يبدو أن محاكمة الأمين الأول للحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي رياض الترك قد خطت طريقها، فرغم إصرار "المتهم" على صمته من الناحية الشكلية، بحجة أنه بذلك يجنب البلاد "فتنة يريد البعض منها ان تشتعل وتتأجج في ظرف سياسي لا يساعد"، فإنه اعتبر "محاكمته سياسية وليست جنائية" وما شرحه للاسباب التي دفعته الى التمسك بصمته الا "بمثابة الدفاع"، مؤكداً أن "كافة الوثائق التي قدمت في المحكمة على لساني ووقعت عليها او كتبتها اعتبرها ايضا دفاعا عن نفسي ولا اتراجع عن حرف فيها".
وهكذا وعلى النقيض من التهديد المتواصل من الترك بأنه سيلتزم الصمت ما لم تكن محاكمته علنية، وتهديد هيئة الدفاع بأنها ستقاطع المحكمة اذا لم يسمح للصحفيين حضور الجلسات، نجحت هيئة محكمة أمن الدولة في مواصلة محاكمة الترك ضمن الشروط السابقة، ولا سيما بعد ان "استمهل المحامون لتقديم دفاعهم فرفعت الجلسة الرابعة الى العاشر من شهر حزيران مقبل".
وبدأت الجلسة أمس الأربعاء نحو الساعة الواحدة، ومثل كل مرة تجمهر بعض أنصار الترك امام مبنى المحكمة لكنهم كانوا أقل من المرتين السابقتين، ولم يحملوا أي لافتات، وهي الاسباب التي دفعت بالامن اتخاذ احتياطات اكثر، فأُبعد الناس الى مسافة لم يعد بإمكانهم منها مشاهدة المبنى، وبالتالي حالت بينهم وبين التصفيق للترك خلال مغادرته المحكمة.
ومثل كل مرة حضر بعض دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي، والصحفيين، الا انه لم يسمح لهم، باستثناء مراسل الوكالة العربية السورية للانباء "سانا"، وزوجة الترك وشقيقه وشقيقته بحضور الجلسة، فغادر الدبلوماسيون مباشرة في حين انتظر الصحفيون انتهاء الجلسة.
وبعد نحو ساعة ونصف أُخرج الترك باتجاه مكان توقيفه في سجن عدرا، ثم خرج المحامون، وصرح خليل معتوق بان موكله لم يجب على اسئلة القاضي على الإطلاق وانما برر موقف الصمت الذي اقدم عليه. وقال: بداية تلت النيابة العامة مذكرة ردت فيها على المذكرة المقدمة بالجلسة الماضية من هيئة الدفاع، وطلبت ايضا من رئيس المحكمة شطب عبارة من مذكرة الدفاع باعتقادها انها تسيء الى النيابة، ووافقت المحكمة على ذلك ثم رفعت الجلسة نصف ساعة.
وكان الدفاع تقدم قبل يومين بمذكرة خطية تتضمن دفوعا شكلية بعدم دستورية وصلاحية محكمة امن الدولة العليا في سورية، ومما جاء فيها ان "المشرع وضع حقوق المجتمع امانة في ايدي النيابة العامة وواجبها ان تدافع عن المجتمع وعلى رأس هذا المجتمع هم رجال الفكر لا ان تعتبر نفسها وبسطحية مطلقة انها خصم لك منهم". والنيابة احتجت في جلسة الامس على كلمة "وبسطحية".
وذكر معتوق انه بعد ان عقدت الجلسة ثانية طالبت النيابة العامة بأساس الدعوى، ثم قرأ رئيس المحكمة التهم الموجهة الى رياض الترك كما جاءت في قرار الاتهام وهي: اشاعة انباء كاذبة او مبالغ فيها من شأنها ان توهن من نفسية الامة او تنال من هيبة الدولة او مكانتها المالية"، و "محاولة اضعاف الشعور القومي وايقاظ النعرات الطائفية والمذهبية"، و "تغيير دستور الدولة بطرق غير مشروعة"، اضافة الى السعي لـ "اثارة عصيان مسلح ضد السلطات القائمة بموجب الدستور".
