أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق الطوزي - عيون وقحة















المزيد.....

عيون وقحة


طارق الطوزي

الحوار المتمدن-العدد: 2467 - 2008 / 11 / 16 - 06:41
المحور: الادب والفن
    


تتنافر الأصوات و تتباعد في خشونة، تلين في سكون، و تهتز بلا مبالاة، تزعق، تصرخ، تنادي استغاثة نشوة اللّذة، تتمازج و رعبي. صمت. سكون. بناء قديم يسمع منه صرير خفيف. بكاء، نواح؛ قتيل آخر على الأرض القفرة. حشرجة نهاية الأفول ...

أفاق من غفوته غارقا في عرقه، متيبس الجسد، مختنق الصوت، ولم يقو على الحركة. كان ثقل رهيب يقع عليه، يشلّ حركته، يلزمه قسرا الفراش. تململ يريد القيام غير أنّه تهالك بعجز. خيّل إليه أنه يداخله هواء فاسد قذر. لهاث شديد، كان كمن يستشعر طيفا خبيثا اخترق جسده حتّى أنهكه، يعتصر أطرافه، يسلبها النبض الحي؛ إنّه ينوء تحت عبء موت ما.

في سكون ممتدّ إلى اللانهاية، بدت نفسه تتقبل الحضور في أرض المسجد. بدا البياض في نظره هنا الصورة الأكثر اكتمالا، اللون الوحيد المنسجم مع الانعدام و المستحيل، أما تشكل البروز الهندسي في هذا الفضاء فيغيب في زمن مطلق كلّي؛ زمن اللّه.
نزع حذاءه، ووضعه بعناية، ليلتمس طريقه حافيا على الحصير بلا توازن و لا شعور إلى مرمى المكان الذي تخيّره.
صلّى تحيّة المسجد، و انطلق إلى حلقة الدرس، حيث تحيط فئة برئيّ عالم في دقائق معرفة فضاء هذا المكان، جلس متربعا يتابع تلك الكلمات المستغلقة المنتقاة بعناية روح قديمة تمتعت بخصال سؤال أرهقه الضياع.
كان شيخ يناهز الخمسين، قصير القامة، ممتلئ الجسد، دائري الوجه، ملتح، تبدو على هيأته وقّار الخفاء. يتحدث بصوت دافئ قائلا: " الملائكة خلق لطيف نوراني، تسبّح بحمد ربّها صبحا و عشيّا، من صفتها أن لها أجنحة مثنى و ثلاث و رباع، تتشكل على أشكال مختلفة؛ كهيأة الرجال، أو هيأة الثيران، أو هيأة النسور ... كما أنّ لها مراتب؛ كالحفظة، و الحملة. و سادة الملائكة؛ يلقبون بالكروبيين... "
فقاطعت كلامه؛ لأسأله باهتمام : " و هل هي تراقبنا يا شيخ؟ "
فأجابني بثقة : " نعم، بعضها حيثما نكون تكون؛ يحجبها عنّا ستار الغيب، و خصصنا بملاك اليمين يسجل بدفتره خيرنا، و ملاك اليسار يسجل سوءتنا؛ تشهد يوم القيامة على أفعالنا. "
- و لكن أليس اللّه بعالم؟
- نعم
- فلم الحاجة إلى رقابة الملائكة ؟!
حدّق فيّ الشيخ بغيظ، و قال بحنق : " العياذ باللّه من الشيطان الرجيم! "

عيون بصفتها الغيبيّة النكرة، ترمقني، تتابع حركتي. تراقبني مليّا حتّى في فعلي الخاص و الحميم. أليس هذا مقزز؟! إنّها تحمل عيونا زيتونيّة نورانيّة، تلتهم بنظرة حانقة جسدي، أطرافي. أبقى لساعات أتصوّر فعلها المراقب؛ في سخريتها، و عبثها الماجن، في احتقارها الملعون لانحناءات جسدي المشوّه. إنّي المراقب دوما، إنّي المعذب، في حرقة يأس من فرقة هذه العيون التي تراني بكلّ وقاحة!

أتهالك على الأرض، تتخاذل قوّتي، أستشعر العالم حولي من عمق الغفوة، و يلتحم جسدي بالتراب، أعفر. أسمع نقرات مضطربة على صخرة عجوز، صوت تكسر الموج على شاطئ مهجور. سعال. كلمات بذيئة تؤذيني. فعلا تلك الرحلة فاضحة ...

فتحت الكتاب، تأملت خطوطه المنتظمة دون أن أميز الحروف، تتبعت بدايتها و نهايتها، أغلقته، و ألقيته تحت الفراش، أصدر صوتا كتوما مختنقا. الجدار القبلي يؤرقني، يفزعني، طفقت ألعنه، أسبّه. أجهش بالبكاء. أستلقي في حوض الحمّام؛ ماء بارد، أرتجف، أجري عاريا، أقفز، أتمدد على الفراش، أتأمل السقف، أضحك بشدّة، أبتسم. أتذكر وسط رجفتي بيتين من الشعر لأبي العلاء المعرّي، أتلفظه بصوت صاخب :
ضحكنا، و كـان الضحك منّـا سفــاهة، وحقّ لسكّـان البسيطة أن يبكـوا
يحطّمنا ريب الزّمـــــــــان،كأنّنا زجــاج، و لكن لا يعاد له سبك
أبكي ...


