أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد حسين الرفاعي - من أين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها؟















المزيد.....



من أين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها؟


محمد حسين الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 2463 - 2008 / 11 / 12 - 04:27
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


تواصل مجلة قضايا اسلامية معاصرة تناول الاشكاليات البالغة التعقيد، وتخوض عذابات الاسئلة الشائكة عبر اصدار عددها الجديد (العدد37-38/ صيف وخريف 2008 ـ 1429 السنة الثانية عشرة)الذي يستمر فيه سؤالها (من أين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها؟) والذي شارك فيه نخبة من الباحثين العرب وغيرهم.
فقد استهل المجلة مصطفى ملكيان بكلمة تحرير قارن فيها بين عنف الحب وعنف الكراهية، واشار الى انه ربما يبدو ان ليس للحب أية صلة بالعنف، لكن الإحسان للآخرين يستدعي الصبر على هذا العنف. ومقابل عنف الحب هناك عنف الكراهية. ويستمر بقوله: وإذا كان عنف الحب منصباً على الإنسان نفسه، فإن عنف الكراهية يستهدف »الآخر«. إن العاشق يطلب المتاعب والصعاب لنفسه. اذا العنف المطلوب للذات والناجم عن مودة فائقة للآخرين هو ما نسميه »عنف الحب« ويعني هنا أن أنحر كل ملذاتي وطيّباتي في مسلخ حبي للآخرين، وتكررت في الأوبانيشادات عبارة: »مرونة الحب العنيفة، ولكن المداوية«. ويلاحظ تعبير »عنف الحب« في نتاجات الرومي أيضاً:
الحب كان متمرداً دموياً منذ البدايـة لينفرَ من الميدان كلُّ من كان أجنبياً دخيلاً
ويقول حافظ الشيرازي:
ربيب النعمة والرفاهية لا يبلغ المحبوب الحب درب الشطار المُمتَحَنين بالبليـّات
»عنف الحب« بهذا المعنى شرط لازم لا مندوحة منه لحياة يراد لها أن تكون إنسانية. وبالطبع فإن لهذا العنف نتائجه المترتبة عليه. النتيجة المترتبة على هذا العنف هي أنه يحوّل الإنسان ـــ من الداخل ـــ إنساناً آخر بشكل تدريجي، وشيئاً فشيئاً يتحول المجتمع أيضاً إلى مجتمع بهيج يعمه الفرح والسرور. عنف الحب الذي يعني غض الطرف عن الطيبات والملذات يشمل مساحةً واسعةً، باعتبار أن طيباتنا وملذاتنا متنوعة وكثيرة وواسعة النطاق. لنا طيباتنا الجسمية لأن لنا أجساماً. ولنا طيباتنا الذهنية لأن لنا أذهاناً. ولنا طيباتنا المعرفية لأن لنا معارفنا. ولنا لذائذنا الشعورية والعاطفية لأن لنا - كبشر- مشاعر وعواطف. وهناك أيضاً طيباتنا الحاجية والإرادية لأن لنا حاجاتنا وإرادتنا ومطاليبنا، وبالتالي هناك طيباتنا الاجتماعية باعتبارنا بشراً نعيش داخل نطاق المجتمع. إذا تدبرنا سعة وعمقَ هذه الطيبات البشرية، سنعرف كم هي عصيبة وقاصمة تلك التضحيات التي نصرف فيها النظر عن ملذاتنا وطيباتنا ونفائسنا.
إن عنف الكراهية هو العنف الذي كان عنف كراهية منذ البداية، والعنف الذي كان عنف حب في بدايته لكنه انقلب بعد ذلك إلى عنف كراهية وهو يتناقض ومبادئ »الحرية« و»العدالة« على السواء. بتعبير آخر: عنف الكراهية سواء كان من النوع الأول أو الثاني له تبعات واستحقاقات هدامة، لكن تبعات عنف الكراهية من النوع الثاني أشد فتكاً وتخريباً. ففي النوع الأول من عنف الكراهية قد نستطيع بطريقة من الطرق صد الطرف المقابل عن العنف، وذلك حين نتمكن من الانتصار عليه وقهره. هتلر مثلاً حين يكون في السجن لا تفارقه طباعه الهتلرية، لكنه لا يستطيع ممارسة العنف لأنه عديم الحول والقوة. وصدام في السجن هو نفسه صدام السابق لكنه عاجز عن ممارسة العنف. إذن، ثمة سبيل لصد الطرف المقابل عن العنف. ولكن في عنف الكراهية من النوع الثاني، حيث أن كراهية الشخص العنيف وليدة الحب، قد يكون مؤمناً بالطريق الذي ينتهجه، لذلك ربما بقي مصراً على مواقفه إلى آخر المطاف. بكلمة ثانية: في النوع الثاني نحن أمام حالة داخلية، وفصل هذه الحالة الداخلية عن صاحبها العنيف أصعب بكثير من عملية تقييد ذلك الشخص خارجياً وحرمانه من الإمكانات والأدوات التي تساعده على مزاولة العنف. تعارض عنف الكراهية مع الحرية أمر جلي وبيّنٌ للغاية. فكل إنسان بحكم بنيته النفسية ينشد عدم تقييد حريته دون تبرير مقنع. الإنسان ينشد عدم تقييد حريته وعدم تهديد حريته. أي من هاتين الحالتين لا تنسجم مع بنيتنا النفسية نحن البشر. وعلى حد تعبير أشخاص مثل جون استيورات ميل: نحن نرضى بالحرية »رضاً من الدرجة الأولى«، وإذا رضينا في موقف من المواقف بتقييد حريتنا سيكون رضانا هذا »رضاً من الدرجة الثانية«. وبالتالي فإن بنيتنا النفسية بنية نفسية تائقة إلى الحرية. وفي ضوء ذلك، إذا مارس شخص العنف ضدي وجرّني ذات اليمين وذات الشمال بذريعة المصلحة، يكون في الحقيقة قد قيّد حريتي.
وفي باب حوارات أجرى رئيس التحرير الدكتور عبد الجبار الرفاعي حوارا مع " الدكتور برهان غليون" عنوانه: "حيث تنحسر الثقافة ينفجر العنف" أوضح فيه أن العنف هو جزء من الطبيعة. الطبيعة عنيفة، والطبيعة قائمة على العنف، والحياة قائمة على العنف، وقانون الطبيعة هو قانون العنف، أي قانون البقاء للأقوى, الذي يعني أن الكبير يأكل الصغير, والحيوان الأشرس يأكل الحيوان الأضعف. هذه سنة الطبيعة. ولم يتحول الانسان الى انسان الاّ لأنه أبدع, يعني اخترع معايير وقيما ومفاهيم, وطور عواطف وأذواقا وحساسيات, أي اخترع ثقافة تمكنه من الارتفاع على شرطه الحيواني. بالثقافة والتثقيف والتأهيل انتقل الانسان من حالته الطبيعية الحيوانية الى حالته الانسانية - والأنسنة آتية من هنا، من الانسان, من الأنس والألفة والتعاطف والتقارب- فبالثقافة أصبح الإنسان أليفا وأنيسا، أصبح أقل توحشا, قابلا للتفاهم مع الآخر على أسس غير أسس العنف. العنف هو الشيء الطبيعي وليس الاستثنائي. وكل الحضارة الانسانية, وكل الثقافة في كل المجتمعات هدفها ان تضبط هذا العنف عند الانسان, ان تصعد هذا العنف الفطري، بمعنى الطبيعي، الكامن في كل حياة - أو حيوان - وان تتسامى به، حتى تمهد التربة لنشوء وتطوير علاقات ألفة, مودة, تفاهم, تواصل, تفاعل بين الافراد. فالإنسان لا يولد إنسانا, وإنما يؤنسن بالثقافة, بالتربية, والفكرة الصائبة, والكلمة الطيبة, والعاطفة النبيلة التي تعنى بتهذيبها آداب الشعوب وفنونها. بالتأكيد لا يزول العنف كليا في المجتمعات، وإلا فقدت أحد محركاتها الرئيسية. لكن الثقافة التي تعلم الألفة والمودة والتواصل والحب والفهم، تحول العنف أيضا إلى عنف رمزي، يمكن استبطانه وتذكره وتخيله، وبالتالي التعامل معه كعامل من عوامل الضبط الاجتماعي. هكذا تحل العقوبات الرمزية محل العقوبات المادية. كما أن تقنين استخدام العنف، أي إخضاعه إلى قواعد وأصول إجرائية وشروط، هو ايضا جزء من ضبط استخدام العنف, وتعبير عن نجاح الثقافة في تحقيق مهامها، والارتفاع بالانسان عن شرط الحيوانية الطبيعية. الآن، عندما يعود العنف فيتفجر في مجتمع من المجتمعات, فهذا يدل على أن نظام الثقافة، أي نظام الأنسنة والتأهيل الانساني، لا يعمل كما ينبغي، أو أنه يعاني من عطب ما. وينطبق هذا على المجتمع الواحد, كما ينطبق على الثقافة التي تؤلف بين المجتمعات الانسانية على مستوى نظام العلاقات الدولية. يتفجر العنف داخل المجتمعات, لأن نظام التأهيل الثقافي والتربوي والاجتماعي - بناء ثقافة التواصل والتفاهم والتفاعل والألفة، نظام المعرفة والتفاهم، تطبيق القانون, تنظيم العلاقات بين مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية, إنتاج الحياة المادية للبشر- تعرض لصدمة وأصابه الخلل, فلم يعد قادرا على ضبط القوة العنفية الكامنة في الحيوان الطبيعي الذي هو الانسان, والتأثير ايجابيا عليها.