وأضاف معتوق ان الترك تحدث بعدها ليس جوابا على التهم الموجهة اليه وانما توضيحا لموقف الصمت الذي اتخذه، وقال: بعد تفكير وتأمل وجدت ان موقفي السابق ما زال صحيحا وذلك لان قضيتي هي قضية سياسية وليست جنائية، لكنه يحتاج الى توضيح، ويتلخص هذه التوضيح بان هناك فتنة يراد لها ان تشتعل وتتسع. فسأله رئيس المحكمة لتوضيح موضوع الفتنة فرد الترك: إن كلامي موجه ليس لكم وانما للسلطة وفي فمي ماء وهل ينطق من فيه ماء .. رددت التهم امام قاضي التحقيق، وانا لا اريد بكلامي ان اساهم باشعال فتنة بل اريد بمساعدة ابناء الوطن العقلاء ان تخمد هذه الفتنة التي يريدونها.
واضاف الترك: أتفهم دور النيابة واقدم كامل احترامي لها رغم ان قرارها الاتهامي جاء مغرضا ويستطيع ابن الشارع الذي لا يفهم بالحقوق ان يدحضه .. ان كل ما اقوله امامكم هو بمثابة دفاع، وكافة الوثائق التي قدمت في المحكمة عن لساني ووقعت عليها او كتبتها اعتبرها ايضا دفاعا عن نفسي، ولا اتراجع عن حرف قلته في الاحاديث الصحفية والمحاضرة ومقابلة الجزيرة، واطلب من المحكمة ان تطلب كافة مجريات الحوار مع "الجزيرة" وليس اقتطاع مداخلتي منه لفهم ما اردت قوله فانا حرفت اللقاء الى اتجاه ايجابي، والنيابة اقتطعت من المداخلة ما ارادت هي ولم تنظر لها ضمن كامل مجريات اللقاء".
وكان الترك يقصد لقاءاته مع صحيفتي النهار اللبنانية واللوموند الفرنسية، والمحاضرة التي القاها في منتدى جمال الاتاسي، ومداخلة في حلقة خاصة عن سورية بثتها "الجزيرة" وكان الضيف فيها نزار نيوف.
وتابع معتوق نقلا عن الترك: انا شخصيا لا أريد صب الزيت على النار ولا أتنصل من أي جملة او كلمة وردت واعلن مسئوليتي عنها، ولا اطلب رحمة ولا شفقة، وانا اطلب الوصول الى الحقيقة والعدالة، واضاف: ان سكوتي لان الظرف السياسي الان لا يساعد على تأجيج الخلافات، ونحن امام الطيش الأمريكي والعنصرية الصهيونية المنفلتة من عقالها، التي لا تكتفي فقط بدم اخوتنا الفلسطينيين وتهجيرهم وانما هي جاهزة للانقضاض على باقي الدول العربية، وانا شخصيا اتساءل لماذا لا تنظر السلطة لهذه المسألة بهذا المنظار، وانا شخصيا انظر اليها هكذا.
وطالب الترك حسب كلام نقله عنه المحامي انور البني: ارجو ان تسرعوا قدر الامكان بالنظر بالدعوى وتصدروا حكمكم وانا جاهز لتواصلوا جلساتكم يوما بيوم لننتهي من هذه القضية، واتحمل المسئولية عن كلام قلته مهما كان قاسيا. معتبرا ان: المعالجة القضائية لما قلته اذا كان له مبرر فهو يمكن ان يدخل ضمن اختصاص محكمة صلح الجزاء باعتباره قدح وذم اذا ارادت السلطات ان تفهمه كجرم.
ثم استمهل المحامون لتقديم دفاعهم بعد تصوير باقي الوثائق وهي قرار النيابة واقوال الشهود ومطالبة النيابة، فرفعت الجلسة الى العاشر من شهر حزيران المقبل.
