أزهار الصفا
الحوار المتمدن-العدد: 2434 - 2008 / 10 / 14 - 01:29
المحور:
الادب والفن
فاقت الشمس , بعد سويعات قليلة من نومها داخل الغيمات الباردة على قيلولة سهاد . وبعد أن تسلقت النافذة, ومن بين ثقوب الستارة ؛ استطاعت الوصول إلى وجه سهاد الناعم الأملس , و دغدغت جسدها الملقى على الأريكة الرمادية بهدوء كهدوء الملائكة , فتحت عيونها , ليغسل أجفانها شعاع الشمس المتكسر , و رمقت بحنين جميع الاشياء والألوان والروائح من حولها بعيون يخدّرها النعاس : الستائر الخمرية , و أزهار المزهرية الحمراء ,والساعة ذات البريق الذهبي على الحائط , و صورة بيت بالطبيعة يتفرد معلقة على الجدران , و عبق رائحة الغرفة المنعش. أعادت اغماض عيونها , لتفتحها بنشاط مرة أخرى لتنظر إلى الغطاء الملقى على جسدها , فأدركت أن والدتها وضعته أثناء نومها .
نهضت عن الأريكة الواقفة بثبات في غرفة الضيوف , و اتجهت نحو الداخل تبحث عن والدتها و أشقائها , و سط هدوء غير معتاد ... رن صدى صوتها داخل المنزل , منادية متسائلة ,إن كان أحدهم في المنزل . لم يجب أحد . و أدركت أنهم خرجوا جميعا دون اعلامها بذلك , فاليوم هو ثاني أيام عيد الأضحى المبارك , و الساعة المتمكنة حول معصمها , سارت بعد أسوار الرابعة عصرا ... و من الطبيعي أن تكون والدتها قد ذهبت لمعايدة جدتها ... و لكن , غير الطبيعي : أن تحتمل سهاد بقاءها في المنزل وحيدة ساعات متواصلة , دون ملأ فراغ وحدتها بعمل ما , وقف جسدها مدججا بالوحدة داخل المنزل , مفكرا , ماذا سيعمل ؟ أو أين سيذهب ريثما تعود والدتها ؟ . أول خاطر خطر ببالها هو : الاتصال بخطيبها "سالم" , و قضاء الوقت بمحادثته , سارعت لمهاتفته ولكن , حظها السيء اعترض طريقها , عندما وجدت هاتفه مغلقا . فكرت قليلا و اتجهت نحو التلفاز علها تجد فيه صديقا لوحدتها . فتحته , و باشرت بالتنقل بين المحطات الفضائية المتعددة , دون أن تجد فيها سوى برامج ترفيهية روتينية مصقولة من الملل ... ونشرات أخبار للقلب متعبة ... و مسرحيات حفظت كلمتها و مضمونها عن ظهر قلب , من كثرة اعادتها على مشاهد الناس ... أغلقت التلفاز و فكرت بمراسلة صديق خيالها الإيطالي "صنومة" عبر البريد الإلكتروني ... باشرت بإيصال خط الإنترنت و أرسلت له رسالة لم يجب عليها , فأيقنت أن جهازه مغلق ... حملت هاتفها و اتصلت بصديقتها "علا" كملاذ يلتقف وحدتها . رن الهاتف , و لم تجب "علا " زاد ذلك الأمر من تخبط سهاد بالوحدة وشعر قلبها بالغربة ... حاولت تناسي وحدتها عن طريق معدتها . لذلك, دخلت المطبخ بفكرة إعداد شيء ساخن تشربه , و يمنح جسدها البارد دفئا منه ... و ضعت الماء في إبريق نحاسي صغير فوق الغاز المشتعل , ووقفت أمام علب الشاي والقرفة والقهوة و البابونج تتنقل أناملها بين العلب , كي تنتقي المشروب الذي ترغب إعداده . و أخيرا رسى الإختيار على القهوة , فهي عشيقتها المفضلة ... وضعت ملعقة منها داخل الإبريق و أطفأت النار تحته ... سكنت رائحة القهوة المسائية في أعماق جوفها , وشرب بخارها من أعماق أعماقها ,سكبت كأسا من القهوة , وصعدت إلى السطح تتأمل الطقس الهوائي المتقلب البرودة , و بدأت تراقب الغيمات القريبة النابتة أسفل الشمس الدافئة , كقوارير بيضاء رمادية , ينبت منها زهر البنفسج الذهبي الخجول .