ولا يختلف الأمر عن ذلك عندما يتفجر العنف على صعيد العلاقات بين المجتمعات. فهو يعبر هنا أيضا عن عطب في اشتغال نظام القيم الجامعة الحضارية، أو الثقافة العالمية، ومنها ما نسميه اليوم القانون الدولي الذي يضبط العلاقات بين الدول، وذلك إما بسبب سوء استخدام القانون, أو بسبب استخدام قوانين مزدوجة في التعامل مع الظواهر ذاتها والكيل بمكيالين، حسب ما يفيد الطرف الأقوى, ويزيد من حجم مصالحه على حساب الأطراف الأضعف.
وفي باب (دراسات) إستلهت المجلة الملف ببحث موسع ومعمق بعنوان "في التسامح" للدكتور"محمد أركون" يحدد فيه هوية اللامتسامح معه (Intolerable) قائلا: ما دام هناك عقل ما يرى نفسه ساميا، متسلحا بيقينيات راسخة تستند إلى وحي الهي أو ميتافيزيقيا كلاسيكية (أو بالأحرى، يستند إلى اقترانهما مع بعضيهما)، يسهل تعريف حدود التسامح، وحصر منطقة اللامتسامح معه فيه. فحسب ما ترى الفلسفة الوسيطة واللاهوت، فان العبودية لم يكن متسامحا معها tolerable وحسب، بل معترف بها قانونا. فالنساء، والأطفال، والكفرة، والأجانب، كانوا في المرتبة الدنيا؛ ولا ينتفعون من كامل الوضع القانوني الممنوح للذكر، والبالغ، والمؤمن العاقل، وهو ما يقابل أوضاعهم. إلا أن العقل الحديث عدّل الحدود بين المتسامح معه tolerable واللامتسامح معه intolerable . وعلى أية حال، لم تشمل تعريفاته الجديدة النساء، والأطفال، والأجانب، والمؤمنين من خارج حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. ودفعت الحروب الدينية، التي اندلعت بين الكاثوليك والبروتستانت، جمهرة من الفلاسفة إلى صياغة مفهوم جديد للتسامح tolerance. ولم تُدخَل الشعوب المُستَعمَرة في هذه الأخلاقيات الجديدة إلا بعد الحرب العالمية الثانية. فالواقع ان العنصرية ظلت محددا يجمع السياسات في بلدان الغرب حتى يومنا هذا. كل هذا يجعل من الصعب ترسيم مجال اللا متسامح معه intolerable بوضوح، وإذاً يصعب إدراك كنه اللا متسامح معه وغرضه ووظائفه. بل ثمة صعوبة أخرى تنهض من جراء شيوع فلسفة ليبرالية، يفسرها أفراد على أنها حرية لا تعيقها مسؤوليات ما، تأتي بالحقوق كلها من دون أن تستدعي ما يقابلها من إلزامات شخصية أو مدنية. فديمقراطية اليوم المتسامحة لم تولِّد نسبية واسعة الانتشار فحسب؛ بل سببت أيضا تفكك كامل ضروب القيم والمزايا الأخلاقية. فالأخلاق، بوصفها مذهبا فلسفيا قد فقدت مكانتها وحظوتها في نظم تعليمية. وفي خضم هذه الظروف، يمكن للتسامح ان يبلغ مستوى معينا، ويولِّد مواقف وممارسات، قد يُنظر إليها على انها غير متسامح معها في مجتمعات معينة وأزمان تحكمها سلطة العقل.
ان لم يَسهل علينا تشخيص أنساق تفكير، ومعتقدات وممارسات لا متسامحة في عالم اليوم، فعلينا على الأقل الإقرار بالضرورة الثقافية في تمييز الآليات النفسية والاجتماعية والسياسية، التي تسهِّل تواتر اللامتسامح معه، وأحيانا ارتقاءه الساحق. ولعلنا نستدعي هنا، بهذا الصدد، الأنظمة النازية والستالينية، وحروبا أهلية، وفورات إرهاب رسمي، من قبيل ذاك الذي أوحى به روبيسبيير Robespierre في فرنسا من العام 1792 حتى العام 1794 باسم الذات العليا. فضلا عن ذلك، ربما من الممكن تمييز اللامتسامح معه في مدونة "القانون المدني"، التي تدعيّها الديكتاتوريات، التي تُعاملها دول ديمقراطية على أنها شريكتها الاقتصادية الملائمة، بزعمها تبني خيار احترام حقوق الإنسان، وقيم أخلاقية عليا، واحترامها التام للقانون الدولي. مع علمنا ان الأخير ينبغي ان يعرَّف ليس في المستوى الديبلوماسي وحسب، والسعي إلى إبرام اتفاقات بين اشد الأمم قوة في العالم على قاعدة عريضة، وضمان احترام إجماع الشعوب. ونعلم ان العديد من الدول، التي قامت في عهد قريب، تعاني من فقدانها الشرعية، بسبب من شدة اعتمادها على القوات العسكرية وسيطرة الشرطة أكثر من اعتمادها على سيادة الشعب. وفي حال كهذه، لا مجال للحديث عن قانون دولي. إذ ان انعدام شرعية ما يسمى اليوم "القانون الدولي" أمسى أمرا واضحا منذ مؤتمر يالطا. فمن القرن التاسع عشر، أقامت أوروبا حدودا اعتباطية، ما زالت قائمة كما هي قبل استقلال البلدان المُستَعمَرة. إن الوضع غير المتسامح معه المتولِّد من جرّاء الخريطة الجيوسياسية، التي صاغتها ما دُعيت بالأمم العظمى، يمكن تمييزه في المآسي الجماعية المستمرة في أفريقيا، وآسيا، وأميركا الجنوبية، بل حتى في أوروبا نفسها.