رياض الترك يخوض المعركة الأخيرة "من أجل الديمقراطية"
دمشق - أ ف ب (بتصرف)
يعتزم المعارض الشيوعي السوري رياض الترك ان يجعل من محاكمته معركة اخيرة لانتقال سورية إلى الديمقراطية، وهو الذي اعتقل 17 عاماً دون محاكمة في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، ثم اعتقل من جديد منذ ثمانية اشهر، بعد ثلاثة أعوام على إطلاق سراحه.
وقال الترك لمحاميه بحسب ما افاد احد عناصر هيئة الدفاع "بلغوا انه ليس لدي اي حقد شخصي، بل حسابات سياسية أسويها مع النظام". والترك متهم بمحاولة تغيير الدستور "بطرق غير مشروعة" وبـ "نقل انباء كاذبة او مبالغ بها من شأنها ان توهن نفسية الامة". وينقض الترك دستورية الهيئة القضائية الاستثنائية التي تتولى محاكمته، رافضا منذ بدء محاكمته في 28 نيسان الرد على اسئلة القاضي.
واوضحت هيئة الدفاع المؤلفة من عشرين محاميا من نقابة محامي دمشق تطوعوا للدفاع عنه، انه لن يخرج عن صمته الا ان تمت محاكمته في جلسات علنية يحضرها مراقبون اجانب. وكان أُذن للصحافة المستقلة ودبلوماسيي الاتحاد الأوروبي بحضور الجلسة الاولى، إذ صفق الحضور للمعارض السوري، مطالبا باطلاق سراحه.
ولم يعد يؤذن بعد ذلك بحضور الجلسات سوى لأسرة الترك ومحاميه ومراسل وكالة الأنباء السورية، غير ان الوكالة تلزم كل مرة الصمت حول المحاكمة. أما الدبلوماسيون والصحفيون، فينتظرون في الشارع حيث يتجمع انصار الترك، ومعظمهم ناشطون في جمعيات للدفاع عن حقوق الانسان، ليجددوا كل مرة دعمهم له.
ورياض الترك هو الأمين العام للحزب الشيوعي - المكتب السياسي الذي انشق عام 1973 عن الحزب الشيوعي بزعامة خالد بكداش. وتشاركه زوجته أسماء فيصل جميع معاركه.
وأسماء فيصل طبيبة في الستين من العمر، وهي شقيقة يوسف فيصل، الأمين العام للحزب الشيوعي السوري، عضو الجبهة الوطنية التقدمية، الائتلاف الحاكم بقيادة حزب البعث. وقد اعتقلت أسماء فيصل لمدة سنتين في مطلع الثمانينات، مع زوجها.
وبدأت مشكلات رياض الترك مع السلطة السورية حين أدان عام 1976 التدخل العسكري السوري في لبنان. وتعرض أنصاره للملاحقات، غير انه ظل هو حرا.
وميز الترك مواقفه بشكل نهائي عن حزب البعث عام 1981، مع عصيان حركة الإخوان المسلمين التي ادت الى سقوط عشرة الاف قتيل بحسب وسائل الاعلام الاجنبية، وهددت الاستقرار في سورية. واتهم حزب البعث الاخوان المسلمين بالتحرك في اطار مؤامرة خارجية، مستنجداً بـ "القوى العلمانية"، في حين اعتبر الإخوان المسلمون أن البعثيين "اعداء الله". ومع ان رياض الترك أدان عنف الإخوان المسلمين، غير انه عارض "القمع" وطالب بمحاكمات علنية.
واتهم الترك عندها بـ "التواطؤ" مع المتمردين واعتقل ووضع في السجن الافرادي طوال فترة اعتقاله. ولم يؤذن له بلقاء أسرته إلا ابتداء من 1993، بعد 12 عاما من دخوله السجن، بحسب زوجته. وأُفرج عن الترك عام 1998، قبيل زيارة رسمية لحافظ الأسد إلى فرنسا. واعلن لدى خروجه من السجن ان الافراج عنه "حق لا يدين به لأحد". ووصف بلاده بأنها "مملكة الصمت"، معلناً أنه لن يشعر بحرية حقيقية إلا "عندما تنتقل سورية من الطغيان إلى الديمقراطية".
|