مشت على السطح , بهدوء ترتشف القهوة شفتاها , حتى دق البرد أبواب ملابسها الرقيقة ... نزلت إلى الأسفل . وأثناء وقوفها وسط غرفتها , التفتت إلى مكتبتها الصغيرة , المعلقة على جدار اهتماماتها , حتى تذكرت شيئا ما , شدها بسرعة جنونية فوضوية كبيرة ,للبحث بين الأوراق والكتب المرتبة بانتظام في مكتبتها ... سحبت دفترا أناملها من بين الكتب المرصوفة بقوة جانب بعضها , و مسحت غلافه بكم قميصها ... و قالت :
_ و أخيرا وجدتك ...
جلست سهاد في غرفة مفتوحة النوافذ , و البرد يملؤها , ومن كرسي يتمايل ولا يريح أبدا اتخذت مقعدا لها , و من طاولة تنشب خشونتها بين حناياها وضعت الدفتر الذي يحمل عنوان " حياتي ... و رأس قلم " و بدأت تقلب أوراق ذكرياتها وطفولتها من خلاله , و تقرأ ما به من كلمات كتبتها عليه بسرية تامة , بعدما خافت مفرداتها -المخبأة تحت لسان يعشق الحديث- الظهور لأي شخص كي يتخذها سكينا يحارب بها سهاد, فدفترها هذا حضارة جديدة داخل زمان قديم , و ذكريات ببابها واقفة . ولأنها أضاعت عمرها بين تلك الذكريات , و أنست زهرها الرحيل عن ذلك الماضي . جاء دور هذا الدفتر ليقرع باب الماضي متى يريد, و أينما يريد .
غرقت مراكب حاضرها في محيطات الماضي , عند لحظات ذهبية ماضية , خلدها الدفتر, و أخذت أوقات قراءتها للدفتر , من محيطها إلى عالم آخر بعيد , يحجب عنها جميع من حولها , من ظروف متعددة غير مريحة , و ينسيها غربتها , ووحدتها داخل المنزل .
مضى الوقت الحاضر بسرعة , ولا تزال سهاد تذاكر الماضي من نافذة الدفتر , و أكلت ذكريات الماضي حاضرها , و واجباتها داخل حاضرها , بعدما قاد وحدتها رأس القلم , كي ينير حياتها حين تشعر بغربة ووحدة . و يحيي الماضي الذي ما مات بين أوراقها ... حتى عادت من الماضي , و خرجت من سفينة كلمات دفترها , على صوت والدتها تسألها:
_ ماذا أعددت طعاما للعشاء ؟؟
التفتت سهاد حولها ... و أدركت البرد الذي تجمدت مفعوليته أثناء قراءة دفترها , كما أدركت الظلام المغطي بذيله الغرفة , بعدما نورت كلمات الدفتر ظلمتها ... و أدركت أيضا , كرسيها المتمايل , بعدما ثبته الماضي مكانه ... كما أدركت جميع الظروف غير المحتملة , من حولها . ابتسمت لما شعرت به من ذهاب إلى عالم آخر اسمه "الماضي" ...
نظرت سهاد إلى والدتها و أجابتها وهي تحتضن الدفتر بين ذراعيها , ليتكأ على دفء قلبها :
_ أعددت حياتي ... و رأس قلم .
لم تفهم والدتها ماقالت , و إنما هي فهمت ذاتها بذاتها , و أنها تعيش في عالم آحر اسمه "الماضي" فقط ... حينما تكون وحيدة ...
#أزهار_الصفا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