ويتابع المفكر محمد آركون بحثه (حول "عنف، مقدس، حقيقة) فيكتب: في منظور علم النفس التاريخي، علينا التمييز بين تلقي الخطاب القرآني من جانب فاعلين اجتماعيين سمعوا هذا الكلام مباشرة من "محمد"، والتأويلات التي وضعت بعد أن نقل الخطاب القرآني شفاها إلى جماعات متغيرة من السامعين الذين دخلوا مباشرة في صراعات لاحقة، ومجادلات، والتزامات، ومقاومة، وانحلال التزام، التي صارت المدونة الرسمية المغلقة (بعد تدخل الطبري، م 310/923؛ وللتوسع في هذا الموضوع انظر كتابي "إعادة التفكير في الإسلام"). والاختلاف الجذري هو أن جماعة السامعين الأولى كانوا مطلعين على آفاق المعنى الذي افتتحه المعيار الجديد. ودخلت هذه إلى أنساق قيمهم المعاشة، ومعاييرهم، وتقاليدهم. وعلى النقيض من ذلك، تجد أجيال قراء النص المكتوب، المطبوع، أنفسها محرومة من المرجعيات التاريخية، والانثروبولوجية، واللسانية. واستبدلوها بتمثيلات، واطر تفكير، وتأويلات خاصة بسياقات متغيرة متباينة.
إن نظرية الجهاد ومعايير ما تسمى بالشريعة الإسلامية هي نتاج التلقي الثاني. فقد جرى هذا الحال على الرغم من حقيقة أن فقهاء، ومشرّعين، ومفسرين، ومؤرخين وكتاب سير، خلال القرون الثلاثة الأولى التي تلت بزوغ الظاهرة القرآنية، بنوا كلهم معا إطارا فقهيا متزمتا للتلقي والتأويل لكامل المعرفة التي يفترض أنها جاءت من كلام الله وسنة النبي (التي أضاف إليها الإمامية والإسماعيلية الشيعة سنة الأئمة). ونجد أكثر البناء منهجية جرى إنتاجه إلى جانب هذه الخطوط هو الأدب الذي وضع على أصول الفقه (المصادر التأسيسية ومنهجيات الشريعة).
فيما يستمر بالقول بأن العنف جزء تكويني في الحقيقة الجمعية (الموضوعية). والحقيقة تشتغل ما دامت مؤسسات اكراهية تقبل بها وتدعمها، كالنظم المدرسية (السكولائية) المكرسة للنقل المسيطر عليه لما يسمى بالموروث الحي. اذ يتلقى العنف شرعيته من الحاجة البشرية الى حقيقة موثوق بها لا تقبل الجدال ومتجذرة ميتافيزيقيا. وما ان تُرسى الحقيقة وتتدوَّل عبر اللغة، وتدمج من خلال الطقوس الفردية والجمعية، حتى تاخذ بالتقدُّس تدريجيا بمرور الزمن. وان مساءلة الحقيقة المقدَّسة ـ كما حدث، مثلا، في "آيات شيطانية ـ يعد تدنيسا. والتدنيس يدعو الى التضحية في الوعي الجمعي المشروط بكليته بجدل (ديالكتيك) معقد يشتغل بين ثلاثة مفاهيم متفاعلة بما اسميه الثالوث الانثروبولوجي: عنف ↔- مقدَّس ↔- حقيقة. من هنا فان هدم النظام الدلالي الذي بناه ونقله نسق مدرسي مكرّس، في الفكر والتواصل لا يسهل مسامحته tolerated؛ فهذا أمر يولد ردود أفعال عنف مباشرة لدى أولئك الذين يستخدمون هذا "النظام الدلالي" بوصفه نسق "قيم" وأساس "هويتهم" الوطنية، أو "اختلافهم"، كما يحلو لنا القول في الوقت الحاضر. وتقويض قيم الآخر أسهل بالطبع من استخدام عملية التقويض ضد مجتمعنا الذي ننتمي إليه. وهذه الآليات الاجتماعية، الثقافية، تنطوي على جميع مشكلات المتسامح معه tolerable واللا متسامح معهintolerableكلها. فمن اللا متسامح معه في أي مكان انتهاك النظام الاجتماعي والسياسي الذي تصونه تمثيلات عاطفية قوية المركزة في ثالوث انثروبولوجي آخر غير المذكور سلفا: تدنيس ↔ مقدَّس ↔ تضحية. وهذا الثالوث الأخير يترجم عملية شرعنة القيم في الثالوث الأول: عنف ↔ مقدَّس ↔ حقيقة، من قبيل الطقوس الجمعية، والأحكام القضائية، والعقوبات العامة، والاحتفالات. وفي كلا الثالوثين، يحدث المقدَّس في الوسط. فهو يُفهَم على انه قوة خارقة خفية تولِّد الخوف وتأمر بالتبجيل. وبمنح هذا الإجلال إلى مكان مقدَّس، أو طقس، أو شخص، فإبداء العنف تدنيس: فالعقاب، تضحية امرئ ما بحياته في أثناء قتاله العدو، أو التضحية بفدية. ان التدقيق الدائم في الحقيقة اللاعقلانية المضمرة في المقدَّس هو السبيل الوحيد لبلوغ السلام والخلاص.
لا ينطبق هذا التحليل الانثروبولوجي الوجيز على الأديان التقليدية وحسب. إنما ينبغي مدّه على الأنساق الحديثة الخاصة بالنظم الدلالية المُشرعِنة، وبالنتيجة، بالنظم السياسية والقضائية، والأخلاقية، والاجتماعية، والاقتصادية. وبتعميم هذا التقصي، وبغية وضع بنى الحداثة الكلاسيكية ومؤسساتها تحت نطاقه، يبين العقل المنبثق اختلافه عن العقل المتنور الوضعي. فبنى العقل كلها في حاجة إلى أن يسائلها العقل بالنقد الجذري نفسه المطبَّق على الأنساق الدينية، التي تعد قوى منافسة تسعى إلى احتكار السيطرة على القاعدتين، اللتين تحددان الثلاثيات.
وفي دراسة للشيخ "محمد مجتهد شبستري" بعنوان "حقوق الإنسان ونصوص الأديان الإبراهيمية والسيادة الحقوقية الإلهية" نجد تعريفا للأمر والنهي في هذه الأديان حيث يذكر: لاشك أن نصوص الأديان الابراهيمية تتضمن مجموعة من ((الأوامر والنواهي)) تنسب الى الله, وتسمى هذه الأوامر والنواهي في النصوص المذكورة احيانا ((حكم الله)). تتوزع هذه الأوامر والنواهي الى درجة اولى ودرجة ثانية, أو ((ذاتية)) و((عرضية)). في الأوامر والنواهي الذاتية أو من الدرجة الاولى خطابات تتعلق بكيفية توجيه وبرمجة البشر في تدبيرهم لشؤون حياتهم الاجتماعية, وهذا ما يعني بالطبع انها أوامر ونواهي دائمية. هل تلغي هذه الأوامر والنواهي الالهية حق السيادة الحقوقية للبشر في التوجيه والبرمجة لحياتهم الاجتماعية - السياسية المتبلورة في مبدأ رئيسي وأساسي هو مبدأ ((الحرية))؟
الواقع ان هذه الخطابات رغم مضامينها الدينية, لكنها اولا نفس الاصول الاخلاقية التي احترمها الناس غالبا على مر التاريخ سواء كانوا متدينين او غيرمتدينين. وثانيا نمط علاقتها بتوجيه وبرمجة البشر لحياتهم السياسية - الاجتماعية هو من سنخ ارتباط المعايير الاخلاقية غير الدينية بهذه البرمجة والتوجيه. ومثال ذلك مبدأ الالتزام بالعدالة الاخلاقي- الفلسفي (في حال وجود مثل هذا المبدأ) رغم انه يقيد الحقوق المتعلقة بحريات الافراد, الا انه لايلغيها ولايتعارض معها منطقيا. وحين يأمر الله بالعدالة فمع ان هذا الامر موّجه للانسان بمضمون ديني يقيد حقوقه في الحرية, ولكن بالنظر لشخصانية الانسان عند الله فإنه لايلغي تلك الحقوق على الاطلاق.
بعبارة ثانية, كما ان الالتزام بمبدأ ((العدالة)) من منطلق غير ديني, لايلغي مبدأ سيادة البشر على تدبير حياتهم, ولا مبدأ الحرمة والكرامة الذاتية لكل انسان بوصفه فردا حرا ومسؤولا ولامواد حقوق الانسان التي تضمن هذا المبدأ حقوقيا, بل انه حسب آراء بعض الفلاسفة في مضمار العدالة, يؤسس لهذه الحقوق, فإن الالتزام بمبدأ العدالة من منطلقات دينية ومن باب الامتثال لأوامر الله لايلغي كذلك تلك المبادئ والحقوق.