*********

هبوب صاعق فوق رأسي؛ ملاك قد أضاع السبيل!
ملاك بثلاث أجنحة يطير في استسلام، بدا جزعه من الخلاء القاتم، تحوّل في لحظة خاطفة إلى اشكال متنافرة تحمل أثر اضطراب رعب، خبل من الحركة المتشنجة، توق لانفلات من اللاشيء، عنف وقع على الأرض، تهالك صاخب، و صمت طويل ...
حركة شاحبة تحاول أن تكون، تتبعت انطلاقتها؛ كان الملاك يئنّ من وقع الضياع، لم أكن أراه و لكن توقعت صوته ...

الغرفة بأبعادها تسرع في دورانها بتهوّر. تشمئزّ نفسي الجلوس في ركني هذا كعادتي وحيدا، إلّا من اختناق الصور في فكري. أهمّ بالفرار من حالتي؛ بانفجار عصبي من أطرافي كمن ينفظ عنه شيئا قاتلا؛ أعتصر نفسي، أتقلب على الأرض، لكن لا راحة، فقط شعور بندبة عار تخترقني، بضيق سوداويّ يضغط على صدري؛ كان شيئا ما يموت فيّ بتأنّ رهيب.

- أتحمل ثقل الفضاء المتخفي، و أقنع بدور العجز.
- ليس عليك أن تتحمل ذلك.
- و لكن عنائي يقنعني.
- تمرّد!
- أتسخر منّي؟!
- لما ؟
- كيف لكائن بصفاتي القاصرة، أن يتمرّد على غيب يتستر بمدى هائل؟
- و لكنّ كائنك هو الذي أيقن الغيب!
- ما الذي تعنيه ؟
- الذي أعنيه أن الإنسان متمرد قاس، لا يجبن عن ترهات.
- و أي ترهات تعني ؟
- أعني تلك التي تجعلني ملاكا بثلاث أجنحة، أقع من سمائي.
- كفى هذرا.
- سأصمت الحين، و لكن تأكد أن تتيقن مرّة أخرى من يساير تهافتك إلى جحيمك.

عزلة في قاع تغرب عن العيش، الصور تتلاشى بغموض، عين ثابتة على جسدي، ترصد حركتي، تحمل عذاب ألم، و تتوقع فناء.
- هل لي بسؤال ؟
- نعم
- هل تموت الملائكة ؟!

تتوقف إبرة ساعتي عن الحركة. أغلي القليل من الماء، أمزج معها القهوة و السكر، ألامس بلساني حرارتها، أبزق في الحوض، أنفر عن كأسي، أجلس على كرسيّ، أتأمل من خلال نافذتي مشهدا حجريا بلا حياة. أقف. أتجه إلى مكتبتي، أتطلع إلى العناوين من خلال الأغلفة، لكنّي لا أشعر بحماس للقراءة. أعود إلى فراشي، أستلقي، أنظر إلى السقف في شرود. يهتزّ البناء، يتهاوى، كانت تلك الصخرة الكبيرة سبب موتي ...

- حدثني أيّها الملاك، كيف يمكن لي أن أكشف حجب عالمكم ؟
انبرت ضحكة ساخرة من خلف الستار اللعين، و قال بنبرة متهكمة: " لن تدرك المعاني إن لم تجرّب فقدانها. "
أجبت بضيق : " كلامك غامض لا يدلّ على طريق. "
ردّ بنفس تلك النبرة المتهكمة: " غموضي دليل معنا واحدا أنّك غبيّ. "

*********

تناول الحبل بأصابعه، كانت رعشة حماسة خفيفة تسري في جسده فيلتذ لوقعها، جالت عيناه في الغرفة باحثة أين عساه يتدلّى بهذا الحبل؟ أخذ كرسيّ، و صعد عليه، لم يصل إلى السقف، وضع الطاولة تحت الكرسي، و نزع الثريّا؛ لكي يصل إلى الحديد المقوس مرتكزها، ربط الحبل فيه. أخلى المكان إلّا من كرسيّ، صعد عليه، و عقد الحبل حول عنقه. لكنّ العجز يدبّ في أعماقه؛ فربما لم يحن الوقت للموت.
الواقع أنّ رغبة ما تسيطر عليه بعنف؛ تريده حيّا ينعم بخصال فاضحة لكون الغرباء هذا ...



#طارق_الطوزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عجوز الستوت
- الكأس و المعاد
- الرحيق المختوم


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق الطوزي - عيون وقحة