نعمة ياسين عكظ
الحوار المتمدن-العدد: 2422 - 2008 / 10 / 2 - 07:20
المحور:
الادب والفن
تحسس ظهر الكرسي الدوار ذي الجلد الاسود بيده اليسرى محركا اياه يمينا ويسارا وعيناه تجول في ارجاء الغرفة متفحصا كل ما فيها من اثاث . تغمره الفرحة و الزهو وهو يعانق بنظراته كل ركن من اركانها وكل قطعة من اثاثها ... انها تقع في احد اركان الدائرة في الجهة البعيدة عن الشارع وضوضاء السيارات وازعاج منبهاتها , وعند دخوله اليها حرص ان يقفل الباب لينشر فيها الهدوء لتبعث في نفسه الطمأنينة ويلفه الاستقرار , وهو يمارس طقوس رجوعه الى هذه الغرفة التي فارقها وابتعد عنها لفترة أشهر طويلة قاربت السنة ... ادار وجهه نحو النافذة على يمينه والتي تطل على الحديقة مباشرة ثم تحرك نحوها وفتحها ... لفته نسائم صيفية منعشة محملة بانواع العطور والروائح ... بعدها ادار مفتاح المروحة السقفية لتبدأ بدورانها فوق رأسه ولتكسر بعضا من الهدوء المسيطر على الغرفة بطقطقات خفيفة اضافة الى صفير الهواء الذي تحركه ... رجع الى الكرسي متحاشيا النظر الى الاعلى حيث علقت صورة ملونة , فوق رأسه مباشرة (للسيد القائد) وجلس عليه محركا اياه مرتين او ثلاثة .
لم يتغير ما في الغرفة شيء حيث حرص الموظف الذي شغلها اثناء غيابه ان لا يغير فيها . فعلى اليسار واليمين هناك طقم من القنفات ويرقد امام الكرسي الذي يجلس عليه منضدة من خشب الصاج يغطي سطحها , وبقياس مساحته , قطعة من الزجاج السميك , تصطف عليها بعض الزهريات الصغيرة الجميلة وطقم مكتبي . وهناك بعض الاوراق والكتب الرسمية وامام بصره تمتد على طول الحائط المقابل مكتبة خشبية فيها بعض الكتب والكثير من الزهريات والورود الصناعية ذات الالوان الزاهية وبعضا من التحفيات , يتوسطها جهاز للتلفاز... وعلى يمينه منضدة صغيرة عليها جهاز الهاتف ... وفي سره شكر من اختار موقع صورة (القائد) اعلى الراس حيث يجبر من يريد النظر لها ان يدير راسه ثم رفعه الى الاعلى ومع ذلك فانها لا تبدو واضحة بسبب زاوية النظر ... لكنه لاحظ اختفاء الحكم والاقوال التي كان يحرص على تعليقها وتدعو الى الحرص والامانة والشرف والنزاهة ....
لم يأبه الى غياب هذه اللوحات ولكنها اثارت سؤال طاريء الى ذهنه ... ماذا افاده تطبيقها والعمل بها عندما حظر اثنان من رجال الامن ليقتادوه كما يقتاد القصاب الذبيحة الى المسلخ ؟... بتهمة انتماءه الى الحزب(....) وبعد ذلك ما تعرض له من اشكال التعذيب والاهانات والاحتقار ... غط في بحر من الكابة والحزن وهو يتذكر الجلادين وهم يقلعوا اظافره , الاول , ثم الثاني ولم يحتمل قلع الثالث ليدلهم على علي , احد رفاقه بالتظيم ... تذكر نظراته المعاتبة اثناء لقائهم بالصدفة في احد ممرات المعتقل , وهاله ما راه من اثار التعذيب وهم يقتادوه لانه لايقوى على المشي .... بعد ايام عرف ان عليا لم يعطهم كلمة واحدة عن التنضيم ورفاقه , مما جعلهم ينهشون جسده كالذئاب المسعورة حتى فارق الحياة ...