بخصوص كيفية تنظيم العلاقات الانسانية والالتزام بالحقوق الاجتماعية والسياسية وحقوق المواطنة (حقوق الانسان لعام 1948), يبدو ان بالامكان الالتزام بالاوامر والنواهي الالهية وبحقوق الانسان في نفس الوقت. الاوامر والنواهي الالهية في باب العدالة وكافة المبادئ الاخلاقية الاخرى, ليس لها حقيقة سوى التأييد الديني لتلك الاصول الاخلاقية القائمة بين البشر. في نصوص الأديان الابراهيمية لايؤسس الله لـ ((اصول واسس اخلاقية)) انما يصدق ويؤيد الاصول والاسس الاخلاقية الموجودة بين البشر, ويجعلها ((مطلقة)) لينفذها من مهلكة ((النسبية الاخلاقية الباطلة)). ولهذا لاتتعارض الأوامر والنواهي الالهية مع حقوق الانسان. يلوح ان مساعي طائفة من المجددين الاسلاميين لتأسيس مبدأ كلامي - فقهي يفيد ان ((الحكم لله)) ويكون الركيزة لكافة المواد الاخرى في دساتير البلدان الاسلامية, لا أساس له في اطار المعنى الحقوقي للسيادة والحكم, ولاتتسنى المنافحة عنه علميا, ويبقى الطريق مفتوحا لجعل حقوق الانسان أساسا لدساتير البلدان الاسلامية.
نستمر في هذا الباب مع دراسة لـ "د. أسماء جميل" بعنوان "الأطر الثقافية للعنف الممارس ضد النساء"، تشرح فيها مفهوم العنف الممارس ضد المرأة، حيث جاء في دراستها: يعرف العنف ضد المرأة بإنه سلوك ايذائي يستهدف المرأة لكونها امرأة، ويخلق لها معاناة جسدية ونفسية مباشرة او غير مباشرة. وينطوي هذا التعريف على طائفة عريضة من الافعال، عادة ما يتم تصنيفها الى نوعين رئيسيين ، النوع الاول عنف مادي، والثاني عنف معنوي، ويشتمل النوع الاول على الاساءات الجسدية التي تؤدي الى حدوث أذى جسمي، يترتب عليه ضرر معنوي، مثل الضرب، الركل، شد الشعر، والقتل. ويمكن ان يصنف الاغتصاب والعنف الجنسي، الذي يشير الى كل سلوك او تصرف جنسي يتم بدون اتفاق او رضا كامل بين الطرفين، تحت خانة العنف المادي، سواء حدث هذا الفعل من قبل الزوج (الاغتصاب الزوجي) او من قبل شخص آخر تعرفه او لا تعرفه المرأة.
اما النوع الثاني من العنف فيتضمن اشكالا مختلفة، منها العنف النفسي الذي يستهدف الحط من كرامة المرأة وجرح مشاعرها، كالتحقير والاكراه والعنف اللفظي، او التخويف والترهيب، والعزلة الاجتماعية، وحجز الحرية، والحرمان من الحاجات الاساسية، ومنها ايضاً العنف الاقتصادي الذي يهدف الى ايذاء النساء من الناحية الاقتصادية، كالاستيلاءعلى رواتبهن، او التمييز في الاجور، اوالحرمان من الميراث، اوالتوريط بديون، او اجبارهن على العمل، او عدم اعطاءهن المصروف رغم توفره.
وهناك العنف القانوني، الذي يشير الى الافعال والممارسات التمييزية، التي تسبب اضرارا للمرأة، وتجد لها سندا في التشريعات المحلية التي تعتمدها الدولة، سواء في قانون الاحوال الشخصية، او قانون العقوبات، مثل عقوبة جريمة الزنا، وحق تأديب الزوجة، والطلاق في القانون العراقي.
وثمة تصنيفات عديدة حظيت بها هذه السلسلة من الافعال، الا ان جميعها تشترك في كونها ذات دلالات عنفية وتمييزية واضحة ضد المرأة وصريحة، وتؤدي الى احداث ضرر أو أذى ملموس على سلامتها الجسدية او النفسية.
غير ان هناك نوعا آخر من العنف غير الظاهر او المستتر او اللامرئي، حتى بالنسبة لضحاياه، يتمثل في فرض الطرف المسيطر لاسلوبه او طريقته في التفكير، بوصفها الطريقة الشرعية الوحيدة، وفي المقابل يتبنى الطرف المسيطر عليه هذه الافكار بوصفها حقيقة غير قابلة للشك.
عند الوصول إلى الدراسة الرابعة في هذا الباب نلتقي "د. وجيه قانصو" في بحث بعنوان " الإستشهاد الجهادي في الإسلام بين المبدأ والمفهوم" حيث يصف منظومتين للإيمان متقابلتان ويقول: أننا أمام منظومتي إيمان، قد تتفقان في الشكل والمضون، ولكنهما تختلفان في التكوين الداخلي أي في الطبيعة، وفي أصل مسبقاتهما وبديهياتهما وفي مدى(Scope) ومجال نشاط كل منهما، بل وفي وجهة وغرض كل منهما. ومنظومتا الإيمان هذه ليستا دينا مقابل دين، أو مذهبا مقابل مذهب، بل كلتا المنظومتان حاضرتان داخل كل دين، وتملك واحدة منها أن تأخذ أي دين في العالم إلى منطقة التوتر والتطرف والتعدي والأنانية، وتأخذه الثانية إلى منطقة التسامح والتعايش والمشاركة والعيش في كنف الحب الإلهي.
منظومة الإيمان الأولى، ولنسمها إيمان الحقائق النهائية(Ultimate Truth)، تقوم على التماهي مع الحقيقة المنجزة داخل تقليد ديني خاص، أي التكيف مع وضع ديني منجز اكتملت فيه كل تمظهرات الحقيقة والحق. أما منظومة الإيمان الثانية، ولنسمها إيمان الكدح نحو الحقيقة، فتقوم على البحث الدائم عن الحقيقة وعدم الرضا بنهائية أي معنى أو كشف، بل هنالك دائما مجالات خصبة جديدة قابلة أن توفر شرطا إنسانيا أرقى وحياة روحية أسمى. ولا أبالغ القول، إذا اعتبرت أن طريقة تداول وممارسة المعنى الديني في الوضعية الحالية للأديان السامية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلامية، يندرج ضمن إيمان الحقائق النهائية، في حين يبقى إيمان الكدح نحو الحقيقة، أفقاً مستقبلياً واعداً يسعى بصعوبة بالغة ليجد له مكانا وموطء قدم داخل هذه الأديان.
يتميز إيمان الحقائق النهائية، بأنه يقوم على إدعاء جملة حقائق مؤكدة ومثبتة بنحو جازم، بعضها تاريخي، وبعضها الآخر لاهوتي، بعضها سلبي كنفي الخلاص أو النجاة عن أتباع الأديان المختلفة، وبعضها إيجابي كإثبات صفة أو مكانة لدين أو لمؤسس أو لله. إنه إيمان النهايات القصوى، ودين الحقائق المكتملة التي لم يعد ورائها أو فوقها أية حقيقة أو معنى. هذا الإيمان، يسلب عن المرء إرادة الإختيار بين المعاني أو حق إنتاج حقيقته، بل ينحصر خياره بقبول الحقائق والتسليم بها. ويكون الإيمان، عبارة عن سلوك التماهي مع نموذج واحد فريد والإقتداء به، بحكم أنه القدوة والقائد والمعلم، ويمثل صورة الإنسان الكامل.
