للحديث عنه هنا.
الهوامش
(1) وقد ذكر إميل توما أن فكرة إنشاء دولة فلسطينية جاءت على شكل خبر أوردته جريدة «الجريدة» اللبنانية في آب 1959، يقول بأن الجمهورية العربية المتحدة تتباحث مع المملكة السعودية حول مشروع إقامة دولة فلسطينية في المنفى بقيادة أحمد الشقيري، وبعدها أعلن الرئيس العراقي آنذاك عبد الكريم قاسم اقتراحه بتشكيل حكومة فلسطينية حالاً في كانون أول 1959، انظر: إميل توما، منظمة التحرير الفلسطينية، من إصدارات الحزب الشيوعي الإسرائيلي، حيفا: دار الاتحاد للطباعة والنشر، 1986، ص 104
(2) إميل توما، المصدر السابق، ص 117
(3) لمزيد من التفاصيل راجع كتاب إميل توما سالف الذكر الصفحات 120 - 128
(4) إميل توما، مصدر سابق، ص 125 - 128
(5) لمزيد من التفاصيل حول الصراع في تلك الفترة، انظر: صلاح خلف، فلسطيني بلا هوية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1980
(6) انظر: فيصل حوراني، «نشأة الحركة الوطنية الفلسطينية وتطورها حتى نهاية القرن العشرين» في الندوة الفكرية السياسية: خبرات الحركة السياسية الفلسطينية في القرن العشرين، ناهض زقوت (محرر)، غزة: المركز القومي للدراسات والتوثيق، 2000 (22 - 51)، ص52
(7) انظر: محمود اسماعيل، «جبهة التحرير العربية»، في المصدر السابق، (579 - 594)، ص592
(8) لمعرفة تفاصيل مجريات الاتفاق انظر: عمر مصالحة، السلام الموعود: الفلسطينيون من النزاع إلى التسوية، بيروت: دار الساقي، 1994 وكذلك انظر: مفاوضات أوسلو: الرواية الفلسطينية الكاملة، أحمد قريع، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006
(9) انظر: فيصل حوراني، مصدر سابق، ص 38 - 42
(10) انظر: سميح شبيب، منظمةالتحرير الفلسطينية وتفاعلاتها في البيئة الرسمية العربية 1982 - 1978، نيقوسيا: دار شرق برس، 1988
(11) انظر: ماهر الشريف، اتجاهات اتلفريط في الساحة الفلسطينية:منطلقاته ومفاهيمه وخلفيات مواقفه، رام الله: دار الكاتب، د.ت
(12) لمزيد من معرفة مواقف الدول الأوروبية انظر: بشارة خضر، أوروبا وفلسطين من الحروب الصليبية حتى اليوم، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2003



#مروان_العلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فيديو يُظهر ومضات في سماء أصفهان بالقرب من الموقع الذي ضربت ...
- شاهد كيف علق وزير خارجية أمريكا على الهجوم الإسرائيلي داخل إ ...
- شرطة باريس: رجل يحمل قنبلة يدوية أو سترة ناسفة يدخل القنصلية ...
- وزراء خارجية G7 يزعمون بعدم تورط أوكرانيا في هجوم كروكوس الإ ...
- بركان إندونيسيا يتسبب بحمم ملتهبة وصواعق برد وإجلاء السكان
- تاركًا خلفه القصور الملكية .. الأمير هاري أصبح الآن رسميًا م ...
- دراسة حديثة: لون العينين يكشف خفايا من شخصية الإنسان!
- مجموعة السبع تعارض-عملية عسكرية واسعة النطاق- في رفح
- روسيا.. ابتكار طلاء مقاوم للكائنات البحرية على جسم السفينة
- الولايات المتحدة.. استنساخ حيوانين مهددين بالانقراض باستخدام ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - مروان العلان - منظمة التحرير الفلسطينية: من الكفاح المسلح إلى المفاوضات