هو الان يرى عليا امام ناظريه يتألم لكنه يصبر ويتحمل ... لا يقدر على الوقوف لان عظام رجليه مكسورة ... لا يرى لان عيناه قد فقات ... لا يتكلم لانه لايريد ... كم انك كبير ياعلي وكم انا صغير ... نهض من الكرسي ضرب المنضدة بقبضة يده وقال بكلام مسموع وهو يذرف الدمع انا قتلته .... انا قتلته...
الايام التالية ادخلته ادخلته في دوامة من الكآبة والحزن والاسى ... وعلي دائما ماثلا امام عينيه ذلك العملاق الضخم ... البطل الشجاع ... الصابر المحتمل ... صاحب المبدأ والضمير .... وما هو الا شخصا حقيرا صغيرا ذليلا جبانا ...
هذه المقارنة اصبحت شغله الشاغل , حاول ابعادها اكثر من مرة دون جدوى , انها تنخر عظام جمجمته لتدخلها عنوة وتسري في تلافيف دماغه وتجعله حائرا امام سؤال لماذا لم اكن مثل علي ؟ ... كيف اصبح مثلا رائعا لا يكاد يذكر اسمه الا وكلمات الاطراء والمديح لا بل الكثيرون يذرفون الدمع . مقابل ذلك تجاهل واضح له ويشعر بالغمزات توجه اليه ... لم يجد الجواب الشافي لهذا السؤال ولكن حاول اقناع نفسه بعديد من الاجوبة التي اجبر نفسه على الاقتناع بها لتخلق بعضا من العزاء النفسي لحالته ... لكن هذه الاجوبة خلقت تربة صالحة لنمو بذرة خبيثة داخل تفكيره ومع الايام تكبر هذه البذرة لتصبح نبتة كبيرة تطرح اكلها ... انه الكره الى هذا الشخص وبالتالي الى ما يحمله من افكار محاولا اقناع نفسه قبل غيره من الذين يتحدث اليهم انه كان على خطأ وانه الان اكتشف (الحقيقة)!!... وصار يعلنها صراحة بصورة مباشرة اوغير مباشرة , لمن يهمه الامر او لا يهمه...
أحد موظفيه المعروف بالتملق والرياء والخداع مغلفا تصرفاته بالصوت الهاديء الذي يكاد لا يسمع وحديث ممتلئ بالحكم , يحرص ان يكون شعر ذقنه الاشيب قصيرا وحدوده دقيقة , تتوسط جبهته بقعة سمراء داكنة , وشفاهه دائمة الحركة عندما يكون جالسا في تجمع ... اصبح كثير الجلوس عنده ويثيره ليجعله يتكلم بهذا الموضوع بالذات , وهو بالمقابل استأنس لوجوده اكثر من غيره ثم اصبح الشخص المقرب الذي يعتمد عليه في انجاز بعض المعاملات المهمة ...
أحد الايام دخل هذا الموظف كعادته يسبقه سيل من كلمات الترحيب والثناء والتملق ووضع اضبارة على المنضدة امامه واعتذر عن الجلوس لانشغاله باعمال كثيرة ! وخرج . صعق عندما فتح الاضبارة وكأن شيئا ما لدغهليعيد غلقها وطرحها بعيدا ... ترك الكرسي وتأكد من غلق الباب وأخذ يذرع الغفة ذهابا وإيابا ضاربا المنضدة بقبضة يده اكثر من مرة ... مر وقت ليس بالقصير قبل ان يرسل في طلب هذا الموظف:
- اكنت تعرف ما بداخل هذه الاضبارة ؟
- نعم!!
- تعرف انها غير قانونية ؟
- بتوقيعك تصبح قانونية دون ان يعرف احدا بذلك !
- وكيف عرفت اني سأتقبل ذلك؟
- كفاك قيما ومبادئ , ماذا نفعتك وما قدمت لعائلتك؟
بعد ان خرج هذا الموظف , رجع وجلس على الكرسي , تنفس نفسا عميقا بعد ان خفف من ربطة عنقه , فتح الاضبارة وضع رزمة النقود في جيبه ورسم توقيعه في المكان المخصص... خرج من الغرفة طالبا الاذن من المراجعين الواقفين على باب الغرفة لتأدية صلاة الظهر ...
د. نعمة ياسين عكظ
النجف
#نعمة_ياسين_عكظ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