باختصار، إيمان الحقائق النهائية، يلغي ذاتك لأنه يلغي حريتك في الإختيار وفي التعبير وفي تحديد مجال وجودك، وهو أيضا يلغي الآخر ويلغي حقيقته. ليصبح بذلك هذا النوع من الإيمان منبع التطرف، الذي ينمو في الداخل وبصمت وخلف الوعي المباشر، وينتظر الشرط الإجتماعي والسياسي ليطلق شرارة انفجاره ويحرك توتره العالي. بهذا النوع من الإيمان، المتحكم حاليا ببيئتنا الدينية، يصبح كل واحد منا وبدون استثناء مشروع "متطرف". أما إيمان الكدح نحو الحقيقة، فهو أشبه بثورة كوبرنيكوس الذي أبطل فكرة مركزية الأرض لمدارات الكواكب الشمسية وجعل الشمس مركزا لتلك المدارات، وأصبحت الأرض كغيرها من الكواكب تدور في فلك خاص حول الشمس. وبنحو مماثل لا تعود الحقيقة الخاصة داخل أي دين أو مذهب مركزا أو محورا للحقائق والقيم الكونية، بل هي إحدى تجليات الحقيقة ومظهرا من مظاهرها اللامتناهية، كما هو حال باقي الحقائق والقيم الروحية الحاضرة في الأديان والمذاهب الأخرى. إنه انتقال من التمحور حول الحقيقة الذاتية الخاصة إلى التمحور حول الحقيقة الأوسع التي تكاد تتوزع على جميع التقاليد الدينية بالتساوي. بذلك تصبح الحقيقة فعل مشاركة مع الآخرين في هذا العالم، حيث حقيقتي وحريتي تتوقف على حقيقة وحرية الآخرين، ويكون اكتشافي لحقيقة الغير اكتشافاً لحقيقتي أيضا. وكما يقول غابرييل مارسيل: "الوجود هو علاقة أو حضور خلاق يجمع بين الأنا والأنت، ومن خلال هذه العلاقة تستوعب الذات الآخر كوجه ثان لها، فيصبح ذلك الآخر أنت نفسك". مشاركة الآخر في وجوده، يعني أيضا مشاركته في الحقيقة، الأمر الذي يدفعني إلى التواضع في إيماني وإلى تقليص شموليته وتخفيف ادعاءاته، لكي يساكن إيمان الآخرين ويتعايش معهم. بل يدفعني إلى توسعة إيماني والخروج من كهف اليقين وسلطة الاستحواذ، ليصبح إيمانا ينتشي بالبحث الدائم عن الحقيقة ويعيش مع كل تنوير جديد حالة ولادة جديدة، وكما يقول شليرماخر أبو الهرمنيوطيقا: " كل معنى جديد يدفعك إلى تحصيل معنى آخر، والمعنى النهائي الذي تصله كالقمة التي ما أن تصلها، حتى تكتشف أن هنالك قمة مختبئة فوقها، لقد ضاع المعنى النهائي بين الغيوم إلى الأبد". بذلك، لا يعود الإيمان شيئا يتلقى من الخارج، بل هو ميدان تجربة الوعي والباطن مع المتعالي. ويصير الإيمان عملية إنتاج وابتكار وفعل كشف، وجزءا من السعي لتحقيق إمكانات وجود الذات في هذا العالم، بحيث يتولد من كل تجربة خاصة، صورة إيمان فريدة لا تقبل التكرار في الآخرين. فلا تعود العلاقة مع الله، حقيقة جاهزة نتربى عليها، بل حقيقة نسعى ونكدح دائما للوصول إليها، ولا تعود معرفة الله فعل خضوع لكلمة "إعلم" أو "ينبغي"، بل يعرف بالإختبار الذاتي والتحسس والتنوير الباطني. بذلك يخرج الإيمان من منطقة الأمان الراكدة، إلى منطقة الخطر الدائم، والأثمان الغالية: "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"، "أحسب الناس أن يقولوا أمنا وهم لا يفتنون"، فلا يعود الإيمان دفاعا عن منجزات، بل هو حالة ترحال لا تستقر، وسعي دائم لاكتشاف أو ابتكار صور جديدة في العلاقة مع الله. حس المشاركة مع الآخرين يلغي في داخلنا النزعة الطهرية، ويزيل التفكير بقسمة العالم، إلى دار إيمان ودار كفر، لأن مدار الحقيقة الإيمانية ليس خارج الإنسان بل داخله وباطنه، فلا يتموضع الإيمان في معسكر مقابل معسكر آخر، أو مجال قوة وسيطرة، بل تصبح معركته هي معركة الذات مع نفسها، بين نوازع تتمحور حول الأنانية والذاتية وبين نوازع تتمحور حول الحق والخير والحب: " لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
من هنا لا يمكن محاربة التطرف بأدواته، أي محاربة التطرف بالعنف أو بتطرف مقابل، لأنه بذلك يجرنا إلى اللعب في ملعبه. بل يكون بخلق مجال إيماني جديد، يجعل من الواقع الباطني المتنور مدخلا لفهم وتغيير العالم. أي ليست المعركة مع "المتطرف" هي معركة إما أنا أو هو، أي معركة إلغاء، فهذه مواجهة تجرني إلى دائرته لأصبح مثله، بل معركتي الإيمانية، هي نقل الصراع من مجال السلطة والقهر والإكراه والحشود العسكرية، إلى المنطقة الباطنية للإنسان، التي تنصِّب الإنسان مطلق الإنسان، مدخلا لمعرفة الله وللوصول إليه.
ويضيف إن استعادة الإستشهاد إلى منطقة فعاليته الإيجابية، لا تكون بمزيد من التعبئة والتعبئة المضادة، أو تضخيم مخاوف الهوية، أو تكثيف الخطاب العقيدي، بل تكون بموضعة الإستشهاد كقيمة أخلاقية عليا في الفرد تدفعه إلى التضحية من أجل الآخرين إذا اقتضى الأمر، وكإجراء دفاعي ووقائي يبقى في دائرة الشأن العام، ومن اختصاص الجهة المتصدية للشأن العام، التي نصطلح عليها في زماننا بالدولة التي ينحصر بها كل أشكال ممارسة العنف والإكراه. فإذا كانت تنمية الإستعدادات بالتضحية لدى الفرد جزءاً من استراتيجية تربية دينية ذات عقيدة وطنية، أو تربية وطنية ذات عمق ديني، فإن فعل الجهاد هو جزء من استراتيجية الدولة في حفظ المجتمع والدفاع عنه. بهذا يستعيد الجهاد والإستشهاد وظيفتهما الاساسية، التي هي حفظ المجتمع وضمان استمراريته. ويكون إلصاقهما بوظائف الدولة، رافعاً لفوضى استعمالهما، ووسيلة لعقلنة تمظهراتهما وربط شروط تحققهما بنظام مصالح المجتمع العامة، فلا يعود المحدد العقيدي مدار تحققهما ومشروعيتهما، بل تحددهما قواعد الصراع الدولي واستراتيجية الدولة العامة في نماء وتطور وحفظ المجتمع. ولا يعودا أيضاً مادة توظيف داخلي بين القوى المتعددة في المجتمع الواحد، بل يصبحان من متفرعات الشأن العام الذي ينظمه ويدير أموره الهيئة الحاكمة، ليتخذ التنافس والصراع بين القوى الداخلية صفة سياسية خالصة، ويصبح مدار الترجيح ومادة الجدل بين القوى جميعاً، موضوعياً لا قِيمياً، عملياً لا عقيدياً، ليكون المعيار في اعتماد أداء أو رؤية معينة، هو في الجودة والفعالية (Efficiency) لا في درجة الهداية والضلال.
أما الشاعر والإعلامي العراقي، مدير القسم الثقافي لجريد الصباح، أحمد عبد الحسين فقد تناول مفارقة "المسلم في لحظته العدمية" وذهب إلى إنه يمثل مسلم يحتضر في "عجزّ وأهداف ملحمية" ويشدد على أن مأساوية الفكرة السلفية (كما في التيّار الجهاديّ اليوم) أنها قائمة على مصادرة لا سبيل إلى الفكاك منها، مصادرة تتمثل في أن الحلّ الذي تقترحه السلفية يمكن أن يتمّ بلا رأي إنسانيّ، بدون تدخل ذات فاعلة قادرة على تكوين آراء، بل هي يلزمها لتتحقق، مجموعةُ ذوات مؤدية لفعل الحقيقة كما عرفناها وألفناها، إلى الحدّ الذي باتت (معروفاً) والحياد عنها هو (المنكر). وفي ذلك إغفال لمبدأ فطري زرعه الله في جبلة الانسان، هو مبدا الحريّة. لكن الحريّة ذات معنى تأريخيّ، ولهذا هي فاعلة، غير انها فُهمتْ لدينا على الدوام باعتبارها إفلاتاً من نظامٍ ما، ولا عجب بعد ذلك أن تكون الحريّةُ هي التي أملتْ على الشيخ اسامة بن لادن قتلَ اربعة آلاف إنسان. هي حريّة الخروج من نظام أخلاقيّ ما، وكم تُماثِلُ هذه الحريّةُ اللادنية حريّةَ أحزابنا القوميّة، بل حريّة الحداثة الأدبية لدينا، والشعرية منها تحديداً، غير ان لذلك حديثاً آخر.
صفوة القول ان الحريّة والرأي الإنسانيّ الحرّ والمسؤول يفضيانِ بالضرورة إلى إعلاء كلمة الإنسان فوق كلّ كلمة، وما مصطلح الإنسانية الذي اجترحه الغرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان يعني (الجهد المبذول لرفع الكرامة الإنسانيّة) إلا نتاج عصر الأنوار، الذي افتتحه "كانت" بتأكيده على أن للانسان مكانة مركزيّة، لأن له القدرة على انجاز أفعال حرّة وإرادية، أي باختصار لأن له رأياً.
هذه القوّة الخارقة التي أغفلناها، بعونٍ من عوقنا التأريخيّ، هي القادرة على بناء العالم، وبغيابها نفتح الباب مشرعاً لكلّ الهوامات المتوّلدة من عجزنا العميم وأهدافنا الملحميّة الكبرى، هذه الهوامات لن تجد متنفَساً لها إلا باخراج الغرائز البدائيّة إلى النور، وارتكابها بوصفها أفعالاً مقدسة.
إضفاء القداسة على أحطّ الغرائز سيكون هو شكل حريتنا الجديدة، فنحن أحرار بمقدار ما نكسر نظاماً أخلاقيّاً لم تقدّسه الكتب ولا السنّة. بل سيغدو الأمر أشبه باجتراح المعاجز. فاذا ما عرفنا مقدار الكراهية التي يبديها الجهاديّون لكل معنى باطنٍ وعميق في الإسلام (هذا العُمق كان مادة الكرامات على مر التاريخ) ككراهيتهم للتصوّف مثلاً، ورسالة الزرقاوي في ذمّ الصوفية معروفة حيث وصفهم بقوله (وأقصى همّهم حلقةُ ذِكْر وعشاء دسم يعقبها)، إذا ما أدركنا هذه الكراهية لكل فعل وقول عميقين نعرف ان الإسلام الجهادي يطلب معجزته في هذه الأفعال المناقضة لنظام أخلاقيّ أنسانيّ (انسانيّ لأنه نتاج آراء إنسانيّة هي التي خلقته) وغير مرغوب (غير مرغوب لأنه غير منصوص عليه).
كانت المعجزة عند الأنبياء خرقَ الطبيعة، وهي اليوم عند الإسلامويين خرقٌ للأخلاق. كراهية المسلم المجاهد لنظام الإنسانية الأخلاقيّ نابعة من هذا الجرح الذي لا يندمل: أن مقولات العدل والمساواة التي نادى بها الإسلام بل الأديان بعامة يمكن أن تؤدى وبشكل فعّال ومثمر بطريقة ليستْ إسلامية، أي غير منصوص عليها، أي غير مقدّسة.
هذا الأمر جعل من رأسمال المتأسلمين الروحيّ خاوياً (ورأسمالهم ليس سوى مقاصد الشرع وطرق تأديتها التي هي الحقيقة كلّها).وهو ما خلق بينه والعالم هوّة لا سبيل إلى ردمها، إلا بمزيد من العنف وتفجير الغرائز كلّها وتقديسها.
فبعد غياب كلّ ممكن، بعد أن تغلق الأبواب، لن يكون هناك إلا الرأي الذي يمكن أن تتداوله ذوات حرّة وفاعلة ومسؤولة، هو المنقذ من الضلال. دون ذلك سيظلّ اليأس المؤدي للموت، إذ اليأس ممكن في كلّ الأحوال. وهذا اليأس هو ما يغترف الإسلاميُّ من ينبوعه المسموم الذي لا ينفد.
ذوات عاجزة عن تكوين رأي خاص بها، وعن تقبّل أنظمة أخلاقيّة وسياسية واجتماعية غير منصوص عليها، حتى لو كانت لا تخالف أنظمة (الحقّ) التي يتضمنها جوهر الدين، هي ذوات ليس بمستطاعها تكوين او حتى الانخراط في مجتمع، يمكن لها أن تؤسس مجموعة أو تطلب إجماعاً، لكنّ الجمع والإجماع الذي كان في زمن الرسالة كافياً لتأسيس دولة لم يعد له كبير أهمية اليوم.
فيما يوضح "هوغ جيسترسون" في بحثه "الإنثربولوجيا والنزعة العسكرية" ترجمة: "أ.د. أبو بكر أحمد باقادر" ويصف عمل الذاكرة حيث يقول: تتداخل الحرب بالذاكرة تداخلاً قوياً، فتشمل غالباً التهيئة للحرب تهيئة جماعية للذاكرة حول جروح سابقة (والاس 1968)، وفي الوقت نفسه، تشمل نهاية الحرب عملية تذكير اختيارية ونسيان الآم الحرب (فوسل 1975، اوسكاوي 1985، وشو 2007، وستوكن 1997، ويونياما 1999)، ويكتب كل من اركستي (1997) ودينشي (1994)، وهينتوون (1998 و2004) حول اريلندة ويوغسلافيا وكامبوديا مؤكدين على أهمية ذكريات النكبات والجرائم في خلق ما أسماه دينش الشعور "بعمل لم ينتهِ بعديم يبرر اللجوء إلى الحرب". وأمثال هذه الذكريات يمكن أن تشغل من طرف قادة يبحثون عن الحرب، وغالباً ما يُربطون بمواقع وقوع النكبات والجرائم السابقة وبالذات إذا ما نبشت القبور (ارتاجا 1997 ودينش 1994 وسانفورد 2004، وتلعب جاليات اللاجئين دوراً مهماً في إحياء ذكريات جروح الماضي حية (بالانجير 2003، وبراينت 2004، ومالكي 1995 و1996، وسلموفيتش 1998) وفي الوقت نفسه غالباً ما يشمل التطهير العرقي والإبادة تحطيماً متعمداً لمواقع الذاكرة الجماعية والهوية، كما حدث عند استهداف الحرب المواقع الثقافية في سراييفو في تسعينيات القرن العشرين.
وعندما تنتهي الحرب يتم ضبط ذاكرة الحرب الجماعية والمعاناة عن طريق تأسيس إداة للتذكر، ومن ناحية آخرى ما أسماه يونياما (1999) فقدان الذاكرة الاختياري (camnesic elision)، أو ما أسماء ليفتون وميتشل (1995) "بالتطهير التاريخي (chistoricl clensiy) ويمكن أن يحدث هذا في الصراعات المدنية عن طريق لجان الصدق والمصالحة التي جربتها جنوب أفريقيا في نهاية العزل العنصري، وكذلك ما حدث في عديد الأقطار بعد ذلك وتعبئ أمثال هذه اللجان شهادة الضحايا والجلادين لتبتدع أرشيف ذاكرة عامة جديدة تعترف وتقر بجروح الماضي رغم أن العملية غالباً ما تكون في خطر استغلالها من طرف أنظمة تقوم شرعيتها على كشف أو أفتضاح اختياري. فمن ناحية السرد والرسمية للحرب دائماً ما تكون قائمة على علاقة غامضة من أداءات ثقافية ثانوية للذاكرة التي قد تحمل قوة عاطفية أكبر (شور 2000) كما هو الحال مع ناشطي حقوق الإنسان المقربية بحسب ما دونته سلموفيتش (2005) من محاكم شكلية، أو الطقوس عند قرية فيتنامية حللها كون (2006) لتمجيد النساء والأطفال الذين قتلوا في الحرب الفيتنامية والذين تراهم الحكومة كأبطال غير كاملي البطولة.
وتأسس ذكريات الحرب أيضاً عن طريق النُصُب الرسمية والمتاحف. وهذه دون شك جزئية في عملية التذكير بالمآسي. لذا فإن متحف ذكريات الحرب الفيتنامية في واشنطن دي سي لعلها مسحت معاناة الفيتناميين (ستركن 1997) ونصب هيروشيما يمسح الضحايا الكوريين الجنوبيين من جراء إلقاء القنبلة (يونياما 1999) ومتحف الهولوكوسف في واشنطن يمسح الكثير من معاناة غير اليهود في الهولوكوست (ليننثال 2001). ويمكن أن تثير المتاحف والنصب التذكارية صراعاً مكثفاً وتنعش النزعات القومية المجروحة، وبالذات بين من نجوا من الحرب، كما هو الحال في الجدل الذي أُثير حول زيارة بعض السياسيين اليابانيين لمعان شفتوية خصصت للحرب العالمية الثانية، وكذلك قد تؤدي إلى تشهير علني ومن ثم إسقاط محاولة عام 1995 من طرف متحف السمتونيان لإقامة معرض عن هيروشيما ونهاية الحرب العالمية الثانية (ليفتسن وميشيل 1995، وليننثال ونجلهاردت 1996، ونوبل 1995). وعندما تفقد أراضي المعارك والنصب التذكارية قوتها العاطفية المتفجرة فأنها تصبح مواقع " مقدسة " للسياحة الحربية (لترك 2000).
وقد قام الانثروبولوجيون بدورهم التذكّري الخاص بهم، وغالباً ما كانوا يشعرون بواجب الشهادة على تحمل العذاب من طرف الجاليات التي قاموا بدراستها. وبالذات في أمريكا الوسطى واللاتينية بعد عقدين تميزا بتعذيب واسع الانتشار، ونشاطات فرق موت، وهجمات حرب عصابات. ولقد عمل بعض الانثروبولوجيين (غالباً على حساب المخاطرة بأرواحهم) للتأكد على أن كتاباتهم تتحدث بلسان الموتى والمفقودين، ولا تسهم تلك الكتابات في الثقافة الصمت التي غالباً ما مكّنت من القتل في عقود الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين (بنفورد 1996، ودانيال 1996، وفالا 1994، وجرين 1994 و1999، ومانز 1988 و2005، وانفورد 2004، وشريمير 1998، وسلوكا 2000، وسوريز اورزوكو 1990، ووارن 1993) وأمثال هذه البحوث غالباً ما تبنى على وتعيد الصوت في شكل سجل نظري أكثر لتقليد الشهادة المحلي تجعله حياً وبشكل شهادات مباشرة لوصف الإرهاب والعنف (انظر لأمثال تلك الكتابات: منشو وغيره 1987).
يذكر الباحث "د. صلاح الجابري" في دراسته حول " التطرف الديني والعنف في ضوء التحليل الفلسفي والسيكولوجي" بأن للتطرف بعدين: بعد معرفي يسود التفكير فيه وفق منطق قطعي استبعادي تجاه المختلف، وبعد سلوكي يتسم بالعنف والاستباحة لكل ما هو مختلف. وهناك بعد ثالث أعمق منهما، هو البعد النفسي المرضي الذي يسهِّل عملية تحويل البعدين، المعرفي والسلوكي، إلى تطرف وعنف، فالأساس في كل ذلك هو البعد السيكولوجي. فالمتطرِّف شخصية مرضية (سايكوباثية)، يعاني من صراعات داخلية ذات مناشئ مختلفة وراثية، وتربوية، واجتماعية، تنمّي لديه دافعاً عدوانياً، يوظِّف المعرفة (بكل أشكالها) من أجل تفريغها، وتبرير ذلك التفريغ لذاته.
يساهم التاريخ والثقافة والتربية والبيولوجيا في بلورة التكوين النفسي للفرد والجماعة عموما، ولذلك فنمو الدافع العدواني والعنف يرتبط بمناهج وطرق التعلُّم المستخدمة في تشكيل شخصية الفرد.
ويستمر: لقد تحول الانقسام المذهبي والطائفي، الذي عاشه المسلمون في الداخل، إلى منهج تربوي تعاقبت عليه الأجيال، فكبَّل المجتمع بحتمية صارمة، حتمية التربية والمحيط والتاريخ، فيعيش الفرد في تلك الأجواء الثقافية مسلوب الإرادة، ولا يمتلك ذاته، وهو في حقيقته ضحية لأحداث لم يساهم في صنعها، بل وجد نفسه مقذوفا فيها من دون إرادته، ومجبراً على التحزُّب لأحد أطراف النزاع، مساقا بلا شعور سلبي، وأنا عليا قمعية صادَّة لكل تساؤل، أو تشكيك، أو نقد، حيال الموروث. ومازال الإنسان على وضعه القديم في سلبيته واستلابه، بل تزداد الهوة الداخلية كلما دار الوعي في زمن دائري، تكراري وتقليدي، وبالتالي فإنّ الحركة ليست طردية، ولا متقدمة أو تطورية، وإنما حركة تعيد ذاتها مخلِّفة زمناً ساكناً مكرراً لا حياة فيه. في الحقيقة أن المجتمع التقليدي يدور عبر زمن وهمي، فالزمن الحقيقي، بصفته مقياسا للحركة الطردية، يرتبط بدرجة التقدم إلى الأمام في إحداث تغيير اجتماعي، أي بتجدُّد مضمونه الفكري، وبالتالي لا يمكن حساب الزمن خارج مضمونه، فالزمن يُشَخَّص من خلال مضمونه ويتقدم عبر الحركة الطردية لذلك المضمون. وبالفعل فإنّ الزمن الثقافي الإسلامي فََقََدَ مضمونه المتحرِّك، فتراجعت حركته، ثم أخذت شكلاً دائرياً يكرِّر ذاته خارج عالم التجديد والإبداع.
ارتبط المنهج التربوي بذلك الزمن التكراري، وتجزأ وفقاً للانقسام الإيديولوجي، متحوّلا إلى منهج تبريري منفعل ومنغلق على ذاته كالدائرة، منفصلة عند كل ما هو مختلف، ومستبعدة للدوائر الأخرى بصفتها إيديولوجيات تبريرية تعيش زمناً دائرياً تكرارياً. فالعلاقات الداخلية هي علاقة تباعد بين مختلفين منفصلين، فتنكفئ الذات ويحل التقليد محل الإبداع. فالتقليد هو الصورة التربوية التي يعكسها الزمن التكراري المفرَّغ من المضمون الواقعي المتحرِّك. فيخضع الفرد، شاء أم أبى، إلى جبرية مطلقة، تشمل المحيط والتاريخ، وهذه الجبرية التي وجد الفرد ذاته متورِّطا فيها (من دون وعي بها ويتعامل معها من منطلق واقع الحال) سوف تفوِِّت عليه فرصة الوعي بالتاريخ والمحيط؛ فيعجز عن تجاوزها.
ونشرت المجلة ترجمة لدراسة "الإرهاب وإرث عصر التنوير" لـ "جيوفانا بورادوي" بترجمة "زيد العامري الرفاعي" والذي قدم للدراسة قائلا: لااريد من هذه المقدمة البسيطة التقديم للكتاب الذي ترجمت منه هذا الفصل بقدر ماأريد الاشارة اليه ليس الا. فالترجمة هي للفصل الثاني من كتاب الفلسفة في زمن الرعب( الارهاب) للفيلسوفة الامريكية جيوفانا بورادوي. والكتاب عبارة عن حوارات اجرتها المؤلفة مع الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس والفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في مانهاتن بعد احداث سبتمبر بأسابيع قليله، حيث جمعت بين فيلسوفين مختلفين في مناهجهما الفلسفية. وقدمت لكل حوار مستعرضة فكر الفيلسوف ثم تعليق عن الحوار نفسه.
وكما ان الفلسفة كانت مهمة في عصر التنوير، فهي الان مدعوة لحمل السلاح كما عبرت جيوفاني للمساهمة في تحمل مسؤوليتها في المجتمع.
والفصل المترجم في ادناه عبارة عن مدخل كتبته المؤلفة تمهيدا لتعريف القارئ، قبل الولوج للحوارات، بعلاقة الفلسفة بالتاريخ ، والحديث عن تأثير احداث القرن العشرين في نشأة الفيلسوفين، وكذلك نوع مشاركة الفيلسوف في المجتمع، واخيرا عرض عام لموقفهما من احداث سبتمبر، متناولة فكرة التسامح وتطورها التاريخي.
في الدراسة ما قبل الأخيرة نجد "د. سعود المولى" يتحدث عن "العنف والإرهاب في فقه الشيخ محمد مهدي شمس الدين" ويرى بأنه عند مقارنة لعلاقة المجتمع الأهلي وعلماء الدين نشهد: الامام يرى ان اسوأ ما واجهته الحركة الاسلامية العربية هو تلك ” الحالة الشاذة المرضية لعلاقتها مع المجتمع الأهلي ومع علماء الدين“ اذ تميزت بالغربة والانفصال عن القاعدة الشعبية ان لم يكن بمواقف الحذر والشك والتحفظ ناهيك عن الفتور وعدم الانفتاح وربما العداء والقطيعة مع علماء الدين على اختلاف مقاماتهم ورتبهم.. ما زاد من ”حالة الحصار وزاد من قساوته وضاعف من الشعور بالعزلة وولد في حالات كثيرة شعوراً حاداً بالمؤامرة“.
في هذا الجو من الحصار والعزلة وما يكوّنه من افكار ومشاعر ولد مناخ العنف الذي طبع الحركة الاسلامية وطبع اسلوب العمل السياسي الذي مارسته أكان عنفاً في لهجة ومفردات الخطاب السياسي، أم في اشكال السلوك والتعامل الحياتي اليومي، ام عنفاً مسلحاً..
وقد التمست الجماعات التي مارست العنف أساساً فقهياً لشرعية استعمال العنف المسلح مما أوقع الحر كة الاسلامية بسبب ذلك في اخطاء وخطايا كبيرة..
ولذلك فان الشيخ شمس الدين يدرس كل الاشكال المحتملة للعنف السياسي المسلح في الاسلام، أكانت باسم الجهاد ( بكل ألوانه ومعانيه)، ام باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، او قتال البغاة، او حتى الدفاع عن الاسلام، ويستنتج عدم مشروعية العنف وعدم جواز استخدامه وسيلة للوصول الى السلطة، أو لبناء موقع سياسي، او للتعامل في الحياة السياسية، وبالتالي يفتي الامام الرئيس بحرمة العنف السياسي المسلح بكل أشكاله ولا يستثني منه سوى ما أجمعت عليه جميع شعوب الارض ومواثيق العلاقات الدولية من وجوب التصدي للعدوان والاحتلال ومن شرعية المقاومة التحريرية بالتالي، انطلاقاً من كون كل جهاد مسموح او شرعي في الاسلام هو جهادا دفاعيا بحتا، ولا شرعية لما يُعرف بالجهاد الابتدائي او جهاد الدعوة او غير ذلك.. ولا يكتفي الامام في كتابه الخطير الذي تأخر نشره عشر سنوات، بدراسة المشروعية الفقهية الدينية وانما يتناول ايضاً الجدوى السياسية، حيث يقرر فيه عدم استفادة الحركة الاسلامية العالمية في اي مكان في العالم، وفي اي مجال من مجالات الحياة السياسية والثقافية والوطنية من استخدامها لاسلوب العنف المسلح. وتفتح دراسة الامام شمس الدين الباب واسعاً امام نوع من الابحاث غير معروف في الفقه السياسي يتناول عدداً من الموضوعات مثل الحرب العادلة، والحرب غير العادلة، العنف واللاعنف، السلم وقضاياه، الحرب وامورها وضوابطها، الجهاد وابوابه في العصر الحديث، الارهاب والمقاومة، المشروعية الفقهية والجدوى السياسية، الخ... والجدير ذكره هنا ان كتاب الامام شمس الدين اعتمد الفقه المقارن ولم يكتف بايراد الخلاصات او التقريرات الفقهية الشيعية وانما عالج الموضوع من خلال آراء فقهاء المذاهب كافة، وموسعاً إطار البحث ليشمل الجانب السياسي العلماني أيضاً.
في الدراسة الأخيرة للمجلة لـلباحث الاندونيسي"م. شمس الدين" بعنوان "الحرب والعنف - منظور إسلامي" يذكر بأن للأديان على مايبدو نزعة متعارضة نحو السلام والوئام، فمن ناحية تدعو للسلام والوئام بين الناس من معتقدات مختلفة، لأنها أتت من إله واحد، وهم أعضاء عائلة عظيمة من البشر، ولكن الأديان من ناحية اخرى تدعو لحرب أناس آخر ين، والدعوة الدينية للسلام والحرب لها ما يبررها في كتبها المقدسة.
فهل للدين طبيعة مزدوجة نحو السلام والوئام؟ الجواب نسبي، ويعتمد على كيفية تأويل النص الديني، ويعتقد الكثيرون ان الأديان في تعارض حقيقي، فالدين يعلم أتباعه العيش في سلام وانسجام مع إخوانهم في الدين، ولكن ان كان هناك أسباب تدعو الى الحرب فالحرب لابد منها. ويعتقد الآخرون بأن الأديان تعلم القيم الجيدة فقط، ولذلك فهي لاتدعو الى الحرب، والآيات في الكتاب المقدس التي تهتم بالحرب يجب ان تقرأ في سياق الزمن الذي نزلت فيه، ويمكن كحل آخر اعتبار الحرب طريقا لابد منها للسلام. وبكلمات اخرى الحرب وسيلة لإقامة السلام، لأنه اذا كان هناك صراع بين الخير والشر فالشر لابد ان يُقهر. ومن المنظور اللاهوتي والفلسفي فإنه يعتقد بأن الدين يدعو الى السلام فقط وليس للحرب، ولكن الدين في مظهره التجريبي له موقف مزدوج تجاه السلام والوئام، ومن الصحيح بأن الدين يمكن ان يخدم كقوة متكاملة لتمهد الطريق نحو السلام والحوار والتعاون، ولكن في وقت آخر يمكن ان يكون ايضا قوة مفككة تؤدي الى الصراع والعنف والحرب.
وتبقى مجلة قضايا إسلامية معاصرة تتوغل في كل ملف بما يوخز الذهن، ويعصف ما هو ساكن من أفكار، وتتخطى السائد من التفكير إلى الممنوع أو المحرم التفكير فيه لدى الإسلاميين، وتتجاوز مواقف الحظر وترمي حجارتها بعيدا، لكي تبقى وحيدة في واد من الصعب أن تبقى وحيدا فيه، للأمام تسير وتبقى مجهولة.



#محمد_حسين_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ماذا قال الجيش الأمريكي والتحالف الدولي عن -الانفجار- في قاع ...
- هل يؤيد الإسرائيليون الرد على هجوم إيران الأسبوع الماضي؟
- كوريا الشمالية تختبر -رأسا حربيا كبيرا جدا-
- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد حسين الرفاعي - من أين تشتق ثقافة تمجيد الموت مفاهيمها؟